وفي الفراش حاول درش جاهدا أن يطرد عن نفسه كل الأفكار التي أرادت أن تأخذ بمجامع عقله ولكنه فشل. كان أحيانا يحيا معها في الموقف، وأحيانا يحس بأن عقله قد انفصل عنه ووقف قريبا من سقف الغرفة يراقبها ويراقبه. لا شك أن المشهد حينئذ سيكون مسليا للغاية. هو شرقي وهي أوروبية، وكلاهما متزوج، وكلاهما موظف، وكلاهما قد طال غيابه عن زوجه ورفيقه، وكلاهما يحاول أن ينال الآخر ويبذل في سبيل ذلك جهد المستميت.
وكل شيء يدور في صمت: الأعصاب تتوتر وترتجف، والعرق الصغير ينبت ويتبخر، والنظرات تخجل أن تلتقي فإذا التقت بدت جريئة لا خجل فيها، والضغطات الهينة أحيانا المجنونة في أحيان أخرى، وعيناه حين ارتفع صراخ طفلها مرة أخرى ... عيناه حين راحتا تأمرانها وترجوانها أن تلزم مكانها وألا تقوم وهو يحاول أن يجد في تفضيلها له على طفلها علامة حب أو رغبة خاصة. وتفضله على طفلها وتبقى فيتمنى لو كانت قد حاولت فعلا أن تقوم ومنعها هو بالقوة.
كل شيء يدور في صمت لا تقطعه سوى دقات المنبه العنيدة التي كانت تشق نسيج الثوب الملفوف حوله وتعبر فضاء الحجرة وتصر على الوصول إلى فتحات أذانه فتملؤها، وساعته في يده مقلوبة، ولكنه دائما يحاول عدلها لكي يعرف الوقت، والدقائق تمضي بطيئة جدا، ومع هذا فالوقت يمضي بسرعة هوجاء، ويقترب اقترابا جنونيا من السادسة حيث يجب عليها أن تستعد لمغادرة البيت.
كان هذا كله فوق احتماله، وأيضا فوق احتمالها. لقد حاولا المستحيل، حاول درش أن يغمض عينيه عن العالم كله إلا عنها وعما يدور في الغرفة، وحاولت هي بكل طاقاتها أن تساعده في إغماض عينيه، وليتها لم تحاول، ليتها لم تحاول مساعدته، ليتها فقط تكف عن ابتسامتها الممدودة المرتسمة أكثر من اللازم على فمها، بل والسائلة من فمها أيضا كروج أسيء وضعه. ليتها حاولت هذا، فبعد كفاح رهيب كان درش لا يزال يتصبب عرقا وخزيا، ولا يزال يلهث، وهي لا تزال تساعده وتبتسم.
وقال درش: لندخن سيجارة.
قالت: أجل ندخن.
وأعطاها سيجارة، أشعلتها بعد أن أدارتها لتعرف ماركتها، وبدت مسرورة بماركتها الثمينة، وأشعل هو سيجارة من الناحية التي فيها الفم الفل. ولو كان قد حدث هذا في أول الليل لألقى السيجارة وأشعل غيرها، ولكن لم يعد ثمة داع للتظاهر ... قطع الفم وأشعلها مرة أخرى.
وجلسا يدخنان.
وحاول أن يفكر بهدوء فيها، فوجد أن من المستحيل عليه حتى أن يفكر فيها. فكلما فكر فيها تأزم أكثر وعمقت الحفرة التي يحسها كائنة في صدره. بل ما حدث هو أنه وجد أنه كلما بعد عنها بأفكاره ارتاح، كلما أحس أنه هو نفسه، وأنه طبيعي جدا، وأن إرادته وأعصابه وجسده ملكه.
وهكذا وجد درش نفسه يفكر في ننوسته، وننوسته هي أنيسة التي يسميها أحيانا نوسته وننوسته وسنسنته إلى آخر عشرات الأسماء التي ابتكرها لها ... ننوسته التي تركها هناك في شقة متواضعة من شقق شارع ابن خلدون. بل ووجد نفسه يفكر بالذات في وقفتها بالمطبخ حين يجيء هو بهدوء من الخلف ويلف ذراعيه حولها، فتنزعج لثانية واحدة وتخاف، ولكنها في الثانية التالية تأمن إليه، وتحس حينئذ أنه الرجل الوحيد في العالم، وأنها المرأة الوحيدة التي تصلح له.
Bog aan la aqoon