وليس يكفي مجرد الرغبة في الوصول إلى الزعامة، وإنما يجب أن تتمثل الرغبة عملا رائعا، ومسلكا فريدا، وتصرفا بادها، واتخاذ أساليب مقبولة، ووسائل صالحة، وطرقا واضحة الحجة، بينة المناهج، مزدانة الحواف والجنبات بالزهر والرياحين.
لقد كانت القوة أو المقدرة على تصريف الشئون قبل أن تنتشر الأفكار الديمقراطية في العالم انتشارها اليوم ويتسع لها المدى اتساعه الأخير، يظن أنها محض القوة، وكان يلوح أن القوة هي التي صنعت الحق، وفي مجتمع تسوده هذه الفكرة، كانت الزعامة بطبيعة الحال تلوح في التصور وتبدو في الاعتبار مظهر الظفر بالقوة واستخدامها، والمقدرة على التملك والتفرد والسيادة والسلطان.
وفي الواقع لا تزال تصوراتنا وأفكارنا وأخيلتنا في معاني الزعامة وتعريفها متأثرة كثيرا بفكرة الماضي ونظريته من حيث السيادة والنفوذ.
ولكنا نعيش اليوم في عصر ديمقراطي مقر معترف به، بل نحيا في عهد يجد الفرد فيه حقوقه وامتيازاته مصونة مؤيدة، صريحة معلنة. وقد أصبح المجتمع يرتضي ويسلم بحق الفرد في الحياة والحرية وطلب السعادة والتماس الهناء، وإن كان هذا التسليم نظريا على الأقل؛ إذ أصبح من القضايا المسلم بها أن الناس قد ولدوا أحرارا متساوين، وأمسى مفروضا أن لكل شخص قيمته في ذاته، ولفرديته وحقوقها كل الشأن وأكبر الحساب. ولا تزال فكرة المساواة آخذة في النمو والازدياد والقوة والاطراد والتحقيق والتنفيذ مع تطور الحياة ومر السنين.
وإذا كان الأمر كذلك في المجتمع اليوم، أفلا يقلل قيام المساواة العامة الضرورية في النظام الديمقراطي والحياة النيابية من الفرص المهيئة لنهوض الزعامة، كما يضعف من حاجة الناس إليها، والتماسهم لوجودها، وافتقارهم إياها؟! بل أليس من شأن تشدد المجتمع الحديث في اعتبار حقوق الفرد وامتيازاته قاعدة لكل القيم الاجتماعية، وأساس كل تقدير للأشخاص، أن يؤثر أكبر التأثير في فكرة الزعامة ووسائل قيام الزعماء؟!
لقد يلوح هذا صحيحا على وجهه، مستقيما على ظاهره، ولكن الواقع هو بالعكس؛ إذ الحقيقة أن الفرص المساعدة لقيام الزعامات في المجتمع الديمقراطي اليوم قد أصبحت أكثر من قبل، وزادت زيادة متناهية، وإنها لتنمو كذلك وتتوافر وتسنح كثيرا، إذا ما فهمت الزعامة على حقيقتها من ناحية مقتضياتها النفسية وجوهرها الصحيح ومعدنها السليم.
إن الخطر الحقيقي الذي تتعرض له الديمقراطية هو خطر انتشار الصغار والتفاهة، وشيوع التماثل والتناسق، وقبول الحياة للاستمرار على وتيرة واحدة ونظام رتيب، وقيام أقيسة عامة للقيم والمراكز والأخطار. ووجه الخطر من ذلك كله هو من حيث فقدان الإمامة والهداية والتوجيه، والنشاط الروحي والحماسة النفسية، والشعلة التي تلهب الحياة العامة وترسل وقدتها في كل القلوب والأذهان.
الخطر الحقيقي هو ما يخشى على الحياة في النظام الديمقراطي من الركود والأسن، وما قد يغشاها من الجمود والنوم والإغفاء والبلادة واليأس والكلال والإعياء.
وفي سبيل درء هذا الخطر لا غناء عن بذل الجهود الفعالة الإيجابية المثمرة لإنقاذ المجتمع من مظاهر هذا الخطر وبوادره وكافة نواحيه؛ إذ لا بد من قوة توجيه تدفع بالنفوس إلى العظائم، وتسوق الأفراد إلى البذل والتضحية والإيثار، وتضرم نار الحماسة في الجماعة ليسيروا نحو المثل العليا، ويحدثوا الجسام، ويتطلعوا إلى الكمال.
وإذا صح أن الديمقراطية لا تيسر للزعامات طريقها، ولا تفتح السبل أمامها، ولا تمهد لها أطيب المهاد، بل قد لا تشجع - كما هو الظاهر - على قيامها، وتستريب بالذين يبلغون مكانها، وتتشكك في الأفراد المبرزين الذين ينهضون ليحتلوا فيها مواضعها؛ إذا صح هذا أو نحوه مما هو مشاهد اليوم في الديمقراطية أو محسوس من ناحيتها، فإن الدافع مع ذلك هو أن الفرص التي تتهيأ في النظام الديمقراطي للفرد الذي يستطيع التدليل على حقه في امتلاك النفوذ، وإصابة الرياسة، والظفر بالسلطان، لا تزال كثيرة، وفرة، مأتية، متوالية السنوح، لا تكاد تضارع، ولا مثيل لها فيما مضى من العهود وأدوار الحياة.
Bog aan la aqoon