Nietzsche: Hordhac Gaaban
نيتشه: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
ربما الطريقة الأكثر فائدة في النظر إلى هذا الانفصال هي أن نيتشه، للمرة الوحيدة في حياته، قابل أحد رموزه بشحمه ولحمه. ومن الواضح بداية من «مولد المأساة» وما بعدها أن جميع أسماء الأعلام تقريبا في نصوصه لا تمثل الأفراد، بل تمثل الحركات والميول وأساليب الحياة. هذه السمة في نيتشه كثيرا ما تكون ملهمة، وأحيانا فاسدة ومضللة. ويرجع سبب الالتباس المتعلق بحالة فاجنر إلى أن فاجنر كان بالنسبة إليه، في المقام الأول، شخصا تربطه به «علاقة متألقة» (كتاب «العلم المرح»)، ولم يكن قادرا على أن يفصل في كتاباته بين ما كان عليه فاجنر وما أصبح يمثله، ومن ثم فإن درجة التناقض التي يبديها تجاهه تفوق تلك التي يبديها تجاه بقية أبطاله الأشرار. ولو لم يقابل فاجنر قط، لأعطاه مع هذا حتما دورا مهما في أعماله؛ لأن فاجنر بالنسبة إليه كان يجمع، بطريقة مريحة، بين صفات كانت سائدة في ثقافة نهاية القرن التاسع عشر التي كان يناقضها بمرارة، وإن لم يكن ذلك لهدف محدد مثلما كان يريد. ولكن خسارة فاجنر باعتباره صديقا ومعلما، على الرغم من أنها كانت ضرورية، كلفت نيتشه أكثر مما كان قادرا على تحمله.
تعامل نيتشه مع مشكلاته بالطريقة الوحيدة التي طالما كانت متاحة له؛ كان يكتب على نحو استثنائي، فينتج كتابا جديدا يعكس بجميع المقاييس قدراته السريعة النمو، وبالطريقة التي سيتبعها من الآن فصاعدا مع معظم ما يؤلفه. فكتابه «إنسان مفرط في إنسانيته»، الذي وضع له العنوان الفرعي «كتاب للعقول الحرة»، انقسم إلى تسعة كتب، تحمل عناوين عامة للغاية، و638 جزءا مرقما، يحمل العديد منها عناوينه الخاصة (كان ينوي أن ينشر لاحقا جزأين متممين مهمين للغاية، ولذلك يعد المجلد بأكمله هو الأضخم بين كتبه). كما هو الحال مع جميع الكتب التي تصاغ بهذا الأسلوب، فإن قراءتها مجهدة. فعلى الرغم من أن الأجزاء مصنفة معا حسب موضوعها، سمح نيتشه لنفسه بكثير من الحرية، ومن ثم تنهال على المرء أفكار معينة تحل محلها أفكار أخرى بنفس المعدل لدرجة أن النتيجة لا تذكر؛ وهو ما يسبب الارتياع للمرء. والحل الوحيد هو تمييز الأجزاء التي تترك أثرا خاصا، والعودة إليها لاحقا. ويعد هذا عنصرا حاسما في استراتيجية الكتابة التي يتبعها نيتشه، على الرغم من خطورتها. وانتشارها بإفراط شديد وعلى نحو مفاجئ في كتاباته هو تعبير عن نفوره من شبه القصة في «مولد المأساة»، وهو كتاب يسهل تذكره على الرغم من بهرجته البلاغية، والسبب ببساطة أنه يحمل حلقة وصل.
ولكن على الرغم من الحداثة الدائمة التي يتسم بها كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته»، فثمة شيء يميزه يدفع المرء إلى الشعور بأن نيتشه لا يعمل بالمستوى الذي اعتاد عليه. والإهداء الذي خصصه لفولتير عبارة عن تحذير. فعلى الرغم من أن سطحية فولتير المرحة ربما تكون الأمر الذي شعر نيتشه أنه يريده بعد المجهود المتواصل الذي بذل لسبر أغوار التشاؤم الرومانسي، فمن الصعب التفكير في مزاجين متعارضين على نحو جوهري. ورواية «كانديد»، التي تمثل نقد فولتير للتفاؤل، هي في حد ذاتها كتاب متفائل على نحو لا يمكن تجاهله. وما أثار إعجاب نيتشه بفولتير، على غرار إعجابه بصائغي الأمثال الفرنسيين المنتمين إلى القرن السابع عشر، هو صرامة الأسلوب، وهي سمة أبولونية توحي بأن التجربة يمكن تغليفها في حزم صغيرة جذابة وأنيقة. كل كتابات الأمثال الجيدة يصعب قراءتها؛ لأن القارئ يضطر أن يتولى الكثير من عمل الكاتب نيابة عنه. فالكاتب يقدم جملة، يحولها القارئ إلى فقرة. وقد كتب نيتشه يقول إنه أراد أن يعبر في صفحة واحدة عما قد يحتاج شخص آخر إلى كتاب كامل للتعبير عنه - وما لن يستطيع حتى في هذه الحالة النجاح في التعبير عنه. ولكن نوع الأمثال وأشباه الأمثال التي كان يتطلع إلى كتابتها هي تلك التي كان سيصبح تأثيرها تبديل وعي القارئ. بعبارة أخرى: كان سيصبح لها تأثير عكسي لتلك التي صاغها لاروشفوكو، على سبيل المثال. دائما ما كان نيتشه ينتج، في أفضل حالاته وسماته، نقيض ما يغلف التجربة؛ فضرباته ومضايقاته وإهاناته موجهة بحيث تجعلنا نشعر بالخزي، ليس فقط تجاه أنفسنا، ولكن أيضا تجاه رضانا عن أنفسنا بالتفكير في أننا نملك أفضل الصفات التي تمكننا من إدراك ما قد نكونه. وهي ليست مرهقة، ولا تبعث على التعب؛ لأنها تقودنا إلى إحساس أفضل باحتمالات الهروب من روتين كينونتنا. وقد اتسم متبعو المذهب الأخلاقي في الفكر الفرنسي بقوة الملاحظة والتعليق بكياسة على الحالة الإنسانية السرمدية. وهم يولدون «إحساسا» بالخزي لدى القارئ، ولكن دون أي توقع بأنه قد يتغير مطلقا.
لذلك، فإن تودد نيتشه المطول لهم كان يتعلق بالكيفية التي يقولون بها الأشياء وليس ما يقولونه. ولكن هذا يوحي بشيء غريب؛ فهو شديد التمسك بعدم انحلال الشكل والمضمون من البداية إلى النهاية. كيف كان سيستطيع بغير ذلك توجيه كل هذا التركيز نحو النوع الأدبي في «مولد المأساة»، حيث أدت حقيقة اعتبار هذا العمل دراميا بدلا من كونه قصيدة ملحمية إلى إحداث تأثير مختلف كلية؟ والأمر الوحيد الذي يمكن به تفسير ذلك هو ابتعاد نيتشه التام عن الرومانسية؛ كل شيء الآن يجب النظر إليه في ضوء النهار الساطع، ويجب في الوقت نفسه أن يكون فيه موحيا للغاية. في «إنسان مفرط في إنسانيته»، نجد نيتشه أكثر انشغالا بالحالة الأولى عن الثانية، والنتيجة أن المرء يشعر، حتما في ضوء عمله اللاحق، أنه يقيد نفسه، مستكشفا المشهد - أي الطبيعة الإنسانية في تجلياتها كحياة اجتماعية والشغف ونفسية الفنانين والعزلة - دون الرغبة في التغيير التي تعتبر سمته المميزة. وهكذا، إذا تناولنا على نحو عشوائي إحدى «رؤاه»: «التعطش للألم العميق»، حين ينتهي الانفعال، فإنه يترك فينا حنينا غامضا إليه ويلقي علينا، وهو يختفي، نظرة مخادعة. لا شك أن المرء قد وجد نوعا من اللذة في أن يضرب بمقارع ذلك الانفعال. أما الأحاسيس المعتدلة فتبدو باهتة بالمقارنة به، ويبدو أن الناس سيفضلون دائما كدرا شديدا على لذة واهنة. «إنسان مفرط في إنسانيته»، الجزء الأول، 606
هذا قول عميق، ويثير إحساسا بالتقدير، لا الصدمة. وفي مواضع أخرى، قد تكون الدقة مؤلمة: ««إجبار النفس على الإصغاء»، بمجرد أن نلاحظ أن شخصا ما يجبر نفسه على الإصغاء إلينا عند التواصل والتحدث معنا، فإننا يصبح لدينا دليل قاطع على أنه لا يحبنا بالمرة أو لم يعد يحبنا» («إنسان مفرط في إنسانيته»، الجزء الثاني، 247).
إن تأليف كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته»، بوصفه كتابا قال عنه فاجنر عند استلام نسخته الموقعة منه إن نيتشه سيشكره في يوم من الأيام على عدم قراءته، قد كشف لنيتشه عن بعض جوانب نفسه التي لا بد وأنه كان سعيدا باكتشافها. فأولا: أنه ينتمي إلى تلك السلالة النادرة التي لا تغفل شيئا. وعلى الرغم من أن نطاق خبرته كان محدودا على نحو استثنائي في جوانب كثيرة، فإنه استطاع أن يدرس ثقافته ومعارفه على نحو ملائم وأن يعطي تفسيرات عامة عنها بأسلوب جريء. وفي «هذا هو الإنسان»، الذي يعتبر سيرته الذاتية الغريبة التي يتراوح فيها المزاج على نحو متقلب بين الدراما والسخرية، يهنئ نيتشه نفسه على أن له أنفا جميلا على نحو لافت، وهو ذلك العضو الذي مال الفلاسفة إلى تجاهله. ويوجد الدليل الصادم الأول على حدته في «إنسان مفرط في إنسانيته». ثانيا: كشف له أنه حتى في ظروف البؤس والحرمان التي عاشها استطاع أن يعمل بمستوى متألق أنتج نفسه بنفسه. ومثلما هو الحال في «مولد المأساة»، يشعر المرء أن زخم الكتابة هو سبب معظم ما يثير الإعجاب فيها. ثالثا، والأهم: كان قادرا على التعمق في موضوعات سببت آلاما مفزعة دون أن يظهر أقل درجة من الحقد؛ لقد كان كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته» عملا وضح فيه ما لم يدافع عنه بعد؛ أنه من الممكن تحويل الظروف العصيبة التي تحدث إلى أهداف إيجابية، وإظهار الروح المعنوية المرتفعة دون أن يعلن لنا أن هذا ما يفعله، وهي نزعة مرهقة في بعض أعماله اللاحقة.
يواصل كتابه اللاحق، «الفجر»، الذي يحمل العنوان الفرعي «تأملات حول الأفكار الأخلاقية»، أسلوب «إنسان مفرط في إنسانيته»، ولكنه ينحرف انحرافا خطيرا عن مضمونه، ويعتبر كتيبا صغيرا مقارنة بأعماله اللاحقة. فيما بين عام 1878، الذي نشر فيه «إنسان مفرط في إنسانيته»، وسط تجاهل عالمي، وعام 1880، الذي كتب فيه «الفجر»، تغير نمط حياته تغيرا بالغ الأثر، وبدأ النمط الذي سيعيش به خلال العقد القادم. احتار معظم أصدقائه في سبب تغيير اتجاهه، وانعزل عن الجميع باستثناء الأوفياء. وفي عام 1879، بعد فوات الأوان ببضع سنوات، تخلى عن أستاذيته في جامعة بازل، بعد أن فقد طلابه أي حماس تجاه ما يلقيه. وفي ذلك العام أيضا، أصيب بالصداع النصفي الحاد لمدة 118 يوما، مما أقعده عن العمل. وتدهورت صحته بسبب النوبات المجتمعة من الزحار والدفتريا اللذين أصيب بهما عام 1870، خلال سنوات خدمته باعتباره ممرضا مساعدا في الحرب الفرنسية البروسية؛ وعلى الأرجح أن مرض الزهري قد انتقل إليه من إحدى الداعرات في وقت ما في نهاية السبعينيات من القرن التاسع عشر خلال إقامته في إيطاليا، وهو ما قاده في النهاية إلى الجنون والشلل. منذ ذلك الحين فصاعدا، عاش حياته متنقلا، باحثا عن أماكن تخفف عنه آلام مرضه، وتوفر له أقصى درجات العزلة لكي يكتب. وكانت أماكنه المفضلة هي مدن شمال إيطاليا في الشتاء، وجبال الألب السويسرية في الصيف، على الرغم من أن هذه لم تصبح عادة سنوية لديه حتى عام 1882.
يقدم نيتشه بعض النصائح حول كيفية قراءة كتاب «الفجر»، على الرغم من أنها تأتي في نهاية الكتاب؛ «لم أكتب هذا الكتاب حتى يقرأ من البداية إلى النهاية قراءة سريعة، ولا ليقرأ بصوت مسموع، ولكن على القارئ أن يقرأ أجزاء صغيرة منه، خصوصا في تنزهه أو سفره، ويغوص في أعماقه، ثم ينظر حوله فلا يرى شيئا مألوفا» («الفجر»، 454). هذا كله جيد، ولكن لو أخذناه على محمل الجد فإنه قد يدفع المرء إلى عدم قراءته مطلقا حتى نهايته. لذلك فمن الجيد قراءته باعتدال، ثم الأخذ بنصيحة نيتشه، إذا كنا نرغب في ذلك. ولكنها ليست نصيحة جيدة فعلا، بل إنه ربما كان يقصد بها التهكم. فهذا الكتاب، الذي يعتبر أحد كتب نيتشه الأقل دراسة، هو الذي يعود فيه إلى مسعى حياته، بل قد يبدو أنه يبدأ فيه مسعاه، ولكننا بذلك نغفل مدى تشكيل كتاب «مولد المأساة» لمسار حياته.
الفصل الرابع
الأخلاق ونقماتها
Bog aan la aqoon