1 - صورة نيتشه
2 - المأساة: الميلاد، والموت، والبعث
3 - التحرر من الوهم والانسحاب
4 - الأخلاق ونقماتها
5 - الضرورة الوحيدة
6 - النبوءة
7 - اعتلاء الأراضي المرتفعة
8 - مفهوم السادة والعبيد
9 - تعاطي الفلسفة قرعا بالمطرقة
خاتمة
المراجع
قراءات إضافية
1 - صورة نيتشه
2 - المأساة: الميلاد، والموت، والبعث
3 - التحرر من الوهم والانسحاب
4 - الأخلاق ونقماتها
5 - الضرورة الوحيدة
6 - النبوءة
7 - اعتلاء الأراضي المرتفعة
8 - مفهوم السادة والعبيد
9 - تعاطي الفلسفة قرعا بالمطرقة
خاتمة
المراجع
قراءات إضافية
نيتشه
نيتشه
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
مايكل تانر
ترجمة
مروة عبد السلام
مراجعة
هبة عبد المولى
إلى والدي، وإلى ذكرى والدتي.
الفصل الأول
صورة نيتشه
فريدريك نيتشه (1844-1900) فيلسوف ألماني، قوبل بتجاهل شبه تام خلال فترة حياته التي كان فيها سليم العقل، والتي انتهت نهاية مفاجئة ومبكرة بالجنون عام 1889. كان «نيتشه» شخصية سعى أناس ذوو آراء متنوعة ومتعارضة على نحو مذهل إلى أن يجدوا في اسمها تبريرا لأفكارهم. وذكرت دراسة ممتازة (أشهايم، 1992)، خصصت لتناول تأثيره داخل ألمانيا بين عامي 1890 و1990، كلا من «اللاسلطويين، وأنصار الحركة النسائية، والنازيين، وأعضاء الطوائف الدينية، والاشتراكيين، والماركسيين، والنباتيين، والفنانين الطليعيين، ومؤيدي التربية البدنية، وأنصار السياسة المحافظة» من بين أولئك الذين وجدوا إلهاما في أعماله. وهذا على سبيل المثال لا الحصر. وكان الغلاف الأمامي للدراسة يظهر في تباه ملصقا من كتاب يرجع إلى عام 1900 يصور نيتشه مرتديا إكليلا من الأشواك. أما الغلاف الخلفي فيصوره عاريا، بعضلات رائعة، متموضعا فوق أحد جبال الألب. ولا تكاد توجد شخصية ألمانية ثقافية أو فنية خلال السنوات التسعين الماضية لم تعترف بتأثيره، بداية من توماس مان، مرورا بيونج، ووصولا إلى هايدجر.
إن القصة الواردة في «الأنجلوساكسونية»، إذا استعنا بالمصطلح المستخدم في عنوان كتاب يتحدث عن نيتشه، والتي تقتفي تأثيره في العالم الغربي المتحدث بالإنجليزية (بريدجووتر، 1972)؛ مشابهة لذلك. فقد توالت على هذا العالم موجة تلو أخرى من مذهب نيتشه، رغم أنه قد مرت فترات توارى فيها بسبب اعتباره مصدر الإلهام للنزعة العسكرية الألمانية؛ ومن ثم انتقصت دول الحلفاء من قدره. ترجمت أعماله على نطاق واسع وبأسلوب غير دقيق إلى اللغة الإنجليزية، أو إلى شكل عجيب من أشكال اللغة الإنجليزية، في السنوات الأولى من القرن العشرين. ورغم غرابة ألفاظها المهجورة، أو بسبب ذلك ولو على الأقل بصفة جزئية، كانت هذه هي الترجمة الوحيدة للعديد من أعمال نيتشه لقرابة خمسين عاما.
وفي الوقت الذي كانت فيه سمعة نيتشه في أحط مستوى لها في إنجلترا والولايات المتحدة، شرع فالتر كاوفمان، أستاذ الفلسفة المغترب في جامعة برنستون، في إعادة ترجمة العديد من أهم أعماله، واستهل مشروعه بكتاب كان له تأثير حاسم لعدة سنوات، بعد ظهوره لأول مرة عام 1950 على الطريقة التي ينظر بها إلى نيتشه (كاوفمان، 1974). قدم كاوفمان نيتشه في صورة الفيلسوف الذي كان مفكرا تقليديا أكثر منه مصدر إلهام للاسلطويين والنباتيين وغيرهم. ومما أثار الكثير من الدهشة، ولم يلق إلا قبولا محدود النطاق إلى حد ما، أنه اتضح أن نيتشه كان رجلا صاحب منطق، بل وكان عقلانيا أيضا. وقد سعى كاوفمان باستفاضة إلى إثبات بعد نيتشه التام عن النازيين، وعن جميع الحركات غير العقلانية التي ادعت أنه رائدها، وعن الرومانسية في الفنون. وأصبح من الصعب، بناء على هذه الصورة، معرفة سبب كل هذه الجلبة التي أثيرت حوله. وهكذا بدأ التناول الأكاديمي لمذهب نيتشه، كفيلسوف ضمن بقية الفلاسفة، لتوضيح أوجه الشبه والاختلاف بينه وبين إسبينوزا وكانط وهيجل وغيرها من الأسماء الرائدة في الفكر الفلسفي الغربي. وبعد اطمئنان الفلاسفة الأمريكيين - ومن بعدهم على نحو متزايد الفلاسفة الإنجليز - إلى اتساع معرفة كاوفمان، اتخذوه نقطة انطلاق لدراساتهم عن نيتشه حول الموضوعية وطبيعة الحق وعلاقة نيتشه بالفكر اليوناني وطبيعة الذات، وغيرها من الموضوعات التي لا تسبب ضررا بأي حال من الأحوال عند معالجتها في كتبهم ومقالاتهم.
في تلك الأثناء في أوروبا، وتحديدا بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح نيتشه - الذي لم تشوه سمعته هناك قط - موضوعا مستمرا للدراسة والاستهداف من جانب الوجوديين ومعتنقي المذهب الفينومينولوجي، إلى أن أصبح بعد ذلك على نحو متزايد، في الفترة ما بين ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، محط أنظار المنظرين النقديين وما بعد البنيويين والتفكيكيين. وعندما اكتسبت الحركتان الأخيرتان - ما بعد البنيوية والتفكيكية - لأول مرة مكانة في الولايات المتحدة، ثم سادتا في أنحاء البلاد، كان نيتشه مجددا هو أكثر من اعترف به مصدرا رئيسيا لأفكارهما. وكذلك، اكتشف بعض الفلاسفة التحليليين أنه لم يبتعد كثيرا عن اهتماماتهم مثلما كانوا قد افترضوا، وبتلك الحركة المتبادلة المتأصلة في الحياة الأكاديمية، هنئوه على إيمانه المبدئي ببعض أفكارهم، مطمئنين أنفسهم في الوقت نفسه بشأن تلك الأفكار عن طريق الاستناد إلى سلطته. لقد ظهرت الآن صناعة مزدهرة قوامها نيتشه، وعلى نحو شبه مؤكد، تظهر كتب كل عام عنه أكثر من أي مفكر آخر، بفضل ما يثيره من اهتمام لدى العديد من المدارس المختلفة للفكر والفكر المناقض.
من غير المجدي ادعاء أن نيتشه كان سيستاء تماما من هذه الظاهرة. فقد كان خلال حياته (التي سأقصد بها دوما حياته العاقلة التي انتهت عندما أصيب بالجنون عام 1889؛ أي قبل وفاته بأحد عشر عاما، ما لم أقل خلاف ذلك) مهملا تماما، ورغم أن ذلك لم يضايقه، شأنه شأن أي شيء آخر، فقد سبب له الحزن؛ لأنه كان يرى أن لديه حقائق مهمة يريد نقلها إلى معاصريه الذين كانوا يتجاهلونها على نحو سيكلفهم عواقب وخيمة، وهذه إحدى نبوءاته الشديدة الدقة. ولكنه كان سينظر بازدراء إلى كل شيء تقريبا كتب أو فعل تحت مظلته، وتلك الاستباحة الناجحة لأعماله من جانب العالم الأكاديمي - رغم أنها لا تضاهى في فداحتها ببعض الاعتداءات الأخرى التي عانى منها - ربما كانت ستبدو له هزيمة نهائية؛ لأنه أراد بأي ثمن ألا يكون جزءا من عالم التعلم الذي يمسي فيه كل شيء موضوعا للمناقشة وليس للفعل.
قبل أن ننتقل إلى عرض آرائه، حري بنا التوقف قليلا وتأمل ما اتسمت به أعماله من خصائص جعلتها سببا قويا في جذب تلك الحركات ومدارس الفكر المتنوعة. لن تظهر الإجابة بصورة أوضح إلا لاحقا. ولكن كتفسير مبدئي، يبدو أن غرابة سلوكياته تحديدا هي التي تسترعي الاهتمام للوهلة الأولى. وقد كانت كتبه، التي أعقبت كتابيه المبكرين «مولد المأساة» (1872) و«تأملات في غير أوانها» (1873-1876)، تتكون في العادة من مقالات قصيرة، لا يزيد طولها غالبا عن صفحة واحدة وتكون أقرب إلى الأقوال المأثورة، رغم أنها - كما سنرى - تختلف اختلافا جوهريا عنها من حيث طريقة تكوينها وتقديرها في العادة: حيث تضم مقولة من سطر واحد أو سطرين تلخص طبيعة التجربة الإنسانية؛ مما يستوجب قبولا بيقينها التام. وقد كان عدد الموضوعات التي ناقشها كبيرا، بما في ذلك العديد من الموضوعات التي سنفاجأ بتناول فيلسوف لها من الأساس، مثل الطقس والنظام الغذائي والتمرينات الرياضية ومدينة البندقية. غالبا لا تخضع تأملاته لترتيب محدد؛ وهذا يعني أن دراسة مقتطفات من أعماله ستكون أسهل مقارنة بمعظم الفلاسفة، كما أن بغضه للأنظمة الذي يعلنه باستمرار يعني أننا نستطيع عمل ذلك بضمير مستريح. يضم العديد من أقواله شبه المأثورة محتوى متطرفا، وعلى الرغم من أن المرء قد يستشف على نحو غير مؤكد ما يحبه نيتشه، فإنه سيكتشف بالتأكيد قدرا كبيرا مما يكرهه، الأمر الذي كثيرا ما يعبر عنه بمفردات ذكية وحادة في آن واحد. إن ما يكرهه فيما يبدو هو كل جانب من جوانب الحضارة الحديثة، خصوصا حضارة الألمان، ويعد هذا أمرا صادما للقارئ. وجوهر رأيه أننا إذا لم نصنع بداية جديدة تماما فإننا هالكون، بما أننا نعيش وسط بقايا ألفي عام وأكثر من الأفكار المغلوطة أساسا حول كل الأمور المهمة تقريبا، ووسط انحلال شيء كان مهلكا بأية حال، إذا جاز التعبير. وهو رأي يتيح المجال أمام الأشخاص الذين يقدسون فكرة الانفصال الكامل عن موروثهم الثقافي بأكمله. غير أن نيتشه كان يؤمن باستحالة هذا الانفصال.
وعلى الرغم من هذا، يبدو أن التنوع في تفسير أعماله، والذي لم ينحسر قط بمرور السنوات، لا يزال في تزايد مستمر، وإن كان على نحو أقل تشاؤما عن ذي قبل، ويحتاج إلى مزيد من الشرح. وهو يوحي لغير المطلع على أعماله بأنه كان شخصا غامضا على نحو استثنائي، وربما متناقضا. ينطوي كلا الاتهامين على قدر من الصحة، لكنه أمر سيبدو أكثر تأثيرا وإدانة مما هو عليه في الواقع إذا لم يدرك المرء ويتذكر دائما أن نيتشه خلال الأعوام الستة عشر التي كتب فيها أنضج أعماله، بداية من «مولد المأساة» وما بعدها؛ كان يطور آراءه بمعدل غير مسبوق، وأنه نادرا ما كان يكترث بتوضيح آرائه المتغيرة.
ما كان يفعله عادة هو محاولة رؤية أعماله الأولى في شكل جديد، حيث كان يتأمل حياته المهنية بطريقة توحي باعتقاده أن المرء لن يستطيع فهم كتاباته اللاحقة ما لم يتعرف على كتاباته السابقة؛ ليرى كيف تطور. ومن ثم، فقد جعل من نفسه نموذجا يوضح من خلاله الكيفية التي قد ينتقل بها الإنسان الحديث، حبيس ثقافة القرن التاسع عشر الفاسدة، من الانصياع لها إلى التمرد عليها وتقديم اقتراحات لإحداث تغيير جذري. وفي عام 1886 تحديدا، عندما كان على أعتاب آخر مراحله الإبداعية - على الرغم من أنه لم يكن بوسعه التنبؤ بهذا - بذل مجهودا كبيرا في مراجعة كتبه السابقة، طارحا فيها مقدمات جديدة، وأحيانا انتقادية على نحو لاذع، وفي حالة كتاب «العلم المرح» ألف كتابا جديدا وطويلا في صورته النهائية. لا شك أن هذا كان جزءا من خطته لإثبات أنه ما من شيء في ماضي المرء يجب الندم عليه، وأنه يجب ألا نهدر شيئا. ولكن العديد من المفسرين أخطئوا عندما افترضوا أن هذا يعطيهم تصريحا لمعاملة جميع كتاباته كما لو أنها قد أنتجت في الوقت نفسه.
كان العامل الآخر الذي أدى إلى التفسيرات المغلوطة والتحريفات الصادمة ناتجا عن فكرة أن نيتشه كان يقضي معظم وقته في الكتابة، منذ عام 1872 على الأقل وربما أيضا قبل ذلك. إن إجمالي كتبه المطبوعة مثير للإعجاب بما يكفي، ولكنه دون من آرائه على الأقل بقدر ما ألف من كتب، وللأسف فإن معظم هذه الكتابات غير المطبوعة (الأعمال غير المنشورة) لم يزل باقيا. لم يكن المرء منا ليجد مدعاة للأسف في هذا الأمر لو كان ثمة مبدأ منهجي مقبول عالميا يفيد بأن ما لم ينشره يجب فصله بوضوح تحت جميع الظروف عما نشره بالفعل، ولكن ما من أحد تقريبا يلاحظ هذه القاعدة الأساسية . حتى أولئك الذين يدعون أنهم سيفعلون هذا كثيرا ما ينجرفون وراء اقتباس غير منسوب المصدر مأخوذ من أعماله الضخمة غير المنشورة، لو كان هذا الاقتباس سيثبت ما يتهمونه به. وما يؤكد خطورة المضي قدما على هذا النحو أن فكر نيتشه ظل غير متطور فيما يتعلق ببعض المفاهيم المحورية، ولعل «إرادة القوة» و«التكرار الأبدي» الأهم بينها. وفي أغلب الأحيان، كان نيتشه موقنا تمام اليقين بأنه قد توصل إلى أثمن الأفكار الفلسفية، لدرجة أنه دون الكثير من الأفكار دون أن ينقحها؛ مما يتيح للمفسرين إمكانية تتبع الأفكار المتلاحقة التي ينسبونها إلى نيتشه دون أن تعوقهم تصريحات محددة. حتى إن البعض اقتنع بأن نيتشه «الحقيقي» موجود في المفكرات، وأن الأعمال المنشورة هي نوع من التعتيمات المعقدة - بل في الواقع المعقدة للغاية. تبنى هايدجر هذا الموقف غير المنطقي، فتمكن بذلك من الترويج لفلسفته الخاصة باعتبارها مستوحاة من نيتشه ومنتقدة إياه في الوقت نفسه.
سوف أقتبس من حين إلى آخر، مثل بقية مفسريه الآخرين، من «الأعمال غير المنشورة»، ولكنني سأشير إلى هذا عند حدوثه. لقد بذل نيتشه مجهودا مضنيا ليخرج إلينا بالصورة المنقحة النهائية من أعماله المنشورة، ولم يكن من طبعه على الإطلاق عدم الاكتراث بالأسلوب أو النظر إليه على أنه إضافة ثانوية. وبما أنه كان صاحب أسلوب بفطرته، فإن قراءة تدويناته تحمل مذاقا مشوقا أكثر من المطبوعات المنقحة لمعظم الفلاسفة. ولكن عندما يقارن المرء أفكاره المنشورة بمسوداته الأولية لها، يجد البون شاسعا بما يجعل أي شخص يحترس من وضعها في نفس المنزلة، أو هكذا سيفكر المرء. إنني أشدد على هذه النقطة؛ لأن التلاعب بما كتبه نيتشه، كما سنرى، كان عاملا أساسيا في اختلاق الأكاذيب عليه.
لا شيء من هذا يفسر بدقة سبب تصوير نيتشه بأنه رجل الأحزان، أو حتى غير ذلك من الصور العديدة. وعلى الرغم من كل الغموض الذي يتسم به ورفضه العمدي لوجود مثل أعلى، فقد يعتقد المرء في وجود حدود لمدى التحريفات المحتملة. كل ما أستطيع أن أقوله هنا مترددا : إنه من الواضح أنه لا توجد حدود تكبح زمام الشهرة. لو بلغت شهرة إنسان نفس القدر الذي سرعان ما بلغته شهرة نيتشه، في الوقت الذي لم يعد قادرا فيه على أن يفعل شيئا حيالها، يبدو أنه سيستخدم دون وعي منه لدعم أية حركة تحتاج إلى رمز تنسب إليه. وهنا، كما في جوانب أخرى، سيصير من قبيل المفارقة المريرة أشبه بنقيضه؛ «المصلوب». كانت آخر الكلمات التي كتبها نيتشه تقريبا هي: «أحمل واجبا تتمرد عليه في الصميم عاداتي، بل وحتى كبرياء غرائزي. اسمعوني! فأنا فلان الفلاني. ولكن الأهم ألا تخلطوا بيني وبين شخص آخر!» («هذا هو الإنسان»، التمهيد، 1). وعلى مدار القرن الذي انقضى منذ أن كتب هذه الكلمات، ندر من بين قرائه، ومن بين القلة القليلة التي سمعت به، من لم يفعل هذا.
الفصل الثاني
المأساة: الميلاد، والموت، والبعث
كان نيتشه تلميذا سابقا لعصره، ولكن على الرغم من أنه كتب بغزارة منذ سن مبكرة، فإن كتابه الأول «مولد المأساة»، أو «مولد المأساة من روح الموسيقى» كما ظهر في العنوان الكامل للطبعة الأولى، لم يظهر للنور إلا عندما بلغ السابعة والعشرين من عمره. ولم يكن من المفترض أن يفاجئه الاستقبال العدائي للكتاب داخل العالم الأكاديمي حيث كان نيتشه قد تلقى ترقية مبكرة ليعين أستاذا لفقه اللغة الكلاسيكي في جامعة بازل وهو في الرابعة والعشرين من عمره، لكنه فاجأه على ما يبدو. فالكتاب لا يفي بأي معايير متصورة للصرامة، فضلا عن المعايير المعتادة في دراسة الإغريق القدامى. وسرعان ما ظهر هجاء للاسم من أحد أعدائه القدامى منذ أيام الدراسة، وهو أولريش فون فيلاموفيتز-موليندورف، الذي اتهمه بالجهل وتحريف الحقائق والمقارنات القبيحة بين الثقافة الإغريقية والعالم الحديث. رد إرفين رودا، وهو صديق وفي، بكلام على القدر نفسه من الشراسة على الأقل، وتلا ذلك نمط النزاع المألوف في الدوائر الأكاديمية والموجه إلى أولئك الذين يكفرون بشرائعهم. اكتسب نيتشه سمعة مشينة، ولكن لفترة قصيرة، وقد كانت هذه السمعة هي الشيء الوحيد الذي اشتهر به نيتشه على الإطلاق .
انقسم القراء منذ ذلك الحين إلى فريقين: فريق يجد إمتاعا في أسلوب الكتاب العاطفي والمحتوى الذي يستلزمه، وفريق يستجيب له بازدراء يعتريه الملل، وكلاهما يمكن تفهمه بسهولة. إنها زوبعة كتاب يخضع لتأثير أفكاره الحماسية الغريبة ورغبته في تناول أكبر عدد ممكن من الموضوعات في مساحة محدودة، ولكنه متنكر في صورة وصف تاريخي للسبب وراء استمرار المأساة الإغريقية لفترة وجيزة للغاية، ويوضح أنها بعثت مؤخرا في الأعمال الناضجة لريتشارد فاجنر. كان نيتشه من المعجبين المتعصبين لبعض أعمال فاجنر الدرامية منذ أن سمع موسيقى «تريستان وإيزولد»، التي عزفها هو وبعض الأصدقاء على البيانو وغناها تقريبا عندما كان في السادسة عشرة من عمره («هذا هو الإنسان»، الفصل الحادي عشر، ص6؛ ولكن انظر أيضا «الحب»، 1963). وقد قابل الموسيقار وخليلته آنذاك كوزيما، ابنة ليست، عام 1868، ليصبح صديقهما المقرب في عام 1869، ويزورهما مرارا خلال السنوات التي عاشاها في مدينة تريبشن المطلة على بحيرة لوسيرن. وما من شك في أن الموضوع برمته المطروح في كتاب «مولد المأساة» قد نوقش مرارا خلال تلك الزيارات، وأن فاجنر قد ساهم مساهمة جوهرية في تطوير بعض فرضياته المحورية (سيلك وستيرن، 1981: الفصل الثالث). ولكن الذهول اعتراه هو وكوزيما عندما استلما نسختهما من الكتاب. وأيا كان كم التأثير الذي أحدثه فاجنر، الذي كان يعشق التأمل شبه التاريخي، فقد وجد ما يكفي من الأفكار الجديدة في الكتاب التي جعلته يعتبر الكتاب وحيا له.
وعموما، فكثيرا ما تحسر قراء الكتاب المتعاطفون معه على تخصيص الأجزاء العشرة الأخيرة منه للترويج لفكرة أن فن فاجنر بمنزلة بعث للتراجيديا الإغريقية. ولم يبد هذا الادعاء بالنسبة إليهم سخيفا في حد ذاته فحسب، لكنهم شعروا أيضا أنه ينتقص من وحدة الثلثين الأولين من «مولد المأساة» ويصرف الانتباه عنهما. وكل هذا تقريبا يضيع الهدف من وراء المجهود المبذول في الكتاب، وما قضى نيتشه حياته محاولا عمله؛ لأن ما يستوجب أن يكون «مولد المأساة» هو بداية الفترة التي زاول فيها نيتشه الكتابة، بالنسبة إلى من يريدون أن يفهموا الوحدة الأساسية لاهتماماته، هو الطريقة التي يبدأ بها بمجموعة من الموضوعات التي تبدو بعيدة عن الزمن الحاضر، ولكنه يكشف تدريجيا عن أن اهتمامه الأساسي هو الثقافة، وظروفها المتواترة، والأعداء الذين يقفون في طريق نشرها.
يبدأ كتاب «مولد المأساة» بإيقاع سريع، ولا يتوقف زخم الحركة فيه أبدا. من المفيد قراءته لأول مرة بأقصى سرعة يستطيعها المرء، متجاهلا الأمور الغامضة والانحرافات الواضحة عن القضية المحورية (وهو مصطلح أستخدمه بمعنى شامل للغاية). تعتمد هذه القراءة الأولية بالتأكيد على قدر كبير من الثقة، ولكن إخضاعها للتدقيق النقدي منذ المرة الأولى سيثير الغضب والملل. من المهم استيعاب حس التدفق الذي يتسم به الكتاب، والذي يعتبر أيضا موضوعه الأساسي بدرجة ما. بعد كتابه «مقدمة إلى ريتشارد فاجنر» الذي تناول فيه كلا من «المشكلة الألمانية الخطيرة التي نتعامل معها» والإيمان الراسخ بأن «الفن هو المهمة الأسمى والنشاط الميتافيزيقي الحقيقي في هذه الحياة»، استهل نيتشه كتابه ببداية تليق بادعائه «إننا كنا سنفيد كثيرا علم الجمال إذا كنا قد نجحنا في أن ندرك فورا، وليس فقط من خلال التفكير المنطقي، أن الفن يستمد تطوره المستمر من ثنائية «الأبولوني والديونيسيوسي».» وهكذا، أوضح نيتشه عبر سطور قلائل أنه سيتحرك على ثلاث جبهات؛ الأولى: هي الأزمة المعاصرة في الثقافة الألمانية، والثانية: ادعاء جريء عن طبيعة الميتافيزيقا، والثالثة: اهتمام ب «علم الجمال». (بالنسبة إلى كلمة علم
Science ، يستخدم نيتشه كلمة
Wissenschaft ، التي تعني بالألمانية بحثا منهجيا، ولا يقصد بها المعنى المستخدم في اللغة الإنجليزية لكلمة
Science - لا بد من تذكر هذا على مدار أعماله، أو في واقع الأمر خلال أية مناقشة باللغة الألمانية.)
وسرعان ما ينتقل لتناول «التناقض» بين الأبولوني والديونيسيوسي، ولكن يجب ألا نفهم من هذا أنهما عدوان! فحسبما يتبين من شرحه، سرعان ما يتضح أن «هاتين النزعتين المختلفتين تماما تسيران جنبا إلى جنب، في تناقض صارخ عادة كل منهما مع الأخرى، وتحث إحداهما الأخرى على إنتاجات أكثر قوة»، إلى أن يبدو «أخيرا أنهما تنتجان عملا فنيا ديونيسيوسيا بقدر ما هو أبولونيا، وهذه مأساة إغريقية.» وهذا النوع من التناقض الذي يصير - رغم ذلك - مثمرا على نحو هائل مقارنة بأي شيء يمكن إنتاجه من خلال أي من الخصمين منفردا، هو سمة الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، بممثلها الرئيسي هيجل، الفيلسوف الذي كان نيتشه يعاديه عموما بشدة طوال حياته، وبلا شك يرجع ذلك جزئيا إلى ارتباط نيتشه بشوبنهاور الذي كانت كراهيته لهيجل معروفة. ولكن بالتعمق في المعارضة والتغلب عليها لا يحتاج نيتشه إلى أي من الأدوات الجدلية التي أعاق هيجل نفسه بها؛ لأنه يستطيع إعداد خطته بواسطة الصور المجازية والأمثلة، وهذا ما يفعله، على الرغم من أن الأمثلة كثيرا ما تستخدم على نحو متحيز.
تتمثل الفكرة في أن الفن الأبولوني هو فن المظهر، بل في الواقع «هو» المظهر. يستحضر نيتشه الأحلام ليثبت وجهة نظره بأن الفن الأبولوني في أبلغ صوره يتسم بوضوح استثنائي، مبينا على نحو جلي ما يرصده، ويضرب مثلا ب «مبدأ التفرد» الذي وصفه شوبنهاور بأنه الخطأ الرئيسي الذي نعاني منه معرفيا؛ فنحن ندرك العالم ونفهمه في صورة كيانات منفصلة، تضم أشخاصا منفصلين. وبصفتنا كائنات تملك أعضاء حسية وجهازا إدراكيا، فلا يمكننا تجاهل هذه الطريقة المعيبة على نحو هائل عند النظر إلى العالم؛ وهي الطريقة التي يرى شوبنهاور أنها مسئولة عن العديد من خيالاتنا وتجاربنا الأكثر إيلاما، على الرغم من أنه ليس من الواضح إن كان التغلب عليها سيجعل حياتنا أقل ترويعا أم لا.
استغل نيتشه في «مولد المأساة» الالتباسات التي يتسم بها فكر شوبنهاور - على الرغم من أنه ليس ثمة موضع يبين أنه كان أكثر إدراكا لها من شوبنهاور نفسه - لينتج «ميتافيزيقا الفنانين» الخاصة به، والمستقلة إلى حد ما، حسبما يشير بازدراء إلى منهجه في «محاولة في نقد الذات»، تلك المقدمة الرائعة التي كتبها للطبعة الثالثة من الكتاب عام 1886، وهو عام مراجعة الذات. كان يقصد بعبارة «ميتافيزيقا الفنانين» أنها من ناحية ميتافيزيقا مصممة خصيصى لتمنح الفن أهمية اعتبرها لاحقا منافية للمنطق؛ وأنها من ناحية أخرى استخدام للأساليب الفنية أو شبه الفنية لإنتاج آراء ميتافيزيقية، واختبارها من حيث قيمتها الجمالية وليس من حيث صحتها. يمكن النظر إلى «مولد المأساة» بوصفه كتابا جدليا متساميا، حسب منطق كانط. وينتج عن هذا عموما النمط التالي: (س) هي القضية، أو المعطيات، فما الذي ينقص القضية لتصبح هذه ال (س) ممكنة؟ تختلف معطيات نيتشه كثيرا عن المعطيات التي نجدها لدى أي فيلسوف آخر؛ إذ إنها تعطي الأولوية لتجربتنا الجمالية، التي عادة ما تأتي في ذيل قائمة الأولويات الفلسفية، هذا إذا تضمنتها من الأساس. وهو يستعين بالتجارب التي نعرفها عن الفن الأبولوني (النحت والرسم، وعلى رأسهما الملحمة) والفن الديونيسيوسي (الموسيقى والتراجيديا) كمعطيات له، ويسأل عن الكيفية التي يجب أن يكون عليها شكل العالم لكي نحظى بهذه التجارب. لقد رأينا أنه يقارن الفن الأبولوني بالأحلام؛ أما الفن الديونيسيوسي فإنه يضاهى - كدلالة أولية على طبيعته - بالنشوة؛ الطريقة المتدنية التي يعتقد أنه من خلالها يمكن التغلب على مبدأ التفرد، وفقدان الوضوح، واندماج الكيانات الفردية.
لماذا نحتاج إلى كليهما بعد أن نفهم أن أحدهما يجسد المظهر البراق، في حين يمكننا الثاني من مواجهة الواقع قدر ما نستطيع دون أن يدمرنا؟ لأن تركيبتنا تجعلنا ندخر حتما جرعات من الواقع للمناسبات الخاصة، كالاحتفالات مثلما أدرك اليونانيون (كان يجري التخطيط لمهرجان بايرويت الأول في الوقت الذي كان نيتشه يكتب فيه، على الرغم من أنه لم ينطلق حتى عام 1876). لكن الأمر أكثر تعقيدا من هذا؛ فلا مشكلة في المظاهر، ما دمنا ندرك أن هذه هي حقيقتها (سيظل هذا دائما موضوعا رئيسيا في أعمال نيتشه). كما رأينا، تعتبر الملحمة اليونانية صورة من الفن الأبولوني، وبالطبع تتمثل أبهى مظاهرها في «الإلياذة»، وهي عمل فني يمتعنا بوضوح أسلوبه وسلاسته. كان اليونانيون الذين عاشوها سعداء بأنهم صنعوا بأنفسهم قصصا عن عالم الآلهة التي تمتع أنفسها على حسابهم؛ وهي «الصورة الوحيدة المقنعة لإيمانهم بالعدالة الإلهية»، حسبما يقدم نيتشه تعليقه الخالد («مولد المأساة»، 3). وعند هذا المستوى تعمل المعادلة التي ظهرت مرتين في الطبعة الأولى، وتكررت على نحو مستساغ في «محاولة في نقد الذات»: «لا يمكن تبرير العالم إلا بكونه ظاهرة جمالية فقط» (وتتنوع الصيغ بعض الشيء). وبما أن الوجود في أبسط صوره بالنسبة إلى الإغريق المنتمين لعصر هوميروس لن يكون محتملا، فقد أظهروا غريزة فنية بطولية بتحويل حياة المعارك التي يعيشونها إلى عرض مسرحي. لهذا السبب كانوا يحتاجون إلى الآلهة؛ لا ليواسوا أنفسهم بفكرة وجود حياة أفضل فيما بعد، والتي كانت الحافز المعتاد لافتراض وجود عالم آخر، وإنما ليميزوا بين أي حياة يمكن أن يعيشوها والحيوات الخالدة للآلهة، الذين يحق لهم لمجرد كونهم خالدين أن يتسموا بالطيش والاستهتار مثلما يصورهم هوميروس على نحو صادم لنا. «إن كل من يقترب من هذه الآلهة الأولمبية وهو يحمل إيمانا غير إيمانها، ومتطلعا إلى الأخلاق السامية، بل حتى القداسة، والعلاقة الروحية الشفافة، والإحسان والرحمة، سرعان ما يجبر على هجرانها، مثبط الهمة وخائب الأمل» («مولد المأساة»، 3).
إذا استطعنا أن نضفي معنى بعد ذلك على مفهوم البطولة - وهو شيء طالما شكك فيه نيتشه طوال حياته - فسيكون ذلك بالتأكيد من خلال إدراك وهمي لهذه الرؤية. وهذه هي محاولة نيتشه الأولى لتطبيق عبارة أدمنها في أعماله اللاحقة، ألا وهي «تشاؤم القوة». لم يكن نيتشه قليل الخبرة بالقدر الذي يجعله متفائلا، أو يجعله يعتقد أن الحياة ستصبح رائعة في يوم من الأيام، بطريقة يمكن أن يزيد في قيمتها اللابطل. وبما أننا لسنا أبطالا، نستطيع فقط أن نشغل أنفسنا بتحسين «نوعية الحياة» (يتمنى المرء لو كان نيتشه موجودا ليقدم ما كان سيصبح التعليق المناسب الوحيد على تلك العبارة المروعة). ولو شعرنا أنه لا يمكن تحسين نوعية الحياة، فإننا نصبح متشائمين، بل عاطفيين، أو كما يصفنا نيتشه «رومانسيين»، ننوح على مآسي الحياة، وربما نضع مناحاتنا في صورة شعرية مهدئة وملائمة.
يعتبر احتفاء نيتشه بهوميروس والأبطال الذين خلدهم بكتابته «الإلياذة» كافيا ليبرهن على أنه ما من شيء يعيب الفن الأبولوني في حد ذاته، ولكنه قائم على الوهم، ومن ثم فهو متقلب بالفطرة، وقابل للانحطاط إلى شيء أدنى قيمة. وعندما أصبح الإغريق أكثر وعيا بعلاقتهم بالآلهة؛ أدى عصر البطولات الملحمية - الذي يرفض أن يستكشف جوانب يمكن أن تنتج عنها مشكلات - إلى نشوء عصر التراجيديا. ثمة طرق عدة يعبر نيتشه من خلالها عن هذا التحول المهم، ومعظمها متأثر بتبعيته لشوبنهاور التي اتسمت بالحماسية وقصر العمر في الوقت نفسه. في نهاية القسم الأول من «مولد المأساة» كتب نيتشه يقول: «لم يعد الإنسان فنانا مثلما كان عند ابتكاره الآلهة، لكنه أصبح عملا فنيا؛ فالقوة الفنية للطبيعة كلها تتجلى معبرة عن نفسها في هذا الرضا الأسمى للوحدوية البدائية وسط نوبات النشوة.» في هذه المرحلة التي لم تزل مبكرة في «مولد المأساة» ينتابنا شعور، تعتريه الإثارة أو السخط حسب حالتنا المزاجية، بأن نيتشه يختلق كل هذا خلال مسيرته. لقد مر بعدد هائل من التجارب الفنية المؤثرة والعميقة مقارنة بأي تجارب من نوع آخر، وهو يحاول أن يفهمها بالطريقة الوحيدة التي يستطيع أن يفهمها بها ناقد عظيم، على الأقل منذ انهيار الفكر الكلاسيكي في النقد، وذلك عن طريق تأليف عمل يبدو، في سياقه الجوهري، أنه يطابق قوة تلك التجارب وثراءها.
من هذا المنطلق، تحتل الكلمات والعبارات المقام الأول، ثم يكون عليك أن تفكر فيما يقصده بها. إنه أسلوب اتبعه نيتشه طوال الفترة التي زاول فيها الكتابة، ولكنه سرعان ما أدرك أنه لا يلائم طريقة التعبير المعتادة في بحث ذي موضوع واحد ويتمتع بامتيازات البحث الأكاديمي. والفقرة التي اقتبستها أعلاه مثال جيد على ذلك؛ فبعد أن يصف الإغريق المنتمين إلى عصر هوميروس بأنهم فنانون، بفضل قدراتهم الإبداعية على اختلاق آلهة متقلبة الأهواء (وهي قدرات كان يجب أن يتحلوا بها كي يطيقوا الحياة)، فإنه ينتقل إلى فكرة أنهم هم أنفسهم يتحولون إلى أعمال فنية، لكن انتقاله يتم في المقام الأول على مستوى اللعب بالكلمات من أجل غرض جاد، ثم يكون عليه أن يبرره، بعد أن يشرح معناه أولا. وينقذه مفهوم شوبنهاور (الذي قدم إطارا يمكن به تطبيق فكره) الذي يدور حول أنه خلف جميع المظاهر الفردية توجد وحدوية واحدة ثابتة على نحو أساسي، فيحتفي بالإغريق الذين ينتجون التراجيديا؛ لأنهم حولوا الرجال إلى أعمال فنية، أو بصيغته البديلة «مبتكري حياة». فهم يدركون أنهم لكي يواجهوا الواقع بدلا من الولع بالمظاهر البراقة، فإن عليهم أن يتأقلموا مع حقيقة أن الحياة «في حد ذاتها» تدمر الفرد على نحو دائم، وأن يتيحوا لأنفسهم نبذ استقلاليتهم، والاستمتاع بالفن الديونيسيوسي الذي كان المعقل الذي يتحصنون به من المهرجانات الديونيسيوسية للبربر الهمجيين، والتي كانت تدور في محورها حول «النقص المفرط في الانضباط الجنسي، الذي غمرت أمواجه كل القواعد المبجلة المنظمة للحياة الأسرية. وهنا أفلت من الأسر أكثر وحوش الطبيعة ضراوة، حتى ذلك المزيج المنفر من الحب والقسوة الذي طالما اعتبرته «مزيجا شيطانيا»» («مولد المأساة»، 2).
يتميز الفن دائما، حتى في صورته الديونيسيوسية، بشكل خاص، ومن ثم فإنه يزيف - حتى نقطة معينة - موضوعه، الذي هو عبارة عن دوامة معدومة الشكل من الألم المتصل بالمتعة، وإن كانت الغلبة للألم. ولكنه يجب أن يمارس هذا التزييف؛ لأنه من دونه سنجده غير محتمل. لذلك في موضع لاحق من الكتاب عندما يناقش نيتشه مقطوعة فاجنر «تريستان وإيزولد»، فإنه يدعي أنها يجب أن تكون مسرحية درامية؛ لأن المسرحيات الدرامية تضم شخصيات، أي أفرادا، وهو ما يعني أن أبولو سيلعب دوره. وفي الفصل الثالث من المسرحية، تقحم شخصية تريستان نفسها بيننا وبين مقطوعة فاجنر؛ حيث يشعل تريستان فتيل التجربة التي تودي بحياته، بينما نبقى نحن على قيد الحياة، بعد أن نقترب قدر المستطاع من التواصل المباشر مع الواقع البدائي. وبناء عليه، يعتبر الأبطال التراجيديون ضحايا قربانية، بينما نبلغ نحن «الخلاص»، وهو مصطلح محبب إلى فاجنر وكذلك إلى المسيحيين، والذي سيندم نيتشه بعد فترة قصيرة على استخدامه، على الرغم من أنه حقق الغرض منه في سياقات أخرى.
لقد تخطيت الفصول التي تتخلل «مولد المأساة» لكي أبين كيف يحاول نيتشه أن يعقد صلة بين التراجيديا الإغريقية والدراما الموسيقية لفاجنر. فهو يعتقد أن الثانية تعني لنا أكثر مما تعنيه الأولى نظرا لغياب الموسيقى التي كانت تعزف في المسرحيات التراجيدية الإغريقية؛ مما يجعلنا لا نستطيع تخمين تأثيراتها إلا من خلال أوصاف حول كيفية استجابة جماهيرها لها، فقد كانوا يخضعون لحالة من «النشوة» التي لم تتح لنا من جديد إلا الآن. ويستحيل بلوغ هذه الحالة إلا لدى جمع من المتفرجين الذين يعتبر إحساسهم بفقدان الهوية صورة أجود من تلك التي يشعر بها جمهور كرة القدم حاليا. ولكن علينا أن نركز على طريقة إنتاج تلك النشوة، وإلا فلن يوجد فارق نوعي بين جمهور كرة القدم وجمهور المسرحية التراجيدية. وسرعان ما شعر نيتشه، لأسباب معقدة، أنه لا يوجد فارق ملحوظ بين جمهور فاجنر وجمهوره المقابل الذي يتكون من مجموعة سكارى حادي المزاج. بيد أن تلك الفكرة سوف تظهر في المستقبل الأليم. أما في الوقت الحاضر، فقد كان مصمما على إعادة إحياء روح المجتمع بفضل تلاحم أعضائه بشعور مشترك بالنشوة. تلك هي «المشكلة الألمانية الخطيرة التي نواجهها»، وكان نيتشه في هذه المرحلة يعتبر أن الألمان يتمتعون بحساسية تجاه القيم والحقائق المطلقة التي حرمت منها أمم أخرى، بفضل ثراء الموروث الموسيقي للألمان على نحو أساسي.
وسط تصريحات نيتشه الافتتاحية حول ثنائية أبولو وديونيسيوس والجدل المتضمن على نحو استثنائي، والذي يلقح فيه أحدهما الآخر في الأقسام الختامية من الكتاب، نجد صورة نيتشه المعروضة على نحو مبالغ فيه، إن لم يكن مستغربا، عن سمو التراجيديا الإغريقية (أسخيلوس وسوفوكليس) وانحطاطها (يوريبيديس). دارت فرضيته المحورية حول غلبة الكورس الغنائي في حالات السمو، فيرى الجمهور على المسرح صورة منعكسة له، مرتفعة إلى قمم ساحقة من المعاناة والتجلي. ولكن عندما يصل إلى المشهد يوريبيديس، الذي تدوم مسرحياته للأسف بأعداد أكبر من أسلافه الأوائل، فإنه يبدي اهتماما بالأفراد وبعلم النفس، والأسوأ من هذا بالآثار المفيدة للعقلانية، أو «الجدل» حسبما يميل نيتشه إلى تسميتها. ولم يشك نيتشه في أن صاحب التأثير المفسد عليه هو سقراط، الذي استحق فعلا الموت بسم الشوكران، ليس بسبب تأثيره على شباب أثينا، ولكن بسبب تأثيره على ما كان يمكن أن يصبح سر عظمتها التراجيدية المستمرة. «لقد أصبح يوريبيديس شاعر السقراطية الجمالية» («مولد المأساة»، 12).
إن السمة التي تجعل سقراط شخصية معادية للتراجيديا على نحو جذري هي إيمانه بالقدرة المطلقة للمنطق، على الرغم من أن المرء يستطيع أن يبين أن محاورات أفلاطون - التي يعتبرها الباحثون في أغلب الظن تفسيرات لآراء سقراط نفسه - لم تحقق كثيرا من التقدم، إلا بمنحى سلبي. ولكن تصوير نيتشه له يتناول هذه النقطة:
في هذه الشخصية الاستثنائية تماما تظهر الحكمة الغريزية فقط لكي «تعوق» المعرفة الواعية عند مواضع محددة. وعلى الرغم من أن الغريزة تعتبر عند الأشخاص الأذكياء ملكة إبداعية وتأكيدية، ويؤدي الوعي دورا نقديا ورادعا؛ فإن الغريزة لدى سقراط تمارس دورا نقديا ويتحول الوعي إلى مبدع، فيتكون مسخ «ناقص»! «مولد المأساة»، 13
لم تفارق صورة سقراط خيال نيتشه؛ كما هي الحال مع جميع الشخصيات الرئيسية في المعبد ونقيضه، وتظل علاقته به تتسم بتناقض صارخ؛ لأن نيتشه لم يعتقد أن العلاقة بين الغريزة والوعي بهذه البساطة التي يتظاهر بها هنا. ما كان متأكدا منه هو:
العنصر الإيجابي في الجدل، الذي يرقص مهللا لأية نتيجة ولا يمكنه أن يتنفس إلا في الأجواء الصحوة الصريحة ومن خلال الوعي؛ ذلك العنصر المتفائل، الذي غزا ذات يوم عالم التراجيديا، قد نما شيئا فشيئا حتى غطى على أصوله الديونيسيوسية، وأجبر نفسه على الانتحار بانتقاله إلى المسرح البرجوازي. هنا لا بد من الاستشهاد بقول سقراط المأثور: «الفضيلة هي المعرفة، فجميع الخطايا تنشأ عن الجهل، والإنسان الفاضل شخص سعيد.» هذه العبارات الثلاث المتفائلة هي التي تحمل في طياتها موت التراجيديا. «مولد المأساة»، 14
إنه اتهام عبقري، حتى لو لم يكن مرتبطا بيوريبيديس. فليس من قبيل المصادفة أن يتلاشى فكر العقلانية العظيم في الفلسفة الغربية بتفاؤل مماثل مذهل، ولسنا مضطرين إلى الانتظار حتى يصادف شوبنهاور فيلسوفا متشائما، ويتقبل ذلك بصفته لاعقلانيا، مؤمنا بأولوية الإرادة اللاعقلانية. لقد كان الفكر الغربي معاديا للتراجيديا بسبب التعاون بين الأفلاطونية والمسيحية، وقد ألغيت مسرحياته التراجيدية العظيمة - خصوصا تلك التي كتبها شكسبير وراسين - لأسباب لاهوتية أو لصلتها بالتعاليم اللاهوتية على نحو مثير للقلق. ولا يعني هذا أن نيتشه قادر على الاعتراف بشكسبير بصفته كاتبا تراجيديا ذا مكانة عالية، وذلك بسبب غياب الموسيقى؛ مما يضعه في موقف حرج يتعامل معه بتجاهل شبه تام. والفقرة الوحيدة التي ذكرها بإيجاز عن شكسبير في «مولد المأساة» تتناول هاملت على نحو بارع، بصفته رجلا يدرك - بعد أن نظر إلى الهوة الديونيسيوسية - عبثية أي فعل؛ فهو غير متقاعس وإنما يائس («مولد المأساة»، 7). ولكنه لا يتناول الكيفية التي يمكن أن يؤدي بها ذلك إلى خلق الأثر المأساوي الكامل، لو تحقق من الأساس.
ومع هذا، فالأمر الأكثر سلبية أن نيتشه لا يحاول أن يشرح سبب قلة المسرحيات التراجيدية الموسيقية؛ فيبدو أنه يسلم جدلا بأن فاجنر كتب مسرحيات من هذا النوع، وإن كان يبدو من الواضح بالنسبة إلي أنه لم يكتبها. في واقع الأمر، لقد عمد موسيقار وراء آخر إلى استخدام القوى المهيمنة للموسيقى ليثبت أنه مهما ساءت الأمور على خشبة المسرح، فإنه يمكن إنقاذها. وما أثار إعجاب نيتشه حقا هو درجة النشوة التي تستطيع الموسيقى أن تنتجها، بخلاف أي فن آخر. وبما أنه منح التراجيديا مكانة عالية على نحو تقليدي، بصفتها الصورة الفنية التي تبين كيف يمكن أن نصمد أمام ما قد يبدو في ظاهره لنا غير محتمل، فقد حقق دمجا بين الاثنتين.
عند هذه المرحلة يصبح ولاؤه لشوبنهاور ذا تأثير أشد سلبية؛ لأن شوبنهاور أيضا قد آمن أن الموسيقى تمنحنا سبيلا مباشرا إلى تطبيق الإرادة، بما أنها غير مرتبطة بمفاهيم. ولكن بناء على شرحه العام لطبيعة الإرادة، التي طالما كافح من أجلها دون أن يبلغها بالضرورة، فمن الصعب أن نرى كيف أو لماذا يجب أن نستمتع بالفن الذي يجعلنا نحتك احتكاكا مباشرا بها. وقد يفكر المرء أنه كلما زادت المسافة بيننا وبين الواقع، قل إحساسنا بالشقاء.
ينقح نيتشه أفكار شوبنهاور بعض الشيء بادعائه أن البدائي هو مزيج من الألم والمتعة، ولكن كما سبق وذكرنا، فإن الغلبة للألم. وما يفعله نيتشه هو محاولة الإجابة عن السؤال التقليدي: لماذا نستمتع بالتراجيديا؟ وهو يفصل نفسه عن الإجابات التقليدية لسبب مقنع ، معتبرا إياها سطحية ومسكنة. ولكن في أثناء محاولته تحويل التراجيديا إلى عامل يبدل ما يبدو غير قابل للتبديل، فإنه يجاوز هدفه، ليقع هو نفسه كما يبدو في فخ المساواة بين الحق والجمال، وهو شيء ينتقده لاحقا بحدة كافية. ونريد أن نطرح عليه في هذه المرحلة السؤال الذي لم يطرحه إلا بعد مرور ما يتجاوز عقدا من الزمان: لماذا الحق بدلا من الباطل؟ ما الذي يحفزنا دائما للبحث عن الحقيقة؟
ليست الفكرة أن نيتشه لم يقدم أجوبة عن تلك الأسئلة في «مولد المأساة»، ولكن الفكرة أن تلك الأجوبة تظل غامضة. ولن نجده يتناول هذه الموضوعات بعمق حتى مرحلته الأخيرة. ومع هذا، فالجدير بالذكر أنه قد بدأ بالفعل أهم بحث في حياته: كيف يمكن أن يصبح الوجود محتملا، بمجرد أن ندرك ماهيته؟ الطريقة التي يتناول بها الموضوع هنا هي اقتباسه مبكرا قصة عن سيلينوس، صديق ديونيسيوس، الذي قال: «أيها البشر الزائلون التعساء، يا أبناء المخاطر والشدائد! لماذا تجبرونني على قول ما قد يكون الأفضل لكم ألا تسمعوه؟ إن أفضل الأشياء هو الشيء الذي يوجد خارج قبضتكم كلية: ألا تولدوا، ألا تكونوا، أن تكونوا لا شيء. ولكن ثاني أفضل الأشياء لكم هو أن تندثروا في أقرب وقت» («مولد المأساة»، 3). ولكن على الرغم من أن سيلينوس «حكيم»، تتمكن الحكمة التراجيدية في نهاية المطاف من التفوق حتى عليه هو شخصيا (يقارن نيتشه باستمرار بين
Wissenschaft «المعرفة، العلم» و
Weisheit
الحكمة). وهي تفعل هذا، حسب بعض المناورات الخفية التي تنفذ في جزء لاحق من الكتاب، عن طريق تفاعل مدروس بين الأبولوني والديونيسيوسي. ثم يذكر تعليقه الأكثر إيحاء: «إن المتعة التي توفرها لنا الميثولوجيا التراجيدية تنبع من نفس المصدر الذي ينبع منه الاستمتاع باستيعاب التنافر الموسيقي. والفن الديونيسيوسي، بما فيه من متعة بدائية متاحة حتى في ظل الألم، هو الرحم المشتركة للموسيقى والميثولوجيا التراجيدية» («مولد المأساة»، 24).
قد يشعر المرء أن هذا هو ما سماه شونبرج لاحقا ب «انعتاق التنافر» بفعل الانتقام؛ لأننا على الرغم من إحساسنا بأن الموسيقى المفتقرة إلى تنافرات واجبة الحسم هي موسيقى عديمة الطعم وغير مستساغة، فإن العالم يبدو وكأنه يقدم لنا تنافرا متواصلا، مع لحظات غريبة من التأجيل. ولكن ليس من المجدي التركيز على هذه النقطة خلال هذه المرحلة. يقدم لنا نيتشه بالفعل ميتافيزيقا الفنان، حيث يعتبر استعصاء المادة المطلوب تنظيمها حافزا لأعمال إبداعية أعظم، ولكنه إبداع يعتبر تقليدا في نفس الوقت، ومن ثم نستطيع أن نقول: إننا نواجه الواقع، بيد أنه يتبدل من خلال إكسابه شكلا.
في مستهل «مرثيات دوينو»، كتب ريلكه يقول: «فالجمال لا شيء/سوى بداية الرعب الذي لم نزل بالكاد نتحمله/ونمجده؛ لأنه يأنف أن يدمرنا» (ترجمة ستيفن ميتشيل، بتصرف بسيط). يمكن أن يقول المرء بموضوعية: إن هذه هي الفكرة الرئيسية في «مولد المأساة». فهي على أقل تقدير مزعجة، وقد نحسها حتى مقززة (يونج، 1992: 54-55). وهي تطمس على نحو حاسم الفارق الراسخ بين السامي والجميل، جاعلة الأول عنصرا مهما للثاني. ولكن قد يكون هذا هو الجانب الأقل إثارة للدهشة في إبداعاته. والأهم أنه يعكس الإصرار الذي حافظ عليه نيتشه طوال حياته المهنية، وأبداه بكل بطولة في حياته الخاصة، بألا يعطي الألم دورا سلبيا على نحو تلقائي في الحياة، وهو الأمر الذي ربما شعر أنه أرهقه خلال المشهد المعاصر مقارنة بأي شيء آخر. في الوقت نفسه، سيطرت عليه رؤية عن العالم بصفته مكانا يتسم بقدر كبير من الرعب لدرجة أن أية محاولة لإكسابه معنى من الناحية الأخلاقية هي ببساطة مستحيلة. لهذا، فإنه في «محاولة في نقد الذات»، بعد أن انتقد الكتاب بشدة أكثر مما فعل أي شخص آخر، معلنا أنه قد وجده «مستحيلا»، لم يزل يجد أنه «يكشف بالفعل عن روح تواجه جميع المخاطر من أجل معارضة التفسير «الأخلاقي» والمعنى وراء الوجود» («مولد المأساة»، «محاولة في نقد الذات»، 5). وبعد عدة أسطر قلائل، يصف «المسيحية باعتبارها أكثر الاستفاضات التي سمعت بها البشرية يوما مبالغة للموضوع الأخلاقي.» على الرغم من أن الإدراك المتأخر واضح هنا، فبالفعل كان نيتشه دائما حساسا تجاه المعاناة (معاناة الآخرين، كان غير مبال إلى حد بعيد بمعاناته) ليجد «تفسيرا» لها من حيث الفائدة التي تحققها لنا، واعتبارها جزاء لنا على خطايانا، وبقية المهاترات التي استمرت على مدار القرون على نحو غير محتمل.
قد يكون كتاب «مولد المأساة» أكثر الأشياء الرهيبة التي اتهم بها نيتشه وآخرون غيره المسيحية، ولكن هذا الكتاب أثبت أنه مصدر خصب لإلهام علماء الأنثروبولوجيا والباحثين الكلاسيكيين. كما كان له تأثير قوي على الخيال العام، بفضل تركيزه على الثنائية الأبولونية والديونيسيوسية. كما أنه كتاب مثمر في قراءاته؛ فما إن تتضح فكرته العامة حتى نجد العديد من الرؤى المتميزة التي لا توجد في أي عمل آخر لنيتشه. ولكنها لا تغني عن نوع معين من القراءة المتعمقة؛ تلك القراءة الرائجة اليوم وتبحث عن الالتباس والصدع وتدمير الذات، وبقية أدوات التفكيكيين. ووحدها الكتب التي تبدو أنها تحقق وحدة الفكر التي يفتقر إليها كتاب «مولد المأساة» ستفعل ذلك بلا جدال. تظهر تلك الوحدة فقط في الحماس الذي يصمم نيتشه على ربطه بعملية الإحساس بأهم اهتماماته، وتجسدها مثله العليا. وبعبارة أخرى، فإنه كتاب شاب يعتبر أقل موضوعية مقارنة بكتبه اللاحقة فيما يتعلق بقربه من مؤلفه. وربما اللافت أنه أشد تعبير متفاءل كتب يوما عن رؤية كونية متشائمة.
الفصل الثالث
التحرر من الوهم والانسحاب
إن السنوات التي كللت بكتابة «مولد المأساة» كانت هي الأسعد في حياة نيتشه، بل وفي واقع الأمر كانت الأخيرة قبل أن يصيبه المرض والوحدة والنبذ. عندما غادر آل فاجنر مدينة تريبشن وانتقلوا إلى بايرويت عام 1872، انتهت علاقة (علاقات) نيتشه الشخصية الأدوم في دفئها وإثمارها. وفي غياب فاجنر، بدأ نيتشه يشكك في جودة مسرحياته الموسيقية وغايتها؛ تلك التي ظل يتفكر فيها حتى نهاية حياته. ولكنه ظل مع هذا فاجنري الطابع لدى الناس، مجندا لشن دعاية لصالح قضية كانت في أمس الحاجة إلى ذلك. وبسبب قلق نيتشه من وضع الثقافة الألمانية، التي سرعان ما بدأ يشعر أنه بالغ كثيرا في تقديرها في «مولد المأساة»، عكف على كتابة سلسلة من الأوراق للزمن؛ لهذا أسماها «تأملات في غير أوانها». ورغم أنه خطط لتأليف ثلاث عشرة، فإنه لم يكتب سوى أربع. وربما كانت تكفيه اثنتان. فببلوغها خمسين صفحة ونيفا، كالمقالات الطويلة، فإنها تبين نيتشه عاجزا عن اكتشاف قالب يناسب مواهبه؛ إذ إنه في أثناء محاولته لعرض حجة وبسطها بأسلوب أقل حماسا من «مولد المأساة»، يلجأ للمرة الوحيدة في حياته إلى البعثرة والحشو.
ولكن توجد مشكلة أهم من تلك في «تأملات في غير أوانها»، فبينما يوجه نفسه نحو تقييم مدى ازدهار الثقافة المعاصرة، مع هجوم على العجوز ديفيد شتراوس - مؤلف «حياة المسيح»، و«الإيمان القديم والجديد»؛ الكتاب الأخطر بالنسبة إلى نيتشه - ونحو ممارسة علم التاريخ، ثم نحو الاحتفاء بعبقرية شوبنهاور وفاجنر، فإنه - باستثناء التأمل الثاني، «فيما يتعلق بفوائد التاريخ وعيوبه بالنسبة إلى الحياة» - لم يجد موضوعات تتوافق توافقا كافيا مع اهتماماته. فكتاب شتراوس الذي اختاره للنقد في التأمل الأول يعد كتابا سهل القراءة للغاية، فهو مادة للازدراء الذكي لا يمكن مقاومتها، لدرجة أن المرء يتعجب لماذا يعبأ به نيتشه، وهذا ما يبدو واضحا أنه يفعله. ومع هذا، فإنه يستحق أن يقرأ كاملا؛ فهو يتناول الموضوعات نفسها تقريبا التي يتناولها كتاب ماثيو أرنولد «الثقافة واللاسلطوية»، والطريقة الأجدى لقراءته هي أن يقرأ جنبا إلى جنب مع الكتيب السطحي والمؤثر الذي يشترك معه في مصطلحاته بدرجة مدهشة. كما أنه يحتوي على أحد المصطلحات الأكثر إلهاما التي صاغها نيتشه، وهو مصطلح «غير المتأثر بالثقافة»؛ أي الشخص الذي يعرف ما يجب أن يعرفه، ويحرص على ألا يكون لما يعرفه تأثير عليه.
يعتبر التأمل الثاني عملا عظيما، فهو تأمل حقيقي لمدى قدرتنا على التأقلم مع عبء المعرفة؛ المعرفة التاريخية تحديدا، مع تمكننا في الوقت نفسه من الاستقلال الذاتي التام. وينتهي بمناشدة محرضة لنا لاعتناق المفهوم الإغريقي للثقافة والمناقض للمفهوم الروماني، باعتبار أن الأول يدور «حول الثقافة بوصفها طبيعة جديدة ومتطورة، دون ظاهر أو باطن، دون رياء وأعراف، الثقافة بوصفها توافقا للحياة والفكر والمظهر والإرادة» («تأملات في غير أوانها»، التأمل الثاني، 10). هذا أمر عظيم ، لكن هذه المشاعر تتسم بالسمة الخطابية لدرجة أنه ما من شيء في متن النص يجيب عنها على نحو مرض.
يتسم التأمل الثالث؛ «شوبنهاور معلما»، بأنه مربك، ويرجع ذلك بصفة أساسية إلى عدم عنايته بشوبنهاور كثيرا. كانت تبعية نيتشه لشوبنهاور المتشائم المنقوص تتضاءل، وما كان يمدحه عليه في الأغلب هو ازدراؤه للفلاسفة الجامعيين، ولكن شوبنهاور كان قد فعلها على نحو أفضل في مجموعة تأملاته «زيادات ومحذوفات». أما عن التأمل الثالث والأخير؛ «ريتشارد فاجنر في بايرويت»، فهو قراءة مؤلمة. حتى لو لم تكن لدينا فكرة عن أن نيتشه كان - في نفس وقت كتابته - يطرح في دفاتر ملاحظاته أسئلة خطيرة عن فاجنر، كنا سنستشعر وجود مشكلة ما. لقد كانت هذه هي المناسبة الوحيدة التي بدا فيها نيتشه غير صادق، محاولا استعادة حالة عقلية كانت رائعة وقت استمرارها، ولكنها كانت تندفع بسرعة رهيبة نحو الماضي. لكن التفسير الوحيد لحماس فاجنر تجاهها، حين قال: «صديقي، كيف عرفتني جيدا هكذا؟» هو أنه كان منشغلا جدا عن قراءتها. وهي تعتبر، بطريقتها الخاصة، مقدمة ملائمة للحدث الحاسم التالي (أو أحد الأحداث القلائل) في حياة نيتشه: حضوره مهرجان بايرويت الأول عام 1876، وانفصاله عن فاجنر.
رحب معظم المفسرين الذين تناولوا أعمال نيتشه بكثير من الارتياح بعدائه لفاجنر؛ ربما لأنهم يعتقدون أن هذا يعفيهم من معرفة المزيد عن فاجنر. ولكنه بالطبع لم يحقق هذا، بما أن فاجنر هو الشخص الذي يستمر وجوده كثيرا في كتابات نيتشه مقارنة بأي شخص آخر، بمن في ذلك سقراط أو المسيح أو جوته. ولكن عند مستوى معقد، قد يشعرون أن نيتشه لم يكن صادقا مع نفسه عندما كان معجبا بفاجنر، ثم أصبح صادقا مع نفسه بإحداث هذا الانفصال المؤلم للغاية، الذي لم يعه فاجنر لمدة طويلة. وفي الواقع، فإن تحديد العوامل، بترتيب أهميتها، التي أدت إلى هذه النتيجة أمر مستحيل. لا شك أن توقعات نيتشه الساذجة عما سيكون عليه شكل مهرجان بايرويت جاءت مخيبة لآماله على نحو مدمر؛ وكذلك كانت توقعات فاجنر، ولكنه كان يعلم ملابسات الموقف. كان يجب تصفية الحسابات، على الرغم من أن هذا للأسف لم يتحقق؛ ولكن المحاولة كانت تهدف إلى التودد للثري، وتحويل ما كان يجب أن يكون مهرجانا يحتفل فيه المجتمع بقيمه المشتركة بأقل التكاليف إلى شيء تجلى فيه عالم الأثرياء من متجاهلي الثقافة، إلى جانب المنتمين إلى الطبقة الراقية وغيرهم ممن ليست لهم صلة بالحدث.
بعد الفزع الذي شعر به نيتشه تجاه هذه الصحبة، فر إلى المنطقة الريفية القريبة ليتعافى من أوجاع رأسه المتزايدة. هناك، وفي وقت لاحق، تأمل بإمعان علاقته بفاجنر الإنسان والفنان. لقد صار بالتأكيد في مزاج يجعله يرفض أن يكون تابعا لأي شخص، ولا بد أن هذا كان عاملا رئيسيا. ربما كان واقعا في غرام كوزيما؛ الدليل غير حاسم ولكنه يجعل الفكرة معقولة. أما التفسير الأقل إقناعا، فهو ما ركز عليه نيتشه علانية بأن فاجنر قد اعتنق المسيحية. وكان استقبال قصيدة «بارسيفال» فيما يبدو هو القشة التي قصمت ظهر البعير. ولكنه كان حاضرا عام 1869 عندما قرأ فاجنر علانية مسودة القصيدة، وسمع فاجنر يتحدث عن الموضوع، ومن ثم لا يمكن أن تكون هذه القصيدة هي القنبلة التي ادعى أنها السبب. ولا يمكن أن نسقط من الاعتبار طموحات نيتشه كموسيقار، وهي أكثر إحباطاته إحراجا. فهو رجل يستطيع أن يعزف بلا احتراف مقطوعات البيانو الخاصة به أمام فاجنر، ويستطيع - حتى وقت لاحق - مواصلة تأليف مقطوعات كورالية تبدو مثل ترانيم الكنيسة الطائفية مع بعض النغمات الخاطئة ولكنها تسمى «ترنيمة للحياة» أو «ترنيمة للصداقة»، ولكن كان من الواضح أنه غير قادر على تقييم مواهبه الخاصة في هذا الشأن.
ولم يشعر نيتشه بالإحباط باعتباره موسيقارا فحسب. فقد كان بصفة عامة فنانا مبدعا «فاشلا». وهذا يفسر بصورة كبيرة الطريقة المتعجرفة التي يتعامل بها مع الفنانين العظماء، حتى أولئك الذين يعجب بهم كثيرا، على مدار أعماله. وهو يعتبر العضو الأكثر تميزا في هذه الفئة من الكتاب؛ الذين يتمتعون بفراسة لا تضاهى في أفضل حالاتهم، وفي أسوأ حالاتهم يتسمون بالعجرفة والتحريف؛ والذين يبحثون في فن الآخرين بسبب عجزهم عن إنتاج الفن بأنفسهم؛ لكي يبلوروا رؤيتهم الخاصة. وربما يكون جميع النقاد العظماء (أو فئة صغيرة منهم على أية حال) على هذه الشاكلة. فالمرء بالتأكيد لا يلجأ إليهم بحثا عن تفسيرات دقيقة للأعمال التي يتناولونها؛ إذ يمكن ترك هذا للنقاد المجيدين وحسب. ولكن من المبهج رؤية الفنانين العظماء، الذين تبرز صورهم عادة بوصفهم «كلاسيكيين»، في ضوء خيال متقد يقدم عنهم وجهة نظر «متحيزة» على نحو غريب ومبالغ فيه. وربما تفسر، أفضل من أي شيء آخر، الأثر المستمر لأعمال مثل «مولد المأساة».
ربما الطريقة الأكثر فائدة في النظر إلى هذا الانفصال هي أن نيتشه، للمرة الوحيدة في حياته، قابل أحد رموزه بشحمه ولحمه. ومن الواضح بداية من «مولد المأساة» وما بعدها أن جميع أسماء الأعلام تقريبا في نصوصه لا تمثل الأفراد، بل تمثل الحركات والميول وأساليب الحياة. هذه السمة في نيتشه كثيرا ما تكون ملهمة، وأحيانا فاسدة ومضللة. ويرجع سبب الالتباس المتعلق بحالة فاجنر إلى أن فاجنر كان بالنسبة إليه، في المقام الأول، شخصا تربطه به «علاقة متألقة» (كتاب «العلم المرح»)، ولم يكن قادرا على أن يفصل في كتاباته بين ما كان عليه فاجنر وما أصبح يمثله، ومن ثم فإن درجة التناقض التي يبديها تجاهه تفوق تلك التي يبديها تجاه بقية أبطاله الأشرار. ولو لم يقابل فاجنر قط، لأعطاه مع هذا حتما دورا مهما في أعماله؛ لأن فاجنر بالنسبة إليه كان يجمع، بطريقة مريحة، بين صفات كانت سائدة في ثقافة نهاية القرن التاسع عشر التي كان يناقضها بمرارة، وإن لم يكن ذلك لهدف محدد مثلما كان يريد. ولكن خسارة فاجنر باعتباره صديقا ومعلما، على الرغم من أنها كانت ضرورية، كلفت نيتشه أكثر مما كان قادرا على تحمله.
تعامل نيتشه مع مشكلاته بالطريقة الوحيدة التي طالما كانت متاحة له؛ كان يكتب على نحو استثنائي، فينتج كتابا جديدا يعكس بجميع المقاييس قدراته السريعة النمو، وبالطريقة التي سيتبعها من الآن فصاعدا مع معظم ما يؤلفه. فكتابه «إنسان مفرط في إنسانيته»، الذي وضع له العنوان الفرعي «كتاب للعقول الحرة»، انقسم إلى تسعة كتب، تحمل عناوين عامة للغاية، و638 جزءا مرقما، يحمل العديد منها عناوينه الخاصة (كان ينوي أن ينشر لاحقا جزأين متممين مهمين للغاية، ولذلك يعد المجلد بأكمله هو الأضخم بين كتبه). كما هو الحال مع جميع الكتب التي تصاغ بهذا الأسلوب، فإن قراءتها مجهدة. فعلى الرغم من أن الأجزاء مصنفة معا حسب موضوعها، سمح نيتشه لنفسه بكثير من الحرية، ومن ثم تنهال على المرء أفكار معينة تحل محلها أفكار أخرى بنفس المعدل لدرجة أن النتيجة لا تذكر؛ وهو ما يسبب الارتياع للمرء. والحل الوحيد هو تمييز الأجزاء التي تترك أثرا خاصا، والعودة إليها لاحقا. ويعد هذا عنصرا حاسما في استراتيجية الكتابة التي يتبعها نيتشه، على الرغم من خطورتها. وانتشارها بإفراط شديد وعلى نحو مفاجئ في كتاباته هو تعبير عن نفوره من شبه القصة في «مولد المأساة»، وهو كتاب يسهل تذكره على الرغم من بهرجته البلاغية، والسبب ببساطة أنه يحمل حلقة وصل.
ولكن على الرغم من الحداثة الدائمة التي يتسم بها كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته»، فثمة شيء يميزه يدفع المرء إلى الشعور بأن نيتشه لا يعمل بالمستوى الذي اعتاد عليه. والإهداء الذي خصصه لفولتير عبارة عن تحذير. فعلى الرغم من أن سطحية فولتير المرحة ربما تكون الأمر الذي شعر نيتشه أنه يريده بعد المجهود المتواصل الذي بذل لسبر أغوار التشاؤم الرومانسي، فمن الصعب التفكير في مزاجين متعارضين على نحو جوهري. ورواية «كانديد»، التي تمثل نقد فولتير للتفاؤل، هي في حد ذاتها كتاب متفائل على نحو لا يمكن تجاهله. وما أثار إعجاب نيتشه بفولتير، على غرار إعجابه بصائغي الأمثال الفرنسيين المنتمين إلى القرن السابع عشر، هو صرامة الأسلوب، وهي سمة أبولونية توحي بأن التجربة يمكن تغليفها في حزم صغيرة جذابة وأنيقة. كل كتابات الأمثال الجيدة يصعب قراءتها؛ لأن القارئ يضطر أن يتولى الكثير من عمل الكاتب نيابة عنه. فالكاتب يقدم جملة، يحولها القارئ إلى فقرة. وقد كتب نيتشه يقول إنه أراد أن يعبر في صفحة واحدة عما قد يحتاج شخص آخر إلى كتاب كامل للتعبير عنه - وما لن يستطيع حتى في هذه الحالة النجاح في التعبير عنه. ولكن نوع الأمثال وأشباه الأمثال التي كان يتطلع إلى كتابتها هي تلك التي كان سيصبح تأثيرها تبديل وعي القارئ. بعبارة أخرى: كان سيصبح لها تأثير عكسي لتلك التي صاغها لاروشفوكو، على سبيل المثال. دائما ما كان نيتشه ينتج، في أفضل حالاته وسماته، نقيض ما يغلف التجربة؛ فضرباته ومضايقاته وإهاناته موجهة بحيث تجعلنا نشعر بالخزي، ليس فقط تجاه أنفسنا، ولكن أيضا تجاه رضانا عن أنفسنا بالتفكير في أننا نملك أفضل الصفات التي تمكننا من إدراك ما قد نكونه. وهي ليست مرهقة، ولا تبعث على التعب؛ لأنها تقودنا إلى إحساس أفضل باحتمالات الهروب من روتين كينونتنا. وقد اتسم متبعو المذهب الأخلاقي في الفكر الفرنسي بقوة الملاحظة والتعليق بكياسة على الحالة الإنسانية السرمدية. وهم يولدون «إحساسا» بالخزي لدى القارئ، ولكن دون أي توقع بأنه قد يتغير مطلقا.
لذلك، فإن تودد نيتشه المطول لهم كان يتعلق بالكيفية التي يقولون بها الأشياء وليس ما يقولونه. ولكن هذا يوحي بشيء غريب؛ فهو شديد التمسك بعدم انحلال الشكل والمضمون من البداية إلى النهاية. كيف كان سيستطيع بغير ذلك توجيه كل هذا التركيز نحو النوع الأدبي في «مولد المأساة»، حيث أدت حقيقة اعتبار هذا العمل دراميا بدلا من كونه قصيدة ملحمية إلى إحداث تأثير مختلف كلية؟ والأمر الوحيد الذي يمكن به تفسير ذلك هو ابتعاد نيتشه التام عن الرومانسية؛ كل شيء الآن يجب النظر إليه في ضوء النهار الساطع، ويجب في الوقت نفسه أن يكون فيه موحيا للغاية. في «إنسان مفرط في إنسانيته»، نجد نيتشه أكثر انشغالا بالحالة الأولى عن الثانية، والنتيجة أن المرء يشعر، حتما في ضوء عمله اللاحق، أنه يقيد نفسه، مستكشفا المشهد - أي الطبيعة الإنسانية في تجلياتها كحياة اجتماعية والشغف ونفسية الفنانين والعزلة - دون الرغبة في التغيير التي تعتبر سمته المميزة. وهكذا، إذا تناولنا على نحو عشوائي إحدى «رؤاه»: «التعطش للألم العميق»، حين ينتهي الانفعال، فإنه يترك فينا حنينا غامضا إليه ويلقي علينا، وهو يختفي، نظرة مخادعة. لا شك أن المرء قد وجد نوعا من اللذة في أن يضرب بمقارع ذلك الانفعال. أما الأحاسيس المعتدلة فتبدو باهتة بالمقارنة به، ويبدو أن الناس سيفضلون دائما كدرا شديدا على لذة واهنة. «إنسان مفرط في إنسانيته»، الجزء الأول، 606
هذا قول عميق، ويثير إحساسا بالتقدير، لا الصدمة. وفي مواضع أخرى، قد تكون الدقة مؤلمة: ««إجبار النفس على الإصغاء»، بمجرد أن نلاحظ أن شخصا ما يجبر نفسه على الإصغاء إلينا عند التواصل والتحدث معنا، فإننا يصبح لدينا دليل قاطع على أنه لا يحبنا بالمرة أو لم يعد يحبنا» («إنسان مفرط في إنسانيته»، الجزء الثاني، 247).
إن تأليف كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته»، بوصفه كتابا قال عنه فاجنر عند استلام نسخته الموقعة منه إن نيتشه سيشكره في يوم من الأيام على عدم قراءته، قد كشف لنيتشه عن بعض جوانب نفسه التي لا بد وأنه كان سعيدا باكتشافها. فأولا: أنه ينتمي إلى تلك السلالة النادرة التي لا تغفل شيئا. وعلى الرغم من أن نطاق خبرته كان محدودا على نحو استثنائي في جوانب كثيرة، فإنه استطاع أن يدرس ثقافته ومعارفه على نحو ملائم وأن يعطي تفسيرات عامة عنها بأسلوب جريء. وفي «هذا هو الإنسان»، الذي يعتبر سيرته الذاتية الغريبة التي يتراوح فيها المزاج على نحو متقلب بين الدراما والسخرية، يهنئ نيتشه نفسه على أن له أنفا جميلا على نحو لافت، وهو ذلك العضو الذي مال الفلاسفة إلى تجاهله. ويوجد الدليل الصادم الأول على حدته في «إنسان مفرط في إنسانيته». ثانيا: كشف له أنه حتى في ظروف البؤس والحرمان التي عاشها استطاع أن يعمل بمستوى متألق أنتج نفسه بنفسه. ومثلما هو الحال في «مولد المأساة»، يشعر المرء أن زخم الكتابة هو سبب معظم ما يثير الإعجاب فيها. ثالثا، والأهم: كان قادرا على التعمق في موضوعات سببت آلاما مفزعة دون أن يظهر أقل درجة من الحقد؛ لقد كان كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته» عملا وضح فيه ما لم يدافع عنه بعد؛ أنه من الممكن تحويل الظروف العصيبة التي تحدث إلى أهداف إيجابية، وإظهار الروح المعنوية المرتفعة دون أن يعلن لنا أن هذا ما يفعله، وهي نزعة مرهقة في بعض أعماله اللاحقة.
يواصل كتابه اللاحق، «الفجر»، الذي يحمل العنوان الفرعي «تأملات حول الأفكار الأخلاقية»، أسلوب «إنسان مفرط في إنسانيته»، ولكنه ينحرف انحرافا خطيرا عن مضمونه، ويعتبر كتيبا صغيرا مقارنة بأعماله اللاحقة. فيما بين عام 1878، الذي نشر فيه «إنسان مفرط في إنسانيته»، وسط تجاهل عالمي، وعام 1880، الذي كتب فيه «الفجر»، تغير نمط حياته تغيرا بالغ الأثر، وبدأ النمط الذي سيعيش به خلال العقد القادم. احتار معظم أصدقائه في سبب تغيير اتجاهه، وانعزل عن الجميع باستثناء الأوفياء. وفي عام 1879، بعد فوات الأوان ببضع سنوات، تخلى عن أستاذيته في جامعة بازل، بعد أن فقد طلابه أي حماس تجاه ما يلقيه. وفي ذلك العام أيضا، أصيب بالصداع النصفي الحاد لمدة 118 يوما، مما أقعده عن العمل. وتدهورت صحته بسبب النوبات المجتمعة من الزحار والدفتريا اللذين أصيب بهما عام 1870، خلال سنوات خدمته باعتباره ممرضا مساعدا في الحرب الفرنسية البروسية؛ وعلى الأرجح أن مرض الزهري قد انتقل إليه من إحدى الداعرات في وقت ما في نهاية السبعينيات من القرن التاسع عشر خلال إقامته في إيطاليا، وهو ما قاده في النهاية إلى الجنون والشلل. منذ ذلك الحين فصاعدا، عاش حياته متنقلا، باحثا عن أماكن تخفف عنه آلام مرضه، وتوفر له أقصى درجات العزلة لكي يكتب. وكانت أماكنه المفضلة هي مدن شمال إيطاليا في الشتاء، وجبال الألب السويسرية في الصيف، على الرغم من أن هذه لم تصبح عادة سنوية لديه حتى عام 1882.
يقدم نيتشه بعض النصائح حول كيفية قراءة كتاب «الفجر»، على الرغم من أنها تأتي في نهاية الكتاب؛ «لم أكتب هذا الكتاب حتى يقرأ من البداية إلى النهاية قراءة سريعة، ولا ليقرأ بصوت مسموع، ولكن على القارئ أن يقرأ أجزاء صغيرة منه، خصوصا في تنزهه أو سفره، ويغوص في أعماقه، ثم ينظر حوله فلا يرى شيئا مألوفا» («الفجر»، 454). هذا كله جيد، ولكن لو أخذناه على محمل الجد فإنه قد يدفع المرء إلى عدم قراءته مطلقا حتى نهايته. لذلك فمن الجيد قراءته باعتدال، ثم الأخذ بنصيحة نيتشه، إذا كنا نرغب في ذلك. ولكنها ليست نصيحة جيدة فعلا، بل إنه ربما كان يقصد بها التهكم. فهذا الكتاب، الذي يعتبر أحد كتب نيتشه الأقل دراسة، هو الذي يعود فيه إلى مسعى حياته، بل قد يبدو أنه يبدأ فيه مسعاه، ولكننا بذلك نغفل مدى تشكيل كتاب «مولد المأساة» لمسار حياته.
الفصل الرابع
الأخلاق ونقماتها
كان اهتمام نيتشه الأساسي على مدار حياته منصبا على رسم العلاقة بين المعاناة والثقافة، أو الثقافات. وهو يصنف الثقافات ويفرزها حسب طريقة تأقلمها مع المعاناة كلية الوجود، ويقيم الأخلاق بناء على المعيار نفسه. ولهذا السبب كان مهتما بالتراجيديا، لكنه فقد هذا الاهتمام عندما بدأ يشعر أنها ليست خيارا عصريا. ولهذا كان دائما مشغول البال على نحو بالغ بالبطل، في الحياة أكثر منه في الفن، واحتاج في نهاية المطاف إلى إعادة تطهير نفسه روحيا باعتباره إنسانا أسمى
Übermensch (لن نترجمها بأنها «الإنسان الخارق» تفاديا للسخافة واللامعقولية، ولا «الإنسان الأعلى» اتقاء للتكلف). هذا هو أساس هجومه على الميتافيزيقا السامية، وعلى جميع الأديان التي تفترض وجود حياة بعد الموت. وبالطبع، كان هذا ذا أهمية «وجودية» أساسية بالنسبة إليه؛ لأنه كان يعاني في حياته.
إن هذا الانشغال بنظرة الإنسان إلى المعاناة يرتبط باهتمام نيتشه بالعظمة لا بالجودة؛ لأنه لا توجد عظمة دون استعداد وقدرة على تحمل قدر هائل من الألم واستيعابه واستثماره على نحو أمثل. قد يتخيل المرء أن العظمة تنطوي على الاستفادة من الألم، وأن الجودة تنطوي على محاولة التخلص منه. ويكرس نيتشه جميع أعماله اللاحقة لاستكشاف هذا الفارق العويص. ففي «الفجر»، قدم تحليلاته الأولى - التي لم تكن تجريبية مطلقا - لآليات الأخلاق، ولنوع النفوذ الذي تستحضره.
تفاديا لسوء الفهم، لعل من المفيد أن نقتبس باستفاضة فقرة من «الفجر»، والتي تضعف العديد من الانتقادات التي كثيرا ما وجهت إلى نيتشه:
ثمة طريقتان لإنكار الأخلاق. فقد يعني «إنكار الأخلاق» أولا: إنكار أن تكون البواعث الأخلاقية التي يستخدمها الناس هي التي تقف حقا وراء أفعالهم، وهو ما يعني أن الأخلاق مجرد كلام وأنها من الخدع الفظة أو المعقدة التي يمارسها الإنسان، وربما خصوصا أولئك الرجال المشهورين بفضيلتهم (وهي كثيرا ما تكون خداعا للنفس). وقد يعني ثانيا: إنكار أن تكون الأحكام الأخلاقية قائمة على حقائق. وفي هذه الحالة نسلم بأن هذه الأحكام هي البواعث الحقيقية للأفعال، وبأن الأخطاء، التي هي أساس كل الأحكام الأخلاقية، هي التي تقف وراء أعمال الناس الأخلاقية. هذا الرأي الأخير هو رأيي؛ لكنني لا أنفي أنه في كثير من الحالات يكون الارتياب في الرأي الأول - أي كما يرى لاروشفوكو وغيره ممن يفكرون بطريقته - شيئا في محله وله فائدة كبيرة عموما. أنا إذن أنكر الأخلاق كما أنكر الخيمياء، بمعنى أنني أنكر فرضياتها، لكني لا أنكر أنه قد وجد خيميائيون آمنوا بهذه الفرضيات وارتكزوا عليها في أعمالهم، كما أنكر اللاأخلاقية: ليس لأن العديد من الناس يشعرون بأنهم غير أخلاقيين؛ بل لأنه لا يوجد سبب يدعوهم للإحساس بكونهم كذلك. كما لا أنكر أنه من البديهي - إذا سلمنا بأنني لست أخرق - تفادي الكثير من الأعمال اللاأخلاقية ومحاربتها؛ وأنه يجب القيام بالكثير من الأعمال الأخلاقية والتشجيع عليها - ولكنني أعتقد أننا يجب أن نشجع هذا ونتفادى ذاك لأسباب غير التي كانت وراء قيامنا بهما حتى الآن. علينا أن نغير طريقتنا في النظر إلى الأمور - لنتوصل في نهاية المطاف، ربما في مرحلة متأخرة جدا، إلى تغيير طريقتنا في الشعور. «الفجر»، 103
من المؤسف أن ما يصفه لنا نيتشه بأنه «بديهي» هو شيء نادرا ما كلف نفسه عناء تكراره بتلك الطريقة؛ لأنه من المعروف على نحو دارج وشائع أنه أنكر بالفعل «تفادي الكثير من الأعمال اللاأخلاقية ومحاربتها» ... إلخ. لاحظ، على الرغم من ذلك، في هذا الكتاب الشديد الدقة - وهو ملمح متكرر في كتاب «الفجر» تدهشنا كثيرا ندرة الإشارة إليه - أنه يقول: «الكثير» من الأعمال ، ولكنه لم يحددها . وحسب اعتقادي، يرجع هذا جزئيا إلى خضوع آرائه لتطور جذري في ذلك الوقت، وربما لم يرغب في إلزام نفسه بحالات معينة. ولكنه متردد أيضا في هذه المرحلة حول إلى أي مدى سيؤدي سحب «الفرضيات» الأخلاقية إلى تغيير النتائج. ومن بين الفرضيات التي يواصل فورا مهاجمتها تلك التي تحدد هدف الأخلاق بأنه يعنى ب «الحفاظ على الإنسانية وتحقيق تقدمها»، والتي يسأل عنها قائلا:
هل يمكن للمرء أن يستنتج من ذلك عن يقين ما إذا كان من الواجب إطالة وجود الجنس البشري لأمد أطول، أم إخراج الإنسان - ما أمكن ذلك - من حالة الحيوانية؟ لا شك أن اختلاف الوسيلة، وأقصد الأخلاق العملية، سيكون كبيرا في الحالتين ... أو إذا سلمنا بأن الهدف هو «السعادة الكبرى» للإنسانية كإجابة عن سؤال «على ماذا» و«على نحو ماذا»، فهل فكرنا في أعلى درجات السعادة التي قد يصل إليها بعض الأفراد؟ أو في السعادة المتوسطة، التي لا يمكن بالضرورة تحديدها، والتي قد يصل إليها جميع الناس في نهاية المطاف؟ ولماذا سيختارون الأخلاق ليبلغوا ذلك الهدف؟ «الفجر»، 106
ويواصل نيتشه بإيقاعه الهائج، تاركا المفسر البائس في حيرة من أمره حول ما إن كان عليه أن يشرح الأمر بالتفصيل أم لا، وهو عمل قيم كان من الممكن أن يؤدي إلى إنتاج كتاب ضخم للغاية، ولكن ليس أضخم من الكتب التي حازت مرارا وتكرارا العديد من الجوائز عن أعمال بلا قيمة، مثل كتاب كانط «نقد العقل العملي»، وهو بلا شك أكثر خيبات الأمل فجاعة في تاريخ الفلسفة، والذي جاء بعد «نقد العقل الخالص»، أحد أعظم أمجاده. على أية حال، هذا مستحيل هنا. فالهجوم الأساسي لكتاب «الفجر»، الذي حمل أيضا كما هو الحال دائما، تأملات حول موضوعات كثيرة ومتنوعة تشغل الموسيقى المعاصرة حيزا كبيرا منها؛ كان يهدف إلى توضيح الأزمة التي وقعت الأخلاق فيها. فحسبما يصفها باقتضاب: ««المنفعة»، أضحت المشاعر اليوم متشابكة في الأمور الأخلاقية إلى حد أنه في نظر أحدهم تثبت الأخلاقيات من واقع منفعتها، فيما تدحض لدى آخر بسبب المنفعة ذاتها » («الفجر»، 230).
إن الملحوظ بشأن كتاب «الفجر» هو محدودية فرضياته وتواضعها. فما من إشارة إلى أن زرادشت سينزل قريبا من فوق الجبل ليحطم جميع أوثاننا الأخلاقية. إن معظم الأمور التي يؤكد عليها تبدو بالنسبة إلي غير قابلة للجدل، ولكن من الواضح أنها ليست كذلك بالنسبة إلى الجميع. وهكذا ما زلنا نجد العديد من الأشخاص، ومن بينهم الفلاسفة، يدعون، مثلا، أن الأخلاق نظام يدعم نفسه بنفسه، ولا يعتمد على أي شيء خارجه، وأن الأخلاق مبنية على المنطق، وأن أساس الأخلاق واضح؛ أي إن الأخلاق، حسبما يقول نيتشه، تثبتها منفعتها أو تدحضها نفس المنفعة. من المهم مناقشة هذه الموضوعات باستفاضة، ولكن هذا سيكون أمرا خارج السياق عند النظر إلى تطور نيتشه؛ لأن جميع المناقشات الحالية عن الأخلاق، على الأقل في العالم المتحدث بالإنجليزية، تفترض بالكامل إنكار نيتشه. وما من مناقشة، على حد علمي، مستعدة لأن ترى كيف أن قوانين الأخلاق المتنوعة والمتباينة إلى حد ما التي نصادفها تنشأ عن آراء متضاربة حول طبيعة العالم. إنه لمن المثير للعجب، على سبيل المثال، أن نسمع الفلاسفة يتحدثون عن «حدسهم» كشيء يمكن الوثوق به دون رقابة، ما لم يتعارض حدس مع آخر. «حدسي يخبرني أن ...» هي طريقة شائعة لبدء مناقشة فلسفية، كما لو أن هذا الشخص يجسد الصوت الخالد للبشرية!
ومن هذا المنطلق أيضا، الذي إذا لم يكن نابعا من حدس المرء نفسه فهو نابع إذن من حدس الذين «نشاركهم» حدسهم، قوبلت دائما العديد من المواقف الأخلاقية لنيتشه بالتجاهل باعتبارها «نخبوية» و«مناهضة للديمقراطية»، وغير ذلك من أسباب أخرى. إنه موضوع حيوي، ويجب أن يتأقلم معه أي مفسر لفكر نيتشه، وسأقتبس هنا، باستفاضة أيضا، من هنري ستاتين، الذي كتب ما أعتبره أكثر الكتب التنويرية عن نيتشه:
لم تسقط معتقداتنا الأخلاقية من السماء، كما أنها ليست مسوغات لكي نمرق إلى تأسيس استقامتنا الأخلاقية. فكر في بقية تاريخ الإنسانية، بما في ذلك معظم تاريخ العالم في الوقت الحاضر. كيف نبرر هذا المشهد الطاغي من القسوة والغباء والمعاناة؟ ما الموقف الذي نتبناه تجاه التاريخ، ما الحكم الذي يمكن أن نصدره؟ هل الأمر كله خطأ كبير؟ لقد حاولت المسيحية علاج معاناة التاريخ عن طريق وضع خطة دينية هادفة في المكان والزمان الحاضرين وتقديم المكافأة لاحقا، ولكن الليبرالية كانت شديدة الإنسانية بحيث لم تستطع تقبل هذا التفسير. لا يوجد تفسير، توجد فقط الحقيقة المرة. ولكن الحقيقة المرة التي نواجهها أشد قسوة من التفسير القديم. ولذلك تصوغها الليبرالية اليسارية في قصة جديدة، قصة أخلاقية تندمج طبقا لها جميع تلك الحيوات في آلية التاريخ وتتخذ دورا واضحا باعتبارها ضحايا القمع والظلم. ثمة غائية ضمنية في هذا الرأي؛ فالليبرالية اليسارية الحديثة هي النهاية التي تعطي شكلا ومعنى لبقية التاريخ. ومؤخرا فقط أصبح بإمكان كاتبة مثل أوفيليا شوت - التي تنتقد نيتشه بشدة في كتابها «ما وراء العدمية: نيتشه دون أقنعة» بسبب تسلطه - أن تكتب بحرية، وبثقة كبيرة بأن التقديرات التي تفترضها سوف يستقبلها الجمهور الأكاديمي كأمر مفروغ منه، تماما مثل الواعظ المسيحي الذي يكتب من أجل جمهور متدين. وفقط في إطار التطويق الوقائي لهذا المجتمع العقائدي يمكن بلوغ الرضا بأداء هذه الخطبة؛ أي الإحساس بأن أي شيء ذي قيمة قد تحقق بفضل هذا الإلقاء. عندما يطمئن هذا المجتمع الأخلاقي نفسه تجاه عقيدته بواسطة هذا الإلقاء، يصبح متنفسا لمعنى التاريخ، باعتباره الموضع الذي قد يشغله المرء لكي ينظر إلى التاريخ ويصدر حكمه عليه دون أن ييأس أو يغلق عينيه ويسد أذنيه. ربما لا توجد أية خطة للتاريخ، ولا أية طريقة لتعويض الخسائر للموتى، ولكننا نستطيع أن نرسم خطا غير مرئي لسداد الحكم عبر التاريخ وبهذه الطريقة نتفوق عليه. وبدلا من عبارة «هكذا كان» المخيفة التي تصف التاريخ، نستخدم العظمة المهيبة لعبارة «هكذا كان «يجب» أن يكون.»
لكن ليبراليتنا شيء نشأ بالأمس ويمكن أن يختفي غدا. أول أمس كان الآباء المؤسسون يستعبدون السود. ما الأمل الضئيل الذي نشغل بالنا به على الرغم من احتماليته وهشاشة وجوده، ويمكننا من إضاءة جميع الماضي وربما المستقبل أيضا ؟ لأننا نريد أن نقول إنه على الرغم من أن مجتمعنا المتدين قد يندثر، فلن يؤثر هذا على شرعية هذه المعتقدات. سيظل خط الاستقامة يقطع التاريخ.
ستاتين، 1990: 78-79
يجتهد ستاتين ليوضح، بعد فقرته المثيرة للإعجاب الشديد، أنه لا ينتقد الليبرالية على أساس نسبي، ولكنه فقط يدعم فكرة نيتشه حول احتمالية موقفنا التاريخي، ومن ثم قيمنا. يعني هذا بالتأكيد أنه لا يكفي تنفيذ طقوس الإرهاب في آرائه اللاحقة، ولكن أنه يجب رؤيتها كجزء من تدبير قيمي من حيث محاولته وحده للتأقلم مع الحياة، بنبرة متكررة وحادة باستمرار.
على الرغم من أن كتاب «مولد المأساة» ينظر إلى التراجيديا بعين المتفرج، ولعل هذا يرجع جزئيا إلى أنه يتعامل مع الشكل الدرامي وليس مع التاريخ الإنساني، فإنه يبدو بوضوح كاف أنه بالنسبة إلى نيتشه تعتبر فظاعة الوجود حقيقة باقية على الدوام. «لا يمكن تبرير الحياة إلا بكونها ظاهرة جمالية فقط»، ولكننا يجب أن نتذكر أن نيتشه يقول أيضا، في الكتاب نفسه، إننا نحن أنفسنا جزء من هذه الظاهرة. فلا «حياة» بينما نحن جالسون لنتفرج. ولو كان قد فكر في هذا عام 1871، لعرف خطأه فورا بأقسى الطرق.
هل تعني الأخلاق تنوع المواقف التي يعتنقها المجتمع بصورة رسمية معلنة؟ إنها تحقق رخاءنا، في صورته الأساسية، حتى نشعر على الأقل بالأمان عندما نولي الآخرين ظهورنا. لا يمكن أن ننكر هذا، فهذا ما يعنيه نيتشه بقوله إنه لا ينكر أن الكثير من الأعمال اللاأخلاقية يجب تفاديها ومحاربتها ... إلى آخر قوله. لكن أليست هذه مجرد مسألة حصافة؟ بالتأكيد، حسب قول نيتشه. والفكرة التي روج لها الكثير من الفلاسفة - بداية من أفلاطون، بأن الحصافة موجودة من ناحية (أقل أهمية)، والأخلاق موجودة من ناحية أخرى (أكثر أهمية)، والتي تخصص لها عقوبات متسامية النوع - تصدمه باعتبارها تفاهات أخلاقية. وهكذا، فثمة مستوى من الأخلاق يخدم غاية مفيدة، ويحتاجه أي مجتمع ليحافظ على استمراره - على الرغم من أنك لو كنت صاحب نفوذ، فسوف تستطيع بالطبع التنصل من الكثير من الجرائم. ولكن هذا وضع سيحدث ما دامت الحياة مستمرة. فلماذا لا نعطي للحياة معنى وهدفا بما أننا وصلنا إلى هذا المدى؟ كثيرا ما يستخدم مصطلح «الأخلاق» لتغطية هذا الأمر أيضا، على الرغم من أن بعض الأشخاص يفضلون الحديث عن «المثل العليا» التي يقولون إنها تختلف على نحو أساسي من شخص إلى آخر. لا يبحث نيتشه في هذه الأمور الاصطلاحية، ولكنه عندما يدين الأخلاق أو أنواعا منها، وعندما يصف نفسه بأنه فاسد، فإنه يضع في اعتباره معنى الحياة والهدف منها.
هنا تبدأ الأمور في التعقيد. وفي محاولة لتبسيطها قدر الإمكان، سأحاول أن أحيد بعض الشيء عن اتباع الترتيب الزمني في عرض نيتشه، وأن أعتمد كثيرا أيضا على مقال كتبه فريتجوف برجمان، عن «نقد نيتشه للأخلاق» (سولومن وهيجنز، 1988). ولكن ما يبعث على الطمأنينة أنه في بعض الأحيان يتفق المفسرون إلى درجة اعتناق نفس الآراء. وفي معرض حديثي، فإن الفارق بين الأخلاق بوصفها رفاهية والأخلاق بوصفها مثلا أعلى سيتلاشى فعليا، إلى جانب أمور أخرى كثيرة.
أول أمر يجب وضعه في الاعتبار هو أن نيتشه لا ينكر (إلى حد ما) وجود القيم. إنه لخطأ شائع وعجيب أن نتصور هذا عنه. ولكن إنكار القيم هو ما يقصده في المقام الأول بحديثه عن «العدمية»، التي يكره ورودها أكثر من أي شيء آخر. لو نظر أحيانا إلى نفسه باعتباره نبي العدمية، فهذا لا يعني أنه يعلن وصولها كأمر يجب الاحتفاء به، ولكن بنفس معنى أن إرميا كان النبي الذي تنبأ بالدمار لبيت المقدس. وما يصوره، في كتاب تلو الآخر، هو الانحدار التدريجي والمتسارع في الوقت نفسه الذي يمر به الإنسان الغربي وصولا إلى حالة لا تترك القيم فيها بعد ذلك أثرا قويا عليه، أو يتشدق بها ولكنه ما عاد يؤمن بها. وهذا ما يراه وشيك الحدوث. كيف وقعت هذه الكارثة، التي لم يبد أن أحدا من معاصريه قد لاحظها، وكيف يمكن علاجها؟
تقتضي الإجابة النظر إلى جانبين من الأخلاق؛ الأول: هو منبعها، والثاني: هو مضمونها. تنبع الأخلاق بالصورة التي تمارس بها حاليا من الفكر المسيحي-العبري، في الجزء الأكبر منها؛ مما يعني أن جذورها موجودة في إملاءات الرب لقبيلة صغيرة شرق أوسطية، وأن مضامينها لم تزل كما كانت من قبل. وهذا يسمو بها فورا بطريقتين؛ أولا: أن تنفيذها هو مسألة فروض لا جدال فيها، وكان عقاب مخالفتها في وقت من الأوقات جزاء إلهيا فوريا. وثانيا: بما أن المضمون كان مصمما خصيصى ليضمن استمرار القبيلة، التي كانت ظروفها الحياتية مختلفة تماما من نواح عدة عن ظروفنا الحياتية، إذن كان يجب أن يكون أكثر تجريدا وانفصالا عن الظروف التي نعيش فيها. وكانت النتيجة أن الأخلاق قد أصبحت غامضة من ناحية، ومن ناحية أخرى أيضا كان يجب فرض صلتها عن طريق تحويلنا إلى كائنات يصلح أن تطبق الأخلاق عليها بعقلانية، حتى على الرغم من أننا نعرف أن هذا غير حقيقي من نواح عدة.
يتعقد الأمر أكثر بالتعارض بين العهد القديم والعهد الجديد، وكذب المسيح بادعائه «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس! ما جئت لأنقض بل لأكمل» (إنجيل متى، الإصحاح الخامس، الآية السابعة عشرة). بما أن العديد من مبادئه المثيرة للإعجاب تتعارض تعارضا تاما مع الناموس، مثل: «لا تقاوموا الشر.» وإن كان العهد القديم بقي جزءا من شريعة النصوص المقدسة، فدائما ما كانت المسيحية تواجه أزمة هوية أخلاقية. وعلى الرغم من كون هذا الموضوع عاملا مهما في الالتباس الأخلاقي للغرب، فإنه غير مهم بالنسبة إلى نيتشه الذي انصب اهتمامه الأساسي على طبيعة العقوبات الأخلاقية بصفة عامة.
اهتم الفلاسفة، لأسباب مختلفة، خلال الثلاثمائة عام الماضية تقريبا بمساندة المبادئ الأخلاقية التي ورثوها، بينما يحاولون في الوقت نفسه العثور على أسس جديدة لها، بما في ذلك الدافع المحدود لإنكار حاجتها إلى أسس. وبناء عليه، فمن المؤسف أن كراهية نيتشه للإنجليز قد قادته إلى مهاجمة جورج إليوت بينما كان يهدف أصلا إلى مهاجمة فكر تلعب هي فيه دورا غير محوري. ويتجلى هذا الهجوم في «أفول الأصنام»، أحد أواخر كتب نيتشه، ولكنه يلخص - مثلما يفعل في كثير من أعماله الشديدة الذكاء والحدة - ما كان يقوله في هذا الشأن على مدار عقد كامل:
لقد تخلصوا من إله المسيح، ويعتقدون أنه ينبغي عليهم الآن أن يظلوا متمسكين بالأخلاق المسيحية. إنه ثبات إنجليزي، ولا نريد أن نلومهم على الأخلاق الأنثوية على المنوال الإليوتي. ففي إنجلترا، على المرء مقابل كل تحرر صغير من اللاهوت أن يعيد الاعتبار إلى نفسه بتبني تعصب أخلاقي مفزع. إنها الكفارة التي تدفع هناك ثمنا لذلك.
أما عندنا، نحن الآخرين، فالأمور تختلف تماما. عندما نتخلى عن الديانة المسيحية يكون علينا أن نتخلى أيضا عن الحق في الأخلاق المسيحية. غير أن هذا الأمر ليس بديهيا على الإطلاق؛ على المرء أن يظل يعيد طرح هذه المسألة إلى النور، رغم أنف الرءوس المسطحة الإنجليزية. إن المسيحية نظام ورؤية كلية ومتكاملة للعالم، وإن انتزعنا فكرة أساسية منها، ونقصد بذلك الإيمان بالله، فإننا نكون قد حطمنا الكل، ولن يكون بين يدينا بعدها شيء ضروري. تفترض المسيحية أن الإنسان لا يعرف، ولا يمكنه أن يعرف ما هو خير بالنسبة إليه وما هو شر؛ إنما هو يؤمن بالله الذي له وحده العلم بذلك. الأخلاق المسيحية فرض، ومنبعها متعال، وهي تقع فوق كل نقد، وفوق كل حق في النقد، ولا تحتوي إلا على الحقيقة، إذا كان الله هو الحقيقة؛ فهي تستقيم وتنهار مع الإيمان بالله.
إذا كان الإنجليز يعتقدون فعلا أنهم يعرفون «بالفطرة» ما هو خير وما هو شر، وإذا كانوا يعتقدون بناء على ذلك أنهم لم يعودوا بحاجة إلى المسيحية كضمان لقيام الأخلاق، فإن هذا في حد ذاته يمثل نتيجة لسيادة الحكم القيمي المسيحي، وتعبيرا واضحا عن قوة هذه السيادة وعمقها، بما يجعل منبع الأخلاق الإنجليزية يتوارى بين طيات النسيان، وبما يجعل الناس لا يشعرون البتة بضرورة ارتباطها الوثيق بمبررات حقها في الوجود. فالأخلاق بالنسبة إلى الإنجليزي ما زالت لا تمثل أية مشكلة بعد. «أفول الأصنام، تسكعات رجل غير موافق للعصر»، 5
إذا استبدلت «الغرب» ب «الإنجليز»، فستجد هذا الجزء كله مفحما. ومع هذا فمن الواضح أن المسيحيين هم تقريبا الوحيدون الذين يتفقون معه ، ثابتين بوضوح على إيمانهم باعتباره «نظاما» (من ناحية ما). والسند الأكثر إثارة للعجب في حجة نيتشه هنا، والأكثر إثارة للإعجاب نظرا لأنه كتب عن جهل واضح به، ظهر في مقال شهير (في الأوساط الفلسفية) قدمته جي إي إم أنسكومب بعنوان «الفلسفة الأخلاقية العصرية» (طومسون ودوركين، 1968). وبنمط كاثوليكي روماني تقليدي، تكتب قائلة:
مفاهيم الالتزام والواجب - وأقصد بذلك الالتزام الأخلاقي والواجب الأخلاقي - وما هو صواب أو خطأ من الناحية الأخلاقية، وما «يجب» عمله أخلاقيا؛ لا بد من هجرها لو أمكن ذلك من الناحية النفسية؛ لأنها باقية، أو مشتقة مما هو باق، من مفهوم أقدم للأخلاق لم يعد موجودا بصفة عامة، ولهذا تعتبر مجحفة من دونه.
طومسون ودوركين، 1968: 186
من الواضح أن مقترحها لم يثبت أنه «ممكن من الناحية النفسية»، مثلما أدركت بلا شك عندما كتبت تلك الكلمات، ولنفس السبب الذي نظر به إلى ادعاءات نيتشه بوصفها «مستحيلة»، وهو أننا لا نملك أدنى فكرة بماذا نستبدل هذه المصطلحات التي «لا بد من هجرها».
ومع مواصلة المرء قراءة مقال أنسكومب، سيندهش مرارا وتكرارا بالنبرة النيتشية لهذه المريدة الغافلة. فمثلا:
إن النظر إلى الأخلاق بوصفها «قانونا» يعني التمسك بما هو ضروري ... ومطلوب من جانب القانون الإلهي ... ليس من الممكن بطبيعة الحال أن تكون لديك هذه الفكرة ما لم تؤمن بالله مشرعا، مثل اليهود والرواقيين والمسيحيين ... الأمر أشبه باستبقاء فكرة «المجرم» على الرغم من إلغاء القانون الجنائي ومحاكم الجنايات ونسيانهما.
طومسون ودوركين، 1968: 192-193
هذا صحيح تماما، ولكن - على الرغم من الحيرة والاحتقار اللذين يشعر بهما نيتشه وأنسكومب - هذا ما نفعله بالضبط لنتحايل على الأمر ونواصل حياتنا، غالبا غير مهمومين بالفوضى المفاهيمية التي ينطوي عليها الأمر، وبالكاد تكون مستترة.
يتبنى نيتشه، بطبيعة الحال، موقفا مختلفا على نحو جوهري تجاه ما يمثله هذا على المدى الطويل، حول الإنسان على مدار التاريخ. في «ما وراء الخير والشر»، الذي ألفه عام 1885، يضع الأمر في سياق أعم:
يعود القصور الغريب في التطور البشري، بكل تردده وبطئه - بل بكل تقهقره ودورانه على ذاته باستمرار - إلى أن غريزة القطيع للانصياع تتوارث على أحسن ما يكون وعلى حساب فن إصدار الأوامر وفرض السيطرة. وإذا افترضنا أن هذه الغريزة بلغت ذات مرة أوج ذروتها، فإن الآمرين والمستقلين سيندثرون تماما في النهاية، أو قل إنهم سيعانون من تأنيب الضمير وسيحتاجون إلى التحايل على الذات كي يمكن لهم أن يأمروا؛ أي كما لو أنهم، هم أيضا، ينصاعون فحسب. وهذه الحالة قائمة اليوم في أوروبا بالفعل، وأسميها: رياء الآمرين الأخلاقي. فهم لا يعرفون سبيلا إلى حماية أنفسهم من تأنيب الضمير إلا وهم يتصرفون كمنفذين لأوامر أقدم أو أعلى (أوامر الأسلاف، والدستور، والحق، والقوانين، وحتى الله)، أو يستعيرون بدورهم من نمط تفكير القطيع شعارات قطيعية، ويبدون، على سبيل المثال، بوصفهم «أفضل خدام لشعبهم»، أو «أدوات الخير العام». من جهة أخرى، يتظاهر إنسان القطيع اليوم في أوروبا بأنه النمط البشري الوحيد المسموح به، ويمجد صفاته التي جعلته أليفا ومسالما ومفيدا للقطيع، بوصفها الفضائل البشرية الحقيقية؛ وهي: الحس الجمعي، والطيبة، والرفق، والاجتهاد، والاعتدال، والتواضع، والتسامح، والتراحم. أما في تلك الحالات التي يبدو فيها الاستغناء عن القادة وأكباش القطيع ممتنعا، فثمة محاولة تلو الأخرى لجمع أفراد قطيعيين أذكياء يحلون محل أصحاب الأمر؛ ذاك هو، على سبيل المثال، أصل كل الدساتير النيابية. لكن، على الرغم من ذلك، أي نعمة ستهبط على أوروبيي القطيع هؤلاء، بل أي انعتاق من ضغط يكاد لا يطاق سيكون لهم مع ظهور الآمر المطلق! والدليل الكبير الأخير على هذا هو التأثير الذي أحدثه ظهور نابليون؛ إن تاريخ تأثير نابليون يكاد يكون تاريخ السعادة القصوى التي بلغها هذا القرن بأسره في أكثر أفراده ولحظاته قيمة. «ما وراء الخير والشر»، 199
قد تستثير هذه الفقرة المقتبسة من نيتشه بأسلوبه المميز ردود أفعال مختلفة. فهي تنتقل بين كونها شديدة الإقناع، ومصاغة بأسلوبه الجدلي البلاغي الفصيح، وبين استعمال المفردات الصادمة - على الرغم من ذلك - بالقدر الذي لا بد أنه كان ينتويه لها، حتى ولو كانت تجبر معظم القراء على النفور مما يقوله. فهذا الاستعمال لكلمة «القطيع » وشبيهاتها مزعج، كما هو حال قائمة الخصال التي يتفق عليها «الإنسان القطيعي»؛ لأننا نوافق عليها أيضا: الحس الجمعي، والاجتهاد، والتواضع، وغيرها. ونحن نوافق عليها؛ لأننا قطيعيون، ولسنا مقتنعين بتاتا أننا يمكن أن نصبح أي شيء آخر، أو إذا ما كنا سنريد ذلك لو أمكننا. ومع هذا يصيبنا القلق، بما أن موضوع الانصياع برمته قد أثير. وعلى الرغم من أننا قانعون بالانصياع لما نؤمن أنه صواب، فإن المسألة هي: لماذا نقنع بهذا الإيمان، على الرغم من أننا ألغينا الآمر؛ أو من كانوا بيننا لهم آمر؟ وبالطبع، فإن حقيقة أن قناعاتنا الأخلاقية تنبع في الأساس من إرادة الإله لا تعني أن هذه القناعات خاطئة، لو لم يكن الإله موجودا. فتلك «مغالطة المنبع»، وهي أداة معروفة وموصومة بتشويه المعتقدات وزعزعة الثقة بها. ولكن من جهة أخرى، سيكون من الحماقة ألا نوافق على أننا لو تخلينا عن الإيمان الشرعي الأصلي، فسنكون بحاجة إلى شيء جديد ليحل محله؛ إذ إنه من السهل جدا أن نكون مثل «الإنجليز» ونعتقد أننا نعرف «بالفطرة» ما هو خير وما هو شر. وسيكون هذا رائعا لو حققناه، بما أننا لا نملك أية معرفة فطرية حقيقية أخرى.
في هذه المرحلة، لا أريد أن أتوغل في آراء نيتشه المحددة حول مضمون الأخلاق، إلا بقدر ارتباطها بادعاءاته حول النظام ككل.
ما يبدأ به نيتشه في كتاب «الفجر» يواصله بمهارة بالغة في كتابه التالي «العلم المرح». في هذا الكتاب، على وجه التحديد، يمهد نيتشه الطريق بوضوح أكبر لتوغله في مسألة القيم، التي يفرد لها معالجة كاملة في «هكذا تحدث زرادشت». يعتبر «العلم المرح» أكثر كتبه إمتاعا؛ إذ إنه كان يثق في كونه يتخطى التلميحات اللانهائية التي وردت في كتابيه السابقين، دون أن يحمل على عاتقه - على الرغم من هذا - العبء التنبئي الذي تكبده خلال تأليفه كتاب «هكذا تحدث زرادشت». وعلى الرغم من استمرار الانتقاد الشديد الفاعلية لفترته التي يطلق عليها اسم «الفترة الوضعية»، فإننا نشعر بقدرة أكبر على استيعاب ما يقصده . إن عمق المأزق الذي سقط إنسان ما بعد المسيحية فريسة له هو السمة الأكثر بروزا في «العلم المرح»، الذي يحمل في الجزء رقم 125 أشهر تصريحات نيتشه بأن الإله قد مات.
يحمل هذا الجزء عنوان «المخبول». فجميع من يسمعونه في السوق يعتبرونه مجنونا؛ لأنهم ليست لديهم أدنى فكرة عما يتحدث. كيف يمكن أن يقتل المرء الإله؟ هذا تعبير عن معاناة نيتشه الجسيمة، بما أنه يرى - على عكس الآخرين - تبعات موت الإله، ويرى تأثير ذلك على المدى الطويل، ويصيبه الهلع لمجرد التفكير في الكيفية التي سيتصرف بها الناس إذا ما استوعبوا معنى ألا يكون الإله بعد الآن هو محور عالمهم. لا يهم إن كان الإله موجودا أم لا، وهذا هو جوهر قضية نيتشه. المهم هو إن كنا نؤمن بوجوده أم لا. بمرور القرون، تآكل الإيمان بالإله دون أن يلاحظ الناس ما يحدث. وسوف تمس التبعات الأكثر تعقيدا القيم؛ لأنه - مثلما يعبر نيتشه عن الأمر في ملحوظة غير منشورة: «من لا يجد العظمة في الإله لا يجدها في أي مكان. يجب عليه إما أن ينكرها أو يستحدثها.» وإذا حملنا على كواهلنا عبء استحداث العظمة، إذن فمعظمنا، وربما جميعنا، سينهار تحت وطأة هذا العبء. ودون العظمة ليس للحياة معنى، حتى لو كانت العظمة بعيدة المنال. وسوف نستعرض لاحقا المنطق الذي ينسب به نيتشه موت الإله إلى الميول المتنازعة أساسا في المسيحية نفسها. أما الآن، فالمهم هو أن نتيجتها قد وقعت، وأن معظم الناس لا يدركون معناها، وأنهم عندما يدركون معناها لن يجدوا الحياة تستحق العيش فيها بعد الآن.
كان موقف نيتشه تجاه المسيحية، على غرار موقفه تجاه معظم الأمور التي اهتم بها، منقسما في الصميم. وقد وصفنا على مدار الصفحات السابقة ازدراءه للأخلاق التي ترعاها المسيحية، وقد نما هذا الازدراء بمرور السنين. ولكن على الرغم من أنه كان يكره ضآلة الإنسان التي تعتبر جزءا من العقيدة المسيحية، ومجموعة الفضائل التي تعتبر جزءا من ذلك، كان في حقيقة الأمر واعيا تماما بالإنجازات التي لا ينسب فضلها إلا إلى الثقافة المسيحية. فلن تبنى أبدا كنيسة على غرار كاتدرائية شارتر القوطية للاحتفال بالقيم الإنسانية المتحضرة، ولن يوجد عمل موسيقي كبير مثل «قداس مقام بي الصغير» لباخ لإثبات الإيمان بها. ومن ثم، يبدو أن فترة ما بعد ظهور المسيحية غالبا ستتسم بوجود رجال أشد ضآلة من المسيحيين الصغار الذين حلوا محلهم. فربما تكون الأخلاق شاقة، ولكن هل سيكون من المعقول تخيل استبدالها؟
الفصل الخامس
الضرورة الوحيدة
تشكل الكتب الأربعة الأولى في «العلم المرح» مسارا صاعدا للعبقرية والذكاء. يبدأ الكتاب الرابع بقرار ثوري من نوعية قرارات العام الجديد، والذي كان مصيره كمصير سابقته دائما، ولكنه مع هذا يمثل بداية موجة الإقرار التي قادت نيتشه إلى «هكذا تحدث زرادشت»:
أريد أن أتعلم أكثر فأكثر أن أرى الضرورة في الأشياء على أنها الجمال في حد ذاته، وهكذا أكون واحدا ممن يجملون الأشياء. ليكن حبي منذ الآن: «حب القدر»
Amor Fati ! لا أريد أن أخوض حربا ضد القبح. لن ألقي التهم إطلاقا، ولن أتهم حتى المتهمين. ليكن إنكاري الوحيد: صرف النظر. وبوجه عام: أريد، ابتداء من اليوم، ألا أكون إطلاقا سوى إقرار تام. «العلم المرح»، 276
تستمر هذه الفقرة المشحونة بالمشاعر على نحو يمكن أن يأسر لب المرء، وربما سيكون من المجحف النظر إليها عن قرب. وفكرة أن نيتشه - الخبير التشخيصي العريق - لا يمكنه أبدا أن يغض بصره، وأننا كنا سنخسر الكثير من كتاباته القيمة لو فعل ذلك؛ تلطف حدة التهمة بأنه لم يصبح قط ممن يقرون الأمور ويؤيدونها على علاتها، وتلطف حقيقة أن ثلاثة من أواخر كتبه الخمسة تتسم بالهجومية، اثنان منها يهاجمان فاجنر والثالث يهاجم المسيح، والكتاب الإقراري الوحيد كان عن نفسه.
حتى ذلك الوقت، على الأقل، يظل مزاجه في هذه الحالة المشحونة. ثم نصل، في الجزء 290، إلى نقطة يقدم فيها لأول مرة بعض التلميحات الصريحة عن طبيعة الأشخاص الذين يأمل أن يحلوا محل البشر الضئيلين في المرحلة الأخيرة من المسيحية وما بعدها: «الشيء الوحيد الضروري» أن «نضفي طابعا من الإبداع الفني» على طبعنا، هذا فن عظيم ونادر! فن يمارسه من يعانق كل ما يمنحه طبعه من قوة ومن ضعف، ويدمجه بعد ذلك في مشروع عمل فني يبدو معه كل عنصر مثل قطعة فنية وذهنية، ويكون حتى للضعف فضيلة استهواء النظر. هنا يزيد كم الطبيعة المكتسبة، في حين ينقص جزء من الطبيعة الفطرية - وفي الحالتين يتم ذلك من خلال الممارسة الصبورة والجهد اليومي. في هذا الموضع سترنا قبحا لم نستطع اقتلاعه، وفي الموضع الآخر تحول إلى جمال رفيع. كثير من الأشياء المبهمة والعصية على التشكيل استبقيت واستغلت من أجل تأثيرات المنظور، وظيفتها هي إبراز الأبعاد والفضاءات التي لا نهاية لها. وفي نهاية المطاف، حين يكتمل العمل، يتضح أن إكراه ذوق وحيد بعينه هو الذي كان سائدا في الأشياء الصغيرة والكبيرة ويهيئها، وسواء أكان هذا الذوق سليما أم غير سليم لا يهم بالقدر الذي كنا نظنه، وإنما يكفي أن يكون هناك ذوق! «العلم المرح»، 290
هذه القطعة ليست الجزء كله، ولكنها تكفي لنواصل بها حديثنا.
كانت فكرة أننا قد نصبح «مبتكري حياة» محل نقاش في «مولد المأساة»، ولكنها في سياق مختلف تجعل فكرة الاستمرارية خادعة. ما يدافع عنه نيتشه في «العلم المرح» هو الفردية المفرطة، في إطار لا يؤدي إلى المذهب الذري الذي نادرا ما يكون واضحا والذي مفاده أن الواقع يتألف من جزئيات أو كيانات منفصلة لا تنقسم، وقد تكون هذه مادية أو روحية. وعندما تكون هذه الجزئيات مادية، تعد في العادة دقيقة إلى أبعد حد، لا متناهية في العدد. ولكن ما إن نعجب برؤيته، حتى نبدأ في التساؤل أيضا. بالنسبة إلى القياس التشبيهي مع الفن، أو فن هندسة المناظر الطبيعية للحدائق، الذي يشار إليه هنا، فإنه بكل وضوح قياس تشبيهي لا يمكن تناوله تناولا مباشرا، فالإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة. (سوف أناقش لاحقا التكرار الأبدي، الذي لن يساعدنا هنا على أية حال؛ حيث إن الأخطاء التي نرتكبها كانت، وستظل، تتكرر إلى أبد الآبدين.) ولكن الفنان يستطيع أن يتعامل مع أعماله إلى أجل غير مسمى، فيما عدا استثناءات نادرة، إلى أن يشعر أنه أجاد الأمر قدر استطاعته. وما يقترحه نيتشه هو أن نجري تحليلا دقيقا لشخصيتنا، ونقيمها، على الرغم من أننا لا نعلم حتى هذه المرحلة معايير التقييم - ما الذي يحسب كموطن قوة وما الذي يحسب كنقطة ضعف - ثم نضفي عليها تلك الوحدة التي تسمى الأسلوب. إن دمج عناصر تكويننا في «عمل فني» يقدم بالأحرى إيحاء بأننا أقل عرضة للظروف الخارجية التي يمكن أن تحدث لأي إنسان باستثناء الزاهد الناسك.
على الرغم من هذه الشكوك الأولية، ثمة شيء لافت في تلميح نيتشه. فهو يمهد الطريق لشكل جديد من الكلاسيكية، حيث «ستكون الطبائع الأقوى والأكثر هيمنة هي التي تتمتع بالسعادة السامية وسط هذه القيود والمثالية تحت مظلة قانون خاص بها»، على عكس «الشخصيات الضعيفة التي لا سلطة لها على أنفسها والتي تكره قيود الأسلوب» (أي الرومانسيين). وعلى الرغم من أن نيتشه يبالغ في عرض فكرة الأسلوب الفردي، فمن الواضح أنه يدعو إلى مفهوم الأسلوب الذي يوجد بمعزل عن الفرد. إذ إنه لو لم توجد معايير خارجية، فسيكون لكل شخص أسلوبه الخاص ما دام مميزا عن الآخرين. ويكفي الاستخدام المجرد لمفهوم الأسلوب ليجعلنا نفكر في أطر محددة يعمل في ظلها الأفراد، ويحققون الفردية بفضل الدعم الذي يقدمه هذا الإطار. ولعل أوضح مثال على هذا هو الأسلوب الكلاسيكي في الموسيقى، مثلما يظهر بداية من هايدن وصولا إلى موتسارت وبيتهوفن، منتهيا عند نقطة ما غير محددة. كانت قيود ذلك الأسلوب صارمة، ولكن لا يمكن للمرء أن يتخيل أن أحدا من هؤلاء الملحنين الثلاثة يمكن أن يحقق النجاح دونها. لقد نجحوا في إثبات وجودهم؛ لأن عناصر كثيرة قد توافرت لهم بالفعل. ويمكننا أن نرصد أبرز إنجازات هذا الأسلوب الكلاسيكي في الموسيقى في ظل هذا الصراع بين الأسلوب الذي كان متاحا لأي شخص في ذلك الوقت - والذي يمكننا أن نراه يعمل على نحو مرض تماما دون إنتاج أعمال عبقرية على يد هامل، مثلا، الذي يدين بنجاحه كله للأسلوب الذي كان متاحا له - وبين مجموعة السمات الفردية المحددة بدقة لدى أساتذة هذا الأسلوب العظماء.
لكن المساق الكامل لتحليل نيتشه للثقافة يستمر، كان هذا حسب معايير ذلك الوقت، أما الآن فالوضع مختلف بعض الشيء. لم يعد يوجد أسلوب مشترك يمكن العمل به في ظل الصراع الخلاق؛ لذلك علينا أن نجد أسلوبنا الخاص. من الواضح في مثل هذه الظروف أن مجرد فكرة الأسلوب مسهبة إلى أقصى درجة. وحقيقة أنه يقول: «سواء أكان هذا الذوق سليما أم غير سليم لا يهم بالقدر الذي كنا نظنه، إنما يكفي أن يكون هناك ذوق!» توحي بأن المعايير التي يستخدمها هنا ليست فقط جمالية، ولكنها شكلية أيضا. تحتل طبيعة العناصر المرتبة الثانية مقارنة بتشكيلها. وقد يجعلنا هذا نتساءل، مجددا، إذا كان ما تتكون منه العناصر مهما في الأساس، وبالتأكيد ظن نيتشه أن هذا مهم. ففي نهاية الجزء كتب يقول: «يلزم شيء وحيد؛ أن يتوصل المرء إلى أن يكون راضيا عن نفسه، سواء أكان بالنوع كذا أم بالنوع كذا من الفن أو من الشعر، عندئذ يبدو الإنسان بمظهر محتمل.» ولكن بلوغ الرضا عن النفس يمكن أن يكون في أحسن الحالات شرطا ضروريا. وثمة أشخاص كثر بلغوا الرضا وظلوا دون مظهر محتمل؛ بل ولهذا السبب تحديدا.
إن فقرات مثل هذه تثير بالفعل التساؤل حول مدى إمكانية الضغط على نيتشه. فعلى الرغم من كل ميوله نحو تطرفات التعبير ومبالغاته، فإنه ينجح بطريقة ما في انتهاج اللباقة بألا يسلط الضوء على المواضع غير الملائمة. ولكن الخطر المقابل أننا نصفه بأنه «تحفيزي»؛ ما يعني أننا لا ننظر إلى ما يقوله بجدية. في هذه الحالة تحديدا، قد يصبح من المناسب المخاطرة بقدر من عدم اللباقة؛ لأنها تحوي أفكارا ما زالت في طور التشكيل وستكون محورية لعمله، لكنها ستكون أكثر روعة من وجوده هنا لدرجة أنه سيصبح من الأفضل رؤيته بأبعاده الإنسانية بدلا من أبعاده فوق الإنسانية.
وهكذا، بينما نترك المسألة مفتوحة حول ما إن كان نيتشه يعطي للإنسان صاحب الأسلوب المميز تفويضا مطلقا في الموضوع المتعلق بعناصر شخصيته، يمكننا أن نتفق أن أحد الأسباب التي تدفعنا إلى أن نقول إن امرأ يتسم بأسلوب مميز هو قدرته على التعامل مع الأمور الصعبة بنجاح، ودمج تجارب متفاوتة ستكون بالنسبة إلى معظم الناس محرجة أو مهينة وجعلها جزءا من خطة أكبر. ثمة لحظة مؤثرة وممتعة وبارزة في نهاية فيلم جان رينوار «قواعد اللعبة» الذي فيه - بعد حادثة إطلاق نار صادمة يقتل فيها طيار خلال قضائه العطلة في بيت ريفي - يتحدث المضيف إلى الضيوف المجتمعين المذهولين بذوق رفيع وبكلمات مختارة بعناية فائقة لدرجة أن أحد الضيوف يقول للآخر: «لقد وصفها بالحادثة. تعريف جديد!» ولكنه يتعرض للتوبيخ: «إنه يتمتع بأسلوب راق، وهذا شيء نادر هذه الأيام!» وهذا صحيح تماما. لقد حافظ الخطاب الراقي على اللباقة واللياقة، وأبقى ما يبدو بوضوح أنه مظهر متحضر عابر، وجعل الضيوف يتوجهون إلى أسرتهم بمزاج رثائي بدلا من المزاج الانتقادي أو المجتزئ. وثمة موطن قوة في مثل هذه القدرة يتعلق بما يبدو أنه حسن التعبير، والقدرة على التأقلم مع ما يعتبر - بالنسبة إلى أي شخص معقد - تجارب يمكن أن تؤدي إلى الانحلال، أو إلى كراهية النفس، على أقل تقدير.
يتسم نيتشه بصراحته في الكشف عما ينطوي عليه الأمر. فبعد بضع فقرات يطرح سؤالا:
كيف يتسنى لنا أن نجعل الأشياء جميلة وجذابة ومرغوبة حين لا تكون كذلك؟ يبدو لي أنها في حد ذاتها ليست كذلك على الإطلاق ... الابتعاد عن الأشياء حتى يختفي كثير من تفاصيلها ... هذا كل ما سيكون علينا أن نتعلمه من الفنانين، إضافة إلى أنه علينا أن نكون أكثر حكمة منهم في أمور أخرى؛ لأن قوتهم الشديدة تتوقف عادة حيث يتوقف الفن وتبدأ الحياة. أما نحن، فنريد أن نكون شعراء حياتنا، في أتفه أمور حياتنا اليومية قبل كل شيء. «العلم المرح»، 299
بعبارة أخرى، أقل لباقة وذوقا: لا تكن كثير الشك في نفسك بشأن فهمك التام للأمور. هذا حقيقي؛ فالأهم أن تجعلها مقبولة على الأقل، وجميلة على أحسن تقدير.
أظن أن ما يفكر فيه نيتشه هو أمر أكثر غريزية مما يبدو أنه يقترحه؛ بما أن عليه في النهاية أن يتفوه بما يريد منا بالفعل أن نعرفه وننفذه. إنه مأزق يجد نفسه واقعا فيه مرارا وتكرارا؛ هل يجب أن يرضي نفسه بإبداء التلميحات، أم يجب أن يقول ما يرى أنه ضروري لنا أن نعرفه في صورة سريعة الزوال؟ إنه يريدنا أن نكون ذلك النوع من الأشخاص الذين لا يحتاجون إلا إلى تلميحات لأننا شديدو الذكاء، ولكنه يعلم أننا سنصم آذاننا عن أي شيء لا يرقى إلى مصاف الكوارث؛ ثم نتهمه بإحداث كثير من الجلبة على أمر تافه. خلال مرحلة كتاب «العلم المرح» كان لا يزال يحاول استخدام صيغ رمزية وتحفيزية، تاركا إيانا لعقد الروابط بينها. ولم يكن قد أوجعه بعد الضجر الذي كثيرا ما سيعاني منه زرادشت عندما يدرك أنه دائما ما سيساء فهمه. وهو ليس متأكدا، أيضا، من كون المرء يستطيع فقط أن يعلم الناس الذوق لو كانوا جهلاء وحسب، أو من إمكانية إعادة تثقيف أولئك الذين تشكل الذوق لديهم بالفعل ولكنه ذوق فاسد. يعتبر كتاب «العلم المرح»، في الأساس، كتاب رجل متفائل؛ فهو آخر الكتب التي كتبها نيتشه بضمير حي ووعي حاضر.
على أية حال، هذا هو الجانب الهادئ نسبيا لدى نيتشه، على عكس ما وصفه جي بي ستيرن على نحو مبرر «بالفاضل المكد»؛ لأنه لو ظهرت أية إشارة لمجهود في شخصية أحد - لو بدا أنه يستخدم جاذبيته وحنانه وهدوءه وتلقائيته مع نفسه - إذن فهذا فشل خطير في الأسلوب. لكن عند تحررنا الشنيع من قيود التقاليد المرحب بها، وبالنظر إلى العدد الهائل من أساليب المعيشة التي «تبدو» متاحة لنا، والتي يعتبر كثير منها كذلك بالفعل، فليس من المحتمل أن نستطيع تنظيم «الفوضى الموجودة في داخلنا» دون بعض إشارات الجهد المرئية. حتى جوته، الذي كثيرا ما يجسد فكرة نيتشه عن تنظيم الذات، لم يكن قادرا على إخفاء المجهود الذي تكبده في سبيل ذلك. لقد كان، بالطبع، حالة مقيدة من الوحدة المفروضة على التنوع ؛ تنوع الاهتمامات والدوافع التي قد تترك معظمنا عاجزين.
لقد كان ادعاء نيتشه بأن إكساب شخصية المرء أسلوبا مميزا هو «الشيء الوحيد الضروري» (عبارة ربما كانت تهدف إلى السخرية من فاجنر، الذي تشغل بال شخصياته الرئيسية حاجة ملحة)؛ يحمل في طياته سلوكا غير متوقع فيما يتعلق بنقده للشفقة، أحد أشهر موضوعاته الملحة، والتي أبقى عليها بانتظام. في أحد نصوصه النثرية الشديدة العبقرية، والذي للأسف يتعذر علينا اقتباسه هنا كاملا نظرا لطوله البالغ، فإنه ينظر بعين الاعتبار إلى «إرادة المعاناة وأولئك الذين يشعرون بالشفقة». وهو يسأل إن كان في صالح المشفق أو المشفق عليه أن يندمجا في هذه العلاقة، ويبين في المناقشة الحساسة التي تعقب ذلك أن بغضه للشفقة لا يمت بصلة، بأي حال من الأحوال الطبيعية، لتحجر القلب أو القسوة أو تبلد الإحساس. وبقدر ما يهم الشخص المشفق عليه، فإنه يشير إلى أن تنظيم حالاته الروحية أمر حساس، وأن من يلاحظون أنه في محنة ومن ثم يهرولون إلى مساعدته «يتبنون دور القدر»، وأنه لا يخطر على بالهم أبدا أن من يعاني قد يحتاج إلى معاناته، الممتزجة بفرحته، «كلا، ف «دين الشفقة» (أو «القلب») يأمرهم بالنجدة، وهم يعتقدون أن أفضل مساعدة هي عندما تساعد في أسرع وقت!» («العلم المرح»، 338).
من الواضح أن نيتشه لا يتحدث عن تقديم الطعام والشراب إلى شخص يتضور جوعا، أو تخدير شخص على وشك الخضوع لعملية جراحية، بل هجومه مسلط على الشفقة باعتبارها شغل الإنسان الشاغل لتنظيم حياة الآخرين، وتجاهله النبيل - حسبما نفهم - لشئونه الخاصة. ومن ثم، فإنها لوقاحة (على الرغم من شيوعها) إساءة تفسير مقصده بأنه يحث على تجاهل احتياجات الآخرين الأساسية، مثلما توضح المناقشة التالية مباشرة عن آثار الشفقة على المشفق: «أعلم ذلك جيدا، فثمة مائة طريقة شريفة وحميدة لتضليلي وإثنائي بعيدا عن طريقي، وهي طرق جد «أخلاقية»! ويمضي رأي دعاة أخلاق الشفقة اليوم إلى حد ادعاء أن هذا الأمر، ولا شيء غيره، سيكون أخلاقيا؛ أن يضل المرء طريقه على هذا النحو ويسارع إلى نجدة الآخرين » («العلم المرح»، 338). وهو يواصل التركيز بطلاقة على القسوة التي ينطوي عليها سير الإنسان في طريقه الخاص، وما يسببه ذلك غالبا من الوحدة وغياب العرفان بالجميل وانعدام الدفء. ويختتم، ببراعة، بقوله: «أخلاقي تقول لي هذا: عش منعزلا حتى تعيش لنفسك.»
سيشعر العديد من الأشخاص أن الأخلاق التي تستحثهم على السير في طريقهم الخاص لا يمكن ببساطة انتهاجها؛ لسبب واضح وهو أنهم يفتقرون إلى وجود «طريق» خاص بهم؛ فلديهم الكفاءات والاحتياجات والمخاوف والمشكلات، ولكن ما من شيء يمثل بالنسبة إليهم هدفا فرديا. عندما اقترح نيتشه بأن يصبح كل فرد مسئولا عن تشكيل حياته، فإنه ربما يستعين برؤيته الملحة التي نتبناها حاليا، أو كنا نتبناها حتى وقت قريب، حول ما يشكل عملا فنيا، مع احتلال الأصالة مكانة الصدارة بين سماته المرغوبة، أو حتى الضرورية. وهذا يبدو سخيفا باعتباره أمنية من أجل البشرية، فضلا عن كونه وصية؛ حيث إنه يفترض سلفا أن معظم الناس يتسمون فطريا بقدر كبير من التفرد، وهو افتراض كان يجب أن يعطيه نيتشه الأولوية، لو كان مؤمنا به بالفعل.
في واقع الأمر إنه يفكر، على أقل تقدير، في هؤلاء الأفراد الذين يستطيعون قراءته بتفهم، على الرغم من أنه لم يقل هذا على حد علمي. ولكن إذا لم يستطع المرء فعل ذلك، فإن فرص شحذ الطاقات المطلوبة لكي «يتبع المرء طريقه الخاص» ستكون بلا قيمة. ويقلص هذا بالفعل عدد الأشخاص الذين يتحدث عنهم ليصبحوا نسبة محدودة للغاية من السكان. فماذا عن الباقين؟ كيف يدين منتهجي سياسة القطيع وهم لا يملكون القدرة على أن يصبحوا أي شيء آخر؟ ولكنه لا يدينهم، وإنما هو فقط غير مهتم بهم. ويثير هذا مسألة سياساته، أو غيابها، التي تؤدي إلى مزيد من الرياء وسط مفسريه مقارنة بأية سمة أخرى في فكره. سأتناول هذا لاحقا. ولكن ماذا عمن يستطيعون قراءته بتفهم ولكنهم مع هذا ما زالوا يشعرون بأنه ما من طريق خاص بهم؟ هل يرى نيتشه أنهم يخدعون أنفسهم لكي يريحوا بالهم، أم أنهم محقون؟ لو كانت الحالة الأولى هي الصواب، فيبدو أنه أمام نفسه يقيم إمكانات الأشخاص على نحو مذهل. ولو كانت الحالة الثانية هي الصواب، فإن ما يقوله إذن بشأن إكساب حياة المرء أسلوبا مميزا غير مهم، وقد يتساءل المرء عما يجب أن يفعله بنفسه الآن، وهو ذلك الموهوب والذكي والمثقف والحساس والمتفتح الذي لا ينزع إلى الشهرة؛ لأنه على الرغم من مواهبه فإنه سلبي. أم ما من أشخاص سلبيين؟ مزيد من الأسئلة نستكشف إجاباتها لاحقا.
ثمة سؤال آخر مهم علينا أن نمعن النظر فيه قبل أن نترك مسألة الأسلوب التي ستظل مثار حديثنا دائما. أثار هذا السؤال أحد أبرز مفسري نيتشه، وهو ألكسندر نيهاماس (نيهاماس، 1985)، وفشل في الإتيان بإجابة مقنعة إلى حد ما. والسؤال هو: هل يستطيع شخص يتسم بشخصية بائسة تماما - حسب معايير لا يتخيل المرء أن يرفضها إلا قلة قليلة، وبالتأكيد ليس من بينهم نيتشه - أن يجتاز اختبارات الأسلوب الفردي المميز؟ لو كانت معايير نيتشه شكلية تماما؛ أي إن جميع التفاصيل متوافقة معا ولا يهم ما هي عليه كل على حدة، إذن ففيما يبدو ستكون الإجابة المروعة بالإيجاب. كتب نيهاماس يقول: «أعتقد أن ثمة شيئا يثير الإعجاب في حقيقة الاتسام بشخصية أو بأسلوب مميز» (نيهاماس، 1985: 192). ماذا عن جورينج؟ أسلوبه لا يمكن إنكاره أو إغفاله، ولكن يأمل المرء ألا يعجب به سوى القليل. يقول نيهاماس:
ليس من الواضح بالنسبة إلي إن كان الشخص الشرير على نحو دائم وغير قابل للإصلاح يمتلك بالفعل شخصية أم لا؛ فتلك السمة التي يصفها أرسطو بأنها «بهيمية» ربما ليست كذلك. وبصورة ما، فثمة ما يستحق الثناء ضمنيا في الاتسام بشخصية أو بأسلوب مميز، وتحول الحالات المتطرفة لمرتكبي الرذيلة دون الثناء عليها، حتى ولو بحس نيتشه الشكلي.
نيهاماس، 1985: 193
هذا أمر محير؛ الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها نيهاماس إثبات ادعائه ستكون من خلال الاشتراط اللغوي الصريح، الذي أتت منه هذه الفقرة.
ليس من الضروري التملص بهذه الطريقة بالنيابة عن نيتشه. فكما قلت، ما يقترحه في «العلم المرح» يجب تبنيه باعتباره خطوات تمهيدية نحو هدف لم يكن واثقا منه بعد. وهو يفتخر بنفسه بفضل هذه التحفة الفنية، فالقسمان الأخيران من الكتاب الرابع، اللذان يمثلان نهاية الطبعة الأولى من «العلم المرح»، محملان بأفكار الكتاب الذي راهن على نجاحه. يطرح القسم قبل الأخير «الوزن الأثقل»، فكرة التكرار الأبدي، باعتبارها فكرة مرعبة لا يحتملها أي شخص، باستثناء القوي. ولكن سيسعد بها أولئك الذين يتسمون بالقوة، ثم نجد القسم الأخير، «مستهل التراجيديا»، منقولا حرفيا من افتتاحية «هكذا تحدث زرادشت»، باعتباره مقتطفا من هذا العمل يتسم بالغموض، باستثناء ما يتعلق بهذه القدرة. ويجب أن يسلم المرء بأن الكتاب يعتبر الأقل وحدة بين مجهودات نيتشه المعقدة طوال حياته.
الفصل السادس
النبوءة
لمدة طويلة ظل كتاب «هكذا تحدث زرادشت» كتاب نيتشه الأشهر. ولكنه لم يعد كذلك، وهذا حسب ظني تطور يستحق الإشادة بصفة عامة. يعرض الكتاب بوضوح، من خلال كتابته في صورة أسطر قصيرة ملهمة، أسوأ دلالات تلك الحالة، على الرغم من أنه يحتوي أيضا على بعض أفضل كتاباته. ما كان نيتشه يحاول عمله في هذا الكتاب هو إثبات نفسه بصفته شاعرا فيلسوفا، ولهذا الغرض استخدم مجموعة من العبارات الاصطلاحية التي تكشف على نحو مفجع فكرته عن الشعر. فهو يستخدم كما كبيرا من الصور المجازية والاستعارات، ولكنه يفعل ذلك في مواضع أخرى أيضا، وبتأثير أفضل بكثير. والانطباع الأول الذي يتكون لدى المرء هو عن المختارات الأدبية؛ فمعظمها يتضح أنه مختارات إنجيلية، تتنوع بين الأصداء المباشرة للإنجيل والمحاكاة الساخرة، ويسهل على القارئ الذي يتخدر نوعا ما بسبب تكرار جملة «هكذا تحدث زرادشت» في نهاية كل قسم أن يتغاضى عن تنوع الأمزجة. يحتوي الكتاب على قصائد، بعضها أصبح مشهورا واستخدمه عديد من المؤلفين الموسيقيين، ولعل أنجحهم كان مالر وديليوس. ويمكن للمرء ملاحظة السبب وراء إعجاب هذين الموسيقيين بصفة خاصة بهذه القصائد؛ فهما رجلان يتمتعان بقوة إرادة هائلة واستثنائية، وقضيا معظم وقتهما في تصوير الحياة بكل حيويتها وجمالها، وهما قادران على الصمود، بعكس حالة الزوال المحزنة التي تتسم بها الحياة الإنسانية القصيرة. إلا أن نجاحهما ينم عن عنصر موجود في شخصية زرادشت التي ابتدعها نيتشه، عنصر كان يحاول جاهدا إنكاره، ألا وهو الحنين.
إن النبرة الأصدق في «هكذا تحدث زرادشت»، والتي تلوح في مواضع مفاجئة، هي نبرة الندم. والنبرة الأقل إقناعا هي نبرة الإجلال والإقرار، وهما سمتان يحاول زرادشت جاهدا غرسهما في الأذهان، بما أنهما ضروريتان لتمهيد الطريق أمام وصول «الإنسان الأسمى»، الذي يعتبر زرادشت نبيه. ولكنه نبي مصمم على ألا يكون له مريدون، وهي رغبة نجده شديد الاهتمام بالتركيز عليها، بما أنها تميزه عن بقية الأنبياء. ولكن قد يسأل المرء كيف يعزف شخص يقول الحقيقة عن أن يكون له أكبر عدد ممكن من المريدين. والإجابة فيما يبدو أن زرادشت ليس متأكدا على الإطلاق من الحقيقة التي تجبره على ترك جبله و«النزول» أو «الهبوط»، وهو التباس في المعنى محسوب بعناية من جانب نيتشه. يعبر الساحر في الجزء الرابع عن الكآبة التي هي رفيق زرادشت الملازم له، عندما يغني: «لو ابتعدت عن الحقيقة، فسأكون أحمق! سأكون مجرد شاعر!» ومرة ثانية، في القسم الأخير من الجزء الأول، «الفضيلة الواهبة»، يتحدث زرادشت إلى مريديه بكلمات كان نيتشه فخورا باختيارها لدرجة أنه يقتبسها في نهاية مقدمته لكتاب «هذا هو الإنسان»:
بصدق أنصحكم: انصرفوا عني واحترسوا من زرادشت! بل وأفضل من ذلك: اخجلوا منه! فلعله قد خدعكم ... إنها لمكافأة رديئة للمعلم أن يظل المرء على الدوام مجرد تلميذ. فلم لا تريدون تمزيق إكليلي؟ ... تقولون إنكم تؤمنون بزرادشت؟ لكن ما أهمية زرادشت؟ وإنكم تؤمنون بي، لكن ما أهمية كل المؤمنين؟ أنتم لم تبحثوا بعد عن أنفسكم: هكذا وجدتموني. هكذا يفعل كل المؤمنين، ولذلك ليس الإيمان بشيء ذي بال.
إنها فقرة قوية، ولكن على الرغم من كل الحكمة التي تسترعي التأمل فيها، فإنه لمن الغريب أن تصدر عن نبي؛ لأن الأنبياء لا يجادلون، وإنما ينبئون. وهكذا فبأي الطرق يستطيع المريدون اكتشاف ما هو حق وما هو باطل في تعاليم زرادشت؟ إن رفضه قبول المبايعة وتقديم فروض الولاء والطاعة - ذلك الرفض الذي لا تبرره المؤشرات المنفصلة للحق - هو أمر يثير الإعجاب، ومن الواضح أنه يهدف إلى أن يكون جزءا من معركة نيتشه الدائرة مع المسيح. ولكنه يتركنا متحيرين حيال كيفية التأقلم مع تعاليم زرادشت، فبما أننا فاسدون، فإننا لسنا في موضع يسمح لنا بالنقد.
مشكلة أن نبيا يشكك في نفسه، وينصح باتخاذ الحذر حيال كل ما يقوله، كبيرة للغاية؛ فنحن بصدد اجتماع أمرين متناقضين متجسدين. لكن المخاطر الناجمة عن كونه نبيا، والتي لم يكن زرادشت أول من ينبهنا إليها، تضخم فقط مشكلة كيفية التعامل مع فنان فيلسوف، والذي يبدو محل اشتباه على نحو متزايد. كل ما يمكننا عمله في ظل هذه الظروف المشئومة أن نحاول مشاركة رؤى زرادشت، وأن نلاحظ إلى أي مدى تسيطر على مخيلاتنا، شريطة أن نتذكر دائما أنها فاسدة. ولكن لو اتضح بعد ذلك أن الرؤية نفسها غامضة ومبهمة، فسيكون علينا أن نفعل ما أنا مقتنع في نهاية المطاف بأنه الشيء الوحيد الذي يمكن للمرء أن يفعله بهذا الكتاب، وهو أن يتذوقه بأسلوب عبثي مراوغ.
يحتوي الكتاب على أمور ممتعة بما يكفي، على الرغم من جميع التحذيرات التي أقحمتها على نحو محبط، لأجعل قراءته تجربة لا تنسى. وهو يبدأ بداية مثيرة للإعجاب، بنزول زرادشت عن جبله، وكتابة ما يمكن وصفه بأنه طقوس نزوله عن الجبل بإلهام صادق. ولكن سرعان ما ينتقل زرادشت إلى موضوعه المحوري: «اسمعوا! لقد أتيتكم بنبأ الإنسان الأسمى. إنه معنى هذه الأرض. فلتتجه إرادتكم إلى جعل الإنسان الأسمى معنى لهذه الأرض. أتوسل إليكم أيها الإخوة بأن تحتفظوا للأرض بإخلاصكم، فلا تصدقوا من يمنونكم بآمال تتعالى فوقها» («هكذا تحدث زرادشت»، الجزء الأول، المقدمة، 3). يقدم هذا الاقتباس أول مفهوم من المفاهيم الثلاثة الرئيسية لدى زرادشت. ووصيته لهم بأن يحتفظوا للأرض بإخلاصهم هي أحد موضوعات نيتشه العظيمة المتكررة، والتي أشعر نحوها بكثير من التعاطف. ولكن ما ننتظره الآن هو بعض التنوير حول كيفية جعل الإنسان الأسمى معنى لهذه الأرض، والخطوات التي يجب أن نتخذها لنضمن وصوله، والشكل الذي سيكون عليه عندما يصل. لكننا للأسف لا نحصل إلا على معلومات قليلة حول أي من هذه الأمور. ثمة سوء فهم بسيط يمكن توضيحه سريعا، مثل أن الإنسان الأسمى سيصبح ظاهرة ارتقائية. وما من داع للتفكير بأنه لن يكون في هيئة إنسان، ولكن هذا ليس واضحا بالقدر الكافي. ويبدو أنه يعرف عموما من خلال إعلان زرادشت الثاني المتعلق بالتكرار الأبدي: الإنسان الأسمى هو الكائن الذي يستطيع بابتهاج أن يعتنق هذه العقيدة؛ لأن هذا هو حال العقيدة أو المبدأ. وثالث تعاليم زرادشت هي «إرادة القوة»، أو «الحقيقة الجوهرية للوجود». ومرة أخرى، يتجسد الإنسان الأسمى في أنقى صوره وأكثرها إثارة للإعجاب؛ بأنه متغلب على ذاته، مهما كان مؤدى ذلك.
تتضح إحدى النتائج المترتبة على ذلك خلال مسيرة زرادشت. ومما قد تجدر الإشارة إليه أن زرادشت هو بشير الإنسان الأسمى، ولكنه هو نفسه ليس كذلك. ومع هذا، فإنهما يشتركان في بعض الخصال، ويبدو أن أفضل فهم يمكن أن نتوصل إليه غالبا بخصوص الإنسان الأسمى هو أنه صورة مفخمة من زرادشت.
في الجزء الرابع، على سبيل المثال، عندما يخبر العراف زرادشت بخطيئته الأخيرة، يتضح أنها شفقته على الإنسان. وسيفهم المرء أن الإنسان الأسمى سيدرك دون إغواء أن هذه هي الفتنة الأخيرة. وسيكون قادرا على قبول معاناة الإنسان، لكن لن يدفعه هذا إلى المعاناة، ولو شعر بها، فإلى أية درجة؟ لقد امتلأنا بالمعاناة من منطلق أنها العنصر الأصعب في استئصاله من الوجود، وهي بالفعل كذلك بالنسبة إلينا، وننظر إليها باعتبار أنها أعمق حالة موجودة. وبما أن السعادة دائما سريعة الزوال، فإننا نعتبرها سطحية أيضا، أو نعتبر أنها الإغواء. والسعادة الوحيدة الأبدية التي سمعنا عنها هي السعادة الموجودة في العالم الآخر، الذي لم نصل إليه بعد. ولأسباب بيولوجية مفهومة، فإننا نعتبر السعادة، أو المتعة، نهاية لعملية ما، ومن ثم تكون السعادة في غير موضعها بمجرد أن تبدأ العملية التالية، أو المرحلة التالية من نفس العملية. وإلى هذه الدرجة نعتبر جميعا صورة معدلة من شوبنهاور ، بما أن شوبنهاور تبنى الاتجاه المتطرف بأن المتعة «ليست» إلا توقفا مؤقتا للألم. وبحلول هذه المرحلة في حياة نيتشه المهنية، كان معارضا تماما لشوبنهاور، الذي كان - إلى جانب معبوده السابق فاجنر - أحد الشخصيات السخيفة إلى حد ما التي تنكرت على نحو سهل اكتشافه في «هكذا تحدث زرادشت». إنها تعاليم زرادشت - وهل يريد من مريديه أن يعارضوه؟ - التي تقول بأن السعادة أعمق من المعاناة، مثلما نعرف في فصل من الجزء الرابع بعنوان «نشيد الثمل» (هذا، بأي حال من الأحوال، ما يظهر في الترجمة الإنجليزية
The Drunken Song ، أما العنوان الألماني في الطبعة النقدية الجديدة فهو
Das Nachtwandlers-Lied ، أو «نشيد السائر أثناء النوم»):
إن العالم عميق،
فهو أعمق مما كان يظن النهار. وآلامه عميقة،
واللذة، أعمق من الآلام؛
يقول الألم: مر يا هذا وانقض!
ولكن ليس من لذة لا تطلب الخلود؛
خلودا لا نهاية له.
هذا ليس شعرا مميزا، ولا حتى في النسخة الألمانية. ولكن عاطفته الأساسية مؤثرة، وهي بالنسبة إلى زرادشت الأقرب صلة بالتكرار الأبدي. وفي موضع سابق من نفس القسم أوضح زرادشت ذلك قائلا:
هل قلتم يوما نعم للذة واحدة؟ يا أصدقائي، إذن فقد قلتم نعم ل «جميع» الآلام! فجميع الأشياء متسلسلة ومتداخلة ومتعاشقة. أفما اشتهيتم أن تعود المرة مرتين فهتفتم: «رجاء أيتها اللذة، ابقي لحين من الدهر!» إنكم بهذا التمني وددتم لو تعود الأشياء «جميعها»، مجددا وللأبد، متسلسلة ومتداخلة ومتعاشقة، وهكذا «أحببتم» العالم. أيها الخالدون، كان حبكم أبديا لا نهاية له. قلتم للآلام أن تنقضي ولكنكم دعوتموها لتعود! لأن «كل لذة تطلب الخلود».
هذا هو تناول نيتشه الغنائي والفياض بالمشاعر لرأيه الذي عبر عنه على نحو أكثر تشددا في مواضع أخرى، والذي يدور حول أن تمني شيء واحد يعني تمني كل شيء، بما أن الشبكة السببية تعتمد فيها أية حالة على بقاء بقية حالات الطبيعة على وضعها. وهذا هو رأيه، على الأقل في البداية، عن التكرار الأبدي الذي يروج له. الإنسان الأسمى هو الكائن المستعد لأن يقول نعم لأي شيء؛ لأن اللذة والألم لا ينفصلان، كما يعبر نيتشه على الدوام، بداية من الفردية البدائية في كتاب «مولد المأساة» وما يليه. ولهذا، على الرغم من هول الوجود حتى الآن، فإنه مستعد لإقرار هذا كله. وهذا، على أية حال، فهمي للأمر، وله.
ولكن ليست هذه إلا بداية لتفسير الإنسان الأسمى؛ لأنه بعد أن عبر عن قبوله غير المشروط للوجود إلى الدرجة التي يطلب فيها أن يتكرر كل شيء مثلما كان تماما، في دورات أبدية، ما زالت هناك مسألة ما يفعله الإنسان الأسمى بوقته. من المحتمل أن يكون شيئا مختلفا تماما عما يفعله الإنسان العادي، الذي تم تعريفه من قبل بوصفه «حبلا مشدودا بين الحيوان والإنسان الأسمى؛ حبلا مشدودا فوق هوة سحيقة» («هكذا تحدث زرادشت»، الجزء الأول، المقدمة، 4). سيكون مختلفا عنا مثلما نختلف نحن عن الحيوانات. وأيا كان ما يفعله فسيفعله بروح القبول والإقرار، ولكن ماذا سيكون شكله؟ نعلم الهيئة التي ينتفى أن يكون عليها؛ أي شيئا ضئيل الحجم، وتفاعليا، وممتعضا. وثمة لمحة من نقض القوانين لدى زرادشت تشير إلى أنك إذا كنت صاحب الموقف الأساسي الصحيح فبإمكانك أن تفعل ما تريد. ويظهر هذا بوضوح في الفصل الذي يحمل عنوان «عن العفة»، حيث كتب يقول:
هل أشير عليكم بقتل حواسكم؟ إن ما أوجبه إنما هو طهارة هذه الحواس. هل أشير عليكم بالعفة؟ إنها لو كانت فضيلة عند البعض فإنها لتكاد تكون رذيلة عند الكثيرين. ولعل هؤلاء يمسكون عن التمتع، غير أن شبقهم يتجلى في كل حركة من حركاتهم. إن كلاب الشهوة تتبع هؤلاء الزاهدين حتى إلى ذرى فضيلتهم، فتنفذ إلى أعماق تفكيرهم الصارم لتشوش عليه سكينته. ولكلاب الشهوة من المرونة ما تتوسل به لنيل قطعة من العقل المفكر إذا منعت عنها قطعة من اللحم.
ثمة مسحة من التزمت هنا، ولكنها قاسية، خصوصا الجملة الأخيرة، وهي بالنبرة الآمرة بوجه عام في «هكذا تحدث زرادشت» تمثل نوعا من الراحة. ولكن ثمة سطر مهيمن، بعيدا عن تلك النبرة، يدفع في الاتجاه المضاد، وهو ليس ذا طبيعة قمعية، ولكنه يؤكد على الاستحالة والصعوبة، مع النفس قبل كل شيء. هذا ما نتوقعه، بما أن اهتمام نيتشه الأول ينصب على العظمة. أما الراحة والرضا والإشباع الجسدي، فهي أمور معادية للعظمة. وبأية طريقة ستنسب العظمة إلى الإنسان الأسمى؟ يوجه نيتشه دائما بعض الاهتمام على الأقل إلى الإنجاز الفني الإبداعي، ومن ثم قد يتوقع المرء منه أعمالا فنية مذهلة، ولكن في هذا الشأن، كان كتاب «هكذا تحدث زرادشت» خاويا تماما. من غير المجدي بالطبع تأمل أعمال فنية لم تبدع بعد، بعكس تناول الإنجازات العلمية التي لم تتحقق بعد، بما أننا في الحالة الثانية نعلم ما نريد من إجابات عنه. ولكن في حالة الفن لا توجد أسئلة بهذا المعنى. علاوة على ذلك، فإن فكرة وجود مجموعة من «البشر السامين» كلهم من الفنانين تبدو بالفعل سخيفة. ولكن ماذا سيكون شكلهم؟ لا فائدة من التخمين أكثر من هذا؛ لأن نيتشه لا يقدم لنا أية إشارات بهذا الخصوص. في واقع الأمر، يبدو أنه كان عاجزا عن إحراز أي تقدم في هذا الشأن، وعلى الرغم من أنه اشتهر بصياغته المصطلح مثلما اشتهر بأمور أخرى، فإن هذا لا يتكرر في أعماله، باستثناء الاحتفاء بالذات في «هذا هو الإنسان»، حيث يفرد لحديثه عن «هكذا تحدث زرادشت» وقتا أطول من بقية كتبه الأخرى، قائلا: «هنا يجري في كل لحظة تخطي الإنسان، وهنا أصبح مفهوم الإنسان الأسمى الحقيقة العظمى» («هذا هو الإنسان»، «هكذا تحدث زرادشت»، 6).
لكن هذا تفكير محزن قائم على التمني. لقد خضع نيتشه للإغواء المحدق به من جانب صناع المثل؛ والمثل الأعلى بعيد كل البعد عن الواقع البائس لدرجة أن كل ما يمكن عمله هو التفكير في هول الواقع والتفوه بأن المثل الأعلى ليس هكذا. وهنا يتذكر المرء تجسيد سويفت، في روايته «رحلات جاليفر»، لمعشر الياهو المقززين (نحن) ومعشر الهونينم المستحقين للتقدير، الذين يعلق عليهم ليفيز عن استحقاق بأنهم «قد يتمتعون بالقدرة الكاملة على التفكير، ولكن معشر الياهو يتمتعون بالحياة ... البشرة النظيفة لدى الهونينم، باختصار، مشدودة فوق فراغ؛ أما الغرائز والمشاعر والحياة ، التي تعقد مشكلة النظافة والاحتشام، فمتروكة لمعشر الياهو بقذارتهم وعدم احتشامهم.» ثمة تشابه غريب هنا بين الإنسان والإنسان الأسمى، على الرغم من أنه قد لا يكون مفاجئا؛ نظرا للصعاب التي سيصادفها حتما أي شخص يحاول الإشارة إلى مثل أعلى يسمو على الإنسانية ويرفضها.
في جزء سابق من «هكذا تحدث زرادشت» ظهر بديل، أو ربما كان هدفه هو تقديم تفسير تكميلي لتقدم ما يسمى في هذا الكتاب «الروح». إنها أولى خطب زرادشت، التي لم يزل فيها حتى هذه المرحلة غير مرتاح إلى اللغة البلاغية، التي نحكم عليها من ركاكة هذه الفقرة التي تستحث، حسبما يعلق إيريك هيلر، «نوعا من الإزعاج الروحي والحيواني المفرط» («هيلر»، 1988: 71). تبدأ الروح هنا في صورة جمل، والذي يقصد به الإنسان العصري، أرهقه تراكم القيم التي يحملها فوق ظهره، وهو تراث قمعي من الالتزامات والإحساس بالذنب المرهون بحتمية انتهاك الذنوب. يترنح الجمل وهو يمضي مسرعا في الصحراء، ولكنه يتمرد في نهاية المطاف ويتحول إلى أسد، بنية محاربة التنين. يسمى التنين «يجب عليك»؛ وهو لذلك سبب العبء الثقيل الذي لا يحتمل فوق ظهر الجمل. وهو يدعي أن «جميع القيم خلقت منذ أمد بعيد، وأنا كل القيم التي خلقت.» يقاوم الأسد، مصمما على استبدال «يجب عليك» ب «أريد». ولكن على الرغم من قدرة الأسد على القتال، فإن كل ما يستطيع أن يحققه هو الحصول على الحرية من أجل إبداع قيم جديدة؛ فهو لا يستطيع أن يصنع القيم نفسها. إنه يقول «لا» على نحو غير قابل للجدل، وتكون هذه نهايته؛ فقد حقق الغاية الوحيدة التي كان يستطيعها. وهذا واضح حتى الآن. لكن التحول الأخير مفاجأة؛ لأنه يصير طفلا:
لماذا يجب أن يتحول الأسد المفترس إلى طفل؟ ذلك أن الطفل براءة ونسيان، بدء جديد، لعب، عجلة تدفع نفسها بنفسها، حركة أولى، عقيدة مقدسة. إن لعبة الابتكار، أيها الإخوة، تستلزم عقيدة مقدسة، فالروح الآن تطلب إرادتها، ومن هو غريب في العالم لا يشعر بالانتماء إليه، يريد الآن أن يجد عالمه الخاص.
يجب أن يكون هذا، من بين أمور أخرى، نسخة نيتشه من قول المسيح: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات» (إنجيل متى، الإصحاح الثامن عشر، الآية الثامنة عشرة). وفي مواضع أخرى يستخدم نيتشه عبارة «براءة التحول». في اللحظات التي كان يعتريه فيها الإجهاد أثناء الكتابة، كان يلجأ أحيانا إلى صيغ لفظية متناقضة أو عاطفية لأقصى درجة؛ لأنه يعلم أن عنصرا واحدا في التركيب مترسخ بعمق داخلنا لدرجة يصعب معها صرفه، في حين أن الآخر هو ما كان سيحرره، على الرغم من تعارضه الواضح. لهذا فمنذ «مولد المأساة» نسمع عن «سقراط الذي يعزف الموسيقى»، في حين أن نيتشه يصور سقراط في جوهره بأنه معاد للموسيقى. وفي ملاحظة لم تنشر كتب عن «القيصر الروماني الذي يحمل روح المسيح».
هل هذه مجرد محاولات مؤثرة لتغيير المألوف وتحقيق المستحيل، أم تراها تعني شيئا؟ ثمة أسباب مقنعة لاختيار الحالة الأولى؛ لأن نيتشه كان رجلا منقسما على نحو يائس. ولم يسعه إلا أن يعجب بأمور عن سقراط أكثر مما كان يجب عليه. وكما سنرى، فإن كتاب «نقيض المسيح» يخرج تقريبا عن نطاق السيطرة بعد أن اتخذ تصويره ل «الفاسد المثالي» المزعوم منحى غنائيا. وإذا عدنا إلى «هكذا تحدث زرادشت»، فإن موقفه العام تجاه الحياة كان على غرار ما تسميه نوادي الفيديو الآن «للكبار فقط»، ومع هذا فهو مفتتن بفكرة طفل مستغرق كلية في اللعب، فيكون منشغلا ومنهمكا؛ بريئا وفي الوقت نفسه أيضا جاهلا. هل من الجائز أنه كان يريد أن يصبح الإنسان الأسمى مثل شخصية سيجفريد في أوبرا فاجنر، تلك الشخصية التي تربت دون معرفة بالعالم، ومنيت بالفشل لرغبتها إياه؟ يبدو هذا أمرا مستبعدا. فهذه العبارة «بدء جديد» خطيرة؛ لأن نيتشه عادة ما يتميز - بوصفه خبيرا بالفساد - بإدراك أن التغاضي عن عثرات الماضي وأخطائه وبدء صفحة جديدة بيضاء ليس من بين الخيارات المطروحة أمامنا. إذ يجب أن تكون لدينا ذات لنتغلب عليها ونكبح جماحها، وهذه الذات ستكون ثمرة الفكر الغربي كله، التي ستستطيع بطريقة ما «الإلغاء»، وهي كلمة يمقت نيتشه استخدامها، بسبب انتمائها الفعلي إلى هيجل، والتي تعني في الوقت نفسه «المحو»، و«الاستبقاء»، و«الصعود». أليس هذا ما يطالب به الإنسان الأسمى، أو إذا أسقطناه، ما يتعين علينا عمله في أثناء انتقالنا من حالتنا الحالية لكي نتمكن من الوصول إلى «الخلاص»؟ تتسم فكرة الطفل، أو صفة الطفل، بعيدا عن ارتباطاتها المسيحية، بجوانب رومانسية، وهو أمر نستغرب أن يوافق نيتشه عليه. أما العنصر الذي يريد التأكيد عليه، وأزعم تيقني منه، فهو حالة عدم الوعي بالذات التي يتسم بها الأطفال. أما بالنسبة إلينا، أو ما يعتبر تقدما بالنسبة إلينا، فإن تحقيق ذلك الآن أمر يصعب تخيله مطلقا.
وهكذا نعود إلى الإنسان الأسمى باعتبار أنه يتبنى التكرار الأبدي. وقد ثبت أن هذا الأمر هو الأكثر غموضا في جميع آراء نيتشه. فهل ينظر إليه ببساطة كاحتمال، أم كفرضية جادة حول طبيعة الأكوان؟ بالتأكيد هي الحالة الأولى، حسبما يتضح في القسم قبل الأخير من الكتاب الرابع في «العلم المرح». ولكن في دفاتر ملاحظاته، بما في ذلك على وجه الخصوص تلك التي نقحت بعد موته بعنوان «إرادة القوة»، فإنه يحاول إثباتها كنظرية عامة، بناء على واقع أنه لو كان عدد الذرات في الكون محدودا، فإنها يجب أن تأخذ شكلا كانت عليه قبلا، وهذا سيؤدي حتما إلى أن يكرر تاريخ العالم نفسه. ويعد هذا من أقل الجوانب فائدة في تأملاته، وفشله في نشر هذه الأفكار التجريبية مدعاة للابتهاج، أو كان سيصبح كذلك لو لم يصمم الباحثون على دراستها بدقة؛ بحثا عن تلميحات حول ما كان يفكر فيه بالفعل. وقد شجعهم واستحثهم على ذلك انفعاله بالفكرة التي خطرت له في وادي إنجادين السويسري، «ستة آلاف قدم فوق الإنسان والزمان» والتي اعتبرها، فيما يبدو، إحدى تلك الرؤى الحدسية التي يقتنع المرء بعمقها وصدقها، على الرغم من أنه لا يستطيع أن يحدد ماهيتها بدقة.
لم ينظر عموما إلى الرؤية الكونية للمذهب باستحسان. ومع هذا فقد أثار حماس نيتشه تجاه المذهب إعجاب المفسرين كثيرا، أو حتى اسمه بأية حال، لدرجة أنهم يعتمدون على براعتهم في شرح ما كان يقصده به فعلا. وكل ما يسعني قوله هنا أنهم في أثناء محاولتهم شرح هذا المذهب وتقديمه باعتباره فكرة مثيرة للإعجاب، فإن ما ينتجونه يجعل المرء يتساءل عن السبب الذي دفع نيتشه إلى إعطائه تلك التسمية المضللة. باختصار: إذا لم يكن يقصد ب «التكرار الأبدي» تكرارا أبديا، فلماذا لم يسمه بما كان يعنيه بالفعل؟
وهكذا نجد أنفسنا مع نظرية الاحتمال. كان رد فعلي الأولي التصريح بأنني لا أكترث بالارتقاء على نحو مفاجئ إلى حالة الإنسان الأسمى، بناء على الدليل التالي: إذا كانت كل دورة، كما يجب أن تكون، هي بالضبط مثل سابقتها ومثل تاليتها، إذن فلن تكون لدينا معرفة بما حدث، وخصوصا بما فعلناه، في آخر تكرار، ومن ثم لا نستطيع أن نخطو خطوة نحو تفادي تبعات ما كان كارثيا، ولا أن نفكر بفزع أو فرح فيما ينتظرنا تاليا. لو كان التكرار الأبدي صحيحا، فستكون هذه المرة اللانهائية التي أكتب فيها هذا الكتاب، ولكن لن يحدث هذا فارقا يدفعني إلى تغيير محتوياته! هكذا سيبدو الأمر. ولكن بالنسبة إلى الكثيرين ممن ناقشت الفكرة معهم، على الرغم من أنهم يوافقون على أنها لا تستطيع أن تحدث فارقا في أي شيء، فإنهم ما زالوا يرفضون التصريح بأنها لا تؤثر على شعورهم تجاه الأشياء. وحسبما سألني أحدهم مؤخرا: أيهما أسوأ، كون يقع فيه معسكر أوشفيتز مرة، أم كون يقع فيه المعسكر عددا لا نهائيا من المرات؟ يبدو أن الأمر يحتاج إلى شخص عديم الشعور ليقول إنه لا يهم، وهذا أقل ما يقال. فالتكرار، حتى لو لم يكن مهما من الناحية العملية، فإنه لم يزل يستثمر بعبء شديد ما يحدث «بالفعل».
لقد جعل كونديرا من هذا المذهب - فيما يعتبر الآن فقرة شهيرة نسبيا في بداية روايته «الخفة غير المحتملة للكينونة» - جوهر أفكاره المختصرة، والثرية في الوقت نفسه، عن الموضوع:
دعونا لهذا السبب نتفق على أن فكرة التكرار الأبدي توحي بمنظور تظهر من خلاله الأشياء بخلاف ما نعرفها؛ فهي تظهر من دون الظروف الملطفة التي تتسم بها طبيعتها العابرة. وتمنعنا هذه الظروف الملطفة من التوصل إلى حكم. فكيف يمكننا أن ندين شيئا عابرا وسريع الزوال؟ ومع غروب الانحلال وأفوله، يشع كل شيء بهالة الحنين، حتى المقصلة.
كونديرا، 1984: 4
إن المفتاح، أو العبارة الكاشفة هنا، هي العبارة الأولى. والسبب في سيطرة هذه الفكرة على خيالات الناس أنهم يتبنون منظورا خارج نطاق أية حلقة تكرارية، لكي يستطيعوا أن يتصوروه وهو يتكرر مرات ومرات. وقد يكون الانتقال من رؤية النفس محبوسة في الحلقة التكرارية، ورؤية الكل من منظور إلهي، هو ما يولد الحماس، وإحساس العبء المفرط، أو نشوة الرجوع، إن كان المرء مقرا بوجوده في عالم الصيرورة وأنه لا مفر منه.
ما زلت أنزع إلى الشك. فكلاهما لا يحقق لي شيئا، على الرغم من أنني أستطيع أن أقدر الإلهام الذي قدمه إلى كثير من الفنانين العظماء، مثل ييتس في قصيدته «حوار الذات والروح»:
أنا راض بأن أعيشها كلها مجددا،
ومرات ومرات ...
أنا راض بأن أتعقب كل حدث
حتى منبعه بالفعل أو بالتفكير؛
أقيس الكثير، وأسامح نفسي على الكثير!
عندما أطرد الندم
تسري عذوبة هائلة في القلب
علينا أن نضحك وأن نغني،
نحن مباركون بكل شيء،
كل شيء ننظر إليه مبارك.
هذه الأبيات، التي لم يكن ييتس لينظمها لولا قراءته لنيتشه وتأثره به كثيرا، هي أيضا مثال جيد يبين مدى التأثير الذي يمكن أن يتركه نيتشه حتى فيمن لا يملكون سوى فكرة غامضة وغير دقيقة عما يقوله، وذاك أمر يشك المرء في وجوده لدى نيتشه نفسه. كما تحوي هذه الأبيات الكثير مما يبدي نيتشه حماسا شديدا للدفاع عنه، ولا سيما فكرة طرد الندم. ولكنه يتوصل إلى وجهة النظر هذه في كتاباته اللاحقة، ليس عن طريق التكرار الأبدي، وإنما عن طريق التحليلات النفسية المتعمقة لآثار الندم والنظر إلى الماضي بصفة عامة.
ثمة أمر آخر يستحق ذكره باختصار عن التكرار الأبدي؛ لأنه يجعله نوعا من المزاح، على الرغم من أنه لا يعتبر بأية حال من الأحوال من أفضل أفكار نيتشه. وهذا الأمر هو أن التكرار الأبدي محاكاة ساخرة لجميع معتقدات عالم آخر تتسم علاقته بهذا العالم - هذا العالم «الحيواني البراجماتي غير المعقول»، إذا اقتبسنا ييتس مجددا - بالاستعلاء الأكسيولوجي والأنطولوجي. وبدلا من الجنة والنار، أو عالم الصور الأفلاطونية اللامتغيرة، فإنه يوحي بأن هذا العالم أصبح خالدا من خلال التكرار اللاهادف. وبينما تزعم معتقدات من عالم آخر أن هذا العالم يكتسب قيمته فقط من واقع كونه مرتبطا بعالم آخر، يقترح التكرار الأبدي على نحو مستفز أن هذا العالم مجرد من القيمة من خلال عملية مماثلة لتلك التي تتكرر فيها جملة ما إلى أن تصبح مجرد سلسلة جعجعات مزعجة. إذا عدنا إلى كونديرا: ينبع العبء المرتبط بالأحداث من منطلق أنها تحدث أكثر من مرة، في حين أن «المرة تساوي لا شيء» (أو الأفضل من هذا، «جرب أي شيء مرتين»). لكن العبء شيء، والقيمة شيء آخر. يتمكن كونديرا، وهو في هذا الشأن من مريدي نيتشه المخلصين، من عقد جدال ذكي بين الخفة والثقل؛ أي بين المعنى أو القيمة من جانب والجدوى من جانب آخر. هل نقدر، أو هل يجب علينا أن نقدر، أو هل سيكون منطقيا لو سألنا إن كان علينا أن نقدر، شيئا على نحو أكبر بسبب تفرده أم لأنه نموذج يتكرر بحدود تسلسل لا نهائي؟ الإجابة الأقصر هي أن الأمر يعتمد على حالتك المزاجية. وقد كان نيتشه، بمزاجه المتقلب للغاية، ميالا إلى الإجابة بإقرار «كلا الأمرين» وأيضا بنفي «أي منهما».
تدور ثالث تعاليم زرادشت الأساسية حول «إرادة القوة»، التي ترد لأول مرة في فصل بالجزء الأول يحمل عنوان «عن ألف هدف وهدف»، الذي يروي كيف زار زرادشت كثيرا من الشعوب، ووجد أن كلا منها بحاجة إلى تقدير يختلف عن تقدير من يجاوره من الشعوب. ومن ثم، يقول:
علق كل شعب فوق رأسه لوح شريعته، وسطر فيه ما اجتاز من عقبات وما تضمر إرادته من قوة. فما تراءى له صعب المنال فهو موضوع تمجيده والمحمود لديه، وما خيره إلا حاجة ملحة عز مطلبها، فهو يقدس كل وسيلة تمكنه من الظفر بهذه الحاجة.
لاحقا في نفس الفصل، يركز على علاقة القوة بالقيمة: «ما التقدير إلا الإبداع بعينه، فأصغوا إلي أيها المبدعون! ما الكنوز إلا أشياء أرادها تقديركم كنوزا. عبر التقدير فقط تغدو هناك قيمة، ولولا التقدير لما كان الوجود إلا قشورا لا نواة فيها.» ولكن في نهاية الفصل يقول: «لم تعرف البشرية حتى اليوم لها هدفا، ولكن أخبروني أيها الإخوة إذا كانت الإنسانية تفتقر بعد إلى الهدف، أفلا تفتقر أيضا إلى ذاتها؟» سنناقش لاحقا على نحو تفصيلي ارتباط «إرادة القوة» بالقيمة. لكن لم يزل هذا أوضح من الذكر المختصر «لإرادة القوة» في موضع آخر، في فصل بالجزء الثاني بعنوان «الانتصار على الذات»، وفيه يقول زرادشت: «في الواقع، لم يصب الحقيقة ذلك الذي قال ب «إرادة الوجود»؛ فهذه الإرادة لا وجود لها [وهذه ضربة عنيفة إلى شوبنهاور] ... ولا إرادة إلا حيث توجد حياة، ولكن ما أدعو إليه إن هو إلا إرادة القوة، لا إرادة الحياة.»
هذا كل ما يقوله نيتشه بالفعل عن هذا الأمر في «هكذا تحدث زرادشت». ومرة ثانية، نجد - بعبارة أخرى - أن زرادشت نبي محكوم بإبلاغ ما سيكتبه مؤلفه لا بإبلاغ شيء صيغ من قبل ويمكن مناقشته على نحو جاد. ومشكلته أنه يعارض بإصرار وعزم الأنظمة وواضعي الأنظمة، مثلما تبين العديد من الملاحظات. إلا أنه من غير الواضح كيف يمكنه تفادي نظام لو أراد نشر جدول جديد للقيم. وتدفعه هذه المعضلة إلى ارتكاب أسوأ الأمور قاطبة؛ فهو يقدم تلميحات صعبة ممتنعة تجعله مستباحا لتفسيرات عدة ومعرضا لكثير من سوء الفهم. ولكن على الرغم من أن التلميحات توحي بثراء فكري مستتر، فإنها تحرم علينا ونعلم بأننا يجب أن نعارض، إن استطعنا، الأفكار المعبر عنها أمامنا على نحو متقطع يجعلنا لا نعلم حتى ما نعترض عليه. هذا هو التقييم الأشد قسوة ل «هكذا تحدث زرادشت». وثمة تقييمات أخرى أقل قسوة ومبررة يمكن الدفاع عنها. ولكني أفضل الانتقال إلى ما ألفه نيتشه من أعمال بعد «زرادشت»، حيث بلغت قوته عنفوانها، ولم يعد مضطرا إلى أن يتأقلم مع الظهور بمظهر مبجل في عباءته النبوئية.
الفصل السابع
اعتلاء الأراضي المرتفعة
ألف كتاب «هكذا تحدث زرادشت» في أعقاب التجربة الوحيدة الأكثر تدميرا في حياة نيتشه؛ وهي رفض لو سالومي إياه، بعد أن تقدم للزواج بها من خلال صديقه بول ري؛ ليكتشف بعد ذلك أنهما كانا قريبين أحدهما إلى الآخر مما كانا منه. كانت لو سالومي امرأة موهوبة للغاية، وقد أصبحت عشيقة ريلكه قبل أن تصبح لاحقا واحدة من أهم مريدي فرويد، الذي يعبر لها عن تقديره بعبارات ثرية غير معتادة لاكتشافاتها في مجال الإثارة الشرجية. تصور نيتشه باقتضاب علاقة يستطيع في إطارها مواصلة عمله، علاقة تفهمه وتساعده فيها امرأة يستطيع أن يعتبرها ندا له. وثمة صورة فوتوغرافية غريبة، التقطت بإصرار منه، يظهر فيها مع ري وهما يجران عربة، بينما تقف لو داخلها تلوح بسوطها تجاههما. تقدم هذه الصورة تشويها غير متوقع - بغض النظر أكانت هذه العلاقة قد خطرت لنيتشه أم لا - لتلك الملاحظة الشهيرة الواردة في «هكذا تحدث زرادشت»، عندما تقول امرأة عجوز لزرادشت: «هل أنت ذاهب إلى امرأة؟ إذن لا تنس سوطك!»
أهان الرفض نيتشه إلى درجة اليأس التام. وقد كتب يقول لأحد أصدقائه المقربين، فرانز أوفربيك في أعياد الميلاد عام 1882:
هذه «اللقمة» الأخيرة في الحياة كانت أصعب ما اضطررت إلى مضغه حتى الآن، وما زال من المحتمل أن «أختنق» بها. لقد عانيت من الذكريات المهينة والموجعة في هذا الصيف كالمعاناة من نوبة جنون، وما أشرت إليه في بازل وفي خطابي الأخير أخفى أهم شيء. وهو ينطوي على صراع بين عاطفتين متعارضتين لا أستطيع التأقلم معهما. أقصد من هذا أنني أبذل كل جهد لدي، ولكني كنت أعيش في عزلة لمدة طويلة وتغذيت طويلا على «دهوني»، ولهذا أنا الآن محطم، على نحو لا يطيقه إنسان، على عجلات عواطفي الخاصة ... ولو لم أكتشف الخدعة الكيميائية لتحويل هذا السماد إلى ذهب، لضعت . إنني هنا أمام أفضل فرصة لإثبات أنه بالنسبة إلي فإن «جميع التجارب مفيدة، وجميع الأيام مقدسة، وجميع الأشخاص رائعون!»
ميدلتون، 1969: 198-199، الجملة الواردة بين علامتي التنصيص مأخوذة من اقتباس في الطبعة الأولى من «العلم المرح» من إمرسون
وبناء على هذا بدأ كتابة «هكذا تحدث زرادشت»، وساهمت آلامه بلا شك في تلك الحالة المتضخمة التي جعلت من الصعب أحيانا تحمل الكتاب. ولكن بالنظر إلى خيبة أمله ووحدته، كلل مجهوده في أداء الخدعة الكيميائية بالنجاح المثير للإعجاب. وربما كانت عذاباته مسئولة أيضا عن النبرة غير الحاسمة التي طغت على جزء كبير من كتاب «هكذا تحدث زرادشت»، والتي لم ألق إليها بالا خلال معرض ملاحظاتي عنه. ولكن زرادشت عرضة للكآبات والانهيارات والغيبوبة والشعور المعرقل من عدم الثقة بالنفس، وكلها سمات تجعل التماثل بينه وبين مؤلفه أمرا لا مرد له.
تشير التوصيفات التي أطلقها نيتشه على كتابه «هكذا تحدث زرادشت»، باعتباره أهم كتاب على الإطلاق قدم للبشرية حتى وقته، إلى أنه على الرغم من أنه ينتهج الأسلوب الانتقادي في تقديم النصيحة إلى مريديه لكي يطبقوها، فإن نقد الذات لم يرد في كلامه، على الأقل وقتذاك. والأكثر إزعاجا من هذا أن نشر الأجزاء الثلاثة الأولى لم يكن حدثا كبيرا في الحياة الثقافية بأوروبا، وأن الجزء الرابع صدر على نفقة نيتشه الخاصة عام 1885. وهذا يبين إلى أي مدى كان نيتشه أبعد ما يكون عن التوصل إلى فهم دقيق لحالة معاصريه للدرجة التي كان ينبغي أن تسترعي انتباهه على أقل تقدير. لو كانت كتبه السابقة قد شهدت انهيارا سريعا مدويا، فماذا كان عساه أن يحدث لعمل كان أكثر إبداعا من ناحية وأكثر قدما من ناحية أخرى مقارنة بأي شيء أنتجه «فيلسوف» من بعد أفلوطين؟ ما يبدو غريبا هو أن كتابات نيتشه ظلت مستمرة، ولكن غالبا بنفس الحالة التي أحدثتها كتبه التي سبقت كتاب «هكذا تحدث زرادشت». وقد أصر على أن كل الأعمال التي كتبها بعد «هكذا تحدث زرادشت» كانت تفسيرا له وتعليقا عليه، ولكن يبدو أن هذه كانت محاولة لطمأنة الذات بدلا من تقييم صادق لطبيعة هذه الأعمال أو جودتها. فمن جانب، لم يأت على ذكر الإنسان الأسمى مجددا، كما أنه نادرا ما يتحدث عن التكرار الأبدي، أما إرادة القوة فتظهر من وقت إلى آخر. ومن جانب آخر، فإن التطور الحادث منذ صدور أول كتاب له بعد زرادشت، ونقصد «ما وراء الخير والشر»، مرورا برائعته «أصل الأخلاق وفصلها»، ووصولا إلى منشوراته المتدفقة خلال العام الأخير، لم يكن له علاقة من قريب أو من بعيد بأي شيء مذكور أو مشار إليه في «هكذا تحدث زرادشت».
إن ما يدهشني بالأحرى هو أن نيتشه بتأليفه كتاب «هكذا تحدث زرادشت» قد عبر عن الكثير مما بداخله دفعة واحدة، وهذا من حسن الحظ. وعلى الرغم مما قد يبدو من صعوبة في تبرير المحاكاة الساخرة الصادقة والغريبة لنيتشه التي شكلت مواضع الإعجاب التي أشرت إليها في الفصل الأول، فإنها استلهمت كلها من هذا الكتاب ولم يكن ممكنا أن تستلهم من الكتب الأخرى، حيث تمنع نبرتا التهكم والتردد اللتان تستمران حتى النهاية وسط حس القسوة والشجب، احتمالية ظهور معتقد ما. تتطلب جميع كتب نيتشه انتباها كاملا، ولكن للاستفادة من «هكذا تحدث زرادشت» يحتاج المرء إلى أن يتحلى بالمرونة واليقظة، وهو ما لن يقدر عليه سوى قلة من القراء من بعد ما التقوا به من تصريحات مدوية في الصفحات الأولى. ولولا النبي الذي ابتكره نيتشه، لما أتيحت الفرصة لشقيقته إليزابيث لإلباسه رداء أبيض لعرضه على السياح بصفته «النبي الممجد»، بعد أن بلغ حالة متقدمة من الجنون، ولما استطاع أيضا صديقه بيتر جاست أن يقول، بينما كان يوارى جثمان نيتشه تحت الثرى: «ليتقدس اسمك لدى جميع أجيال المستقبل!» عندما كتب نيتشه في الفصل الأخير من كتاب «هذا هو الإنسان»: «يتملكني خوف فظيع من أن تنسب إلي في يوم من الأيام صفة «القداسة»، وبإمكان المرء أن يخمن السبب الذي يدفعني إلى نشر هذا الكتاب «قبل أن يحصل ذلك الأمر» ... لا أريد أن أكون قديسا، بل أفضل أن أكون مهرجا» («هذا هو الإنسان»، «لم أنا قدر»، 1).
لقد تعمد أن يعطي كتابه الأول بعد «هكذا تحدث زرادشت» عنوانا مضللا: «ما وراء الخير والشر»، وأيا كان ما قد يقال من جانب نيتشه أو مفسريه، فإنه يوحي بإعادة تقييم «جميع» القيم، ولا يشير فقط إلى إنسان يستعد لإحلال قيم جديدة محل القيم التي نعتنقها حاليا، على الرغم من تطرف هذا القول. هذا الكتاب هو ما يقدم الحجة المزعومة (الغائبة، إن قرأه المرء بعناية) بأن نيتشه كان مصمما على التخلص من القيم الموجودة في العالم. فلا توجد قيمة يمكن اكتشافها في هذا العالم، ولهذا السبب يجب إكسابه قيمة. ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟ لطالما فعلنا ذلك، حسبما يصر نيتشه، ولكن حتى الآن ليس هذا ما نعتقد أننا كنا نفعله. ويجب إدارة الانتقال من تصورنا بأننا اكتشفنا في الواقع ما نصنعه، إلى الإدراك التام بأن هذا ما نفعله، بأقصى درجات الحذر والذكاء لكي نتجنب السقوط السريع في متاهة العدمية.
صممت اتجاهات الفكر الأولية في «ما وراء الخير والشر» بذكاء من أجل بلوغ أقصى درجات عدم الارتياح تجاه موقفنا مما نعتبره قيمتنا الجوهرية، ألا وهو: الحق. إذا استطاع نيتشه أن يجعلنا نشاركه بعضا من شكوكه حول مصير إرادة الحق لدينا، فسنكون طوع بنانه ننفذ مشيئته دون سؤال؛ لأنه ما من شيء آخر رئيسي يمكننا الاحتكام إليه. إنه أسلوب معتاد لديه في الانتقال من الحق إلى إرادة الحق، أو تفسير علاقاتنا بالعالم من وجهة النظر النفسية. وهو يصوغ الأمر في صورة لغز؛ إذ يعترف بقوله إنه من الصعب التمييز بين أوديب وسفينكس هنا. «لقد سألنا بدلا من ذلك عن «قيمة» هذه الإرادة. افترض أننا نريد الحق: «لماذا لا نريد بدلا منه» الباطل؟ وعدم اليقين؟ وحتى الجهل؟»
لا يبدو هذا شديد الغرابة فقط بسبب التعلق بمجموعة قيم راسخة على مدار آلاف السنوات؛ إذ إن مجرد فكرة الرغبة في الباطل، أي معرفة أن المرء يرغب فيه، تتسم بالحماقة. من المقبول للغاية أن نقول: إن المرء يريد أن يبقى جاهلا بأمر ما ، أو غير مهتم بما قد تكون عليه صورة الحق فيه، فكثيرا ما نفعل ذلك. ولكن القول أو الادعاء بأن المرء يريد الباطل بشأن أمر ما يحمل في طياته تناقضا منطقيا. إنه لشأن يختلف إلى حد ما عن الرضا الخانع بغياب الصرامة التي يبحث بها المرء عن الحق، كما هو حال الجميع تقريبا فيما يتعلق بالأمور المهمة كافة. كما أنه يختلف عن الرغبة في تصديق ما هو زائف في الواقع، على الرغم من أننا لا نعلم ذلك. فلا غرابة في قول: «العديد من معتقداتي زائف»، وهو ما سيتفق معه أي شخص عاقل. ولكن، ثمة غرابة أخرى في قول: «العديد من معتقداتي زائف، بما في ذلك الآتي: ...» ثم يسرد قائمة؛ ذلك لأن المرء حين يقول إن شيئا زائف، فإنما يعني أن يقول إنه لا يؤمن به.
سأسهب في الحديث عن هذه النقطة؛ لأنه يبدو بالفعل أن نيتشه يقترح أننا نستطيع التحقيق في مسألة لماذا نملك إرادة الحق، أي: إرادة الموافقة على قضايا قد تأكدنا من حقيقتها، أو نعتقد أننا فعلنا ذلك. لو كان يعني هذا بالفعل، فقد التبس عليه الأمر. ولو افترضنا أنه لم يكن يعنيه، فماذا كان يعني؟ إنه يواصل (بدهاء مميز) تغيير الموضوع بمعدل قد يفقدنا تركيزنا، لو لم نحترس، تجاه ما يتناوله. ومن ثم، فإنه ينتقل في الجزء الثاني إلى نطاق أوسع من الموضوعات، التي أكثرها بحثا هو «الإيمان بقيم نقيضة» لدى الميتافيزيقي. وهو يشير بذكاء إلى أن الميتافيزيقيين، الذين كان يهاجمهم منذ انفصاله هو نفسه عنهم في «مولد المأساة»، على الرغم من أنهم يميلون إلى الادعاء بأنهم يشكون في احتمالية كل شيء، لا يحققون في احتمالية اشتقاق الشيء من نقيضه. وبما أنهم، على سبيل المثال، ينكرون أن حب الغير يمكن أن ينبع من حب الذات، ونقاء القلب من الشهوة، والحق من الباطل، فإنهم يضعون فرضية «حضن الكون، اللافاني، الإله المخفي، «الشيء في ذاته»»، إذ ما من شيء أقل قوة سيكون كافيا ليكون مصدر قيمنا. بعبارة أخرى، فإن تلك القيم التي لم يستخدمها نيتشه هنا، ولكنه استخدمها كثيرا في مواضع أخرى، ترجع في الأصل إلى أفلاطون. فهناك الزيف، والقبح، والشر (الشهوة) في الدنيا، ومن ثم لا بد أن تنبع نقائضها مما فوق الدنيوي.
على النقيض من ذلك، يشكك نيتشه:
فيما إذا كانت ثمة أضداد على الإطلاق، وثانيا فيما إذا كانت تلك التقييمات وأضداد القيم الرائجة التي طبع عليها الميتافيزيقيون بخاتمهم، ربما ليست مجرد تخمينات سطحية، بل مجرد منظورات مؤقتة ... منظورات أشبه بمنظور الضفدعة المحدود إن صح هذا التعبير المستعار من الرسامين الذين درجوا على استعماله. ومع الإقرار بكل القيمة التي قد يستحقها الحقيقي والحقاني والإيثاري، فإنه سيظل من الممكن في نظر كل حياة أن نضفي قيمة أعلى وأكثر جوهرية على التظاهر وإرادة الخداع والمصلحة الذاتية والشهوة، بل من الممكن كذلك أن يكون قوام ما يجسد قيمة تلك الأشياء الخيرة والمحترمة هو أنها قريبة ومقترنة ومتجانسة على نحو ماكر مع تلك الأشياء الرديئة والمضادة لها ظاهريا، أو هو أنها مماثلة لها ربما. ربما! «ما وراء الخير والشر»، الفصل الأول، 2
إن التخمين بهذا المستوى خطير، ونيتشه لا يكف. إذا عدنا للوراء، فدعونا نلاحظ إلى أي مدى قد غير بالفعل تركيزه منذ الجزء الافتتاحي. ففي الوقت الحالي، نجده يمعن النظر ليس في إرادتنا للحق، وإنما في إرادتنا للتفكير بأن أنواعا معينة من التصريحات حقيقية، تلك التي تتناقض فيها الأشياء التي ننظر إليها بتدن مقارنة بالأشياء التي نعلي قيمتها. وما يفعله هو تقديم الأمثلة، التي يأمل أن نعتبرها مرفوضة ولكننا لا نستطيع دحضها، عن كيفية أن ما نعتبره القيمة الأساسية للحق هو في الواقع مشتق من قيم أخرى أكثر غريزية. إننا ننظر إلى الحق - طبعا لو كنا فلاسفة - بوصفه موضوعا للتأمل الواعي. ولكن، إذا انتقلنا إلى فكرة نيتشه التالية، فإنه يرسخ الجزء الأكبر من نشاط الفيلسوف عند المستوى الغريزي، ويدعي أن الأفكار الواعية للفلاسفة تمليها عليهم أهواؤهم، أو «تخميناتهم، أو بعبارة أوضح مطالب فسيولوجية للحفاظ على نوع معين من الحياة » («ما وراء الخير والشر»، الفصل الأول، 3). يبدو هذا أمرا مؤسفا، ولكن مع هذا، يواصل نيتشه فكرته في جزء آخر مثبط للفكر بقوله:
إن خطأ حكم ما لا يشكل عندنا بالضرورة مأخذا على الحكم. ولعل هذا من الأمور الأغرب وقعا على السمع في لغتنا الجديدة. فالمسألة هي بالأحرى إلى أي مدى يكون الحكم منميا للحياة، ومحافظا على الحياة، ومحافظا على النوع، بل وربما محسنا للنوع؟ ... فأن نقر باللاحقيقة شرطا للحياة يعني بالطبع أن نبدي وبصورة خطيرة مقاومة ضد ما اعتدنا عليه من مشاعر قيمية. والفلسفة التي تجازف بهذا، تطرح نفسها - بهذا وحده - فيما وراء الخير والشر. «ما وراء الخير والشر»، الفصل الأول، 4
تطرح مثل هذه الفلسفة نفسها فيما وراء الخير والشر بقوة نكرانها للأسس التي نبني عليها أحكامنا القيمية. كما أنها - أعتقد كجزء من نية نيتشه للتلميح - تجعلنا علماء أنثروبولوجيا في نظرتنا إلى المشهد الإنساني بأكمله، كي نكون فيما وراء الخير والشر بالصورة ذاتها التي يكون فيها علماء الأنثروبولوجيا المختصون بدراسة القبائل البدائية «فيما وراء» مفاهيم القبائل التي يدرسونها. ولكن هذا يرفعنا في الواقع إلى مكانة أعلى شأنا، نحن الفلاسفة الجدد، حسبما يصنفنا نيتشه ويصنف نفسه في «ما وراء الخير والشر» من خلال العنوان الفرعي «مقدمة لفلسفة المستقبل». أي شخص مهتم بعمل بعيد المنال للغاية مثلما كان نيتشه مهتما منذ أن بدأ «أفكار حول تحيزات الأخلاق» في «الفجر» سيشعر بنفسه يشغل مكانا أعلى وأعلى بينما يدرك أن كل شيء يتعلق بالأخلاق متحيز، ولكن هذا يخلق بالفعل مشاكل خطيرة فيما يتعلق بكيفية بلوغ هذا المنظور السامي للغاية ثم الحفاظ عليه. يمثل نيتشه بصورة ما الوضع العكسي لما يعرف ب «معضلة عالم الأنثروبولوجيا». وهي تدور حول الكيفية التي يمكن بها للمرء فهم قبيلة لا يشاركها مفاهيمها؛ إذ يعني الفهم في جزء منه الاستعداد لتطبيق نفس المفاهيم في نفس المواقف. وإذا كانت اعتراضات امرئ تتسم بنفس شمولية اعتراضاتنا على قبيلة تمارس الشعوذة، بناء على مجموعة من الآراء حول العلاقة السببية بين المناهج والطقوس التي يؤديها بعض أفراد القبيلة، والحالة الناتجة عن بعض الأفراد الآخرين، إذن فيبدو كما لو أننا بصورة ما لا نستطيع فهم ما يجري، أو على الأقل هذا ما فكر فيه بعض علماء الأنثروبولوجيا والمنظرين في هذا الموضوع.
بيد أن نيتشه، في أثناء محاولته لاتخاذ موقف أنثروبولوجي تجاه مجتمعه والعادات الجوهرية في الثقافة الغربية، يواجه محنة مختلفة ولكنها ربما تكون أشد إزعاجا؛ إذ إنه أول من يصر على عدم وجود ما يعرف بالذات الحقيقية التي تستطيع أن ترى العالم بنزاهة، غير متأثرة ببيئتها. وهو أشد تلهفا ليوضح أننا لسنا سوى دوافعنا وذكرياتنا والحالات والميول الأخرى التي يقودنا علم النحو (وما ينبع من علم النحو، والفلسفة، واللاهوت) إلى أن ننسبها إلى فاعل ما، والذي يتضح أنه أسطوري. وهذه الحالات العقلية يحددها المجتمع الذي ننشأ فيه، وصولا إلى مرحلة لا نستطيع فيها أن ننفصل عن ذواتنا لنلقي نظرة على ما يمكن أن نكون عليه لو استطعنا الانفصال عما يشكلنا. وبناء عليه، ما الذي يمكنه من إلقاء نظرة بانورامية على الوضع الإنساني، بما يخول له إصدار أحكام فيما وراء الخير والشر؟
إنه لا يجيب أبدا عن هذا السؤال إجابة مباشرة، على الرغم من أنه بالتأكيد على دراية به. ويكمن الحل الذي يطرحه، أو ما يهدف إلى أن يكون حلا فعليا، فيما أصبح خلال السنوات الأخيرة أحد أشهر آرائه، بفضل ملاءمته للتفكيكيين. فهو لا يؤمن بوجود حقائق دون تفسيراتها، على الرغم من أن أقوى ادعاءاته في هذا الشأن موجود في دفاتر ملاحظاته (التي طبعت في القسم 481 في «إرادة القوة»). وفي أعماله المنشورة، كان أوضح تصريحاته أن «ليس ثمة وجود «إلا» لرؤية من زاوية معينة، «لمعرفة» من منظور معين. وكلما كان لحالتنا العاطفية دور حيال شيء ما، كان «المفهوم» الذي نكونه عن هذا الشيء أكثر اكتمالا، وكذلك «موضوعيتنا» تجاهه» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، 12). وعليه، فإن ما يفسر وما يفسر كلاهما في موقف يختلف عما تنسبه إليهما نظرية معرفية ساذجة. إننا ملزمون برؤية الأمور من وجهة نظرنا ، ولذلك من المفيد تبني أكبر عدد ممكن من وجهات النظر. ولن نبلغ أبدا «الأمور نفسها»؛ وذلك بسببنا، وكذلك لأننا لا نملك سببا للتفكير في أن هذه الأمور موجودة، بالمعنى الذي كان ينسب عادة إلى هذه العبارة.
لم يصغ نيتشه بالتفصيل قط نظريته المعرفية الخاصة، ولا يوجد سبب يدفعنا إلى التفكير في أنه أراد ذلك تحديدا. فكما هي عادته، ينصب اهتمامه الرئيسي على الثقافة، وهو يقول ما يفعله بشأن وجهات النظر - ولكن ليس بما يكفي لتوفير شرح غير جدلي لمنظوره - لكي يؤكد أن معتقداتنا، ولا سيما فيما يخص القيم، ليست مجردة من المكان الذي نشغله في العالم. ولو حاول امرؤ أن يفرض منظوره أكثر من هذا، فسيبدو هذا مريبا للغاية. وهذا بلا شك هو السبب وراء وفرة علامات التنصيص الموجودة حول كلمات مخادعة في الاقتباس عاليه المأخوذ من «أصل الأخلاق وفصلها». ولكن بقدر ما يتعلق الأمر بالقيم، فإنه يوضح بطريقته الخاصة كيف يستطيع المرء أن يتبنى عدة مواقف تجاه مشكلة محددة، دون أن يتمكن أبدا من بلوغ حقيقتها؛ لأن هذا يعني افتراض أنه توجد حقائق في عالم القيم، ومن ثم - أيضا - إعطاء مكانة مميزة للحقيقة التي يصر على المجادلة بشأنها.
ولكن يبدو أن ثمة معيارا واحدا بالفعل يظهر لأول مرة في كتابه الأول ويستمر حتى نهاية أعماله، والذي يحكم به في نهاية المطاف على كل شيء آخر؛ ألا وهو: الحياة. لقد رأيناه يقول في «ما وراء الخير والشر»: إن خطأ حكم ما لا يشكل بالضرورة مأخذا على الحكم، فالمسألة هي إلى أي مدى يكون الحكم منميا للحياة، ومحافظا عليها. وفي نفس العام الذي كتب نيتشه فيه «ما وراء الخير والشر» كتب العديد من المقدمات المختلفة لبعض من كتبه السابقة، من بينها كتاب «مولد المأساة»، الذي ذكرت فيه «الحياة» مجددا بوصفها مقياسا لكل شيء: إن «النظر إلى العلم بمنظور الفنان، وإلى الفن بمنظور الحياة» هو ما يقول عنه في «محاولة في نقد الذات» أنه «المهمة التي تجاسر هذا الكتاب الجريء على تناولها لأول مرة.» ولكن السؤال هنا هو: الحياة في مواجهة ماذا؟ هذا أمر لا يقدم له نيتشه أبدا إجابة واضحة، ليس أكثر مما فعل فنانون وفلاسفة آخرون متميزون. إنه بالتأكيد غير مهتم ب «حجم» الحياة. إنه في الواقع كان يفضل قدرا أقل، ومكانة أسمى. ولكن ما المكانة الأسمى للحياة؟ حسنا، سيتخيل المرء الإنسان الأسمى. ولكننا رأينا أن المرء يجب أن يتخيل الكثير عن الإنسان الأسمى، ذلك الشيك المصدق عليه على بياض الذي يقدمه زرادشت دون أي توجيهات حول كيفية صرفه لنستفيد منه. القوة؟ هذا بالتأكيد جزء مهم، بما أن الحياة هي إرادة القوة. ولكن ليست كل القوة يوافق عليها نيتشه. فلا يمكن ذلك وإلا لوافق على كل شيء. والقوة والحياة، في فلسفته، مصطلحان كثيرا ما يقعان في نفس الإطار المفاهيمي لدرجة أنه بدلا من أن يوضح أحدهما الآخر، يبدو أن كليهما في حاجة إلى بعض الشرح المنفصل.
اتسم جميع العظماء الذين دافعوا عن الحياة بوصفها معيارا مطلقا - ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر المسيح وبليك ونيتشه وشفايتزر ودي إتش لورانس - بالحماس البالغ في إدانتهم لقدر كبير منها، لصالح صور أو تنويعات أخرى أكبر قيمة. وبطريقة ما، يفهم المرء ما يقصدونه جميعا، على الرغم من أن البكتيريا لو استطاعت أن تتكلم لطالبت بلا شك بكل حقها في الحياة مثل الكائنات الأكبر حجما التي كان شفايتزر يتخلص من البكتيريا لصالحها. وما اعتبره الأشخاص الخمسة الذين ذكرتهم أنه «متحيز للحياة» أو «منكر للحياة» يتباين بدرجة كبيرة في العديد من النواحي. ومع ذلك، فلا يبدو أنهم يتشدقون ب «كلام تافه» عند حديثهم لصالح الحياة، على الرغم من الغموض الذي يعتريهم والذي لا يفيد غالبا في اتخاذ أي قرارات. فما يقصده نيتشه غالبا هو شيء أقرب إلى النشاط أو حتى الحيوية. ويتضح هذا على نحو متزايد في أحكامه عن الفن، حيث يكون المقياس، في كتاباته اللاحقة والأخيرة، ما إن كان الفن يعكس إفراطا من جانب صانعه، أو ما إن كان ناتجا عن الحاجة والحرمان. ونظرا لأن فاجنر يعد مثالا للحالة الثانية، فإنه مدان، إذا تبنينا القضية الشائعة.
إنه لمن الواضح على الأقل أن الحيوية شرط ضروري، إن لم يكن كافيا، لموافقة نيتشه على أي شيء في أعماله اللاحقة. فشخصية مثل جوته (بوصفها موضوعا لبعض الأساطير التي ابتدعها نيتشه، بطبيعة الحال) مبجلة بسبب كم الدوافع المتنوعة التي استطاع تنظيمها واستغلالها، خلال حياة تتسم تقريبا بإنتاج منقطع النظير في مجالات شتى ومتنوعة. ومع هذا (إذا عدنا للحظة إلى أسلوبه)، فإن كل ما أنجزه نيتشه يحمل بصمته. لكن ثمة صراع قوي ومزعج يربض أسفل سطح المعيار الذي وضعه نيتشه. يذكر هنري ستاتين - الذي يتمحور كتابه الرائع الذي سبق أن استعرنا منه بالفعل اقتباسا مطولا - جزءا خطيرا منه باقتضاب:
من ناحية، ثمة تنظيم عام يضم كلا من الصحة والمرض، ومن ناحية أخرى، لا يستطيع نيتشه أن يحرم نفسه من إحساس الرضا بعزف سيمفونية الهيمنة القوية على قوى المرض. ومسألة العلاقة بين هذه القوى مرتبطة أيضا بمسألة هوية نيتشه.
ستاتين، 1990: 30
المقصود من ذلك أن نيتشه منجذب إلى نهج الإقرار العام، مثلما يبين التكرار الأبدي، لو كان يبين أي شيء. ولكن حركة التأكيد يجابهها بقوة نفور مستعص من كل ما يصادفه تقريبا، ويقينا وسط معاصريه. ويشبه هذا الصراع إلى حد ما الصراع المرتبط بالحياة: كل الحياة، أم فقط النوع الأقوى والأفضل والأنبل؟
إنه لمن المدهش أن نيتشه - بقدر ما أستطيع أن أتبين - لم يلحظ قط هذا الانقسام الفج في عمله، خصوصا من حيث إنه يجب أن يعكس أزمات خاضها في محاولته للتأقلم مع حياته الشديدة الألم. ويمكن رؤيته أيضا بوصفه تخمينا من أبوللو وديونيسيوس في «مولد المأساة»؛ إذ يمثل أبوللو الحياة بطريقة مقبولة ومحتملة، من خلال إقصاء أعماق العالم السفلي، في حين لا يتجاهل ديونيسيوس شيئا؛ مما يجبرنا على مواجهة الأهوال الجوهرية في الوجود. لو لم يجد نيتشه نفسه مضطرا، لأسباب كثيرة، إلى التخلي عن ميتافيزيقا الفنان في «مولد المأساة»، لأنشأ لنفسه نظاما يحقق العدالة للدوافع المتضاربة الموجودة في تكوينه، بالإضافة إلى تفسير لسبب امتلاكه إياها.
ولكن لم يمر وقت طويل قبل أن يصبح مفهوم «الأسوأ» - الذي يعنى به الأمور التي بالكاد نطيق أن نتحملها - له أهمية مختلفة إلى حد ما بالنسبة إلى نيتشه مقارنة بتلك الأهمية التي بشر بها في «مولد المأساة». فهذا المفهوم في ذلك الكتاب دراماتيكي، أو شيء متعلق في العادة بالمعاناة، وأحيانا بالسعادة، على نطاق بدائي. وإقراره أمر رائع مثلما هو مستحيل تقريبا، إلا لدى التراجيديين العظماء. وهنا يكشف نيتشه على نحو سافر عن فجاجته وقلة خبرته. ولكن بعد اكتساب الخبرات، بل الكثير من الخبرات في وقت قصير، اتضح أنه على الرغم من أن بعضها كان مروعا إلى حد يمكن ملاحظاته، دون مبالغة كبيرة، برعاية ديونيسيوس؛ فإن الغالبية العظمى كانت من ذلك النوع الذي لم يكن مسموحا به في «مولد المأساة»، والذي ترك نيتشه متحيرا؛ فقد كانت عادية وصغيرة وليست أضخم من المعاناة الناتجة عن عدد كبير من لسعات الحشرات. واتضح أن أصعب ما يمكن مواجهته، على الأقل لو كنت مكان نيتشه، هو الابتذال، ذلك ما يعتبر إهانة موجهة إلى الآلهة المتمتعة بالحس الفني لو نسب إلى أي منهم. ومن ثم فهو عاجز عن وضع الصورة الفنية السائدة «بلا منازع» في القرن التاسع عشر، وأقصد الرواية الواقعية، ضمن أي تصنيف فني. كما يوجد، بالطبع، نقيض الرواية، وأقصد الموسيقى غير الغنائية، المزدهرة بطريقة ما وعلى نطاق غير مسبوق في الثقافة الغربية. بيد أن الموسيقى قد لعبت دورها الحقيقي عندما كانت جزءا من التراجيديا. الآن نجد انفصاما مروعا بين الدنيوي، الذي من الواضح أنه غير عرضة لأي صورة من التحول الفني، والموسيقى «الخالصة» التي لم تتلوث روعتها وبؤسها ب «الواقع». وقد أدت محاولة دمجهما معا إلى خداع فاجنر، وهو الأمر الأشد إيلاما؛ لأنه الأكثر تضليلا، في الظواهر المعاصرة. ولا يظهر أي شخص آخر في الأفق ليوحد ما كان يجب ألا ينفصل أبدا. (يعتبر تصريح نيتشه في اللحظة الأخيرة عن عبقرية بيزيه في أوبرا «كارمن» سخيفا، بالنظر إلى جدية الموقف . كان نيتشه بحاجة إلى عمل يموج بالأهمية والدلالة، في حين أن «كارمن» - حسب ما يرى أدومو - ترفض بعناد نسبة معنى إلى أي حدث.)
يقول زرادشت في مرحلة ما بالجزء الثالث، عندما يعود مؤقتا إلى موطنه الجبلي لاستعادة نشاطه:
أما هنالك في الأسفل فكل قول عبث. وهنالك، خير حكمة هي النسيان وصرف النظر، «وهذا» ما تعلمته الآن. وإذا ما أراد أحدهم أن يفهم كل شيء متعلق بالبشر، فإن عليه أن يتشبث بكل شيء، ولكن يداي الطاهرتان أنقى من أن تمتد إلى تلك الأشياء. لقد تملكني الاشمئزاز من رائحة أنفاسهم، فوا أسفاه على زمن طويل قضيته بين صخبهم وأنفاسهم الكريهة! «هكذا تحدث زرادشت»، الجزء الثالث: «العودة للوطن»
ويواصل حديثه المروع عن الثرثرة الفارغة الحتمية التي صادفها أسفل الجبل. وكان هذا رد فعل نيتشه المعتاد - وأنا متأكد من ذلك - تجاه البيئة الحضرية المحيطة به. ولكن إقصاء الحياة الإنسانية كلها تقريبا كانت خطوة غريبة بالنسبة إلى المقر غير المؤهل. ويبدو أنه يحاول تجنب ما لمحه بوصفه تضاربا في منظوره بالحديث عن «النسيان وصرف النظر»، تماما مثلما قال في مطلع الكتاب الرابع من «العلم المرح»: «ليكن إنكاري الوحيد هو «صرف النظر».» ولكن ماذا لو كان ما يجب أن تصرف نظرك عنه موجودا في كل مكان لدرجة أنك ستضطر إما أن تعيش في زنزانة أو أن تتخلى عن العالم وتصعد إلى كهفك الجبلي؟ يبين هذا يأسا أشد ضراوة من الاختلاط بالتفاهات وشجبها. وعندما وردت هذه الفكرة في ذهن نيتشه، أو ما يشابهها، قرر بدلا من ذلك أنه بطريقة أو بأخرى سيقر كل شيء ويقبله على علته. ومع ذلك، فلا شيء يسترعي الإعجاب في فلسفة تقوم على إقرارات لا نهائية والتي تبدأ بالحكم على معظم الأشياء بأنها أمور محظور الخوض فيها. هذا ما يدركه زرادشت عندما يقول: إن الاعتراض الأكبر على التكرار الأبدي هو فكرة أن الإنسان الضئيل سوف يتكرر. ويصوغ نيتشه هذا ببصمته الخاصة المحملة بالسخرية اليائسة في كتاب «هذا هو الإنسان»، حيث كتب يقول: «أقر بأن الاعتراض الجوهري على التكرار الأبدي، وهو فكرتي الأساسية في واقع الأمر، يتمثل دائما في أمي وأختي» («هذا هو الإنسان»، «لم أنا على هذا القدر من الحكمة»، 3، أخفت إليزابيث هذه الفقرة ولم تنشر إلا في ستينيات القرن العشرين).
توجد أيضا مشكلة أخرى حول إقرار كل شيء وقبوله على علته. فعلى الرغم من أن نيتشه كانت تجذبه صيغ مثل «حب القدر»، فقد كان أيضا واعيا بفتورها شبه الحتمي. إذ ليس ثمة فارق يسهل رصده بين الإقرار والاستسلام؛ أو بالأصح، يمكن للمرء أن يقول إن وسيلتهما مختلفة ولكن يصعب معرفة نتيجة ذلك على نحو عملي. هل هي مسألة اهتمام في مواجهة اللامبالاة؟ وهل هذا يكفي؟ إن إقرار الحياة وقبولها بكل ثرائها، والذي يتضمن بوجه عام كل فقرها، لا ينطوي - حسبما أرى - على عمل أي شيء محدد بالفعل. وإنما ينطوي في الغالب على تبني موقف يرحب بأي شيء يصادفه ويقبله. ولكن لو كان ما تجده بوفرة هو الضآلة والقذارة الروحية، فسيبدو أنه مطلوب من المقر التدخل وتحسين إيقاع العالم. وهذا هو أساس التهمة في اعتراض أدورنو الذي عبر عنه باقتضاب لنيتشه (أدورنو، 1974: 97-98). كما أن هذا هو ما يعتمل في خلفية صفقة عظيمة تضم نيتشه نفسه، لم يعبر عنها بذكاء في عمل آخر سوى «ما وراء الخير والشر». ويعني هذا أنه مضطر إلى التحرك مرة أخرى، مدفوعا بالتناقض المطروح في أحد الكتب ليتخذ قرارا بشأنه في الكتاب التالي؛ وهي الحركة النمطية التي دفعته من عمل إلى آخر (راجع بيتر هيلر، 1966). ولكن على الرغم من أن كتابه التالي هو الأعظم، فإنه يفشل في تخفيف وطأة الصراع، بسبب صراحة نيتشه العنيدة، بل وفي الواقع يزيد الأمر سوءا، ويترك الكتب التي ألفت في العام السابق (1888) لتتأرجح بين اللعنات غير المسبوقة والتمجيد الجنوني.
الفصل الثامن
مفهوم السادة والعبيد
وضع نيتشه عنوانا فرعيا لكتاب «أصل الأخلاق وفصلها» باسم «مناظرة جدلية»، وفي الصفحة التالية أعلن أنه «تكملة لكتابي السابق، «ما وراء الخير والشر»، تهدف إلى الإضافة والتوضيح.» وهو يتخذ طابعا مختلفا عن أعماله الأخرى، على الأقل من الناحية الظاهرية، من حيث إنه يتكون من ثلاثة مباحث معنونة، ومقسمة إلى أقسام طويلة إلى حد ما في بعض الأحيان. وهو يشبه المقال الأكاديمي، ولكن هدف نيتشه من هذا هو إثارة حفيظتنا. والأفضل النظر إليه بوصفه محاكاة ساخرة للإجراءات الأكاديمية، على الرغم من أنه عمل شديد الجدية، إذا نظرنا إلى محتواه. ويمكن تصنيفه بسهولة بوصفه أكثر النصوص التي ألفها نيتشه تعقيدا، على الأقل فيما يتعلق بالمبحثين الأولين، حيث يعرض تحولات جدلية بمعدل ليس بوسعه إلا أن يمنع المبدع من السقوط في فخ الفوضوية.
جدير بالذكر أن فرويد، بعد أن سمع إدوارد هيتشمان يقرأ مقتبسات من «أصل الأخلاق وفصلها» عام 1908، قال: إن نيتشه «يملك معرفة ثاقبة بذاته أكثر من أي شخص آخر عاش أو سيعيش على الأرض» (جونز، 1955: الجزء الثاني، 385). وبما أن «أصل الأخلاق وفصلها» هي محاولة نيتشه الأعمق والأدوم لفهم المعاناة والكيفية التي يحاول بها الآخرون فهمها، فليس من المستغرب أن يتقد حماس فرويد تجاه هذا الإطراء الرائع، وهو الشخص الذي كرس حياته على نحو مختلف جذريا لنفس الهدف. وتعتبر التداخلات المذهلة في «أصل الأخلاق وفصلها»، التي تتجلى أحيانا بتناقض صارخ، هي نتاج تفكير نيتشه الدائم في الأساليب المتنوعة التي ابتدعها الناس للتأقلم مع المعاناة. وبناء عليه (إذا استبقنا أحد أساليبه في التفكير)، يفرض الزاهد نوعا من المعاناة على نفسه لكي يهرب من العديد من الأنواع الأخرى. ولا يمكن الحكم على هذا الأمر في حد ذاته. ولكنه عندما يبدأ في المبحث الثالث، بعنوان «ماذا تعني المثل الزهدية؟» في فحص أنواع الزهد التي يمارسها الفنانون والفلاسفة والقساوسة وأتباعهم، تكثر التقييمات وتتداخل بحيث يوحي تعقيدها بأن نيتشه قد وصل إلى نقطة الدهاء، المتنكر غالبا وراء قوة التعبير البسيطة، التي تثبت أن الظواهر لم تعد قابلة للترتيب المعقول.
ينتقل الكتاب ككل من بساطة التناقضات التي تدفع - من حيث الشكل والمضمون - إلى الشك، إلى انهيار التصنيفات التي تحوم حول الغموض. تدور الفرضية الأولية؛ «الطيب والخبيث»، في المبحث الأول بعنوان «الخير والشر»، حول «النبلاء»؛ أولئك المخول لهم أن يصبحوا مشرعين للقيم بموجب وضعهم، والذين «اعتبروا أنفسهم طيبين وحكموا على أفعالهم بأنها طيبة؛ أي إنها أفعال من الدرجة الأولى، في مقابل كل ما هو منحط ودنيء ومبتذل وسوقي. وهم إنما انتحلوا لأنفسهم هذا الحق في ابتداع القيم وصياغة أسماء لها، من علياء ذاك «الشعور بالفوارق» بينهم وبين الآخرين؛ إذ ماذا كانت تهمهم المنفعة!» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الأول، 2). هنا يوضح نيتشه تماما قوة أخرى تتسم بها عبارة «ما وراء الخير والشر»؛ إذ يقال عنهم الآن: إنهم مندرجون تحت تصنيف العبيد، الذين ينظرون إلى أسيادهم بوصفهم أشرارا، ويحددون «الطيب» بناء على ما ليس فيهم. على النقيض من هذا، يعرف النبلاء الأصليون أنفسهم أولا، ثم ينعتون كل ما يفتقر إلى صفاتهم ب «الخبيث». من الواضح أن نيتشه يرى أن الإجراء الثاني أفضل من الأول، وهو بالضرورة رد فعل ناتج عن الإنكار. وما يعيب هؤلاء النبلاء البدائيين هو أن بساطة تعاملهم مع الحياة تجعلهم مملين. فبما أنهم موفورو الصحة على نحو مفسد للأخلاق، وغير مبالين بالمعاناة، وغير مهتمين بإدانة أولئك الذين يناقضونهم، يصبحون مبتدعي قيم دون أن يتمتعوا بأي من العناصر المطلوبة لجعل التقييمات أمرا يستحق العناء.
في «ما وراء الخير والشر»، شدد نيتشه مرارا وتكرارا على أهمية التقييم اليقظ؛ فالحياة تعتمد عليه. ولكن كيف يحقق فائدته في نفس الوقت بوجود الإقرار غير المقيد الذي يبدو أحيانا أنه القيمة الإيجابية الوحيدة، والذي اقترب منه النبلاء كثيرا من قبل؟ يعود بنا هذا، حسبما يجب أن يحدث، إلى التناقض في «ما وراء الخير والشر». فالحياة من دون ندم أو حنين، على سبيل المثال، تبدو رائعة بطريقة ما. ومع هذا، كيف لا يندم المرء على الوقت المهدر والفرص الضائعة والفشل، علاوة على السعادة التي لا يمكن للمرء الاستمتاع بها مجددا؟ وكيف يمكن للمرء أن يتجنب، خلال هذا الندم، الخوض في الكثير من المقارنات والتناقضات، التي هي أسس التقييم؟ بصفة عامة، يبدو أن بعضا من أكثر كلمات زرادشت ثراء بالمعاني التي تحسم تلك المسألة:
وتقولون لي أيها الأصدقاء: إنه لا جدال في مسائل الذوق والألوان؟ لكن الحياة بأسرها نضال من أجل الأذواق والألوان. وما الذوق إلا الموزون والميزان والوازن، فويل لكل حي يريد أن يعيش دون نضال من أجل الموزونات والموازين والوازنين! «هكذا تحدث زرادشت»، الجزء الثاني: «عن ذوي المقام الرفيع»
وهكذا، فمن الواضح أن النبلاء، أو «الأسياد» الأصليين، ليسوا بالنسبة إلى نيتشه موضوعا واضحا للإطراء. وبالمثل، فإن «العبيد»، أولئك الحانقين على الأسياد، من المرجح بدرجة أكبر أن يقدموا إجابات مشوقة خلال استفساراتهم المجدة حول مصادر شقائهم. ولكن الإجابات تزداد تشويقا، وأي احتمالية للبساطة البطولية تضيع. وبما أنه لا يوجد سؤال سوى ذلك السؤال المفقود، بلا عودة، فإننا البشر اللاحقين الفاسدين يجب أن نتحلى بالشجاعة الناتجة عن تأخرنا ونواصل الجدال أينما قادنا. ولكي نختصر على نحو صارم موضوعات نيتشه الأكثر شيوعا (إذ من المتعذر محاولة اختصار «أصل الأخلاق وفصلها») نقول: اكتشف العبيد أنهم باتسامهم بقدر أكبر من التهذيب يفوق أسيادهم (وهو عمل غير صعب)، فإنهم يستطيعون ممارسة إرادة القوة بطرق فعالة، وإن كانت حقيرة من منظور النبلاء، بل وحتى إلى درجة إقناع الأسياد بقيمهم الخاصة، في نهاية المطاف. وكان هذا هو الارتقاء الحتمي من اليهود المستعبدين إلى المسيحية، أعظم انقلاب أخلاقي حدث على الإطلاق. وهذا ما يمكن رصده، من بين العديد من الأمور الأخرى، في المبحث الثاني، ««الذنب»، و«الضمير المتعب»، وما شاكلهما.» عندما أدان المسيحيون القيم الدنيوية مثل الكبرياء والرفاهية والرضا تجاه الذات، واستبدلوا بها الاحتشام والتواضع وغيرهما، نجحوا في جعل حكامهم بنفس ضآلتهم. ولكن لكي يحققوا هذا غرسوا قيما احتوت في داخلها على بذور دمار المسيحية نفسها. ويقتبس نيتشه قرب نهاية «أصل الأخلاق وفصلها» إحدى أكثر الفقرات إقناعا والمأخوذة من الكتاب الخامس من «العلم المرح»:
إنها الأخلاق المسيحية نفسها. مفهوم الصدق الذي طبق بصرامة أكثر فأكثر. إنها دقة الشعور المسيحي وقد شحذها الاعتراف وتسامت أخيرا إلى وعي علمي، إلى وضوح فكري بأي ثمن كان . إن النظر إلى الطبيعة بوصفها برهانا على طيبة الإله وعنايته، وتأويل التاريخ من أجل مجد سبب مقدس بوصفه شهادة مستمرة على الغائية الأخلاقية للنظام الكوني ... هذا كله يبدو أنه قد «ولى» من الآن فصاعدا، هذا شيء «مناقض» للضمير ... «العلم المرح»، 357
ويواصل نيتشه حديثه في «أصل الأخلاق وفصلها» بإحدى أروع فقراته:
جميع الأمور العظيمة تفسد من تلقاء نفسها بفعل ضرب من «الانتصار على الذات». هذه سنة الحياة؛ سنة «الانتصار المحتوم على الذات» التي تنبع من جوهر الحياة. ولا بد أن ينتهي الحال دائما بالمشرع إلى أن يسمع يوما هذا الحكم المبرم: ينبغي عليك أن تخضع للقانون الذي اقترحته بنفسك. هكذا أسقطت المسيحية نفسها بوصفها عقيدة ثابتة تحت وطأة أخلاقياتها الخاصة. هكذا كان على المسيحية بأخلاقياتها أن تسعى إلى حتفها. وها نحن الآن على أعتاب هذا الحدث. «أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، 27
وتدور تعليقاته الأخيرة في هذا الكتاب حول سقوط الأخلاق التي سيطرت عليها المسيحية، مع اكتساب إرادة الحق وعيا ذاتيا.
ملحوظة: يتحدث نيتشه هنا عن «جميع الأمور العظيمة» ثم يصف كيفية تدمير المسيحية لنفسها. يعتبر كتاب «أصل الأخلاق وفصلها» أكثر كتب نيتشه اتزانا، ليس بفضل رصانة أسلوبه - إذ لم يعد نيتشه مهتما بذلك - وإنما بفضل كثرة استخدام التناقضات وإعطائها حقها، لكي يدير معركة، أو بالأحرى أكثر من معركة، يستمتع فيها بتسليح كلتا الجبهتين بأكبر قدر ممكن وتكريس كل المساعدة التي يستطيع تقديمها ليمكنهما من التعارك وصولا إلى حل. وهذا يمكنه من الانغماس في التحيز المدروس في كتبه الأخيرة. يمثل كتاب «أصل الأخلاق وفصلها» استرجاعا مبدعا للماضي ونقطة مغادرة تنقله إلى مرحلته التالية، التي انقطعت فجأة.
هذا البعد الاسترجاعي في الكتاب هو ما يكسب مبحثه الثالث «ماذا تعني المثل الزهدية؟» بنيته الغريبة، مبتعدا كثيرا فيما يبدو عن الموضوعات التي كان يثيرها في السابق؛ إذ يجري فيه نيتشه استطلاعا حول ما تعنيه المثل الزهدية بالنسبة إلى جماعات شتى من الأفراد ما داموا مهمين بالنسبة إليه، في ضوء معاناتهم التي جلبوها على أنفسهم. الحياة مروعة على أية حال، فلماذا نزيدها سوءا بممارسة الزهد، تلك الزيادة الطوعية لما قد يتوقع المرء أن يتجنبه الناس؟ إن المعاناة الطارئة فقط، التي تحل بنا دون تفسير، لا تحتمل. ولكن لو سببناها لأنفسنا لأمكننا فهمها، وتوسيع فهمنا للحياة كلها.
الفنانون هم أول من يتم إمعان النظر بشأنهم. لكن سرعان ما يتحول هذا إلى تدبر لأمر فاجنر (وهو الأمر الذي لا يفاجئ نيتشه كثيرا)، الذي نظر إليه نيتشه بوصفه اعتناقا للعفة في سنه المتقدمة. خلال ذلك يقول نيتشه: «من الأفضل أن يفصل الفنان عن نتاجه إلى درجة تجعل من المتعذر النظر إليه على محمل الجد بمثل ما ينظر إلى نتاجه ... والحق أنه لو كان مجبولا على هذا النحو، لما كان بوسعه أن يتصور ويتخيل ويعبر. فنان مثل هوميروس ما كان باستطاعته أن يبتدع «أخيل»، ولا كان باستطاعة جوته أن يبتدع «فاوست»، لو أن هوميروس كان أخيل أو جوته كان فاوست» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، 4). الخلاصة هي أن الفنان يفتقر إلى الضمير، ويتبنى أي موقف ينمي به عمله. وهو يستغل خبرته بهدف الإبداع، وهو ما قد لا يكون مرتبطا ب «الحق». «ما هو، إذن، ذلك المعنى الذي ينطوي عليه كل تطلع للمثل الزهدية؟ بالنسبة إلى الفنان، كما نرى، لا يوجد أي معنى!» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، 5). وبما أن نيتشه قد قال في مستهل حياته المهنية إن «الفن هو النشاط الميتافيزيقي الحقيقي في هذه الحياة» ثم هجر الميتافيزيقا، فهو ليس ميالا إلى التفكير بأن ثمة أية علاقة وطيدة بين الفن والواقع. وفي ملحوظة لاحقة كتب يقول: «أن يقول الفيلسوف: إن «الطيب والجميل شيء واحد» لهو عمل شائن؛ وإذا واصل بإضافة «الحق أيضا»، فعلى المرء أن يجلده. فالحق قبيح. ونحن نملك الفن خشية أن «نفنى بسبب الحق»» («إرادة القوة»، 822). ومع هذا، فدائما ما ينظر إلى الفن بوصفه مثالا للنشاط الإنساني. ومن ثم يبدو أن الفنانين - كتناقض آخر لم يتم تناوله - شخصيات شكاكة بطبيعتها، في حين أن الفن هروب من الحق يحافظ على الحياة، وكثيرا ما يطرح - بالتأكيد من خلال فاجنر - بوصفه الحق. أي فنان يحاول فقط أن يقدم تقريرا عن الواقع هو مدان على نحو صريح. وما عدا هذا النمط من الفنانين، فإن الباقين «كانوا في كل زمان خدما لفضيلة أو لفلسفة أو لديانة ما» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، 5). وبقدر ما يمكن فهم المثل الزهدية، «دعونا نتخلص من الفنانين» (المصدر السابق).
ينتقل نيتشه بعد ذلك إلى الحديث عن الفلاسفة. لكي تكون فيلسوفا فإنك تمارس الزهد لمصلحتك الخاصة. ولكن الزهد هنا لا يعني أكثر من كون المرء، في المقام الأول، عاقد العزم على هدف واحد يستقطب كل قواه ويحرم نفسه من متع عديدة من أجل هذا الهدف المنشود بكل عزم، في حين أن «الإجبار» على الزهد هو نتيجة الخوف من احتمالية الاستمتاع بالحياة؛ لأن المرء لا يستحق هذا. فثمة زهد بالاختيار وزهد بالإجبار، وكلاهما ظاهرة منفصلة تماما. أولئك الذين يمارسونه بتوصية من القساوسة لا يمارسونه لتحقيق أي خير يعتبر مطلبا أساسيا له؛ وإنما لأن الإحساس بالذنب الذي غرسه القساوسة في نفوسهم يدفعهم إلى مضاعفة المعاناة التي يستحقونها؛ تلك القسوة الشنيعة التي تفسر لهم السبب في كون الحياة مؤلمة بتوجيه المزيد من الألم لهم؛ فهم مسئولون عن معاناتهم الخاصة.
من الواضح أن مثل هذه الظاهرة الغريبة تثير دهشة نيتشه وتروعه، تماما مثلما تدهشه قدرة الناس على تجاهل الأمر برمته والانغماس في حالة من البؤس الأرعن. «الإنسان هو الحيوان المريض»، ولكن يبدو أن جميع العلاجات المتوافرة قد جربت وثبت فشلها. وهذا يفسر نفاد صبر نيتشه المتزايد، والمتجسد في نصوصه النثرية الشديدة الإيجاز في عامه الأخير، وتوقه للثورة الشاملة. ومع اشتداد قسوة معاناته الخاصة، التي ازدادت بالفعل بمعدل مخيف خلال عامي 1887 و1888، عاد نيتشه غير قادر على تحمل أي رأي يحاول بأية طريقة إكسابها معنى، وبهذه الطريقة كان ينظر إلى الأخلاق خلال هذه الفترة باعتبارها ليست أكثر من مجموعة من الخطوات المتكررة البارعة إلى حد مخيف لإقناع الناس بأن السلوك القويم والنجاح أمران مرتبطان . وفي نهاية كتاب «أصل الأخلاق وفصلها» يمنح نفسه الأمل بأنه «ما من شك بأن الأخلاق سوف تذوي بالتدريج.» ولكنه لا يمكن أن يكون قد صدق هذا؛ إذ إن الجانب الأكبر من «أصل الأخلاق وفصلها» خصص لعرض الطرق الواسعة الحيلة على نحو غير محدود التي يحاول بها الكهنوتي، الذي لا يحتاج بالطبع أن يكون في خدمة الكنيسة، أن يحافظ على استمرارية الأخلاق. وكلما تناقصت أعدادنا - من دون المسيحية ثمة احتمالية بأن تزيد أعدادنا، ولكن الاحتمالية الأكبر أننا سنتشبث بأخلاقنا المبنية على المسيحية، مدعين أنها تحتاج فقط إلى بعض التعديلات الطفيفة لتحقيق الجنة على أرض النفعية - فقدنا حتى القدرة على إدراك العظمة، مفترضين أنها لم تعد ممكنة. لقد انتصرت أخلاق العبيد! ونحن قانعون بأن نكون عبيدا حتى لو لم يوجد أسياد. ويلخص القسم الأخير الرائع من «أصل الأخلاق وفصلها» هذا كله دون تبسيط أو فجاجة:
الإنسان، الذي هو أشجع الحيوانات وأشدها تمرسا بالشقاء، «لا» يرفض الشقاء بحد ذاته؛ إنه «يريده»، بل هو يسعى إليه، شريطة أن يكشف له عن معنى هذا الشقاء وعن «سبب» لزومه. فاللعنة التي ناءت بكلكلها على البشرية هي خلو الألم من المعنى، «لا» الألم بحد ذاته؛ «والمثال الزهدي يعطي لهذا الألم معنى!» وهذا المعنى ظل حتى الآن المعنى الوحيد. يظل وجود المعنى أفضل من عدم وجود أي معنى على الإطلاق ... لكنه قدم للإنسان فرصة «للخلاص»، وأصبح للإنسان معنى، لم يعد مثل ريشة في مهب الريح ... أصبح بوسعه الآن أن «يريد» شيئا ما، بعد أن كانت لا توجد أية أهمية لما يريد، إذ لماذا كان له أن يريد هذا الشيء بدلا من ذاك؟ باسم ماذا، وكيف؟ أما الآن، «فقد أنقذ الإرادة نفسها».
يستحيل على المرء أن يتجاهل طبيعة الإرادة ومعناها التي منحها المثال الزهدي توجهها؛ هذه الكراهية الموجهة نحو ما هو بشري، فضلا عن الكراهية الموجهة نحو ما هو «حيواني»، وفضلا أيضا عن الكراهية الموجهة نحو ما هو «جماد». هذا الارتعاب الشديد من الحواس، بل حتى من العقل، هذا التخوف من السعادة ومن الجمال، هذه الرغبة في الهروب من كل ما هو سفور وتغير وتحول وموت وتمن ورغبة؛ كل هذا يعني - ولنتجرأ على استيعابه - «إرادة عدمية»، وموقفا عدائيا تجاه الحياة، ورفضا للتسليم بشروطها الأساسية. لكنها على الأقل «إرادة» ما! ... وفي ختام حديثي أكرر ما سبق لي أن قلته في البداية: إن الإنسان يفضل أن تكون له «إرادة العدم» على «ألا» تكون له إرادة بالمرة. «أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، 28
بهذه الكلمات يختم نيتشه آخر كتبه الشديدة الابتكار التي ألفها على الإطلاق. ومن المثير للدهشة مدى البهجة فيه، على الرغم من عدم احتوائه على أية رسالة أمل تقريبا. بيد أن التشخيص المطروح في هذه المرحلة يفاجئ المرء - على الرغم من وهميته - بوصفه منتصف الطريق نحو العلاج.
الفصل التاسع
تعاطي الفلسفة قرعا بالمطرقة
كان عام 1888، وهو آخر السنوات التي تمتع فيها نيتشه بسلامة العقل، عاما خصبا للغاية، وإن كان على نحو متزايد الغرابة. لقد بدأ ما كان سيعتبر أهم كتبه، «إعادة تقييم جميع القيم»، ثم تركه، ليس بسبب تدهور قواه العقلية - مثلما قد يشك البعض - وإنما لأن نيتشه وجد نفسه في النهاية تائها. لا بد وأن العبارات الشائعة حول عودة البراءة وميلاد الوعي الجديد وما شابهها قد بدت له جوفاء لعجزه عن تجسيدها في صورة فنية. وعليه، فقد كرس نفسه للمزيد من المجادلات التي كتبت بأسلوب شديد الوضوح حتى هو نفسه لم يحققه من قبل. إنه لمن الخطأ تماما أن ندعي، مثل بعض المفسرين، أنه قد قلل من قدر ما كان يقوله باختزاله إلى شعارات.
ومع هذا، سبغت هذه المجادلات مرارا وتكرارا بصبغة رثائية، وهو يصفي الأجواء مع الأعلام التي شغلت باله طوال حياته. فثمة كتيبان عن فاجنر، الذي لم يستطع قط أن يتخلص من تأثيره عليه، سواء أكان على المستوى الشخصي أم الفني. اتسم أولهما، بعنوان «قضية فاجنر»، بالدهاء والسخرية، وكان تأثيره الإجمالي - حسبما أشار أذكى مفسريه، مثل توماس مان - ذا مسحة مديحية معكوسة على نحو غريب. ولكن جانبا كبيرا من المديح لم يكن حتى معكوسا. وعندما ألقى نيتشه نظرة عامة على مجمل خبرته الفنية ككل، فإنه يبدو أن هذا الكتيب في نهاية المطاف كان العمل الذي يهمه أكثر من غيره، مثلما كان الحال مع «تريستان وإيزولد» في «مولد المأساة». ومما لا شك فيه أنه لم يستطع قط كتابة أي شيء أكثر بلاغة من وصف تأثيراته عليه، حتى ذلك الوقت. ويمكن بسهولة استغلال الهجوم على فاجنر بوصفه شخصا فاسدا، مصورا بأبعاد أسطورية شخصيات تنتمي لفلوبير، من أجل «مغالطة الشخصنة»: «ففي تحول فاجنر إلى العظمة، لا يبدو أنه كان مهتما بأية مشكلات باستثناء تلك التي تشغل الآن بال فاسدي باريس. إنه دائما على بعد خمس خطوات من المستشفى. جميع المشكلات مشكلات عصرية تماما، و«عاصمية» للغاية. لا شك في هذا» («قضية فاجنر»، 9). وبالنسبة إلى نيتشه؟ إنه بالتأكيد يدير الإجراءات داخل المستشفى.
المجادلة الثانية المناهضة لفاجنر، في كتاب «نيتشه مقابل فاجنر»، هي مجموعة من الأقسام المأخوذة من كتبه السابقة، بداية من «إنسان مفرط في إنسانيته» ووصولا إلى «ما وراء الخير والشر»، بتعديلات بسيطة. ويصفه فالتر كاوفمان وصفا غريبا بأنه «ربما يكون أجمل كتب نيتشه»، وليس منبع الاستغراب هنا أننا نقصد أنه لا يحتوي على فقرات جميلة، ولكنه عبارة عن مختارات أدبية أكثر منه عملا منظما، كما أنه - على أية حال - يتكون من عشرين صفحة فقط. وكغيره من الكتب، فهو جزء من نهج نيتشه في تحويل نفسه إلى أسطورة، والذي يمثل فيه نفسه بوصفه «مدانا في نظر الألمان»، في وجود فاجنر باعتباره نقيضا واضحا لبقيتهم، إلى أن يصيبه هو أيضا نفس المصير ف «ينهار فجأة، عاجزا ومنكسرا، أمام الصليب المسيحي» (نيتشه مقابل فاجنر، «كيف انفصلت عن فاجنر»، 1). وهو يصور فاجنر بوصفه نقيضا تاما له، وما كان يمكن أن يصبح عليه لو لم يتمتع بالقدرة على إدراك المخاطر الناجمة عن كونه رومانسيا تماما. تتسم كثافة التبصر بالموسيقى والدراما الموسيقية الفاجنرية وطبيعة عبقرية فاجنر ببراعة مدهشة، وجمع هذه الفقرات معا يضيف إلى هذا التأثير ويؤكده . ولكن الأهم من ذلك أنه شهادة على حب نيتشه الدائم للأشياء المحظورة.
يمكن الزعم بصحة هذا خصوصا في «نقيض المسيح»، الذي - وسط مجادلاته الحادة والفعالة في الوقت نفسه - يصور المسيح بوصفه «المرمز الكبير، من حيث إنه لم يكن يتقبل غير الوقائع «الباطنية» فقط بوصفها وقائع، أي «حقائق»، وأن كل ما عدا ذلك، أي كل ما هو طبيعي وزمني ومكاني وتاريخي، لا يمثل في فهمه إلا رموزا، ومناسبات للحكايات الرمزية» («نقيض المسيح»، 34). وتبلغ هذه الفقرة، على امتدادها، قمة الغنائية الشاطحة التي تجعل المرء يتساءل كيف سيستطيع نيتشه أن يدق طبول الانسحاب. وهو يحتال للأمر من خلال شن هجوم على الفكر المسيحي كان كيركجارد ليفخر به، وهجوم آخر على القديس بولس الذي كان ينشق عليه ويخالفه باقتناع شديد. إلا أن غضب نيتشه العارم تجاه ما صنعه القساوسة بتعاليم المسيح بديع في انفعاله، وفي تعبيره عن اشمئزازه من الفساد. وهو يصرح قائلا: ««الممارسة» المسيحية؛ أي الحياة كما عاشها ذلك الذي مات فوق الصليب، هي وحدها التي يصح أن نسميها مسيحية. واليوم أيضا ما تزال مثل هذه الحياة ممكنة، بل وضرورية بالنسبة إلى نوع محدد من الناس؛ فالمسيحية الحقيقية، المسيحية الأصلية، ستظل أمرا ممكنا في كل الأزمان» («نقيض المسيح»، 39). ولكن ليس بالنسبة إلى الأرواح القوية؛ لأن الأمر يعتمد على الإيمان. «الإيمان يجعلنا سعداء؛ ومن ثم فهو حقيقي» («نقيض المسيح»، 50). يصدر هذا عن نيتشه المتزمت الأصيل، الرجل الذي يفكر في أن «إقحام أحاسيس المتعة في مجال السؤال عن «ما هو حقيقة» يمنحنا دليلا معاكسا تقريبا، وفي كل الأحوال ريبة متناهية، تجاه «الحقيقة»» («نقيض المسيح»، 50). وقد يتفق المرء مع هذا، على الرغم من أن نيتشه يبدو أنه يؤجل تشكيكه في إرادة الحق. وفي جزء سابق من نفس الكتاب، في خضم هجوم مدمر على أخلاقيات كانط، كتب يقول: «كل عمل تفرضه غريزة الحياة يجد في المتعة دليلا على كونه عملا «صائبا». غير أن ذلك العدمي كانط ذا الأحشاء الدوجماتية المسيحية قد رأى في المتعة «عيبا». وأي شيء يمكن أن يكون أسرع تدميرا من العمل والتفكير والإحساس دون ضرورة داخلية، ودون اختيار شخصي عميق، ودون «متعة» كآلة أوتوماتيكية يحركها «الواجب»؟» («نقيض المسيح»، 11). على الرغم من عدم وجود تناقض صريح هنا، يوجد ذلك الصراع النمطي بين نيتشه المصمم على مواجهة كل شيء دون إجفال، ونيتشه الساعي وراء اللذة بنهم شديد.
إن أكثر أعماله حيوية وذكاء وبهجة على الإطلاق هو كتابه «أفول الأصنام» الذي صدر عام 1888، والذي يعد عنوانه محاكاة ساخرة لأوبرا فاجنر المشحونة بالهلاك «أفول الآلهة». وهو يعكس الحرية النابعة من الإتقان التام، على الرغم من أنه ألفه وهو على حافة الانهيار. كما أنه يحتوي على أطول أغنيات نيتشه وأكثرها حماسا التي يوجهها إلى جوته، الذي أصبح شيئا فشيئا - بعد تخلي نيتشه عن الإنسان الأسمى - النموذج الأصلي ل «الإنسان الأعلى»، وهو مفهوم له الكثير من الأمثلة التي تدلل عليه، في حين كان زرادشت مصمما على أنه «لم يوجد قط «إنسان أسمى».» ولكن على الرغم من أن كل نموذج للإنسان الأسمى يتسم ببعض التحفظات المفروضة عليه، فإننا نستطيع أن نفهم على الأقل ما يحتفي به نيتشه. إذن فجوته «لم يكن يريد إلا «الكلية»، وقد كافح التفرقة الظاهرية المتبادلة بين العقل والحس والشعور والإرادة (التفرقة التي يدعى إليها ضمن سكولاستيكية مفزعة من جانب «كانط»، نقيض جوته)؛ وقد عود نفسه على بلوغ التكامل، و«خلق» نفسه» (أفول الأصنام، «تسكعات رجل غير موافق للعصر»، 49). ويكافئه نيتشه بأعلى درجات التقدير: «عقل «متحرر» مثل هذا يقف في حالة من التسليم البهيج الواثق في قلب الكون، «راسخ الإيمان» بأنه ما من شيء يمكن أن يكون منبوذا غير الحالة المنعزلة، بينما في المجمل، كل شيء يحظى بالقبول والخلاص - «لم يعد ينفي بعد الآن». لكن إيمانا من هذا النوع هو أرقى ما يمكن أن يوجد من الإيمان: لقد عمدته باسم «ديونيسيوس»» (المصدر السابق). ثمة انحرافات لافتة هنا؛ فنحن لم نسمع من نيتشه من قبل أن «ما من شيء يمكن أن يكون منبوذا غير الحالة المنعزلة»؛ مما يجعلنا نتساءل عما يمكن أن نصنع بهذا. ولكننا سمعنا كثيرا، وإن كان التأثير مختلفا للغاية، عن ديونيسيوس الذي لم يغب تماما عن مجمع آلهة نيتشه، ولكنه يعود الآن على نحو كبير في هذا العام الأخير. وكالعادة، فهو إله الإقرار غير المحدود. ولكن سياق إقراره قد تغير، ومن ثم فإن نوع الإقرار المطلوب غير متشابه مع «مولد المأساة».
وهذا نيتشه يتحدث بجسارة عن متع الجنة من موقع في جهنم، إذ يقول «لا» في هذا العام الأخير أكثر من أي وقت مضى. وقد يقول المرء: حتى إن «إقرارته» مجرد نفي النفي، وهذه هي المأساة التي يخوضها. فإيمانه يتمحور - وإن كان من اللافت أن نجده يتحدث عن الإيمان أساسا بنبرة إيجابية - حول إمكانية أن يكون المرء شخصا ليس مضطرا إلى النفي والنكران منذ البداية. ولكنه لا يستطيع أبدا أن يكون هذا الشخص، وكلما حرك العجلة الجدلية، بمهارة بارعة ورائعة، ازداد ابتعادا عن هذا المثل. إن ديونيسيوس الوحيد الذي نستطيع أن نشبهه به هو ذلك الممزق إلى قطع معذبة لا حصر لها.
خاتمة
نيتشه والتأمين ضد أحداث الحياة وصروفها
1
أعتقد أن أي شخص يقضي وقتا طويلا بصحبة نيتشه، ويعامل كتاباته ليس باعتبارها مجرد «نصوص» يجب شرحها وإنما باعتبارها تجارب في الحياة يكون القارئ مدعوا للمشاركة فيها، لا بد أن ينتابه أحيانا إحساس بالنفور، الذي يتناوب معه إحساس بالإثارة والامتنان اللذين يشعر بهما المرء بفضل وفرة آراء نيتشه وحداثة تناوله للعديد من الموضوعات المستهلكة. آمل أن تكون الفصول السابقة من هذا الكتاب قد أوضحت قدرا من دفء تجاوبي تجاه نيتشه؛ لأني أرغب الآن في تسجيل بعض ردود الأفعال التي يستثيرها داخلي عندما أمر بحالة من الشك والريبة. في البداية، ما سأفعله هو الإسهاب في الحديث عن بعض النقاط التي سبق أن أشرت إليها بالفعل، ولكنها تبدو لي في هذه اللحظة أنها ذات قيمة أكبر مما كنت أشعر بها أحيانا، أو أكبر بلا شك مما سأشعر بها مجددا. وبما أنه مصمم - كما رأينا - سواء هو ومتحدثه الرسمي زرادشت ، على ضم أكثر المريدين معارضة، فسوف أعمد إلى إثارة بعض المسائل الجوهرية حول مناهجه وآرائه، وهي مسائل أولية في أغلبها ولكن يجب عدم إخفائها في هذا الصدد. تنبع كل من المسائل المنهجية والأساسية من الإحساس بأن أيا كان ما يزاوله نيتشه، فإنه كاتب مصمم ليس فقط على ألا يخدع، بل أيضا ألا يكون عرضة للخداع، ولهذا يشعر الدارس الجاد - مثلما يشعر عند قراءة فيتجنشتاين - أنه عاجلا أو آجلا ما يوقع به دائما ككبش فداء.
إن أكثر الأدوات شيوعا التي يستخدمها نيتشه ليعصم نفسه من أي انتقادات هي ادعاء أنه لا يجزم بأي شيء قطعا، على الرغم من المظاهر الواضحة التي تدل على عكس ذلك؛ وهي الحالة التي سأحاول أن أبرهنها والتي ينجذب إليها نيتشه بشدة على الرغم من أنني لا أشك في أنه كان سينكر ذلك بانفعال. إنه مستكشف ومجرب، مصمم فقط على أن يكون مثالا يحتذى في كيفية «اكتشاف المرء طريقه الخاص» - هذا إذا استعرنا العبارة المذكورة في «العلم المرح» 338 - وهو أمر صعب للغاية لدرجة أن المدافعين عن دين الشفقة دائما ما يتدخلون في شئون الآخرين لكي يتجنبوا الأمور الأشد قسوة في حياتهم الخاصة. وبما أن نيتشه مهتم فقط بأولئك الأفراد الذين يتوسم فيهم العظمة، فإنه بالضرورة يلزم نفسه بدرجة قصوى معينة من الفردية. ويعني هذا أن المرء يمكن أن يكون مرشحا للعظمة بشرط أن يعرف نفسه، من بين أمور أخرى، بصفته نقيضا للآخرين. ومن ثم، سيظل المرء دائما - طوعا أو كرها - واضعا الآخرين نصب عينيه، وهو الثمن الذي سيضطر أي شخص مؤمن بالفردية أن يدفعه، بأي نسبة في أي مرحلة متقدمة من ثقافته. إنه من دون شك ثمن سيضطر نيتشه إلى دفعه، مثلما يوضح توبيخه المطول لمعاصريه دون كلل. وهو يحب أن يعطي انطباعا باللامبالاة المتغطرسة تجاه الآخرين؛ ومع هذا فهو مفتون بصور الانحطاط المتنوعة التي يظهرونها حتى إنه لا يحلل أيا منها بدقة، ولا يوضح أننا «نحن الآخرين» لسنا كذلك.
ما أحاول إثباته هو أن نيتشه يعتقد فيما يبدو أن منهجيته التجريبية واللادوجماتية، علاوة على الادعاء الشديد الأهمية الذي صاغه قائلا: «إنني لست متعصبا بما يكفي لنظام ما، ولا حتى لنظامي «أنا»»، تقحمه في شكل من أشكال استقلالية المنظور وكذلك استقلالية المبدأ الأساسي. ولكني لا أرى سببا في ألا يعتقد المرء أن الأمر راجع إليه فيما يتعلق باستنباط أساس لآرائه الأخلاقية، وأن يستنتج أن أفضل شيء بالنسبة إليه هو أن يصوغ نفسه بناء على شخص آخر. وإذا لم يصدق المرء على نحو بديهي أنه لكي يكون نفسه يعني أن يكون مختلفا جذريا عن أي شخص آخر، فلن يكون ثمة خلاف، ولا حتى على نحو أولي، حول كون المرء فرديا والاعتقاد بأن أفضل شيء يمكن للمرء عمله هو النظر إلى شخص آخر بصفته قدوته. ستظل درجة تجميل نيتشه للأخلاق أمرا قابلا للمناقشة، ولكن الجانب الوحيد الذي تبدو فيه وخيمة بالفعل هي فكرة أنه مثلما أن الأعمال الفنية يجب الآن أن تكون أصلية بصورة تتخطى مجرد تميزها عن غيرها، فكذلك الأفراد أيضا يحملون مطلبا أخلاقيا مماثلا مفروضا عليهم. ومثلما أشرت في الفصل الخامس، فإن العلاقة بين الأعمال الفنية، على أي نحو في ثقافتنا، تختلف إلى حد ما عن العلاقة بين الأشخاص. ويبدو أن نيتشه يعتقد أن مجموعة من الأشخاص المتشابهين بدرجة بالغة سيكونون مملين وغير مجدين مثل مجموعة من الأعمال الفنية المتشابهة بدرجة بالغة. وإذا ألقيت على العالم نظرة بانورامية، وهو أمر أحيانا ما يتظاهر نيتشه بعمله، فقد تكون النتيجة أن يعتريك الضجر تجاه «الرجل العادي»، ولو كان الناس شديدي الشبه بعضهم ببعض، إذن فقد يسأم منهم أي شخص؛ وحتى مرحلة معينة قد يكون الوضع أيضا أن يصير الأفراد الذين يشجعون وحدة المنظور مملين. لكن نادرا ما يحتاج المرء إلى الانتقال من هذا إلى تطرف المطالبة بأن يتسم كل شخص بأرقى صورة ممكنة. وطبقا للتعريف، فإن العظمة صفة نادرة. ولا يعني هذا أنه يجب ازدراء معظم الأفراد أو النظر إليهم بصفتهم غير ضروريين نظرا إلى عدم تحليهم بهذه الصفة أو عدم تطلعهم إليها .
أحد أسباب حماس نيتشه البالغ تجاه عدم تغيير معتقدات الناس هو أنه على الرغم من إلحاحه علينا كي نكون أنفسنا، ويكون لكل منا طابعه المميز، فإنه لا يلزم نفسه بأي مثل أعلى يجب استكشافه والدفاع عنه. بيد أن المصطلحات التي يستخدمها في مديحه - تلك التي يحاول أن يبقيها رسمية تماما - هي تلك التي تمكننا من انتقاء أفراد معينين لأنهم يظهرون الصفات التي تحددها هذه المصطلحات. فعلى سبيل المثال: يعتبر «الانتصار على الذات» مصطلحا «مطلقا» إلى حد ما؛ فيمكننا أن نقول: إن جوته انتصر على نفسه؛ لأننا نعلم أنه من دون اهتماماته الخاصة لربما لم يصبح أكثر من مجموعة أفكار متناثرة، بل ولفقد تدريجيا قدرته على التأثير بها، ولكن بدلا من هذا كان كلا مؤثرا على نحو مدهش، ولهذا تأثر نيتشه به كثيرا في كتاباته اللاحقة، واعتبره مثلا يحتذى، وشخصا تجب محاكاته بسبب تفرده.
وبناء عليه، فإن رفض نيتشه المزعوم تجاه الذات بألا يقدم لنا أية أداة بعينها بخلاف أن نكون أنفسنا - وما من أحد سينتقد ذلك لكونه مفرطا في التحديد - يجب ألا يخفي حقيقة أنه يميل إلى الجزم أكثر مما يصور نفسه. وفكرة أنه يغير باستمرار المواقف التي يبدو أنه واثق بشأنها يجب ألا تجعلنا ننغمس في الادعاءات التي يروجها بكونه تجريبيا. وأشك في أنه كان عاجزا على نحو فطري عن «الاقتناع بالأمور اللايقينية»، لدرجة أنه لم يمتلك بأية درجة المزاج الشاعري الذي يصفه كيتس بدقة. وتنبع مرونته من تأهبه المستمر لتغيير رأيه. وعندما يقول إنه ليس متعصبا بما يكفي لأي نظام، فإن ما يجب أن يقوله هو أنه ليس متعصبا بما يكفي للتمسك بأي نظام. ولا يعني هذا، بالطبع، أنه في أية مرحلة سيطرح نظاما ما؛ فهو لم يكن صبورا بما يتيح له عمل ذلك. أو ربما يعتمد الأمر على ما تقصده بكلمة نظام. لو كنت تقصد أنك تريد الاتساق بين جميع المعتقدات التي تؤمن بها، إذن فهذا مطلب أولي بعدم الاستسلام للفوضى المفاهيمية. أما إذا كنت تقصد شيئا أكبر من هذا، فلا بد من ذكره، وهو ما لا يفعله نيتشه، بغض النظر عن التعبير عن نفوره من الميتافيزيقا المتسامية.
تتسم اللاخطية المفرطة في معظم كتابات نيتشه بالعديد من الإغراءات، من بينها أنها تمكن المرء من اتباع نصيحته بضمير مستريح بالغوص في أعماق كتاب «الفجر» - وهكذا الأمر مع بقية كتبه - حيثما كان يرغب المرء في ذلك؛ وتحرر المرء من مشقة الدخول في سلسلة مطولة من المجادلات والمناقشات المجردة. وهي تحمل في طياتها بذور دمارها، مثلما يعلم أي قارئ حي الضمير ومنجذب إليها. وتوجد ظاهرة استثنائية تتمثل في الطريقة التي تصدم بها فقرات بعينها المرء بأقصى قوة، ثم ينساها العقل بعد ذلك بفترة وجيزة، غالبا لأن فقرة أخرى - مثلما يكتشف المرء - لا تنسى ولا تقل قوة في موضوع مختلف إلى حد ما، قد حلت محلها. هذا النوع من اللامنهجية ناتج عن غياب التنظيم على أقصى تقدير، وهو شيء غير مفاجئ بالنسبة إلى عقل خصب كعقل نيتشه، قادر على الاستجابة لتجربته وردود أفعال الآخرين تجاه تجاربهم لدرجة أنه يتدفق بأفكار عبقرية يقولها في عدد من الموضوعات أكبر من أي فيلسوف آخر، خصوصا لو أخذت بعين الاعتبار المعيار الذي يستخدمه نيتشه على مدار عدة صفحات بلا انقطاع. مثل هذه التدفقات من البلاغة الممتزجة بالرؤية تعني أنك تشعر بالحاجة إلى البدء في قراءة كتبه وخصوصا تلك التي صدرت في فترة حياته الوسطى بمجرد انتهائك منها؛ خجلا من عدم قدرتك على الاستيعاب والتذكر. إنها عملية لا تنتهي أبدا، ولهذا السبب نحن ممتنون للغاية. ومع هذا، يجب ألا يكون الاتسام بالمنهجية مبجلا باعتباره رفضا قائما على مبادئ معينة، في حين أنه ببساطة ما يتوارد إليه على نحو طبيعي؛ قارن أي أجزاء من «تأملات في غير أوانها» ب «إنسان مفرط في إنسانيته» وسوف ترى التطور الهائل بمجرد توقفه عن محاولة كتابة نثر متتال بطول مقال، فضلا عن كتاب. وسواء أكانت هذه استراتيجية دفاعية أم لا، فإن لها نفس التأثير. أما مسألة كيفية التأقلم مع نيتشه، فعلى حد علمي أنها لم تتم الإجابة عنها بعد على نحو مقنع. اقرأ أي كتاب أو مقال عنه، ولاحظ كيف يتمحور التركيز دائما على بضعة تعليقات معدودات له، على الرغم من عددها الهائل وفائدتها العميقة. وعلى نحو خاص - وينطبق هذا بالطبع على كتابي - يتم التعامل مع فقرات مختارة قابلة للنقاش، ربما يشيع استخدامها لبضع سنوات، تماما مثل ما يحدث مع أي كتاب أو نحوه من كتب نيتشه في أية مرة؛ في حين أن الجزء الأكبر من كتاباته لا يحظى أبدا بأي تناول على الإطلاق. ومن ثم، فإن نيتشه هو الخاسر بالإضافة إلى كونه الفائز الظاهري في هذا التكتيك المحدد. إنه يريدنا أن ندمج مأثوراته في حياتنا، ومع هذا يدعي أيضا أنه يريدنا أن ننظر إليه بعين الشك الذي لا يتزحزح. إن التعمق بحق في أحد مأثوراته العميقة سيستغرق جزءا كبيرا من حياة المرء؛ إذ كيف في وسع المرء أن يفعل هذا ويبقى في الوقت نفسه بعيدا بالقدر الذي يتطلبه الشك؟ من الواضح أن المرء لا يستطيع ذلك. وفي الحقيقة، فإن أي شخص يكتب كما يكتب نيتشه يطلب من قرائه قدرا كبيرا من الثقة، على الرغم من أنه يتظاهر أنه لا يطلب شيئا على الإطلاق في هذا السياق.
أرى أن انتقاداتي لأسلوبه قد أصبحت أكثر تعاطفا معه مما توقعت، وهو تأثير آخر مميز يحدثه نيتشه المحير دائما في قرائه.
2
سننتقل الآن إلى مراجعة مختصرة لبعض مواقف نيتشه وآرائه الرئيسية، حسبما أنظر إليها، مع توجيه تركيز أكبر على الطريقة التي تعمل بها هذه المواقف والآراء على حمايته من حوادث الحياة ومفاجآتها، وهو آخر شيء كان سيرغب نيتشه في أن يكون معصوما منه. ومع هذا، يتراجع غالبا مستوى الإلغاز في أكثر آرائه إرباكا - من حيث مؤداها وسبب اعتناقه لها - لو تقبل المرء أن طموح نيتشه كان منصبا على تكوين علاقة مع العالم وتجربته معه بحيث لا يزعجه شيء أو يروعه أو يصيبه بالاشمئزاز أو يجرحه. وإنه لمن الصعب تكوين هذه العلاقة؛ لأن المرء لو استطاع ذلك لأصبح عظيما. وقد تتضح حدة الأمر أكثر بتأمل موقف نيتشه مجددا تجاه الشفقة. فالشفقة، بالنسبة إليه، كثيرا ما تكون مجرد عرض لحالة أكثر عمقا وبؤسا مما تبدو عليه؛ إذ إن المرء، أيا كان، يتأثر كثيرا بالمعاناة إلى الدرجة التي يحاول عندها تخفيف تلك المعاناة بدلا من إدراك أنها منتشرة في كل مكان حتى إن محاولة تخفيفها تعتبر ضربا من السذاجة. وعلى المرء أن يتبنى موقفا مختلفا تجاه الحياة، يجعل الشفقة أمرا تافها. لم يصرح نيتشه قط بموقفه بهذا القدر من الصراحة، ربما بسبب استيائه الشديد من دنو المعاناة لدرجة أنه يرتكب الخطيئة الكبرى بكونه مهووسا بتأمل الشفقة. ولو كان الإشفاق على الناس والتصرف وفقا لذلك هو أساسا مضيعة للوقت وللمجهود، إذن فبعد مرحلة معينة - تلك المرحلة التي يتخطاها نيتشه بلا جدال - يصبح أيضا استمرار الحديث والخوض في هذا الموضوع مضيعة للوقت وللمجهود، ولا سيما أمام جمهور عنيد. والحل عندئذ أن ينتقل المرء إلى مستوى لا تكون فيه الشفقة أحد الهموم التي يكترث لها، وأن يظهر ذلك أمام الآخرين؛ مما يجعله النموذج الذي ما كان نيتشه نفسه ليعترض عليه.
من أي منظور يمكن أن يأمل المرء عمل ذلك؟ يمكن للمرء القول بأن هذا هو هم نيتشه التام في الكتب التي ألفها في ذروة نضوجه، قبل حلول الفترة النهائية من حياته. وفي واقع الأمر يعتبر الجزء الوارد في «العلم المرح» الذي يسبق مباشرة تحليله الأكثر شهرة عن الشفقة وتأثيراتها هو الجزء الذي يوضح فيه طموحه، وإن كان يفعل ذلك بطريقة بدائية. كما يكشف، على نحو عفوي، مدى يأس المثل الذي يصفه. سوف أقتبس فقط جزءا منه؛ إذ إن الاستشهاد بمجرد مقطع لنيتشه في أكثر صوره البلاغية تألقا يمكن أن يظل له تأثير مدهش:
كل من يستطيع أن يشعر بتاريخ الإنسانية في جملته بصفته «تاريخه الخاص»، سيشعر - بنوع من التعميم الكبير - بمرارة المريض الذي يفكر في الصحة، بمرارة الشيخ الذي يفكر في أحلام الشباب، بمرارة العاشق الذي انتزعت منه معشوقته، بمرارة الشهيد وهو يرى مثله الأعلى ينهار ... لكن أن يتحمل المرء هذا الكم الهائل من المرارات من كل الأصناف، أن «يستطيع» تحملها ... أن يتحمل كل هذا في روحه، أن يتحمل ما هو قديم جدا، وما هو جديد جدا، أن يتحمل الخسائر والآمال والغزوات وانتصارات الإنسانية، أن يملك كل هذا في روح واحدة في نهاية المطاف، ويركزه في إحساس واحد، هذا بالتأكيد ما ينبغي أن يشكل سعادة لم تعرفها الإنسانية قط حتى الآن؛ سعادة إله، كلها قوة وحب، كلها دموع وضحكات، سعادة توزع باستمرار، مثل الشمس عند المساء، ثروتها لا تنضب وتفرغ منها في البحر الذي لا يشعر - مثل الشمس - أنه الأكثر ثراء إلا حين يجدف فيه أفقر صياد بمجاديف مذهبة! آنذاك سيسمى هذا الإحساس الإلهي إنسانية! «العلم المرح»، 337
يبدو إمعان النظر في التفاصيل أمرا تافها للغاية في مواجهة هذه الفصاحة المؤثرة. إنها ضربة محكمة سددها نيتشه بكتابته هذه الفقرة، التي بلا شك تقدم تفسيرا جديدا تماما لمفهوم «الإنسانية»، قبل هجومه مباشرة على التفسيرات القديمة، التي تربط هذا المصطلح باهتمام جوهري من أجل تجنب المعاناة أو تخفيفها. لو خاض المرء بالمعنى الشامل حياة بديلة لحياة الشفقة، فإن هذه «الإنسانية الجديدة» هي ما سيبلغها المرء. ومع هذا، هل يبدو منطقيا التسليم حتى باحتمالية بلوغ هذه الحالة السامية؟ يعد هذا الأمر منطقيا إلى حد ما في حال الحديث عن خوض الحياة ب «كل» تجاربها، مثلما هو الأمر على مدار الفترة التي زاول فيها نيتشه الكتابة، وإذا لم تكن هذه التجربة الشاملة أسهل فإنها بطريقة ما أكثر تحملا من خوض مجموعة مختارة من «الخسائر والآمال والغزوات وانتصارات الإنسانية». على الرغم من اشمئزاز نيتشه من «اللامشروط» وازدرائه له، فقد أدمن مصطلحا وثيق الصلة به، وهو العمومي أو الشامل. لو استطاع المرء أن يتحمل معظم الأمور، فسيعني هذا أن ثمة أمورا لم يتحملها، وهي حالة مفهومة. ولكي يكون المرء «شبيها بالإله»، أو شخصا أو فيلسوفا تراجيديا، فلا بد أن يتحمل كل شيء. وعلى الرغم من صعوبة بلورة هذه الفكرة وتوضيحها، يعتقد نيتشه أنه يعرف أنها سوف «تشكل سعادة لم تعرفها الإنسانية قط حتى الآن.» أليس من الواضح أن الإنسانية، أو حتى الإنسان الأسمى، لن يعرف هذه السعادة أو لن يستطيع معرفتها، بما أنها ليست حتى ما سماه كانط «مثلا تنظيميا»؟ إن نيتشه، بدلا من ذلك، ينتشي بقدرته الفذة على استخدام الكلمات بأقصى درجات الغنائية والعاطفة لرسم الحالات الوحيدة التي ستجعل الحياة محتملة، والتي يتضح مع ذلك أنها جميعا ثمار يحصدها الشاعر الذي يتخلى عن المتطلبات الملحة للفيلسوف.
ثمة أمر آخر في هذه الفقرة يستحق الذكر على نحو صارم. من الأمور التي توضح تناقضا بين الشفقة - بوصفها اختلاطا في المشاعر ينفر منه نيتشه بشدة - وبين هذه الإنسانية الجديدة؛ أن المرء في الحالة الثانية يتبنى موقفا، دون إشارة إلى أن المرء سيفعل شيئا محددا. إذا تعاطفنا مع شخص معين مكروب، فإننا «نمارس دور القدر»، فنتجاهل «التسلسل الداخلي بأكمله والتعقيدات التي تمثل كربا بالنسبة «إلي» أو بالنسبة «إليك».» على الجانب الآخر، إذا لجأ المرء إلى تبني نطاق المشاعر الأكبر، أو بالأحرى الكوني، تجاه كل شيء، فإن هذا لا يؤدي إلى شيء من حيث الفعل. في واقع الأمر، ثمة فعل يمكن تصوره، سيتوافق مع حالة نيتشه المرغوبة. ولكن، على الرغم من كل الحيوية المذهلة التي يتسم بها نثره، فإنه يبدو لي في هذه اللحظة أن نيتشه لم يكن متحمسا تجاه فكرة الفعل، وإنما كان متحمسا تجاه فكرة الكتابة، التي هي بلا شك جزء من تفسير سبب الحيوية التي يتسم بها نثره. ومجددا، ما الذي يفترض أن يفعله بقيتنا بالطاقة والحيوية اللتين يستطيع حشدهما؟
سيكون من الممل والمحبط الخوض في النصوص الرئيسية لإقرار نيتشه وإثبات أنها تعكس درجة مماثلة من اللاخصوصية والتشوق للتعامل على نحو متزامن مع كل شيء؛ مما يعني في أية حالة أن المرء لا تكون لديه أدنى فكرة عما يجب أن يفعله «الآن»، أو السبب في وجوب أن يفعل أي شيء بخلاف أي شيء آخر . ومرة أخرى، لا يسعنا إلا أن نتفاجأ بالمفارقة في تدقيق نيتشه الشديد الذي يتوافق مع الرغبة في عدم إنكار أي شيء، لكي يكذب ادعاء زرادشت بأن «الحياة كلها جدال على الذوق والتذوق»، بالتأكيد بسبب الإصرار الذي نقره جميعا. وبينما يشجع المرء موقف الإقرار المريح، هل يكذب على نفسه أم «يغير شكل» الماضي بشيء خلاف ذلك؟ وبينما تتحول كل «هكذا كان» إلى «هكذا أردته»، فهل هذا جزء من خداع النفس أم شيء أكثر سموا؟ يميل المفسرون، فيما عدا استثناءات قليلة جديرة بالثناء، إلى عدم طرح هذه الأسئلة، كما لو أنها في حد ذاتها إهانات موجهة إلى الذوق السليم.
إن الفقرة المأخوذة من «العلم المرح»، التي تدور حول إكساب حياة المرء أسلوبا مميزا، تثير نفس الموضوعات. وفي واقع الأمر، ثمة إيحاء فيها بأن المرء هو صاحب الفعل والتصرف، كالحال عندما يتحدث نيتشه عن «الممارسة الصبورة والجهد اليومي»؛ على الرغم من أنها مجددا تراجع مواقف تبدو أهم: «في هذا الموضع سترنا قبحا لم نستطع اقتلاعه، وفي الموضع الآخر تحول إلى جمال رفيع.» ومع هذا، عندما نتذكر أن شخصية المرء هي التي تكون محل النظر والتفكير، فماذا يكون هذا «التحول» إلا كذبا على النفس؟ لنفترض أنني قلت شيئا لشخص لكي أهينه، وأجد لذلك وقعا بغيضا ومخزيا عندما أتذكره. هل أخبر نفسي بأنني كان لدي دافع بديل؟ هل يمكنني دائما أن أقنع نفسي بأنني شخص صالح؟ هل تصرفي هذا سيساهم في تحسين شخصيتي؟ عندما يقول نيتشه بعد ذلك بتسعة أجزاء، في عبارة مميزة: إننا «نريد أن نكون الشعراء في حياتنا»، نتذكر أنه يقول في كتابه التالي، متخفيا وراء شخصية زرادشت: «الشعراء يكذبون على نحو مفرط، ولكن للأسف، زرادشت أيضا شاعر.»
وهكذا يواصل نيتشه حديثه، أو هذا ما يبدو لي، فيظل دائما مؤمنا بالواحدية، بكيان عضوي واحد، من نوع ما؛ في «مولد المأساة» آمن بالواحد البدائي الذي يدعم المظهر الأبولوني. وبعد توقفه عن الإيمان باحتمالية وجود أي نوع من النظام الميتافيزيقي، ظل مرتعبا من أهوال الوجود ، ولكن تعتمد جميع وسائله على الإصرار على ضرورة أن نرى الوجود من جانب «واحد». لماذا يفترض أن يؤدي هذا إلى جعل الأمور أفضل وأسهل أو أيا كان ما يريدها عليه؟ مع هذا، ثمة جزء آخر طلسمي في «العلم المرح» 276، يتسم بالجمال الشديد، مرة أخرى، لدرجة أنه يأسر لب المرء من كثرة التفكير فيه. تتحدث هذه الفقرة عن عدم الرغبة في أن يتغير أي شيء عما هو عليه، وعن أن صرف النظر هو إنكاره الوحيد. وهذا ليس بشيء أكثر من مجرد تلميح إلى فكرتيه المفضلتين: حب القدر والتكرار الأبدي؛ فالأولى هي صيغة لتقبل كل ما تقدمه الحياة كيفما يكون، والثانية هي السبب في أن ينحو المرء هذا المنحى في حياته.
في كتاب «إرادة القوة»، الذي لم أزل معترضا بصفة عامة على استخدامه، ولكني لا أنكر أنه يحتوي على العديد من الفقرات التنويرية، يقول نيتشه: «الأخلاق: أو «فلسفة الاشتهاء» ... «يجب أن تختلف الأمور»، ««سوف» تختلف الأمور»: سيصبح عدم الرضا عندئذ جرثومة الأخلاق»:
يمكن للمرء إنقاذ نفسه منها، أولا بانتقاء الحالات التي لا ينتاب المرء فيها هذا الشعور؛ وثانيا باعتناق احتماليته وسخافته؛ لأنه لكي ترغب في أن يختلف شيء عما هو عليه يعني أن ترغب في أن يتغير كل شيء، وهو أمر ينطوي على نقد استنكاري للكل. ولكن الحياة نفسها هي تلك الرغبة! «إرادة القوة»، 333
هذه سمة مميزة لنيتشه؛ نظرا لكونه عبقريا بحق. كما أنها سمة متناقضة. فإذا كانت الحياة، كما قال ستاتين، تعني الرغبة في تغير الأمور عما هي عليه، إذن فهكذا هي أيضا حياة نيتشه، هذا إذا حكمنا بناء على الأدلة التي تقول إنها كانت كذلك بالتأكيد. وعلى الرغم من أن «حب القدر» هو شعاره، فإن «قدره» هو أن يشجب بانفعال القدر، أو الوضع الراهن. هل يمكن أن يتيح لنفسه هذا؟ إذا حكمنا بناء على الجزء 11 من «نشيد الثمل»، الذي سبق لي اقتباسه، فإنه لا يستطيع. أن تقول نعم لسعادة واحدة يعني أن تقول نعم لكل شيء. ولكننا مجددا نرى نيتشه الشاعر الغنائي الماهر له اليد العليا، إنه شاعر غنائي يخدم الإنسان الذي يؤمن أنك لو رأيت الوجود كله وحدة واحدة، فعندئذ ستقره، أو على الأقل ستلزم بإقراره كله لو أقررت جزءا واحدا فيه. ولكن حقيقة أن جميع الأشياء «متسلسلة ومتداخلة ومتعاشقة» لا تعني أن المرء يحب ذلك. إذا كانت الحياة «هي» الرغبة في تغير الأشياء واختلافها عما هي عليه - وهذا بالتأكيد جانب كبير من الحياة، بل إنه في واقع الأمر الدافع الذي يملكه الناس لتبرير معظم ما يفعلونه - إذن فمن الحتمي أن يريد المرء إحداث بعض هذه الاختلافات. ومثلما يقول نيتشه في فقرة مماثلة ولكنها مختلفة على نحو حاسم ومأخوذة من كتاب «ما وراء الخير والشر»، 9: «الحياة؛ أليست بالضبط إرادة كون مغاير لهذه الطبيعة؟ أليست الحياة تقديرا وتفضيلا وظلما ومحدودية وإرادة كون مختلف؟ ولنفترض أن شعاركم الآمر ب «العيش وفقا للطبيعة» يعني أساسا «العيش وفقا للحياة»، كيف بوسعكم «ألا» تفعلوا ذلك؟ ولم تجعلون ما أنتم عليه، وما يجب أن تكونوا عليه، مبدأ؟» ولكن إذا كنت مضطرا إلى أن تكون ما أنت عليه، فلا فائدة من أن تجعل من «أي شيء» «مبدأ»، بما في ذلك «حب القدر». لا يقدم نيتشه هنا أية إشارة تبين كيف أن ما يسميه المرء رواقية الإقرار لا ينحدر إلى ما يشير إليه بازدراء في موضع آخر بصفته «استكانة».
إن ادعائي بأن نيتشه يحاول أن يجعل نفسه معصوما متضمن بالفعل فيما كنت أقوله. والمثير للدهشة، بالنسبة إلى شخص كان من شعاراته الأخرى «عش حياة الخطر!» أنه لا يريد فيما يبدو أن يتفاجأ، ويريد أن يكون مستعدا لأي حدث طارئ، إذا جاز التعبير، بادعاء أنه ضروري، ومن ثم فهو ليس حدثا طارئا على الإطلاق. «أيا كان» ما يحدث، فهو يريده؛ وبتناقض عجيب للغاية، فإنه يدعي أن أيا كان ما «حدث بالفعل»، فإنه قد أراده. ومن خلال الأسلوب التعميمي الذي يكتب به، فإنه ليس مضطرا للتعامل مع حالات لا يبدو فيها الإنسان الأعلى مختلفا عن الهمجي بادعاء أنه أراد حدوث هذا. وهو يعتقد ، بإعلانه معتقدات الضرورة الكونية البعيدة المنال، ثم بادعائه التكرارية اللانهائية لما تمليه، أنه أوضح بأنه لن يوجد أبدا شيء جديد ولا يمكن أن يوجد أبدا شيء جديد، تحت الشمس أو حتى لو كانت الشمس نفسها. ومع هذا، فعلى مستوى دقيق، يظل شديد الذكاء مقارنة بأي شخص آخر - بل ذكيا لدرجة أنه مضطر إلى الانتقال إلى الجانب الآخر المتطرف - فيما يتعلق بهذه «القمم» التي هو مولع بها. وهو مستعد لتحري الحرص والدقة على نحو استثنائي ليشرح إلى أي مدى تكون الأشياء مروعة وغير محتملة - بما في ذلك الناس على وجه الخصوص. وما دام لم يزل عند مستوى الأشياء والأشخاص، فإن الرعب المعجز سوف يستمر في التنامي. ولذا عندما يقر أمرا فلا يمكن أن يكون ذلك باختيار أشياء موافق عليها؛ إذ إنها جميعا «متداخلة» مع ما يبغضه. عليه أن يأخذ كل الظواهر التي يكرهها، ويتعامل معها ب «مأساوية الفتور»، وينظر إليها بتعال، وعندئذ يصبح أخيرا قادرا، بفضل الرؤية الضبابية، على أن يقول نعم لكل شيء. وفي سبيل ذلك، فإنه يتخلى عن كل ما يجد فيه قيمة بالفعل، عن طريق تظاهره أنه لا يقدر شيئا أكثر من آخر. ويتعذر التمييز بين هذا النوع من السمو وبين عدم الإدراك.
المراجع
Adorno, Theodor (1974),
Minima Moralia (NLB, London).
Aschheim, Steven E. (1992),
The Nietzsche Legacy in Germany 1890-1990 (University of California Press, Berkeley and Los Angeles).
Bridgwater, Patrick (1972),
Nietzsche in Anglosaxony (Leicester University Press, Leicester).
Heller, Erich (1988),
The Importance of Nietzsche (University of Chicago Press, Chicago).
Heller, Peter (1966),
Dialectics and Nihilism (The University of Massachusetts Press, Amherst, Mass).
Jones, Ernest (1955),
Siegmund Freud, Life and Work,
ii (Hogarth Press, London).
Kaufmann, Walter (1974),
Nietzsche (4th edn., Princeton University Press, Princeton, NJ).
Kundera, Milan (1984),
The Unbearable Lightness of Being (Faber and Faber, London).
Love, Frederick R. (1963),
Young Nietzsche and the Wagnerian Experience (University of North Carolina Press, Chapel Hill, NC).
Middleton, Christopher (1969) (ed. and trans.),
Selected Letters of Friedrich Nietzsche (University of Chicago Press, Chicago).
Nehamas, Alexander (1985),
Nietzsche: Life as Literature (Harvard University Press, Cambridge, Mass.).
Schutte, Ofelia (1984),
Beyond Nihilism: Nietzsche without Masks (University of Chicago
Silk, M. S. and Stern, J. P. (1981),
Nietzsche on Tragedy (Cambridge University Press, Cambridge).
Solomon, Robert C. and Higgins, Kathleen M. (1988) (eds.),
Reading Nietzsche (Oxford University
Staten, Henry (1990),
Nietzsche’s Voice (Cornell University Press, Ithaca, NY).
Thompson, Judith J. and Dworkin, Gerald (1968) (eds.),
Ethics (Harper and Row, Cambridge, Mass.).
Young, Julian (1992),
Nietzsche’s
(Cambridge University Press, Cambridge).
قراءات إضافية
The amount of writing on Nietzsche in English alone is now growing at a rate that is both a tribute and a threat. The most magisterial book on him, by someone deeply sympathetic yet firmly critical, is Erich Heller’s
The Importance of Nietzsche (University of Chicago
through Nietzsche’s development, is F. A. Lea’s
The Tragic
(Athlone Press, London, 1993). Originally published in 1957, it is a trailblazing work, written, like Heller’s and unlike almost everyone else’s, with notable grace and a Nietzschean passion. Unfortunately Lea uses old and discredited translations for quotation; and he ends surprisingly by finding that Nietzsche rediscovered the teachings of Christ and Paul for our time. Walter Kaufmann’s ill-organized transformation of Nietzsche into a liberal humanist has its place in the history of Nietzsche reception (
Nietzsche
4th edn, Princeton University Press, Princeton, NJ, 1974).
Of more recent works, the most acclaimed, often setting new standards in detailed analytic working-through of Nietzsche’s positions, is Alexander Nehamas’s
Nietzsche: Life as Literature (Harvard University Press, Cambridge, Mass., 1985). It is a demanding but rewarding book, but Nehamas relies too heavily on unpublished notebooks of Nietzsche’s. More impressive still, as I have indicated in the text, is Henry Staten’s
Nietzsche’s Voice (Cornell University Press, Ithaca, NY, 1990), a moving and profound series of meditations on some basic themes in Nietzsche. A less demanding and more critical work on an aspect of Nietzsche which has received little in the way of book-length attention is Julian Young’s
Nietzsche’s Philosophy of Art (Cambridge University
criticisms, in their downrightness, are thought-provoking. A full- length book on
BT
by M. S. Silk and J. P. Stern is
Nietzsche on Tragedy (Cambridge University Press, Cambridge, 1981), which leaves no stone unturned, so far as the biographical background, the accuracy of Nietzsche’s account of Ancient Greece, and so on, are concerned. The essence of the work itself, and the source of its fascination, eludes them, but this is a mine of absorbing information. Nietzsche’s politics, or rather his seeming lack of them, are dealt with at length in two overlong but intermittently helpful books, both rather badly written. Tracy Strong’s
Friedrich Nietzsche and the Politics of Transfiguration (expanded edn, University of California Press, Berkeley and Los Angeles, 1988) ranges very widely, and contains a particularly bizarre account of the Eternal Recurrence. Mark Warren’s
Nietzsche and Political Thought (MIT Press, Cambridge, Mass., 1988) distinguishes between what Nietzsche’s political views, never presented systematically, were, and what they should have been, from the standpoint of the Frankfurt School of Critical Theory.
There are many collections of essays by various commentators: one that has some excellent contributions to the reading of particular books is
Reading Nietzsche , edited by Robert C. Solomon and Kathleen M. Higgins (Oxford University Press, 1988). The way that Nietzsche tends to be read in France now is usefully illustrated in a book of translations of Derrida, Klossowski, Deleuze, and so on:
The New Nietzsche,
edited by David B. Allison (Delta, 1977). I find Gilles Deleuze’s celebrated
Nietzsche and
(trans. Hugh Tomlinson, Athlone Press, London, 1983) quite wild about Nietzsche, but interesting about Deleuze. Many people swear by it. And we are in for an invasion of works from France, where Nietzsche has been idiosyncratically cultivated since World War II.
Bog aan la aqoon