Ku Wajahan Falsafad Sayniska
نحو فلسفة علمية
Noocyada
وكثيرون غيره من المحدثين والمعاصرين.
ونعود إلى سؤالنا: كيف يمكن - إزاء الهندسات الكثيرة القائمة - أن نعلم أيها ينطبق على الطبيعة الخارجية؟ والجواب هو: إن العلم بذلك علما مطلقا محال، والأمر بعد ذلك متوقف على اختيارنا نحن؛ فإذا قسنا زوايا مثلث في الطبيعة، أضلاعه أشعة ضوئية، وأركانه أجسام فلكية فسيحة الأبعاد بعضها عن بعض، ثم وجدنا مجموع الزوايا منحرفا عن قائمتين إما بالزيادة أو بالنقص؛ فلا فرق عندئذ بين أن تقول إن هندسة إقليدس هي التي تنطبق على العالم، وما انحراف مجموع زوايا المثلث الذي قمت بقياسه إلا نتيجة لتغيرات تطرأ على أشعة الضوء وعلى وحدات القياس، أو أن تقول إن الهندسة اللاإقليدية هي التي تنطبق على العالم؛ لأن أشعة الضوء ووحدات القياس لا تتعرض للتغير؛ فكلا هذين القولين سواء. وإنه لمما يجدر ذكره في هذا الصدد أن أينشتين - بنظريته في النسبية العامة - يجعل هندسة الأبعاد الفلكية هندسة لا إقليدية، وهندسة الأبعاد الأرضية هندسة إقليدية؛ لأن الانحراف في الأبعاد الأرضية يبلغ من الصغر حدا يستعصي على الملاحظة وعلى القياس؛ وإذن فمن الممكن إهماله؛ فإن كان المثلث - مثلا - مرسوما على الأرض، جاز لنا أن نطبق عليه هندسة إقليدس ونقول إن زواياه تساوي قائمتين، وأما إن كان الثلث مكونا من أشعة ضوئية فسيحة الأبعاد، فالانحراف عن هذا المقدار عندئذ يبلغ حدا لا يمكن تجاوزه؛ وبالتالي يتحتم أن نطبق عليه هندسة غير هندسة إقليدس.
ومؤدى ذلك في تصورنا للمكان هو ألا نجعل المكان ترتيبا ثابتا مطلقا للأشياء الطبيعية بحيث يمكن الحكم عليه بحكم ثابت لا يتغير، كلا ولا هو بالحقيقة الذاتية التي تنبع من نفس الإنسان، بل هو أمر يتوقف على المشاهدة وعلى اتفاقات يتواضع عليها رجال العلم في قراءة تلك المشاهدة، وللرياضي بعد ذلك أن يبني بعقله المحض ما شاء من بناء هندسي، لكن عالم الطبيعة مضطر ألا يأخذ بتلك الهندسة العقلية والرياضية كما هي بحذافيرها، ويتصور العالم الطبيعي قائما على أساسها هي وحدها؛ وإذن فليس صدق الهندسة على الطبيعة أمرا مفروغا منه كما ظن «كانت»، بحيث راح ينفق جهده كله في تفسيره دون أن يتشكك فيه.
ولقد ضربنا بالهندسة مثلا لشدة الصلة بينها وبين الفلسفة في تاريخها الطويل، حتى ليجوز لنا أن نقول إنه لو كانت الهندسة قد تغيرت لتغيرت الفلسفة تبعا لها؛ فما أكثر الفلاسفة منذ اليونان، الذين اتخذوا من علم الهندسة نموذجا يحتذونه في بناءاتهم الفلسفية، ولم لا يفعلون وهم من ذلك العلم الرياضي بمثابة من يقف إزاء حقيقة لا يتطرق إلى صدقها شك، وهي ليست حقيقة عقلية نظرية فحسب، بل هي أيضا حقيقة طبيعية؛ ومن ثم كانت قوة الفلاسفة العقليين في تاريخ الفلسفة وكان هزال الفلاسفة التجريبيين؛ لأن الأولين إنما كانوا ينسجون على غرار علم ثابت ويقيني، وأما الآخرون فكانوا يعتمدون على مشاهدة الحواس، وهي ليست بمثل هذا اليقين ولا ذلك الثبات. ولم ينكشف موضع الخطأ في هذا كله إلا حين تبين في عصرنا الحديث أن صدق الرياضة صدق تحليلي صرف، ولا شأن له بالطبيعة وكيف تكون؛ فإذا كان في مستطاع الرياضي أن يستند في إقامة البرهان على نظرياته إلى بديهيات، فليس في مستطاعه أن يبين أن هذه البديهيات نفسها صادقة على أمور الواقع؛ وإذن فلتكف الرياضة عن التحدث عن الطبيعة، وليترك هذا للتجربة وحدها؛ وبهذا فقد الفلاسفة العقليون حليفهم القوي، وزال من طريق الفلاسفة التجريبيين أكبر عائق كان يعترض سبيلهم.
ولو حدث هذا الكشف أيام اليونان لتغير التفكير الفلسفي كله منذ ذلك الحين، ولم يكن مستحيلا أن يكون بين تلاميذ إقليدس شاب من قبيل «بولياي» يعترض على أستاذه قائلا: ألا يجوز أن نغير من الفروض فتتغير النظريات تبعا لذلك؟ فعندئذ كان لا بد أن يؤدي بهم البحث إلى أن صدق نظريات إقليدس معتمد على قيام فروضها، وأنه لا يجوز - بناء على ذلك - أن نقول عنها إنها الهندسة التي لا هندسة سواها في وصف العالم الواقع.
لو كان شيء كهذا حدث في عهد اليونان، لما طفق أفلاطون يبحث عن الحقائق الثابتة التي تقابل الحقائق الرياضية الثابتة، ولما تشكك المتشككون في صدق المعرفة التجريبية لعدم تحقق اليقين الرياضي فيها، ولما جاهد فلاسفة العصور الوسطى لتأييد اللاهوت ببراهين عقلية تشبه البراهين الرياضية، ولما أخرج سبينوزا كتابه المسمى «أخلاق» مقيما لبنائه على غرار المنهج الهندسي بلا تحوير ولا تغيير، ولما لقي «كانت» ما لقيه من عناء في «نقد العقل الخالص» ليبين به كيف تكون قوانين العلوم عقلية يقينية من جهة وتجريبية تطبيقية من جهة أخرى؛ لأنه كان سيعلم أن مثل هذا الاقتران غير قائم؛ وبالتالي فهو بغير حاجة إلى سؤال. •••
ويكمل هذه النسبية في المكان نسبية في الزمان؛ فما وسيلتنا إلى الحكم على فترتين زمانيتين بأنهما متساويتان بغض النظر عن الحالة النفسية عند من يقيسهما؟ إننا نحكم على فترتين بالتساوي بناء على ساعاتنا، وهذه الساعات نضبطها على ساعة في المرصد مثلا نتخذها معيارا لنا نرجع إليه، ولكن كيف تضبط ساعة المرصد؟ يضبطها الفلكيون على مواضع النجوم وحركاتها؛ لأن هذه الحركات وتلك المواضع هي التي تعكس لنا حركة الأرض في دورانها حول نفسها وحول الشمس؛ وإذن فدوران الأرض هو في النهاية الساعة القياسية، ولكن ماذا يضمن لنا أن يكون دوران الأرض من الاطراد والانتظام بحيث نجزم أن فترات انتقالها من موضع معين إلى نفس هذا الموضع مرة أخرى هي فترات متساوية فتصلح أن تكون مرجعا في القياس الزمني؟ إننا إذا جعلنا اليوم هو الفترة الممتدة من نقطة الزوال إلى نقطة الزوال الذي يليه، كانت الأيام غير متساوية الطول؛ وبالتالي فهي لا تصلح وحدات زمانية متساوية، والذي يحدث اختلافا في أطوال هذه الوحدات هو أن فلك الأرض حول الشمس بيضي الشكل؛ فالأرض تكون في بعض مواضعها أقرب إلى الشمس منها في بعض مواضعها الأخرى، ولهذا أثره في دورانها. والفلكيون على علم بهذه الانحرافات؛ ولذلك تراهم لا يتخذون من الزمن الشمسي مقياسهم الأخير، بل يلجئون إلى نجم أكثر بعدا من الشمس، وهذا البعد الشاسع يجعل اتجاه الأرض بالنسبة له ثابتا نسبيا، ولكنا إذا أردنا الدقة المطلقة فالزمن النجمي نفسه ليس مطلق الثبات ولا كامل الاطراد؛ لأن محور الأرض في دورانها لا يثبت على اتجاه واحد، بل يميل هنا وهناك كما يتذبذب محور الخذروف وهو يدور.
ومن المشاكل المنهجية في هذا الصدد أن علماء الطبيعة إذ يهمون بصياغة قوانين الحركة وسرعة الأجسام، إنما يعتمدون بطبيعة الحال على قياس ثابت للزمن، لكننا إذا عدنا فسألنا: وكيف عرفت أن هذا القياس الزمني ثابت؟ كان الجواب: هو ثابت لأنه هو القياس الذي تصدق عليه قوانين العلم الطبيعي. وفي هذا دور؛ فمعرفة قياس ثابت للزمن تتوقف على معرفته قوانين الطبيعة، ومعرفة قوانين الطبيعة بدورها متوقفة على معرفة قياس ثابت للزمن.
ولا مخرج من هذا الدور إلا بالاعتراف بأننا إذ نقول عن فترتين من الزمن إنهما متساويتان، فلسنا بذلك نزيد على قولنا إننا قد اتفقنا على أن يكون معني التساوي الزمني هو كذا وكذا، ولا حاجة لنا بعد ذلك بأن نسأل إن كان هذا التعريف الاتفاقي هو وصف للحقيقة الواقعة المطلقة أو ليس كذلك؛ لا يجوز لنا أن نسأل: هل الوحدة الزمنية التي يستند إليها الفلكيون في قياس الزمن هي مطردة حقا؟ إذ نكتفي بأن يكون ذلك على سبيل التعريف الذي نأخذ به. نعم يكفينا أن نتواضع معا على نوع من الزمن نختاره، كظهور نجم معين مرتين متتاليتين مثلا، ونجعله معيارا نقيس إليه سائر الفترات الزمنية؛ وإذن فالزمن قياسه نسبي لا مطلق؛ إذ يقاس على وحدة معيارية نحن الذين جعلناها معيارا فرضنا فيه الثبات.
ولنترك الآن مشكلة قياس الزمن لنسأل سؤالا آخر عن ترتيب لحظات الزمن ترتيبا يجعل منها ما هو سابق وما هو لاحق؛ فكيف نعرف أن حادثة أسبق في الزمن من حادثة؟ لا تقل إننا نلجأ في ذلك إلى ساعاتنا؛ لأن هذه الساعات أدوات لقياس الزمن، ولا بد أن يكون الزمن مستقلا عن أدوات قياسه، فلا بد أن تكون هناك وسيلة أخرى نستدل بها على تتابع لحظات الزمن. إنه ليقال أحيانا إن في الظواهر الطبيعية نفسها ما يدل على نوع من الترتيب الزمني؛ فنمو البذرة في شجرة وتفاعل العناصر الكيماوية في مركب واحد وأمثالها، تبين اتجاها في السير لا ينعكس؛ فالشجرة لا تعود فتصبح بذرة من جديد، والمركب الكيماوي لا يعود من حالة التركيب إلى حالة التحليل، ولكننا ينبغي أن نتذكر هنا أن حكمنا على هذه الظواهر كلها باتجاه واحد في سيرها إنما هو نتيجة المشاهدة، وليس هناك ضرورة عقلية تحتم أن يكون هذا وحده هو طريق السير؛ وإذن فإذا قلنا عن لحظات الزمن إنها مرتبة سابقا فلاحقا، وإن هذا الترتيب لا ينعكس، مهتدين في ذلك ببعض الظواهر الطبيعية وطريق سيرها، فإنما نقول شيئا نسبيا، ينسب الأمور بعضها البعض، دون أن يكون لها ما يفرض علينا صدقها بصورة مطلقة.
Bog aan la aqoon