Nietzsche: Hordhac Gaaban
نيتشه: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
طومسون ودوركين، 1968: 192-193
هذا صحيح تماما، ولكن - على الرغم من الحيرة والاحتقار اللذين يشعر بهما نيتشه وأنسكومب - هذا ما نفعله بالضبط لنتحايل على الأمر ونواصل حياتنا، غالبا غير مهمومين بالفوضى المفاهيمية التي ينطوي عليها الأمر، وبالكاد تكون مستترة.
يتبنى نيتشه، بطبيعة الحال، موقفا مختلفا على نحو جوهري تجاه ما يمثله هذا على المدى الطويل، حول الإنسان على مدار التاريخ. في «ما وراء الخير والشر»، الذي ألفه عام 1885، يضع الأمر في سياق أعم:
يعود القصور الغريب في التطور البشري، بكل تردده وبطئه - بل بكل تقهقره ودورانه على ذاته باستمرار - إلى أن غريزة القطيع للانصياع تتوارث على أحسن ما يكون وعلى حساب فن إصدار الأوامر وفرض السيطرة. وإذا افترضنا أن هذه الغريزة بلغت ذات مرة أوج ذروتها، فإن الآمرين والمستقلين سيندثرون تماما في النهاية، أو قل إنهم سيعانون من تأنيب الضمير وسيحتاجون إلى التحايل على الذات كي يمكن لهم أن يأمروا؛ أي كما لو أنهم، هم أيضا، ينصاعون فحسب. وهذه الحالة قائمة اليوم في أوروبا بالفعل، وأسميها: رياء الآمرين الأخلاقي. فهم لا يعرفون سبيلا إلى حماية أنفسهم من تأنيب الضمير إلا وهم يتصرفون كمنفذين لأوامر أقدم أو أعلى (أوامر الأسلاف، والدستور، والحق، والقوانين، وحتى الله)، أو يستعيرون بدورهم من نمط تفكير القطيع شعارات قطيعية، ويبدون، على سبيل المثال، بوصفهم «أفضل خدام لشعبهم»، أو «أدوات الخير العام». من جهة أخرى، يتظاهر إنسان القطيع اليوم في أوروبا بأنه النمط البشري الوحيد المسموح به، ويمجد صفاته التي جعلته أليفا ومسالما ومفيدا للقطيع، بوصفها الفضائل البشرية الحقيقية؛ وهي: الحس الجمعي، والطيبة، والرفق، والاجتهاد، والاعتدال، والتواضع، والتسامح، والتراحم. أما في تلك الحالات التي يبدو فيها الاستغناء عن القادة وأكباش القطيع ممتنعا، فثمة محاولة تلو الأخرى لجمع أفراد قطيعيين أذكياء يحلون محل أصحاب الأمر؛ ذاك هو، على سبيل المثال، أصل كل الدساتير النيابية. لكن، على الرغم من ذلك، أي نعمة ستهبط على أوروبيي القطيع هؤلاء، بل أي انعتاق من ضغط يكاد لا يطاق سيكون لهم مع ظهور الآمر المطلق! والدليل الكبير الأخير على هذا هو التأثير الذي أحدثه ظهور نابليون؛ إن تاريخ تأثير نابليون يكاد يكون تاريخ السعادة القصوى التي بلغها هذا القرن بأسره في أكثر أفراده ولحظاته قيمة. «ما وراء الخير والشر»، 199
قد تستثير هذه الفقرة المقتبسة من نيتشه بأسلوبه المميز ردود أفعال مختلفة. فهي تنتقل بين كونها شديدة الإقناع، ومصاغة بأسلوبه الجدلي البلاغي الفصيح، وبين استعمال المفردات الصادمة - على الرغم من ذلك - بالقدر الذي لا بد أنه كان ينتويه لها، حتى ولو كانت تجبر معظم القراء على النفور مما يقوله. فهذا الاستعمال لكلمة «القطيع » وشبيهاتها مزعج، كما هو حال قائمة الخصال التي يتفق عليها «الإنسان القطيعي»؛ لأننا نوافق عليها أيضا: الحس الجمعي، والاجتهاد، والتواضع، وغيرها. ونحن نوافق عليها؛ لأننا قطيعيون، ولسنا مقتنعين بتاتا أننا يمكن أن نصبح أي شيء آخر، أو إذا ما كنا سنريد ذلك لو أمكننا. ومع هذا يصيبنا القلق، بما أن موضوع الانصياع برمته قد أثير. وعلى الرغم من أننا قانعون بالانصياع لما نؤمن أنه صواب، فإن المسألة هي: لماذا نقنع بهذا الإيمان، على الرغم من أننا ألغينا الآمر؛ أو من كانوا بيننا لهم آمر؟ وبالطبع، فإن حقيقة أن قناعاتنا الأخلاقية تنبع في الأساس من إرادة الإله لا تعني أن هذه القناعات خاطئة، لو لم يكن الإله موجودا. فتلك «مغالطة المنبع»، وهي أداة معروفة وموصومة بتشويه المعتقدات وزعزعة الثقة بها. ولكن من جهة أخرى، سيكون من الحماقة ألا نوافق على أننا لو تخلينا عن الإيمان الشرعي الأصلي، فسنكون بحاجة إلى شيء جديد ليحل محله؛ إذ إنه من السهل جدا أن نكون مثل «الإنجليز» ونعتقد أننا نعرف «بالفطرة» ما هو خير وما هو شر. وسيكون هذا رائعا لو حققناه، بما أننا لا نملك أية معرفة فطرية حقيقية أخرى.
في هذه المرحلة، لا أريد أن أتوغل في آراء نيتشه المحددة حول مضمون الأخلاق، إلا بقدر ارتباطها بادعاءاته حول النظام ككل.
ما يبدأ به نيتشه في كتاب «الفجر» يواصله بمهارة بالغة في كتابه التالي «العلم المرح». في هذا الكتاب، على وجه التحديد، يمهد نيتشه الطريق بوضوح أكبر لتوغله في مسألة القيم، التي يفرد لها معالجة كاملة في «هكذا تحدث زرادشت». يعتبر «العلم المرح» أكثر كتبه إمتاعا؛ إذ إنه كان يثق في كونه يتخطى التلميحات اللانهائية التي وردت في كتابيه السابقين، دون أن يحمل على عاتقه - على الرغم من هذا - العبء التنبئي الذي تكبده خلال تأليفه كتاب «هكذا تحدث زرادشت». وعلى الرغم من استمرار الانتقاد الشديد الفاعلية لفترته التي يطلق عليها اسم «الفترة الوضعية»، فإننا نشعر بقدرة أكبر على استيعاب ما يقصده . إن عمق المأزق الذي سقط إنسان ما بعد المسيحية فريسة له هو السمة الأكثر بروزا في «العلم المرح»، الذي يحمل في الجزء رقم 125 أشهر تصريحات نيتشه بأن الإله قد مات.
يحمل هذا الجزء عنوان «المخبول». فجميع من يسمعونه في السوق يعتبرونه مجنونا؛ لأنهم ليست لديهم أدنى فكرة عما يتحدث. كيف يمكن أن يقتل المرء الإله؟ هذا تعبير عن معاناة نيتشه الجسيمة، بما أنه يرى - على عكس الآخرين - تبعات موت الإله، ويرى تأثير ذلك على المدى الطويل، ويصيبه الهلع لمجرد التفكير في الكيفية التي سيتصرف بها الناس إذا ما استوعبوا معنى ألا يكون الإله بعد الآن هو محور عالمهم. لا يهم إن كان الإله موجودا أم لا، وهذا هو جوهر قضية نيتشه. المهم هو إن كنا نؤمن بوجوده أم لا. بمرور القرون، تآكل الإيمان بالإله دون أن يلاحظ الناس ما يحدث. وسوف تمس التبعات الأكثر تعقيدا القيم؛ لأنه - مثلما يعبر نيتشه عن الأمر في ملحوظة غير منشورة: «من لا يجد العظمة في الإله لا يجدها في أي مكان. يجب عليه إما أن ينكرها أو يستحدثها.» وإذا حملنا على كواهلنا عبء استحداث العظمة، إذن فمعظمنا، وربما جميعنا، سينهار تحت وطأة هذا العبء. ودون العظمة ليس للحياة معنى، حتى لو كانت العظمة بعيدة المنال. وسوف نستعرض لاحقا المنطق الذي ينسب به نيتشه موت الإله إلى الميول المتنازعة أساسا في المسيحية نفسها. أما الآن، فالمهم هو أن نتيجتها قد وقعت، وأن معظم الناس لا يدركون معناها، وأنهم عندما يدركون معناها لن يجدوا الحياة تستحق العيش فيها بعد الآن.
كان موقف نيتشه تجاه المسيحية، على غرار موقفه تجاه معظم الأمور التي اهتم بها، منقسما في الصميم. وقد وصفنا على مدار الصفحات السابقة ازدراءه للأخلاق التي ترعاها المسيحية، وقد نما هذا الازدراء بمرور السنين. ولكن على الرغم من أنه كان يكره ضآلة الإنسان التي تعتبر جزءا من العقيدة المسيحية، ومجموعة الفضائل التي تعتبر جزءا من ذلك، كان في حقيقة الأمر واعيا تماما بالإنجازات التي لا ينسب فضلها إلا إلى الثقافة المسيحية. فلن تبنى أبدا كنيسة على غرار كاتدرائية شارتر القوطية للاحتفال بالقيم الإنسانية المتحضرة، ولن يوجد عمل موسيقي كبير مثل «قداس مقام بي الصغير» لباخ لإثبات الإيمان بها. ومن ثم، يبدو أن فترة ما بعد ظهور المسيحية غالبا ستتسم بوجود رجال أشد ضآلة من المسيحيين الصغار الذين حلوا محلهم. فربما تكون الأخلاق شاقة، ولكن هل سيكون من المعقول تخيل استبدالها؟
الفصل الخامس
Bog aan la aqoon