Hordhac u Dirasadda Suugaanta Carabta
مقدمة لدراسة بلاغة العرب
Noocyada
ولا يخفى على من ألقى نظرة إجمالية في الأدب العربي صعوبة تدريس هذه الآداب؛ لأنها ليست آداب أمة واحدة وليست لها صبغة واحدة، بل هي آداب أمم مختلفة المذاهب والأجناس والبيئات؛ ذلك إلى سعتها التي لا تكاد توجد في أدب أمة أخرى، ولذلك يكون من المتعسر على فرد واحد أن يقوم بجمع تاريخ الأدب العربي مهما علا كعبه وقويت عزيمته؛ إذ لا بد له من الاطلاع على كل ما كتب، ولديه أكثر من «مليونين» من المجلدات التي تجب دراستها. وذلك لا يتسنى لفرد واحد؛ لتشتت هذه المؤلفات في جمعها ومعرفة أماكنها، ثم في طريقة تأليفها وصعوبة الاستفادة منها بدون جد طويل وتعب كثير؛ وذلك أيضا إلى حاجة المدرس إلى التضلع من الفنون المختلفة ليمكنه نقد ما يعرض عليه؛ إذ لا يصح لمدرس الأدب العربي أن يمر بمقدمة ابن خلدون مثلا بدون أن يدرسها دراسة إجمالية، يبين فيها مذاهب المؤلف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يمكن ذلك إلا إذا وقف أيضا وقوفا إجماليا على هذه المذاهب عند العرب وغيرهم قديما وحديثا؛ ليعرف الخطأ من الصواب في آراء صاحب الكتاب. ومثل ذلك يقال في الفلسفة والعلوم وغيرها. وهذا من الصعوبة بمكان؛ لأن تعلمنا الأولي لا يبيح لنا هذه الكفاية التي اكتسبها أهل أوروبا من دراستهم الأولى.
لهذا كان كل ما يعمل الآن في الأدب العربي من قبيل التمهيد؛ إذ لا تتسنى دراسته دراسة تامة إلا إذا جمعت خلاصته من شتيت الكتب الكثيرة والمكاتب المتعددة. وكتب الباحثون في ذلك كتابات نقدية تبين هذه الآداب، وما تحتوي عليه من الأفكار. وتناول البحث في ذلك العلماء والأدباء والمؤرخون والفلاسفة والاجتماعيون، وانتقلت الحركة الأدبية عندنا من البحث في اللفظ والديباجة، كالمجاز، والاستعارة، والتشبيه، والكناية إلى البحث في نفس الكاتب أو الشاعر، ومقدار معلوماته، وما أودعه من خطأ أو صواب في شعره أو نثره، وما اعتراه من التأثير النفسي والخارجي، وحمله على كتابة ما كتب؛ إلى غير ذلك من المؤثرات.
ولو أن همة أدباء العرب اتجهت إلى هذا النوع من النقد والبحث، بدل بذل الهمة في فهم اللفظ؛ لوصلت الآداب العربية إلى ما وصل إليه غيرها من المتانة والتأثير في المجتمع، ولكان فهمنا لآدابنا أفضل وأكمل مما نفهمه اليوم، ولتغيرت طرق الفكر والخيال عندنا، ولسارت آدابنا مع الأيام، ولتقدمت مع العلوم والأفكار؛ لأنه لا شيء أدعى إلى التقدم من البحث والنقد، ولا شيء أدعى إلى الوقوف والتقهقر من الإعجاب بالشيء والاكتفاء به عن سواه.
والطريقة التي نريد أن ندرس بها الأدب العربي هي طريقة نقدية؛ إذ بدون هذه الطريقة لا يمكن لأي دراسة من نوع ما إن تنتج أو تثمر، ولا لأي فكر أن يرقى أو يتقدم، ولا يمكن أن تتخطى العقول أطوارها اللازمة، ما دامت مقيدة بتأييد فكرة أو رأي تعمل على إثباته. نريد بطريقة النقد البحث في العوامل الحقيقية التي اعترت اللغة العربية وبلاغتها، بحثا مبنيا على الأسباب العلمية والاجتماعية، ثم الحكم على ذلك حكما صحيحا بقدر ما تهتدي إليه عقولنا، وترشدنا إليه مباحثنا، وبدون أن نرجع إلى أقوال القدماء إلا من حيث إنها مراجع، أو شيء من تاريخ اللغة، لا أنها عمدة الآراء أو قادة الباحثين. أما إذا أخذنا هذه الآراء كأصل نقلده، كان أجدر بنا أن نربأ بأنفسنا من عناء البحث والعمل؛ لنسرد أقوال القدماء كما هي، أو نجمعها جمعا مع بعض التصرف في العبارة؛ فيصبح تاريخ الأدب ملخص ما في كتب القدماء، ولا يكون للمؤلف إلا الجمع والاختصار. نريد أن ندرس الأدب دراسة علمية كما يقول الأوروبيون، ولا يعنى بالدراسة العلمية كما لا يعني الأوروبيون أنفسهم أيضا أن الأدب يصبح ذا قواعد لا يتعداها، كما في العلوم الرياضية أو الطبعية. ذلك لن يكون؛ لأن الأدب فن من الفنون الجميلة، الحكم فيه موكول إلى الذوق السليم والإدراك الصحيح، وإنما نتبع خطة ذات قواعد وقوانين، وهذه الخطة هي ما يمكن أن تسمى طريقة علمية، كما سنبين ذلك إن شاء الله.
نحن لا ندعي القدرة على القيام بهذا العمل الخطير؛ لأنا نعتقد أن أمامنا من الصعوبات في سبيل ذلك ما لا يذلله إلا طول البحث والمثابرة على الدرس، وذلك لا يكون إلا بعد زمن طويل، وهو ما نرجو أن نصل إليه إن شاء الله في المستقبل، وليس من غرضنا أن نأتي في دراستنا بسلسلة من الشعراء والكتاب، نتبعها بشيء من تراجمهم والمختار من كلامهم. ذلك لا يعنينا الآن؛ إذ من السهل أن يقف الإنسان على ترجمة الشاعر أو الكاتب، ويعرف شيئا عن حياته الأدبية. وإنما غرضنا البحث عن روح اللغة العربية كما يقولون، وحل ما بها من الشعر والنثر حلا نفسيا، والبحث عن صلة ذلك بالاجتماع، وعن المؤثرات التي أحدثت في نفس الشاعر أو الكاتب ميلا خاصا إلى هذا النوع من البلاغة، ثم صلة ذلك بمواهب الكاتب الفطرية، وقيمة ما عنده من فنون البلاغة وضروب التعبير المختلفة، وما له من الشخصية؛ أي الابتكار والإبداع في ذلك. وهذا يستلزم استيعاب ما كتبه الكاتب أو الشاعر بالقراءة والدرس قراءة دقيقة، خالية من الميول والأهواء الشخصية بقدر الإمكان.
ومن شروط النقد الصحيح أن يبتعد الإنسان عن أهوائه وميوله عندما يقرأ كاتبا أو شاعرا يريد أن يفهمه كما هو، ولا بد أن يتخلى أيضا عن أذواقه الخاصة؛ لأن الاستسلام إلى ذوق الشخص ينافي طريقة النقد الصحيح. هذه الطريقة - طريقة تخلي القارئ عن ذوقه الخاص وعن المؤثرات التي تحيط به - تجعله يفهم الكاتب بذوق الكاتب، ويفهم الشاعر بنفس الشاعر التي قال بها شعره. ولا بد من وضع القارئ نفسه في الظروف والأحوال التي أحاطت بالكاتب وقت كتابته. هذه الطريقة هي التي تمكن القارئ أو الناقد من فهم روح الكتابة، ولا بد من أن ينسى الإنسان نفسه بين صفحات الكتاب الذي يريد أن يقرأه. فإذا انتهى من تحليل الكتابة وفهمها على طريقة الكاتب نفسه، رجع إلى معلوماته الشخصية وإلى ذوقه الشخصي، وإلى ما اكتسبه من النقد بالتجربة والدرس في الحكم على المؤلف.
يظن أهل العلم - ونريد بأهل العلم المشتغلين بالرياضيات، والطبعيات، وعلم النبات والحيوان - يظن بعض هؤلاء أن الأدب من الكماليات، ويقولون كان أفضل وأنفع لوفاق الاهتمام بالعلوم الاهتمام بالآداب؛ لأن من قسم العلوم كان يكون لنا المهندس والكيميائي والنباتي، والطبيب والصيدلي، وغيرهم ممن يفيد الاجتماع والأفراد أكثر مما يفيده الكاتب والشاعر والخطيب أو المؤرخ والفيلسوف، وفاتهم أن الإنسان كان شاعرا قبل أن يكون عالما، وكاتبا وخطيبا قبل أن تصل نفسه إلى درك العلوم وفهمها؛ لأنه أول ما نطق أمكنه أن يعبر عما يجول بخاطره من حزن وفرح ولذة وألم، وأن الأدب للنفوس أشبه بالجهاز التنفسي للجسم. ولكن فهم الأدب بهذا النوع جاءنا من أن آدابنا أكثرها مبني على الخيال والاستعارة والتشبيه، وهو - على رأي أدبائنا - أفضل الأدب وأبلغه، ولا شك في أن هذا ضرب من الكماليات. أما الأدب من حيث إنه لسان النفوس، وترجمان العواطف، وصورة الاجتماع، وصحيفة من صحف التاريخ، فهو من الضروريات لتهذيب النفوس، ومعرفة ما في طبيعة الإنسان من الأمراض النفسية والاجتماعية؛ بهذا قد يصلح الأدب ما لا يصلحه الطبيب، ويفعل الكلام ما لا يفعل الحسام، و«إن من البيان لسحرا.»
والأدب معرض عام لأفكار الإنسان، ومسرح لأنواع العقول المختلفة، تجد فيه الفيلسوف ينظر إلى العالم نظر المفكر، يشفق عليه تارة، ويسخر منه أخرى، ويرشده مرة ويضله أحيانا، وتجد فيه الاجتماعي يبحث في الاجتماع وعلله، وينتحل لنفسه حق الزعامة وحق الحكم على نظام العالم، وتجد فيه العالم والطبيب، والمتدين والملحد، كل يعرض مذهبه وطرق بحثه، وتجد فيه الشاعر الخيالي، يصور الحق باطلا والباطل حقا، ويؤثر في النفس فيسعدها أو يشقيها، ويصور اليأس جحيما والأمل جنة ونعيما؛ والأدب يجد فيه كل إنسان طلبته، فهو صحيفة عامة من صحف الكون.
وقد ظهر لنا من المفيد أن نبدأ دراستنا هذا العام بمقدمة عامة نعرض فيها صورة إجمالية من الحركة الأدبية، نحدد فيها الأدب، ونبين أنواعه وخواصه، وأثره في الاجتماع وصلته به، وأثره في النفس وأثر النفس فيه، والمذاهب الأدبية المختلفة، وطرق البحث والتأليف، وشيئا من الموازنة بين الأدب العربي وغيره.
والله المسئول أن يرشدنا إلى الصواب، وأن يكلل أعمال الجامعة المصرية بالنجاح، إنه على ما يشاء قدير.
Bog aan la aqoon