Nietzsche: Hordhac Gaaban
نيتشه: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
إنه اتهام عبقري، حتى لو لم يكن مرتبطا بيوريبيديس. فليس من قبيل المصادفة أن يتلاشى فكر العقلانية العظيم في الفلسفة الغربية بتفاؤل مماثل مذهل، ولسنا مضطرين إلى الانتظار حتى يصادف شوبنهاور فيلسوفا متشائما، ويتقبل ذلك بصفته لاعقلانيا، مؤمنا بأولوية الإرادة اللاعقلانية. لقد كان الفكر الغربي معاديا للتراجيديا بسبب التعاون بين الأفلاطونية والمسيحية، وقد ألغيت مسرحياته التراجيدية العظيمة - خصوصا تلك التي كتبها شكسبير وراسين - لأسباب لاهوتية أو لصلتها بالتعاليم اللاهوتية على نحو مثير للقلق. ولا يعني هذا أن نيتشه قادر على الاعتراف بشكسبير بصفته كاتبا تراجيديا ذا مكانة عالية، وذلك بسبب غياب الموسيقى؛ مما يضعه في موقف حرج يتعامل معه بتجاهل شبه تام. والفقرة الوحيدة التي ذكرها بإيجاز عن شكسبير في «مولد المأساة» تتناول هاملت على نحو بارع، بصفته رجلا يدرك - بعد أن نظر إلى الهوة الديونيسيوسية - عبثية أي فعل؛ فهو غير متقاعس وإنما يائس («مولد المأساة»، 7). ولكنه لا يتناول الكيفية التي يمكن أن يؤدي بها ذلك إلى خلق الأثر المأساوي الكامل، لو تحقق من الأساس.
ومع هذا، فالأمر الأكثر سلبية أن نيتشه لا يحاول أن يشرح سبب قلة المسرحيات التراجيدية الموسيقية؛ فيبدو أنه يسلم جدلا بأن فاجنر كتب مسرحيات من هذا النوع، وإن كان يبدو من الواضح بالنسبة إلي أنه لم يكتبها. في واقع الأمر، لقد عمد موسيقار وراء آخر إلى استخدام القوى المهيمنة للموسيقى ليثبت أنه مهما ساءت الأمور على خشبة المسرح، فإنه يمكن إنقاذها. وما أثار إعجاب نيتشه حقا هو درجة النشوة التي تستطيع الموسيقى أن تنتجها، بخلاف أي فن آخر. وبما أنه منح التراجيديا مكانة عالية على نحو تقليدي، بصفتها الصورة الفنية التي تبين كيف يمكن أن نصمد أمام ما قد يبدو في ظاهره لنا غير محتمل، فقد حقق دمجا بين الاثنتين.
عند هذه المرحلة يصبح ولاؤه لشوبنهاور ذا تأثير أشد سلبية؛ لأن شوبنهاور أيضا قد آمن أن الموسيقى تمنحنا سبيلا مباشرا إلى تطبيق الإرادة، بما أنها غير مرتبطة بمفاهيم. ولكن بناء على شرحه العام لطبيعة الإرادة، التي طالما كافح من أجلها دون أن يبلغها بالضرورة، فمن الصعب أن نرى كيف أو لماذا يجب أن نستمتع بالفن الذي يجعلنا نحتك احتكاكا مباشرا بها. وقد يفكر المرء أنه كلما زادت المسافة بيننا وبين الواقع، قل إحساسنا بالشقاء.
ينقح نيتشه أفكار شوبنهاور بعض الشيء بادعائه أن البدائي هو مزيج من الألم والمتعة، ولكن كما سبق وذكرنا، فإن الغلبة للألم. وما يفعله نيتشه هو محاولة الإجابة عن السؤال التقليدي: لماذا نستمتع بالتراجيديا؟ وهو يفصل نفسه عن الإجابات التقليدية لسبب مقنع ، معتبرا إياها سطحية ومسكنة. ولكن في أثناء محاولته تحويل التراجيديا إلى عامل يبدل ما يبدو غير قابل للتبديل، فإنه يجاوز هدفه، ليقع هو نفسه كما يبدو في فخ المساواة بين الحق والجمال، وهو شيء ينتقده لاحقا بحدة كافية. ونريد أن نطرح عليه في هذه المرحلة السؤال الذي لم يطرحه إلا بعد مرور ما يتجاوز عقدا من الزمان: لماذا الحق بدلا من الباطل؟ ما الذي يحفزنا دائما للبحث عن الحقيقة؟
ليست الفكرة أن نيتشه لم يقدم أجوبة عن تلك الأسئلة في «مولد المأساة»، ولكن الفكرة أن تلك الأجوبة تظل غامضة. ولن نجده يتناول هذه الموضوعات بعمق حتى مرحلته الأخيرة. ومع هذا، فالجدير بالذكر أنه قد بدأ بالفعل أهم بحث في حياته: كيف يمكن أن يصبح الوجود محتملا، بمجرد أن ندرك ماهيته؟ الطريقة التي يتناول بها الموضوع هنا هي اقتباسه مبكرا قصة عن سيلينوس، صديق ديونيسيوس، الذي قال: «أيها البشر الزائلون التعساء، يا أبناء المخاطر والشدائد! لماذا تجبرونني على قول ما قد يكون الأفضل لكم ألا تسمعوه؟ إن أفضل الأشياء هو الشيء الذي يوجد خارج قبضتكم كلية: ألا تولدوا، ألا تكونوا، أن تكونوا لا شيء. ولكن ثاني أفضل الأشياء لكم هو أن تندثروا في أقرب وقت» («مولد المأساة»، 3). ولكن على الرغم من أن سيلينوس «حكيم»، تتمكن الحكمة التراجيدية في نهاية المطاف من التفوق حتى عليه هو شخصيا (يقارن نيتشه باستمرار بين
Wissenschaft «المعرفة، العلم» و
Weisheit
الحكمة). وهي تفعل هذا، حسب بعض المناورات الخفية التي تنفذ في جزء لاحق من الكتاب، عن طريق تفاعل مدروس بين الأبولوني والديونيسيوسي. ثم يذكر تعليقه الأكثر إيحاء: «إن المتعة التي توفرها لنا الميثولوجيا التراجيدية تنبع من نفس المصدر الذي ينبع منه الاستمتاع باستيعاب التنافر الموسيقي. والفن الديونيسيوسي، بما فيه من متعة بدائية متاحة حتى في ظل الألم، هو الرحم المشتركة للموسيقى والميثولوجيا التراجيدية» («مولد المأساة»، 24).
قد يشعر المرء أن هذا هو ما سماه شونبرج لاحقا ب «انعتاق التنافر» بفعل الانتقام؛ لأننا على الرغم من إحساسنا بأن الموسيقى المفتقرة إلى تنافرات واجبة الحسم هي موسيقى عديمة الطعم وغير مستساغة، فإن العالم يبدو وكأنه يقدم لنا تنافرا متواصلا، مع لحظات غريبة من التأجيل. ولكن ليس من المجدي التركيز على هذه النقطة خلال هذه المرحلة. يقدم لنا نيتشه بالفعل ميتافيزيقا الفنان، حيث يعتبر استعصاء المادة المطلوب تنظيمها حافزا لأعمال إبداعية أعظم، ولكنه إبداع يعتبر تقليدا في نفس الوقت، ومن ثم نستطيع أن نقول: إننا نواجه الواقع، بيد أنه يتبدل من خلال إكسابه شكلا.
في مستهل «مرثيات دوينو»، كتب ريلكه يقول: «فالجمال لا شيء/سوى بداية الرعب الذي لم نزل بالكاد نتحمله/ونمجده؛ لأنه يأنف أن يدمرنا» (ترجمة ستيفن ميتشيل، بتصرف بسيط). يمكن أن يقول المرء بموضوعية: إن هذه هي الفكرة الرئيسية في «مولد المأساة». فهي على أقل تقدير مزعجة، وقد نحسها حتى مقززة (يونج، 1992: 54-55). وهي تطمس على نحو حاسم الفارق الراسخ بين السامي والجميل، جاعلة الأول عنصرا مهما للثاني. ولكن قد يكون هذا هو الجانب الأقل إثارة للدهشة في إبداعاته. والأهم أنه يعكس الإصرار الذي حافظ عليه نيتشه طوال حياته المهنية، وأبداه بكل بطولة في حياته الخاصة، بألا يعطي الألم دورا سلبيا على نحو تلقائي في الحياة، وهو الأمر الذي ربما شعر أنه أرهقه خلال المشهد المعاصر مقارنة بأي شيء آخر. في الوقت نفسه، سيطرت عليه رؤية عن العالم بصفته مكانا يتسم بقدر كبير من الرعب لدرجة أن أية محاولة لإكسابه معنى من الناحية الأخلاقية هي ببساطة مستحيلة. لهذا، فإنه في «محاولة في نقد الذات»، بعد أن انتقد الكتاب بشدة أكثر مما فعل أي شخص آخر، معلنا أنه قد وجده «مستحيلا»، لم يزل يجد أنه «يكشف بالفعل عن روح تواجه جميع المخاطر من أجل معارضة التفسير «الأخلاقي» والمعنى وراء الوجود» («مولد المأساة»، «محاولة في نقد الذات»، 5). وبعد عدة أسطر قلائل، يصف «المسيحية باعتبارها أكثر الاستفاضات التي سمعت بها البشرية يوما مبالغة للموضوع الأخلاقي.» على الرغم من أن الإدراك المتأخر واضح هنا، فبالفعل كان نيتشه دائما حساسا تجاه المعاناة (معاناة الآخرين، كان غير مبال إلى حد بعيد بمعاناته) ليجد «تفسيرا» لها من حيث الفائدة التي تحققها لنا، واعتبارها جزاء لنا على خطايانا، وبقية المهاترات التي استمرت على مدار القرون على نحو غير محتمل.
Bog aan la aqoon