وعلمتني الأيام صدق كلمات المعلم بالرغم من قسوتها، وعشت منذ ذلك اللقاء وتلك التجربة الصغيرة عيشة الكومبارس بين المهمشين ومجاميع البسطاء والفقراء والمجهولين، واستطعت مع الأيام أن أقتل في نفسي أي نزوع إلى البطولة أو الزعامة أو القيادة أو السلطة والتسلط على اختلاف أشكالها ودرجاتها. والذي أذهلني وفاجأني في ذلك اليوم البعيد الذي عرضت فيه المسرحية، أن الجمهور صفق طويلا لمجاميع الكومبارس، وربما sصفق لي أنا أيضا، وعبر عن حبه وإعجابه الشديد بالعاملين الصامتين.
1
أول فيلم
بالبنطلون القصير، والجاكتة الناحلة، والحذاء المتهرئ، وحقيبة الكتب المدرسية تتدلى من يدي، أقف مبهورا أمام المبنى الضخم القبيح لسينما البلدية في طنطا ... تلميذ أنا في السنة الأولى الثانوية أو الثانية لا أذكر على وجه التحديد، أحاول كتابة الشعر وأقرأ بانتظام - متأثرا بشقيقي الأزهري وزملائه من شداة الأدب ورواة الشعر - مجلة الرسالة، وأجد الوقت الكافي للبكاء مع ماجدولين وسيرانو دي بيرجيراك والعبرات، وأكتشف بالتدريج طه حسين والحكيم وجبران وجوته ولا مارتين، مع إدمان قراءة الزيات والرافعي، متأثرا بمن حولي. وإدمان مرضي المزمن وهو شراء الكتب ومنها الأعداد الأولى لسلسلة اقرأ، التي بدأت تصدر في ذلك الحين، وأثناء الحرب العالمية الثانية في الأربعينيات. لكنني لم أكن قد دخلت السينما أبدا، وقد آن الأوان في ذلك اليوم من أيام الخميس أن ألج أبواب هذا العالم العجيب. كانت السينما تقدم فيلمين عظيمين في عرض واحد: الدكتاتور العظيم وفي سنة مليون. قرأت الإعلانات وتأملت الصور، وتحسست القروش القليلة في جيبي، فوجدتها تسمح بقطع تذكرة بقرشين وشراء سيجارة فرط أدخنها كالكبار بعد انتهاء العرض.
كان الفيلم الأول لساحر الكوميديا وقديسها العظيم شارلي شابلن، وكانت أحداث الفيلم ومناظره تسخر سخرية مرة من الطاغية والمهرج والمجنون الذي يدوخ البشرية. كان هو هتلر الذي كنا نحن المصريين ننظر إليه ونتحدث عنه بالإعجاب والرهبة، وربما بالحب والأمل في حضوره أيضا نكاية في المحتل الإنجليزي.
ضحكت كثيرا من مكاني في «الترسو» على الطاغية المهرج الذي تتساقط أقنعته واحدا بعد الآخر، وتعجبت من تقليد شابلن للفوهرر المهووس وهو يخطب ويخرج أصواتا صاخبة، ويتلوى ويتشنج وتتقلص عضلات وجهه كأنه ذئب مسعور أو بوق خرب. الحق أنني لم أعد أذكر من هذا الفيلم إلا سخريته بالقائد المزعوم والمستبد المختل العقل. ولست أدري إن كانت صورة الطاغية المرعب والمضحك قد تسربت مع مر السنين إلى لاوعيي، وعملت مؤثرات أخرى عديدة على أن تصبح قضية الحرية هي قضيتي الوحيدة في الحياة، وأن تدور معظم أعمالي المسرحية والقصصية القليلة والمتواضعة حول موضوع الطغيان والطغاة الكبار والصغار، سواء في ذلك المزيفون والمتطهرون والدمويون (مثل حسن في مسرحية البطل، وجلجاميش في مسرحية محاكمة جلجاميش، وتيمور لنك الذي يحاور جحا في مسرحية المرآة ... وغيرها من الصور الواضحة أو الكامنة في أعمال أخرى مختلفة).
لماذا أتذكر ذلك الفيلم القديم وأنا في بداية شيخوختي، وقد انقطعت عن الكتابة المسرحية منذ سنوات طويلة؟ ربما لأنه قبل كل شيء قد حببني في أفلام شابلن الصامتة والناطقة في السينما الرفيعة التي صرت بعد ذلك من عشاقها المدمنين، ولأنه قبل ذلك أيضا وبعده قد نبهني في تلك السن الصغيرة، وجو الطغيان بكل صوره وأمراضه يحاصرني من كل ناحية، إلى الموضوع الذي لم يفتأ هو شغلي الشاغل حتى في بعض دراساتي الفلسفية ومقالاتي الأدبية، وبصورة مباشرة أو غير مباشرة. أيكون الحنين للكتابة المسرحية هو الذي ذكرني اليوم بهذا الفيلم القديم؟ أم تكون الحسرة على التوقف عن هذه الكتابة، والشك في بزوغ فرصة قريبة للرجوع إليها، هي التي أعادتني لتلك المصادفة العجيبة التي جعلت من ذلك الفيلم أول فيلم أشاهده في حياتي؟
أما الفيلم الثاني فقد كان - فيما أذكر أيضا من صوره الباهتة الخافتة - فيلما ضاريا وقاسيا على الصبي الصغير. لقد كان يصور الوحوش الآدمية التي تقتتل على الدوام وتطارد الفرائس وتصارع الوحوش بما لا يقل عنها وحشية، وذلك في الوقت الذي يفترض فيه أن الإنسان ظهر على الأرض لأول مرة. إن أنس لا أنسى مشهدا ما زلت أحتفظ به في مخيلتي وأطبعه على صفحة وجداني. عشيرتان من تلك العشائر الآدمية المتوحشة، تواجه كل منها الأخرى وتهم بالهجوم عليها وتمزيقها. وفجأة يتجمع أبناؤهم وبناتهم الصغار، يمدون الأيدي بعضهم لبعض، ويقبل الأولاد البنات، وينهمكون في اللعب والجري والقفز، بينما تجلجل ضحكاتهم كصوصوة العصافير. وينتبه الآباء الذين كانوا يتحرشون ببعضهم للدخول في حربهم الشرسة، وإذا بالغضب والتوتر والتحفز يذوب ويتلاشى بالتدريج، وتمتد الأيدي للمصافحة والصفح الجميل.
لماذا أتذكر هذا الفيلم الذي طالما كررت السينما العالمية نسخا أخرى منه؟ ربما يرجع هذا لأنه أوقفني لأول مرة أمام لغز الإنسان، وحرك في الشوق لمعرفته وإدراك كنهه وتتبع تجليات حقيقته أو زيفه وضلاله، في تاريخ شعوبه وحضاراته، وحكمته وأدبه وعلمه وفنه، بقدر ما تسمح به الطاقة المحدودة والوقت المبدد على الدوام في التفاهات والترهات والمنغصات. ولعلي أيضا قد تذكرت ذلك الفيلم عندما كنت أقلب بمحض الصدفة في أوراق قديمة ومنسية، وجدت بينها فصلا طويلا عن العبقري «ماكس شيلر» (1874-1928م) الذي يعد في عصرنا مؤسس ما يسمى «بالأنثروبولوجيا الفلسفية» التي تتقصى ماهية الإنسان ووضعه المتميز في الكون عن سائر الكائنات العضوية وغير العضوية، وتفرده بالعقل وقدرته على العلو والتجاوز والإبداع ... إلخ.
أيكون ذلك بداية اهتمام بهذا الفيلسوف أو بالأحرى بداية التفكير في الرجوع إلى مشروع قديم عنه؟ وهل ستسمح متاعب الشيخوخة وأحلام الكتابة المسرحية والقصصية بالتوفر على هذه الشخصية، كما توفرت من قبل - وا أسفاه! - على عشرات غيرها من الفلاسفة والشعراء والأدباء؟!
Bog aan la aqoon