Nietzsche: Hordhac Gaaban
نيتشه: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
إن فقرات مثل هذه تثير بالفعل التساؤل حول مدى إمكانية الضغط على نيتشه. فعلى الرغم من كل ميوله نحو تطرفات التعبير ومبالغاته، فإنه ينجح بطريقة ما في انتهاج اللباقة بألا يسلط الضوء على المواضع غير الملائمة. ولكن الخطر المقابل أننا نصفه بأنه «تحفيزي»؛ ما يعني أننا لا ننظر إلى ما يقوله بجدية. في هذه الحالة تحديدا، قد يصبح من المناسب المخاطرة بقدر من عدم اللباقة؛ لأنها تحوي أفكارا ما زالت في طور التشكيل وستكون محورية لعمله، لكنها ستكون أكثر روعة من وجوده هنا لدرجة أنه سيصبح من الأفضل رؤيته بأبعاده الإنسانية بدلا من أبعاده فوق الإنسانية.
وهكذا، بينما نترك المسألة مفتوحة حول ما إن كان نيتشه يعطي للإنسان صاحب الأسلوب المميز تفويضا مطلقا في الموضوع المتعلق بعناصر شخصيته، يمكننا أن نتفق أن أحد الأسباب التي تدفعنا إلى أن نقول إن امرأ يتسم بأسلوب مميز هو قدرته على التعامل مع الأمور الصعبة بنجاح، ودمج تجارب متفاوتة ستكون بالنسبة إلى معظم الناس محرجة أو مهينة وجعلها جزءا من خطة أكبر. ثمة لحظة مؤثرة وممتعة وبارزة في نهاية فيلم جان رينوار «قواعد اللعبة» الذي فيه - بعد حادثة إطلاق نار صادمة يقتل فيها طيار خلال قضائه العطلة في بيت ريفي - يتحدث المضيف إلى الضيوف المجتمعين المذهولين بذوق رفيع وبكلمات مختارة بعناية فائقة لدرجة أن أحد الضيوف يقول للآخر: «لقد وصفها بالحادثة. تعريف جديد!» ولكنه يتعرض للتوبيخ: «إنه يتمتع بأسلوب راق، وهذا شيء نادر هذه الأيام!» وهذا صحيح تماما. لقد حافظ الخطاب الراقي على اللباقة واللياقة، وأبقى ما يبدو بوضوح أنه مظهر متحضر عابر، وجعل الضيوف يتوجهون إلى أسرتهم بمزاج رثائي بدلا من المزاج الانتقادي أو المجتزئ. وثمة موطن قوة في مثل هذه القدرة يتعلق بما يبدو أنه حسن التعبير، والقدرة على التأقلم مع ما يعتبر - بالنسبة إلى أي شخص معقد - تجارب يمكن أن تؤدي إلى الانحلال، أو إلى كراهية النفس، على أقل تقدير.
يتسم نيتشه بصراحته في الكشف عما ينطوي عليه الأمر. فبعد بضع فقرات يطرح سؤالا:
كيف يتسنى لنا أن نجعل الأشياء جميلة وجذابة ومرغوبة حين لا تكون كذلك؟ يبدو لي أنها في حد ذاتها ليست كذلك على الإطلاق ... الابتعاد عن الأشياء حتى يختفي كثير من تفاصيلها ... هذا كل ما سيكون علينا أن نتعلمه من الفنانين، إضافة إلى أنه علينا أن نكون أكثر حكمة منهم في أمور أخرى؛ لأن قوتهم الشديدة تتوقف عادة حيث يتوقف الفن وتبدأ الحياة. أما نحن، فنريد أن نكون شعراء حياتنا، في أتفه أمور حياتنا اليومية قبل كل شيء. «العلم المرح»، 299
بعبارة أخرى، أقل لباقة وذوقا: لا تكن كثير الشك في نفسك بشأن فهمك التام للأمور. هذا حقيقي؛ فالأهم أن تجعلها مقبولة على الأقل، وجميلة على أحسن تقدير.
أظن أن ما يفكر فيه نيتشه هو أمر أكثر غريزية مما يبدو أنه يقترحه؛ بما أن عليه في النهاية أن يتفوه بما يريد منا بالفعل أن نعرفه وننفذه. إنه مأزق يجد نفسه واقعا فيه مرارا وتكرارا؛ هل يجب أن يرضي نفسه بإبداء التلميحات، أم يجب أن يقول ما يرى أنه ضروري لنا أن نعرفه في صورة سريعة الزوال؟ إنه يريدنا أن نكون ذلك النوع من الأشخاص الذين لا يحتاجون إلا إلى تلميحات لأننا شديدو الذكاء، ولكنه يعلم أننا سنصم آذاننا عن أي شيء لا يرقى إلى مصاف الكوارث؛ ثم نتهمه بإحداث كثير من الجلبة على أمر تافه. خلال مرحلة كتاب «العلم المرح» كان لا يزال يحاول استخدام صيغ رمزية وتحفيزية، تاركا إيانا لعقد الروابط بينها. ولم يكن قد أوجعه بعد الضجر الذي كثيرا ما سيعاني منه زرادشت عندما يدرك أنه دائما ما سيساء فهمه. وهو ليس متأكدا، أيضا، من كون المرء يستطيع فقط أن يعلم الناس الذوق لو كانوا جهلاء وحسب، أو من إمكانية إعادة تثقيف أولئك الذين تشكل الذوق لديهم بالفعل ولكنه ذوق فاسد. يعتبر كتاب «العلم المرح»، في الأساس، كتاب رجل متفائل؛ فهو آخر الكتب التي كتبها نيتشه بضمير حي ووعي حاضر.
على أية حال، هذا هو الجانب الهادئ نسبيا لدى نيتشه، على عكس ما وصفه جي بي ستيرن على نحو مبرر «بالفاضل المكد»؛ لأنه لو ظهرت أية إشارة لمجهود في شخصية أحد - لو بدا أنه يستخدم جاذبيته وحنانه وهدوءه وتلقائيته مع نفسه - إذن فهذا فشل خطير في الأسلوب. لكن عند تحررنا الشنيع من قيود التقاليد المرحب بها، وبالنظر إلى العدد الهائل من أساليب المعيشة التي «تبدو» متاحة لنا، والتي يعتبر كثير منها كذلك بالفعل، فليس من المحتمل أن نستطيع تنظيم «الفوضى الموجودة في داخلنا» دون بعض إشارات الجهد المرئية. حتى جوته، الذي كثيرا ما يجسد فكرة نيتشه عن تنظيم الذات، لم يكن قادرا على إخفاء المجهود الذي تكبده في سبيل ذلك. لقد كان، بالطبع، حالة مقيدة من الوحدة المفروضة على التنوع ؛ تنوع الاهتمامات والدوافع التي قد تترك معظمنا عاجزين.
لقد كان ادعاء نيتشه بأن إكساب شخصية المرء أسلوبا مميزا هو «الشيء الوحيد الضروري» (عبارة ربما كانت تهدف إلى السخرية من فاجنر، الذي تشغل بال شخصياته الرئيسية حاجة ملحة)؛ يحمل في طياته سلوكا غير متوقع فيما يتعلق بنقده للشفقة، أحد أشهر موضوعاته الملحة، والتي أبقى عليها بانتظام. في أحد نصوصه النثرية الشديدة العبقرية، والذي للأسف يتعذر علينا اقتباسه هنا كاملا نظرا لطوله البالغ، فإنه ينظر بعين الاعتبار إلى «إرادة المعاناة وأولئك الذين يشعرون بالشفقة». وهو يسأل إن كان في صالح المشفق أو المشفق عليه أن يندمجا في هذه العلاقة، ويبين في المناقشة الحساسة التي تعقب ذلك أن بغضه للشفقة لا يمت بصلة، بأي حال من الأحوال الطبيعية، لتحجر القلب أو القسوة أو تبلد الإحساس. وبقدر ما يهم الشخص المشفق عليه، فإنه يشير إلى أن تنظيم حالاته الروحية أمر حساس، وأن من يلاحظون أنه في محنة ومن ثم يهرولون إلى مساعدته «يتبنون دور القدر»، وأنه لا يخطر على بالهم أبدا أن من يعاني قد يحتاج إلى معاناته، الممتزجة بفرحته، «كلا، ف «دين الشفقة» (أو «القلب») يأمرهم بالنجدة، وهم يعتقدون أن أفضل مساعدة هي عندما تساعد في أسرع وقت!» («العلم المرح»، 338).
من الواضح أن نيتشه لا يتحدث عن تقديم الطعام والشراب إلى شخص يتضور جوعا، أو تخدير شخص على وشك الخضوع لعملية جراحية، بل هجومه مسلط على الشفقة باعتبارها شغل الإنسان الشاغل لتنظيم حياة الآخرين، وتجاهله النبيل - حسبما نفهم - لشئونه الخاصة. ومن ثم، فإنها لوقاحة (على الرغم من شيوعها) إساءة تفسير مقصده بأنه يحث على تجاهل احتياجات الآخرين الأساسية، مثلما توضح المناقشة التالية مباشرة عن آثار الشفقة على المشفق: «أعلم ذلك جيدا، فثمة مائة طريقة شريفة وحميدة لتضليلي وإثنائي بعيدا عن طريقي، وهي طرق جد «أخلاقية»! ويمضي رأي دعاة أخلاق الشفقة اليوم إلى حد ادعاء أن هذا الأمر، ولا شيء غيره، سيكون أخلاقيا؛ أن يضل المرء طريقه على هذا النحو ويسارع إلى نجدة الآخرين » («العلم المرح»، 338). وهو يواصل التركيز بطلاقة على القسوة التي ينطوي عليها سير الإنسان في طريقه الخاص، وما يسببه ذلك غالبا من الوحدة وغياب العرفان بالجميل وانعدام الدفء. ويختتم، ببراعة، بقوله: «أخلاقي تقول لي هذا: عش منعزلا حتى تعيش لنفسك.»
سيشعر العديد من الأشخاص أن الأخلاق التي تستحثهم على السير في طريقهم الخاص لا يمكن ببساطة انتهاجها؛ لسبب واضح وهو أنهم يفتقرون إلى وجود «طريق» خاص بهم؛ فلديهم الكفاءات والاحتياجات والمخاوف والمشكلات، ولكن ما من شيء يمثل بالنسبة إليهم هدفا فرديا. عندما اقترح نيتشه بأن يصبح كل فرد مسئولا عن تشكيل حياته، فإنه ربما يستعين برؤيته الملحة التي نتبناها حاليا، أو كنا نتبناها حتى وقت قريب، حول ما يشكل عملا فنيا، مع احتلال الأصالة مكانة الصدارة بين سماته المرغوبة، أو حتى الضرورية. وهذا يبدو سخيفا باعتباره أمنية من أجل البشرية، فضلا عن كونه وصية؛ حيث إنه يفترض سلفا أن معظم الناس يتسمون فطريا بقدر كبير من التفرد، وهو افتراض كان يجب أن يعطيه نيتشه الأولوية، لو كان مؤمنا به بالفعل.
Bog aan la aqoon