Nazariyat Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Noocyada
ومن جهة أخرى، فإن وصف هذا الموقف ب «السذاجة» يغفل احتمالا آخر على جانب عظيم من الأهمية: فربما كان هذا الموقف هو الوحيد الذي يضمن للإنسان علاقة متسقة مع العالم الخارجي، وربما كان هو الحل الوحيد الذي يقتضيه سلوكنا في هذا العالم، في حين أن المواقف المضادة له - أي المثالية - إما أن تنتهي إلى إخفاق، أو تتوقف عند نقطة لا يمكنها المضي إلى ما بعدها، فتنتهي إلى نوع من اللا أدرية التي لا تحل أي إشكال، وبالاختصار فهناك دائما احتمال في أن يكون الحل الوحيد لمشكلة العالم الخارجي منتميا إلى المجال العملي، بعد أن يثبت عقم المحاولات «النظرية» للتشكيك في هذا العالم أو إنكاره، وطالما أن هذا الاحتمال قائم، فمن الخطأ وصف هذا الموقف بالسذاجة، بل إن الموقف المضاد قد يكون هو المفرط في التحليل والنقد بلا جدوى.
وأغلب الظن أن الموقف الطبيعي قد وصف بالسذاجة نتيجة لتلك الحالات التي يبدو فيها أن تقدم العلم البشري قد حتم الخروج عنه، مثال ذلك أن علماء الفلك لو كانوا قد التزموا هذا الموقف لما وصلوا إلى فكرة دوران الأرض حول الشمس؛ إذ إننا نعتقد - في موقفنا الطبيعي - أن الأرض هي الثابتة، وهكذا نجد أن تعريف الموقف الطبيعي يرتبط ارتباطا وثيقا بتحديد علاقته بالعلم أو بالموقف العلمي على الأصح، وسنحاول هنا أن نثبت أنه حتى لو وجدت تجارب أو كشوف علمية تبدو مخالفة للموقف الطبيعي، فإن هذا يرجع إلى اختلاف وظيفة الموقفين الطبيعي والعلمي، واختلاف الغرض من تجربة الإنسان في كل منهما.
ولإيضاح فكرتنا هذه نضرب مثلا بطريقة تعريف «آير» للموقف الطبيعي أو الموقف «الواقعي الساذج» كما يسميه، فهذا الواقعي الساذج يرى أن «الأشياء المادية التي ندركها عادة «معطاة» لنا مباشرة، بمعنى لا يحتاج إلى شرح، ولا يرى وجها للاستحالة في أن تكون أشياء كالذرات والإلكترونات مدركة مباشرة ... إلخ.»
1
وهنا يظهر ما نعتقد أنه وصف غير دقيق للموقف الطبيعي، فليس من مهمة ذلك الموقف أن يتحدث عن الإلكترونات والذرات، وليست هذه وظيفته، ولا علاقة له بهذا المجال، فللموقف الطبيعي مجال معين يقتصر عليه، ويظل دائما صحيحا في نطاقه، وفي رأينا أن قدرا غير قليل من الأخطاء الفلسفية يرجع إلى عدم الدقة في تحديد هذا المجال، أو إلى الخلط بينه وبين مجالات أخرى لا شأن له بها، وسنحاول فيما يلي أن نحدد خصائص هذا الموقف ومجاله بشيء من التفصيل.
فالموقف الطبيعي عملي وحيوي (بيولوجي) في المحل الأول، إنه ليس موقفا تحليليا أو نقديا نحاول فيه إرجاع الظواهر إلى أصلها أو كشف عللها، وإنما يتعلق هذا الموقف بسلوكنا العملي في هذا العالم، وهو يعبر عن استعداد طبيعي فينا لا يختلف كثيرا عن استعدادنا للأكل والشرب والنوم، بل إنه هو الذي يجعل هذه الاستعدادات الطبيعية الأخرى ممكنة، ومن المؤكد أن ذلك النزوع الطبيعي لدى جميع البشر إلى النظر إلى العالم على أنه ينطوي على «أشياء» خارجة عنا، راجع إلى أن هذه النظرة هي الوحيدة التي تيسر لنا سلوكنا العملي، وعندما نقول: إنها تيسر لنا السلوك العملي، فليس في ذهننا أية فكرة برجماتية عن إثبات صحة الموقف الطبيعي ل «نجاحه» في المجال العملي، بل إن ما نقصده أبعد من هذا بكثير؛ فنظرة الإنسان الطبيعية إلى العالم - وهي التي يعده فيها مكونا من أشياء خارجية مستقلة عنه - أعمق تأصلا في الإنسان من أن تعد مرتبطة بمجرد «النجاح» أو «الصلاحية»، وإنما نحن هنا إزاء ظاهرة لا يستطيع أحد أن يصفها بأنها «محدودة» بأي معنى من المعاني، ولا أظن أن أحدا من الباحثين قد صادف حالة ينظر فيها الإنسان «عمليا» إلى العالم على أنه غير مكون من أشياء خارجية مستقلة عنه، أعني حالة يعالج فيها شخص «النار» مثلا - من الناحية العملية - على أنها مجرد فكرة ذاتية في رأسه، وصحيح أننا سمعنا عن حالات كثيرة لأشخاص ألقوا بأنفسهم عمدا في النار، ولكني لا أظن أن أحدهم - طالما كان من العقلاء - قد فعل ذلك لاعتقاده بأن النار مجرد فكرة في رأسه، وبالتالي لن تؤذيه! وإن النتيجة المحزنة التي ينتهي إليها أي فعل عملي كهذا - لو حدث - لتدل على شيء واحد: هو أننا في حياتنا العملية اليومية لا نستطيع أن نسلك إلا على أساس هذا الموقف الطبيعي.
ولقد حلل «لوك» فكرة ارتباط الموقف الطبيعي بقدرة الإنسان على السلوك العلمي تحليلا رائعا في بضعة نصوص لم تلق الاهتمام الكافي بين الشراح، ولكن لها أهمية بالغة بالنسبة إلى أغراض هذا البحث، وفي أحد هذه النصوص يقول لوك:
لو كانت لنا حواس تبلغ من الحدة ما يمكنها من إدراك الدقائق الصغيرة للأجسام والتركيب الحقيقي الذي تتوقف عليه كيفياتها المحسوسة؛ لبعثت فينا دون شك أفكارا مختلفة كل الاختلاف، ولاختفى ما هو الآن اللون الأصفر للذهب، ورأينا محله نسيجا منظما من الأجزاء ذات الشكل والحجم الخاص، وهذا ما تكشفه لنا المجاهر بوضوح ... فالدم يبدو للعين المجردة أحمر كله، ولكن المجهر الجيد الذي يكشف أجزاءه الصغيرة لا يطلعنا إلا على كرات حمراء قليلة تسبح في سائل رائق ...
إن حواسنا تمكننا من معرفة الأشياء وتمييزها وفحصها بحيث يتسنى لنا تطبيقها في استعمالاتنا - على أنحاء شتى - لمواجهة مقتضيات هذه الحياة ... ولو تغيرت حواسنا وأصبحت أسرع وأحد لتغيرت مظاهر الأشياء ونظمها الخارجية في نظرنا تغيرا تاما، ولغدت - كما أظن - غير متمشية مع وجودنا - أو رفاهنا على الأقل - في هذا العالم الذي نعيش فيه ... فلو كانت حاسة سمعنا أشد ألف مرة مما هي عليه لسمعنا ضجيجا دائما يزعجنا ... ولو كانت حاسة الإبصار أحد ألف أو مئة ألف مرة مما هي عليه الآن في أحسن المجاهر لرأت العين المجردة أشياء أصغر بملايين من المرات مما تراه الآن، ولاقترب الإنسان من كشف نسيج الأجزاء الدقيقة للأجسام المادية وحركتها ... ولكن ... ربما لم يستطع هذا البصر الحاد الدقيق تحمل وهج الشمس أو وضح النهار، وربما لم يكن في وسعه إلا إدراك جزء صغير جدا من أي شيء في اللحظة الواحدة وعلى مسافة قريبة جدا، وإذا كان الإنسان يستطيع بهذه العين المجهرية ... أن ينفذ أكثر من المعتاد في التركيب الخفي والنسيج الأصلي للأجسام، فلن يعود عليه هذا التغيير بنفع كبير، إن لم يفده هذا الإبصار الحاد في الذهاب إلى السوق والتعامل فيه، وإن لم ير الأشياء التي ينبغي عليه تجنبها عن بعد كاف ...
2
Bog aan la aqoon