وما ذلك إلا لأن الديمقراطية مهما بدت في الظاهر قائمة على المساواة والتماثل والتجاوب والانقياد، فلا تزال في الحقيقة قائمة على مجموعة مركبة من أفراد يحنون أو يتطلعون إلى إبراز أنفسهم بوسائل أو أساليب لا يكادون يشعرون بها، ولا يتعمدونها تعمدا، ويريدون أن يشبعوا ما يعتمل في نفوسهم، وما يضطرب في أخلادهم من آمال وعلالات وطموح إلى التفوق والتبريز والعلاء.
وليست الفرص التي تسنح لبلوغ الزعامة ومرتبة القيادة منحصرة في الميدان السياسي وحده، وهو الميدان الذي تتبادر إليه الأذهان رأسا كلما جاء ذكر الديمقراطية، أو عرض حديثها للمتحدثين، فإن الزعامة السياسية في الحق خطيرة الشأن عظيمة القدر مرهوبة الجانب كبيرة السلطان، ولكن الواقع أنها ليست سوى ميدان من عدة ميادين يمكن الإنسان أن يعلن فيها عن نفسه، ويبرز في ساحتها إذا واتاه البروز.
إن فرص الزعامة والتفوق والغلبة لتصيح عالية الصوت، طالبة الظهور، منادية الأكفاء والأفذاذ إليها، في كافة النواحي وجملة الميادين؛ إذ في كل ميدان منها يعمل الناس، ويحاول أفراد منهم تأدية رسالاتهم، والنبوغ بينهم والاستعلاء، وهم يريدون من أعماقهم أن ينهضوا فوق المساواة الاسمية، أو المساواة القانونية، لإظهار سمو أقدارهم عنها، وحقيقة رفعتهم فوقها، من حيث المقدرة والنباغة والاستعداد.
ولكن لكي يبلغوا هذا الذي يتطلعون إليه ينبغي أن يقادوا، ويجب أن يذعنوا إلى الزعامة، ويدخلوا في صفوف المؤمنين بها، والنازلين على أمرها، والمرتضين لوجودها، حتى يتسنى لها أن تنظم وجودهم، وتقسمهم طرائق وهيئات وجموعا، وتستخدم كفاياتهم في سبيل الصالح العام والغايات الاجتماعية المنشودة في الحياة.
إن هذا التقسيم ضروري في الجماعة لأجل إيجاد الصلات والروابط والعلاقات المنظمة للعمل، المرتبة لتوزيع الجهود، الصالحة لإبراز العبقريات والنباغات والأكفاء، الكفيلة ببلوغ طباق جديدة من الفكر والنظر، والوصول إلى آفاق بعيدة من الأماني والآمال والأغراض.
وما مثل الزعيم في ذلك كله إلا كمثل المرشد أو الدليل المحترف في تسلق الجبال والهضاب، فإن الدليل لا يعتبر بالضرورة أحسن ولا أمهر ولا أسمى من الذين يتقدمهم إلى صعود الجبل ويستبقهم جانب الهضبة أو صخور الهرم، وإنما هو المفروض فيه فقط - وهذا وحده كاف - أنه العليم العارف الخبير بصعود هضبة خاصة أو مرتفع معين أو قمة معلومة، فهو لهذا يستبق المتسللة، وطلاب الصعود وملتمسة الارتياد، تنظيما للصعدة، واستهداء بالخبرة، واسترشادا بالدليل.
غير أن هناك أيضا بطبيعة الحال الطلائع الأولون، والرادة المقتحمون ، والكشافة السباقون، الذين يظهرون من حين إلى حين، فإن هؤلاء بلا ريب هم المتسلقون الكبار، والمرتادون الأفذاذ، والسائحون الكشافون النوادر، ومثلهم كمثل الأنبياء والهداة الأولين.
فنزيلوس - زعيم اليونان.
ولا شك في أن الحياة تتطلب هذين النوعين، والدنيا بحاجة إلى هذين الصنفين، وإن كانت الفرصة لنوع الأدلاء والمرشدة في النظام الديمقراطي أكبر بوجه خاص، وأكثر سنوحا، وأوفر ظهورا؛ إذ في وسع الدليل عندما تتضافر الجماعات على الجهود والدأب والعمل المشترك الموحد الاتجاه، أن يباعد بين المتسلقين في أثره والتابعين له والمترسمين لخطاه، وبين الخطأ والزلل، ويجنبهم الوقوع في الأغلاط الخطيرة المهلكة، وقد يحدوه نشاط المجموع، وتحفزه طاعتهم وامتثالهم إلى البلوغ بهم أعلى القمم وأسحق القلل، والوصول بهم إلى ذرى لم يبلغها أحد من قبلهم، أو ما كانوا لولاه لها بالغين.
ولا يخفى أن الصعوبة الكبرى ليست في تردد الأمة الحرة في الانقياد للزعامة، وتراخي الشعب الديمقراطي في الاستسلام لها، والسير في إثرها؛ بل هي في الخوف من أن يعمد الذين تحتاج الأمم إلى قيادتهم وتطلب إليهم احتلال مكان الزعامة فيهم، إلى أخذ كل شيء في أيديهم، والاستيلاء على كل سلطة لأنفسهم؛ فيروحوا طغاة أكثر منهم زعماء، وبغاة عتاة جبابرة، لا هداة أخيارا صالحين.
Bog aan la aqoon