Nida Haqiqa
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Noocyada
بأي سهم نريش طائرها الأبيض المستحيل، أي قفص لغوي يتسع لآفاقها البعيدة وأسفارها العديدة في البلاد والأجيال؟ ما معانيها المختلفة باختلاف المذاهب والمدارس، عند القدماء والمحدثين، والمثاليين والواقعيين، في المنطق ونظرية المعرفة، بمدلولها الوجودي (أو الأنطولوجي)، والعملي أو النفعي؟ أهناك حقيقة مطلقة أم حقائق نسبية؟ أهي الحقيقة الأصلية التي نتطلع إلى نورها، ونحاول أن نندمج فيها ونتحقق بها ونقف منها موقف التسليم والخشوع، أم الحقيقة الفعلية التي نغزوها وننتزعها انتزاعا كما يقول أبو البركات البغدادي في المعتبر في الحكمة وجوته في فاوست
1
وهيدجر في بعض نصوصه؟ أنشارك نحن البشر في صنعها وخلقها؟ أم ليس علينا إلا أن نطهر بيتنا ليكون أهلا لزيارتها، ونهيئ مصباحنا لكي تلمس فتيله بشرارتها؟ أنتقدم نحوها بجهدنا وجهادنا خطوة خطوة، أم ننفتح عليها ونتركها تكون وتنير؟ ألكل حقيقته، كما يقول بيراندللو في عنوان إحدى مسرحياته أو كما يفهم من عبارة بروتاجوراس: للشاعر والفنان، والعالم والفيلسوف، والعامل والفلاح، والمفكر ورجل الشارع؟ أم أن الحقيقة قيمة نظرية ومثال معرفي يسمو على التغير والتطور، ويرتفع فوق الزمان؟ أهي كيف وصفة أم علاقة بين ذات وموضوع ووعي ووجود؟ أنلتمسها في اتساق الفكر مع نفسه، أم في تطابق العقل مع الأشياء أو الأشياء مع العقل؟
أهي وسيلة أم غاية، طريق أم هدف، فكر أم فعل، خلق وكشف أم إنجاز وتحقيق عملي، انعكاس للواقع على الشعور أم فعل محض لهذا الشعور؟ ألها مقاييس موضوعية تحدد شروطها وتجنبها الزيف والخطأ، أم هي كامنة في صميم الذات الحميمة الممتنعة على العلم والموضوعية والقياس والتحديد؟ أنصل إليها حين تتحقق الفكرة العينية الكلية ويكتمل وعي المطلق بذاته، أم نغزل بساطها اللانهائي خيطا خيطا مع كل كشف علمي جديد، وكل فعل بشري يسجل صراعنا مع الطبيعة والواقع وتعبنا وكفاحنا عبر التاريخ؟ متى تكون الحقيقة حية أو ميتة، خصبة أو عقيمة؟ متى تكون نوعا من الخطأ لا يستطيع نوع معين من الأحياء أن يعيش بدونه، كما يقول نيتشه، وكيف يكون الخطأ - لا الإصرار عليه! - خطوة على الطريق إليها؟ إلى أي حد تتفق ماهيتها مع مفهوم الإغريق عن «الأليثيا» من أنها فعل الكشف الذي يخرجها من طوايا الخفاء والاحتجاب؟ أهي في النهاية قضية معرفة بما هو موجود والتعبير عنه بالحكم، مصداقا لعبارة أرسطو المشهورة من أن الحكم الصادق هو الذي يقول عن الموجود إنه موجود، وعن غير الموجود إنه غير موجود، أم تتصل إلى جانب ذلك بمجال الدين والوحي، والشعور والفن، والسلوك والأخلاق؟
أسئلة لا آخر لها، صحبت الإنسان منذ أن بدأ يعي ويعبر باللغة، وستبقى ما بقي العالم والإنسان، وضعت عنها مئات الكتب والبحوث، واختلفت حولها المذاهب والعقول والقلوب، وستظل مختلفة ما دامت تواجه الألغاز في الباطن والظاهر، والداخل والخارج. ولقد عشت معها في الفترة الأخيرة من حياتي، وحيرتني كما حيرت غيري، ثم دلتني رحلتي الطويلة مع «هيدجر» إلى اختيار درب واحد من متاهتها، والاكتفاء بخيط واحد من عقدتها المتشابكة، وعكفت على نقل النصوص الثلاثة التي تجدها بين يديك، ثم حاولت أن أقدم لها بمقدمة عن مشكلة الحقيقة، فوجدت أن الموضوع أضخم من كل المقدمات، وأن هناك من وفاه حقه في لغتنا العربية أو كاد، وأقصد به الدكتور فؤاد زكريا الذي خصص له رسالته في الدكتوراه (وإن لم يتكرم بنشرها بعد!) والذي يشرفني أن أهدي إليه هذا الكتاب، ثم فكرت في أن أمهد للكتاب بصفحات عن فلسفة هيدجر، وإذا بالتمهيد ينمو ويتسع على هذه الصورة التي أرجو أن تكون وافية بقدر الطاقة، وإذا به هو نفسه يحتاج إلى تمهيد أوجزه في هذه الملاحظات: (1)
لن تجد مثقفا في عالمنا الحديث لم يعرف شيئا قليلا أو كثيرا عن هيدجر، أو لم يقرأ له أو عنه في مجال تخصصه واهتمامه، أو لم يسمع باسمه في محاضرة تتناول شئون الفلسفة والتراث الفلسفي، أو تتطرق للحديث عن محنة العالم المعاصر ومظاهرها المخيفة من حروب وصراعات وتلوث بيئة ومشكلات تقنية وأخطار دمار شامل ... والواقع أن أهميته لا ترجع إلى كونه «فيلسوفا» بالمعنى التقليدي المفهوم عن هذه الكلمة، بل إلى أنه يمثل تحولا بارزا في الفكر المعاصر، ودعوة للإنسان إلى فكر جديد، ولهذا نلمس تأثيره على دراسة الفلسفة بمعناها الضيق، كما تتبينه على مختلف الميادين من شعر وفن ونقد أدبي، إلى علوم طبيعية ونفسية وطبية وإنسانية، كما يتجلى أيضا في موجة التحمس الشديد له أو تيار السخط البالغ عليه، وتنظر في ناحية فتبهرك حالة السحر التي تحيط به، أو يفاجئك سيل الشتائم الذي يقذفه بها خصومه، وبين الطرفين مئات البحوث والدراسات، التي تكتب عنه وتحاول أن تقيمه من هذا الجانب أو ذاك، ويتعذر عليك أن تتخذ موقفا موضوعيا منصفا لعل ساعته التاريخية لم تأت بعد، ولكنك ستعرف على كل حال أنه الحفيد الشرعي لبعض أجداده من أصحاب الطموح الرائع: كانط وهيجل ونيتشه، وأن هذا هو قدر كل فكر يريد به صاحبه أن يحدث تغييرا شاملا ويحول التيار التقليدي في اتجاه جديد، فإما أن ترفضه كله أو تقبله كله؛ لأنه ينطوي على محاولة جبارة لنسخ كل ما سبقه أو على الأقل لإعادة النظر فيه، وهو لهذا لا يمكن أن يخلو من الشطط والإسراف، وستجد نفسك - كما يقول المناطق - بين قرني الإحراج: فإما أن تتبنى وجهة النظر الجديدة فتجرفك وتستولي عليك بحيث يصبح كل ما سبقها في ذمة التاريخ، أو تحكم عليها من وجهة نظر ثابتة آمنت بها أو اعتدت عليها، فتبدو لك كل فلسفة هيدجر طلاء لفظيا ونقشا معقدا بغير جدار يستند إليه، أو مجرد محاولة للتعبير عن «اللامعقولية» بأسلوب معقول بل مضن للعقل! فإذا حاولت أن ترتفع فوق كلا الطرفين اللذين أضرا بهذه الفلسفة بدرجة متساوية، وجدت صعوبة في اكتشاف الجوانب الإيجابية التي سلمت من مبالغات الأصدقاء والأعداء، ولا يبقى لك إلا أن تدخل بنفسك عالم الفيلسوف لتحاول أن تجرب تجربته «من الداخل» قبل إصدار حكم نقدي مستقل عليها أو الانتهاء إلى حكم موضوعي أخير ربما يطول انتظارنا له، وربما يكون مستحيلا في حياة الفيلسوف نفسه! (2)
إذا كان من المعتاد أن نسأل: بمن تأثر الفيلسوف؟ فإن الجواب في حالتنا هذه عسير إلى أبعد حد؛ فالفيلسوف الأصيل، كالأديب الأصيل، يلتقط غذاءه الفكري من مختلف الموائد، فيسيغه ويحوله إلى دم يصعب أن نحلله لنقول: هذه الكرات الحمراء من فلان، وهذه البيضاء من علان! وقارئ هيدجر يراه يدخل في حوار مع أعلام التراث الفلسفي، ويذهل لعلمه الواسع بينابيعه القديمة والوسيطة والحديثة، ولكنه يلاحظ أيضا أن معظم حواره يدور مع فلاسفة وشعراء في مقدمتهم: هسرل، وماكس شيلر، ودلتاي وبرجسون وفلاسفة الحياة، الكانطيون الجدد، وكيركجور، وهلدرلين، ورلكه، وتراكل، وقبل هؤلاء ليبنتز، وكانط وهيجل ونيتشه، وأوغسطين ودونس سكوتس وتوماس الأكويني، وأرسطو وأفلاطون، ومن قبلهم جميعا المفكرون قبل سقراط، وخاصة أنكسمندروس وبارمنيدز وهيراقليطس! ومع ذلك يمكن القول بأن أكثر من أثر عليه هما: دلتاي، الذي أخذ عنه وجهة النظر «المباطنة» أو الكامنة التي لا تستعين بأي حقيقة مجاوزة للعالم، ومنهجه في تفسير الوجود الإنساني من داخله دون افتراض أي مبدأ عال، ونزعته التاريخية القائمة على التفهم والتجربة الحية، وكذلك كيركجور، الذي لا يميل كثيرا إلى الاعتراف بتأثيره عليه أو يقلل من شأنه على أقل تقدير! وقد أخذ عنه الجو الروحي والوجودي القاتم المعذب، والإحساس المفجع بالتوحد والغربة والقلق والهم والذنب.
ولا شك أيضا أنه تأثر إلى أقوى حد بتأملات أوغسطين عن الزمان وفكرته عن «اللحظة» بوجه خاص باعتبارها «توتر النفس» الذي فيه تستجمع الماضي وتتهيأ للمستقبل، كما أخذ عن أرسطو إثارة مشكلة الوجود بأسرها، وفسر كانط تفسيرا لا يرضي الكثيرين.
مهما يكن من شيء فليس من الإنصاف أن نجعل من فكر هيدجر بناء تلفيقيا نرد كل حجر فيه إلى أصحابه! ففيه إلى جانب التأثر الحتمي بالتراث مركب جديد فريد، وخاتمه الخاص يلون كل أجزائه بل كل عبارة فيه، ولا يزال هذا الفكر أشبه بجبل شامخ لم تطرق كل شعابه ومسالكه، أو كنز غني لم تفرض كل ثرواته، وفيه نقط انطلاق للبحث لم تمس خيوطها بعد، ومشكلات لم تجد الحل الأخير، ولعل السنين المقبلة أن تقدم النظرة الموضوعية الصالحة للحكم له أو عليه، بعد أن يتغير الزمان والجو الذي نعيش فيه ولا يعود هيدجر مجرد فيلسوف «أزمة» يتحدث للإنسان في «محنة الوجود»، عندئذ يمكن أن تخبو هالة السحر التي تشع من جبينه، كما تخفت أصوات لعنات السخط التي تتعالى حوله، عندئذ يوضع في ميزان العقل الصحيح! (3)
لا شك أن قارئ هيدجر يشعر بجو قاتم مفجع، ترفرف عليه أجنحة الموت والمأساة، ولكننا نخطئ لو أسأنا فهمه وتصورناه داعية اليأس والتشاؤم والعدمية واللامعقولية كما نعته الكثيرون؛ فتفكيره في محنة العصر لا يجعله نذير خراب، وحسه الجاد العميق لا يصبغه بسواد التشاؤم، صحيح أن فكرة العلو - أو الترانسندنس - تقوم عنده بدور هام، ولكنه علو مرتبط بطابع الإمكان الذي يعبر عن صميم ماهية الإنسان الذي لا يبلغ النهاية أو التمام أبدا، بل يحيا دائما حياة كائن «لم يكن بعد»؛ لأنه يسعى إلى تحقيق إمكاناته، ولا بد أن يعلو فوق وضعه الحاضر باستمرار.
Bog aan la aqoon