تمهيد1
الكلام البليغ ودراسته
الأدب أو البلاغة
أنواع البلاغة
الشعر الجاهلي
البلاغة والاجتماع
النزعات المختلفة في فهم البلاغة
تبعة الشعراء والكتاب
النقد الأدبي
النقد الأدبي في فرنسا
البيئة وأثرها في العقول
خواص الأجناس البشرية وأثرها في العقول
مذهب التدرج والانتقال في أنواع البلاغة
مذهب التأثير والانفعال في النقد الأدبي
النقد الأدبي عند العرب
تمهيد1
الكلام البليغ ودراسته
الأدب أو البلاغة
أنواع البلاغة
الشعر الجاهلي
البلاغة والاجتماع
النزعات المختلفة في فهم البلاغة
تبعة الشعراء والكتاب
النقد الأدبي
النقد الأدبي في فرنسا
البيئة وأثرها في العقول
خواص الأجناس البشرية وأثرها في العقول
مذهب التدرج والانتقال في أنواع البلاغة
مذهب التأثير والانفعال في النقد الأدبي
النقد الأدبي عند العرب
مقدمة لدراسة بلاغة العرب
مقدمة لدراسة بلاغة العرب
تأليف
أحمد ضيف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسله الكرام.
وهذه عجالة نقدمها إلى قراء العربية. على أنها مذكرات لطلبة الجامعة المصرية، ولمن يريد أن يطلع على شيء جديد مجمل عن حركة الأدب الحديثة، وطرق فهم البلاغة في هذا العصر. أما كبار العلماء وأساتذة الأدب، فلا يجدون في هذه الآراء ما يشفي غلتهم، أو يسكن حب الاستطلاع لديهم؛ فعليهم أن يرجعوا إلى كتب الفرنجة الحديثة، وفيها كل التفصيل لما أجملناه وأوجزناه، ذلك في غير الكلام في بلاغة العرب، فإن كل هذا أو جله من آرائنا الخاصة التي اهتدينا إليها بالدرس والتفكير.
وإذا كان كتابنا هذا يدعو إلى سلوك طريق جديد في دراسة بلاغة العرب وفهمها؛ فذلك لأن مصر الآن في حالة رقي (تطور)، يشبه من بعض الوجوه أن يكون عصر نهضة لنا. وفي مثل هذه العصور يحدث في العقول كما يحدث في المجتمعات انقلاب وتغير وميل إلى الجديد في كل شيء، وإننا لنجد هذا الشعور يدب في نفس كل إنسان منا حتى في النفوس التي لا تحب غير القديم.
إن كل ما يراه القراء في هذا الكتاب جديدا، هو ما يجيش في نفوس الأدباء الذين اطلعوا على بلاغات الأمم الحديثة، ورأوا الأطوار التي أدركتها ، فكانت سبب رقيها. وكلهم يعتقد أننا لا ننهض بلغتنا العربية إلا إذا دفعنا بها إلى التحرك من مكانها الذي طال وقوفها فيه؛ لتأخذ مكانا واسعا يليق بها في صف اللغات الحية الآن، وفي اعتقادنا أنه لا يكون ذلك إلا إذا تغيرت طرق الدرس والتأليف عما كانت عليه منذ ألف سنة، وذلك ما نرجو أن يوفق إليه علماء اللغة والأدب عندنا.
والله - سبحانه - المسئول أن يهبنا الإخلاص في عملنا، وأن يوفقنا إلى الصواب.
أحمد ضيف
يناير سنة 1921
تمهيد1
دراسة الآداب العربية بالطرق المعروفة الآن لا تزال حديثة العهد، والأدب العربي على سعته وغنائه مشوش مختلط مرتبك، لا يزال باقيا على حالته الأولى من البساطة والسذاجة في التأليف والجمع، ولم تحرر بعد عقول أدبائنا من قيود الطرق القديمة والانتصار لها، ولا يزال يعد الخروج من القديم خروجا عليه، ولا نزال نعتقد أن القدماء وصلوا إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري من الذكاء والإتقان، وغير ذلك من ضروب الرضا والارتياح.
ومدرس الأدب يلزمه أن يطلع على أكثر ما كتب في اللغة ليقف على روحها ومؤلفيها، وليعرف الكتاب والشعراء والفلاسفة والمشرعين وغيرهم، ولا يكفي معرفة ذلك من بطون الكتب والفهارس والموسوعات؛ إذ لا بد من قراءة الكتب نفسها والحكم عليها بناء على معرفة الشخص نفسه. وكل حكم مبني على التقليد أو النقل لا قيمة له، ولا يفيد الأدب شيئا، ولا يصح الاعتماد عليه، فلا يصح أن نأخذ بالتسليم بقول من قال: إن النابغة الذبياني أشعر الشعراء؛ لأنه قال: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... إلخ، بدون بحث في ذلك، ولا أن المهلهل أول من طول القصائد؛ لأن صاحب الأغاني أو غيره قال ذلك، بدون أن نبحث في صحة هذا الزعم، ولا أن نصدق قول من قال: إن لغة العرب أحسن اللغات، بدون أن نعرف شيئا من اللغات الأجنبية ونوازن بينها وبين اللغة العربية.
وإننا لنسيء إلى اللغة العربية وإلى الأدب العربي وإلى الأمة العربية أكثر من أن نحسن إليها بمثل هذه الأقوال، التي لا يمكن أن يعتمد عليها إنسان مفكر، كما أنها لا تحرك العقول ولا تحملها على البحث. والعقل إن لم يكن طلعة محبا للبحث لا ينتج ولا يدرك حقائق الأشياء. وما يدعوه العلماء الآن حرية الفكر ليس إلا نوعا من البحث المبني على التعقل والاستنتاج، وهو سر تقدم العلوم والفنون في المدنية الحاضرة؛ فلا بد لآدابنا من هذه الحرية المبنية على المعلومات الصحيحة والاستنتاج الصحيح.
والأفكار عندنا مقيدة محصورة محدودة: مقيدة بالعادات، محصورة في دائرة ضيقة من المعلومات، محدودة بشيء أشبه بالعقيدة في صحة ما نحن عليه من العلم والأخلاق. والخروج من العادات عسير، وترك الإعجاب بالنفس شديد على النفس، مهما صحت عزيمة محب الجديد وقويت براهين الداعي. وبلدنا من أشد ما يكون تمسكا بعاداته وطرقه في الفهم والإدراك. ولكنا في إبان نهضة تبشرنا بحسن المستقبل وإقبال شبابنا على العلم وتعلمه، وقبول الجديد يبعث فينا أملا كبيرا في نجاح هذه الحركة المباركة.
العالم متحرك، والعلم والأدب نتيجة هذا التحرك، فهي متحركة معه ومتغيرة بتغيره؛ فلا بد أن نسير في هذه الحركة، وأن ننتقل معها، وأن تتجدد معلوماتنا بتجددها؛ نريد بذلك أن نكون من أنصار الجديد، ونريد بالجديد الحركة التي أحدثتها الأفكار والقرائح منذ وقوف حركة العلم والأدب عند المسلمين إلى اليوم؛ أي نريد أن تأخذ عقولنا ومعارفنا صبغة جديدة غير الصبغة الموجودة في كتبنا وفي معلوماتنا؛ لأن العلم يتغير كلما كثر فيه البحث حتى لقد تنقلب العقيدة في العلم إلى ضدها؛ إذ إن القواعد العلمية مبنية على الحكم على الظواهر الطبعية، وقد يخطئ الإنسان في إدراك هذه الظواهر أو يدركها إدراكا ناقصا، وقد يفهم المجرب من التجربة غير نتائجها حتى في العلوم الرياضية والطبعية؛ لأن جزءا كبيرا من حكم الإنسان على الأشياء سببه العواطف والإحساسات الشخصية، التي تختلف عند كل إنسان باختلاف مزاجه، وكما يكون للإنسان مزاج خاص يقوده ويتحكم فيه يكون أيضا للزمن مزاج خاص يسود فيه ويقود الرأي العام.
يظهر أثر ذلك في المذاهب السائدة والأفكار العامة، ثم يتغير بمرور الزمن وكثرة البحث، والأفكار سائرة على مثال المد والجزر: تتقدم وتتأخر، ثم تتأخر وتتقدم؛ لأن الحركة في كل شيء دليل الحياة، فلا بد من سير الفكر إذ الفكر الواقف مائت؛ لذلك نرغب من متأدبينا وعلمائنا أن يعيرونا شيئا من التسامح، وأن يغضوا الطرف عما عساه أن يكون غير جار على طرقهم في الفهم والإدراك، أو مخالفا لحكمهم على الأشياء، وأن يعتقدوا أننا نفعل واجبا علينا لبلادنا ولغتنا وأمتنا، وأنه يجب أن نضحي بكل شيء في سبيل هذا الواجب، ونحن نعتقد من جهة أخرى أنهم مخلصون في تمسكهم بتربيتهم العقلية؛ لأن شكر الجميل يقضي عليهم بالانتصار إلى معلوماتهم التي بها رقوا وعليها شبوا. ولكنا لا نعذرهم ولا يعذرهم إنسان إذا حكموا علينا بدون أن يتدبروا أقوالنا، ومن غير أن يدرسوا ما نقول دراسة خالية من الميول والأهواء؛ فكلنا يقصد إلى إصلاح لغته التي لا يمكن أن ترقى معلوماتنا بدونها.
اللغة العربية لغتنا لأنها لغة الكتابة والتأليف؛ ولأنها تستوعب لغة التفاهم بيننا. والآداب العربية آدابنا من حيث إنها أصل معلوماتنا، ومنبع معارفنا ومواهبنا العقلية، بل هي كل ما نعرفه من الحركة الفكرية التي أحدثها الإنسان وأنتجتها العقول والقرائح. ولكنا نريد أن تكون لنا آداب مصرية تمثل حالتنا الاجتماعية وحركاتنا الفكرية والعصر الذي نعيش فيه؛ تمثل الزارع في حقله، والتاجر في حانوته، والأمير في قصره، والعالم بين تلاميذه وكتبه، والشيخ في أهله، والعابد في مسجده وصومعته، والشاب في مجونه وغرامه. أي نريد أن تكون لنا شخصية في آدابنا، ولا نريد بذلك أن نهجر اللغة العربية وآدابها؛ لأننا إن فعلنا ذلك أصبحنا بلا لغة وبلا أدب؛ إذ لا يمكن أن نصل إلى ذلك بدون أن نرجع إلى اللغة العربية وآدابها، بحيث تكون قاموسا لنا ونموذجا لبلاغتنا، وإماما نهتدي به في الصناعة الأدبية؛ وعلى الجملة تكون آدابنا عربية مصبوغة بصبغة مصرية، من هذه الوجهة يجب أن نتعصب للغة العربية وآدابها، كما يتعصب الأوروبيون الآن للغة اللاتينية واليونانية؛ لأنها أصل معارفهم ومستودع سر مدنيتهم. ولا ينكر إنسان علينا ذلك لأن إنسانا لا يمكنه إنكار أثر المدنية العربية في العالم الإسلامي. ونعود فنقول: إن كل ما نرجوه هو أن تكون لنا آداب مصرية عربية: مصرية في موضوعاتها ومعلوماتها، عربية في لغتها وبلاغتها وأساليبها.
ولا يخفى على من ألقى نظرة إجمالية في الأدب العربي صعوبة تدريس هذه الآداب؛ لأنها ليست آداب أمة واحدة وليست لها صبغة واحدة، بل هي آداب أمم مختلفة المذاهب والأجناس والبيئات؛ ذلك إلى سعتها التي لا تكاد توجد في أدب أمة أخرى، ولذلك يكون من المتعسر على فرد واحد أن يقوم بجمع تاريخ الأدب العربي مهما علا كعبه وقويت عزيمته؛ إذ لا بد له من الاطلاع على كل ما كتب، ولديه أكثر من «مليونين» من المجلدات التي تجب دراستها. وذلك لا يتسنى لفرد واحد؛ لتشتت هذه المؤلفات في جمعها ومعرفة أماكنها، ثم في طريقة تأليفها وصعوبة الاستفادة منها بدون جد طويل وتعب كثير؛ وذلك أيضا إلى حاجة المدرس إلى التضلع من الفنون المختلفة ليمكنه نقد ما يعرض عليه؛ إذ لا يصح لمدرس الأدب العربي أن يمر بمقدمة ابن خلدون مثلا بدون أن يدرسها دراسة إجمالية، يبين فيها مذاهب المؤلف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يمكن ذلك إلا إذا وقف أيضا وقوفا إجماليا على هذه المذاهب عند العرب وغيرهم قديما وحديثا؛ ليعرف الخطأ من الصواب في آراء صاحب الكتاب. ومثل ذلك يقال في الفلسفة والعلوم وغيرها. وهذا من الصعوبة بمكان؛ لأن تعلمنا الأولي لا يبيح لنا هذه الكفاية التي اكتسبها أهل أوروبا من دراستهم الأولى.
لهذا كان كل ما يعمل الآن في الأدب العربي من قبيل التمهيد؛ إذ لا تتسنى دراسته دراسة تامة إلا إذا جمعت خلاصته من شتيت الكتب الكثيرة والمكاتب المتعددة. وكتب الباحثون في ذلك كتابات نقدية تبين هذه الآداب، وما تحتوي عليه من الأفكار. وتناول البحث في ذلك العلماء والأدباء والمؤرخون والفلاسفة والاجتماعيون، وانتقلت الحركة الأدبية عندنا من البحث في اللفظ والديباجة، كالمجاز، والاستعارة، والتشبيه، والكناية إلى البحث في نفس الكاتب أو الشاعر، ومقدار معلوماته، وما أودعه من خطأ أو صواب في شعره أو نثره، وما اعتراه من التأثير النفسي والخارجي، وحمله على كتابة ما كتب؛ إلى غير ذلك من المؤثرات.
ولو أن همة أدباء العرب اتجهت إلى هذا النوع من النقد والبحث، بدل بذل الهمة في فهم اللفظ؛ لوصلت الآداب العربية إلى ما وصل إليه غيرها من المتانة والتأثير في المجتمع، ولكان فهمنا لآدابنا أفضل وأكمل مما نفهمه اليوم، ولتغيرت طرق الفكر والخيال عندنا، ولسارت آدابنا مع الأيام، ولتقدمت مع العلوم والأفكار؛ لأنه لا شيء أدعى إلى التقدم من البحث والنقد، ولا شيء أدعى إلى الوقوف والتقهقر من الإعجاب بالشيء والاكتفاء به عن سواه.
والطريقة التي نريد أن ندرس بها الأدب العربي هي طريقة نقدية؛ إذ بدون هذه الطريقة لا يمكن لأي دراسة من نوع ما إن تنتج أو تثمر، ولا لأي فكر أن يرقى أو يتقدم، ولا يمكن أن تتخطى العقول أطوارها اللازمة، ما دامت مقيدة بتأييد فكرة أو رأي تعمل على إثباته. نريد بطريقة النقد البحث في العوامل الحقيقية التي اعترت اللغة العربية وبلاغتها، بحثا مبنيا على الأسباب العلمية والاجتماعية، ثم الحكم على ذلك حكما صحيحا بقدر ما تهتدي إليه عقولنا، وترشدنا إليه مباحثنا، وبدون أن نرجع إلى أقوال القدماء إلا من حيث إنها مراجع، أو شيء من تاريخ اللغة، لا أنها عمدة الآراء أو قادة الباحثين. أما إذا أخذنا هذه الآراء كأصل نقلده، كان أجدر بنا أن نربأ بأنفسنا من عناء البحث والعمل؛ لنسرد أقوال القدماء كما هي، أو نجمعها جمعا مع بعض التصرف في العبارة؛ فيصبح تاريخ الأدب ملخص ما في كتب القدماء، ولا يكون للمؤلف إلا الجمع والاختصار. نريد أن ندرس الأدب دراسة علمية كما يقول الأوروبيون، ولا يعنى بالدراسة العلمية كما لا يعني الأوروبيون أنفسهم أيضا أن الأدب يصبح ذا قواعد لا يتعداها، كما في العلوم الرياضية أو الطبعية. ذلك لن يكون؛ لأن الأدب فن من الفنون الجميلة، الحكم فيه موكول إلى الذوق السليم والإدراك الصحيح، وإنما نتبع خطة ذات قواعد وقوانين، وهذه الخطة هي ما يمكن أن تسمى طريقة علمية، كما سنبين ذلك إن شاء الله.
نحن لا ندعي القدرة على القيام بهذا العمل الخطير؛ لأنا نعتقد أن أمامنا من الصعوبات في سبيل ذلك ما لا يذلله إلا طول البحث والمثابرة على الدرس، وذلك لا يكون إلا بعد زمن طويل، وهو ما نرجو أن نصل إليه إن شاء الله في المستقبل، وليس من غرضنا أن نأتي في دراستنا بسلسلة من الشعراء والكتاب، نتبعها بشيء من تراجمهم والمختار من كلامهم. ذلك لا يعنينا الآن؛ إذ من السهل أن يقف الإنسان على ترجمة الشاعر أو الكاتب، ويعرف شيئا عن حياته الأدبية. وإنما غرضنا البحث عن روح اللغة العربية كما يقولون، وحل ما بها من الشعر والنثر حلا نفسيا، والبحث عن صلة ذلك بالاجتماع، وعن المؤثرات التي أحدثت في نفس الشاعر أو الكاتب ميلا خاصا إلى هذا النوع من البلاغة، ثم صلة ذلك بمواهب الكاتب الفطرية، وقيمة ما عنده من فنون البلاغة وضروب التعبير المختلفة، وما له من الشخصية؛ أي الابتكار والإبداع في ذلك. وهذا يستلزم استيعاب ما كتبه الكاتب أو الشاعر بالقراءة والدرس قراءة دقيقة، خالية من الميول والأهواء الشخصية بقدر الإمكان.
ومن شروط النقد الصحيح أن يبتعد الإنسان عن أهوائه وميوله عندما يقرأ كاتبا أو شاعرا يريد أن يفهمه كما هو، ولا بد أن يتخلى أيضا عن أذواقه الخاصة؛ لأن الاستسلام إلى ذوق الشخص ينافي طريقة النقد الصحيح. هذه الطريقة - طريقة تخلي القارئ عن ذوقه الخاص وعن المؤثرات التي تحيط به - تجعله يفهم الكاتب بذوق الكاتب، ويفهم الشاعر بنفس الشاعر التي قال بها شعره. ولا بد من وضع القارئ نفسه في الظروف والأحوال التي أحاطت بالكاتب وقت كتابته. هذه الطريقة هي التي تمكن القارئ أو الناقد من فهم روح الكتابة، ولا بد من أن ينسى الإنسان نفسه بين صفحات الكتاب الذي يريد أن يقرأه. فإذا انتهى من تحليل الكتابة وفهمها على طريقة الكاتب نفسه، رجع إلى معلوماته الشخصية وإلى ذوقه الشخصي، وإلى ما اكتسبه من النقد بالتجربة والدرس في الحكم على المؤلف.
يظن أهل العلم - ونريد بأهل العلم المشتغلين بالرياضيات، والطبعيات، وعلم النبات والحيوان - يظن بعض هؤلاء أن الأدب من الكماليات، ويقولون كان أفضل وأنفع لوفاق الاهتمام بالعلوم الاهتمام بالآداب؛ لأن من قسم العلوم كان يكون لنا المهندس والكيميائي والنباتي، والطبيب والصيدلي، وغيرهم ممن يفيد الاجتماع والأفراد أكثر مما يفيده الكاتب والشاعر والخطيب أو المؤرخ والفيلسوف، وفاتهم أن الإنسان كان شاعرا قبل أن يكون عالما، وكاتبا وخطيبا قبل أن تصل نفسه إلى درك العلوم وفهمها؛ لأنه أول ما نطق أمكنه أن يعبر عما يجول بخاطره من حزن وفرح ولذة وألم، وأن الأدب للنفوس أشبه بالجهاز التنفسي للجسم. ولكن فهم الأدب بهذا النوع جاءنا من أن آدابنا أكثرها مبني على الخيال والاستعارة والتشبيه، وهو - على رأي أدبائنا - أفضل الأدب وأبلغه، ولا شك في أن هذا ضرب من الكماليات. أما الأدب من حيث إنه لسان النفوس، وترجمان العواطف، وصورة الاجتماع، وصحيفة من صحف التاريخ، فهو من الضروريات لتهذيب النفوس، ومعرفة ما في طبيعة الإنسان من الأمراض النفسية والاجتماعية؛ بهذا قد يصلح الأدب ما لا يصلحه الطبيب، ويفعل الكلام ما لا يفعل الحسام، و«إن من البيان لسحرا.»
والأدب معرض عام لأفكار الإنسان، ومسرح لأنواع العقول المختلفة، تجد فيه الفيلسوف ينظر إلى العالم نظر المفكر، يشفق عليه تارة، ويسخر منه أخرى، ويرشده مرة ويضله أحيانا، وتجد فيه الاجتماعي يبحث في الاجتماع وعلله، وينتحل لنفسه حق الزعامة وحق الحكم على نظام العالم، وتجد فيه العالم والطبيب، والمتدين والملحد، كل يعرض مذهبه وطرق بحثه، وتجد فيه الشاعر الخيالي، يصور الحق باطلا والباطل حقا، ويؤثر في النفس فيسعدها أو يشقيها، ويصور اليأس جحيما والأمل جنة ونعيما؛ والأدب يجد فيه كل إنسان طلبته، فهو صحيفة عامة من صحف الكون.
وقد ظهر لنا من المفيد أن نبدأ دراستنا هذا العام بمقدمة عامة نعرض فيها صورة إجمالية من الحركة الأدبية، نحدد فيها الأدب، ونبين أنواعه وخواصه، وأثره في الاجتماع وصلته به، وأثره في النفس وأثر النفس فيه، والمذاهب الأدبية المختلفة، وطرق البحث والتأليف، وشيئا من الموازنة بين الأدب العربي وغيره.
والله المسئول أن يرشدنا إلى الصواب، وأن يكلل أعمال الجامعة المصرية بالنجاح، إنه على ما يشاء قدير.
الكلام البليغ ودراسته
أصبح من المقرر عند الأدباء الآن أن ليس الغرض من البلاغة
1
سرور النفس وارتياحها بقراءة الشعر البليغ والكلام الممتع والنثر البديع، ليكون ذلك ضربا من ضروب التسلي فحسب؛ لأن هذه المدنية الحديثة حملت الإنسان على الاهتمام بالمنافع والفوائد العقلية، كما جعلته ماديا بحتا محبا لنفسه قبل كل شيء؛ ولذلك أصبحت جميع الفنون مصبوغة بصبغة علمية أو اجتماعية، الغرض منها نشر الأفكار والآراء والمباحث الاجتماعية والعلمية، في قالب يسهل على النفس قبوله ويلذ للإنسان تذوقه، ويسحر الألباب فيؤثر فيها الأثر المطلوب؛ ولهذا أيضا قل الاهتمام بالبلاغة الوجدانية، التي لا تشتمل إلا على حركات النفوس والخيال وصور العواطف.
واعتبروا البلاغة صورة للأفكار والعقول وشيئا من الحياة العقلية والعلمية للأمم، وجزءا كبيرا من تاريخ الإنسان، ورأى بعض كبار الأدباء أن البلاغة كالتاريخ من حيث الاستدلال بها على حياة الشعوب. غير أن التاريخ يدل على الحركة السياسية، والبلاغة تدل على الحركة العقلية والاجتماعية، أو يدل التاريخ على حياة الإنسان العملية والبلاغة على حياته النفسية من فكر وأخلاق وذكاء، وفضيلة ورذيلة، وعلم وجهل وغير ذلك؛ فجعلوا البلاغة من شعر ونثر وسيلة لدرس طبائع الإنسان ومعرفة نفوس الكتاب، وقصر بعض النقاد همه على معرفة حقائق النفوس من أثر الكتابات، وبنى مذهبه في النقد على ذلك، واستخرج حالة الكاتب النفسية (بسكلوجية) من كتاباته.
2
وقالوا: إن دراسة البلاغة هي التي نقلت التاريخ من ذكر الحوادث وسرد الوقائع إلى البحث في كل ما يعتري الإنسان، وإلى وصف أحواله النفسية والاجتماعية، فانتقل التاريخ بواسطة البلاغة من تاريخ جاف للحوادث إلى تاريخ المدنية الإنسانية، وقالوا: إن البلاغة هي سبيل الوصول إلى معرفة أحوال الأمم في الأزمنة المختلفة، وكيف كانت تفكر وتشعر وتدرك . وذلك مما يساعد على إيضاح التاريخ، ويسير به في طريق أصح، ويبين روح القوانين ومذاهب الاجتماع ورقي الأمم وانحطاطها.
لذلك أصبحت دراسة البلاغة لدى الأمم الحديثة دراسة لكبار نفوسها وعقولها المفكرة، أو كما يقولون دراسة للتاريخ الطبعي للنفوس الإنسانية، أو الغرض منها على حسب الاصطلاح العلمي «تشريح» النفوس والأفكار لمعرفة الصحيح من السقيم منها، والحصول على صورة عامة من الحياة العقلية للإنسان. قال سنت بوف: لم يبق لدي من السرور إلا هذا النوع من «التحليل» النفسي، الذي يمكن أن أعرف به تاريخ العقول. وكل ما أريده من النقد الأدبي هو جعل البلاغة تاريخا طبعيا للنفوس ... إلى آخر ما قال. فلم تصبح دراسة البلاغة قاصرة على الشعر والنثر الصناعي لا غير، بدون نظر إلى صلة الكاتب أو الشاعر فيها، بل لا بد من اعتبار كل ذلك مع البحث عن الصلة بين الكاتب وبين الحالة الاجتماعية.
ويخيل إلى من يريد أن يدرس بلاغة العرب أن هذه الطريقة لا تجد لها مجالا فيها؛ لأننا إذا أحصيناها وجدنا أنها تكاد تكون منحصرة في نوع من الشعر الوجداني الشخصي. ونجد هذا الشعر الذي ظهر في الأمم الإسلامية المختلفة والبيئات المختلفة، حافظا لشكل واحد وأسلوب واحد، لا من جهة الصناعة لا غير، بل من جهة تصور المعاني وإدراكها أيضا. وربما كان ذلك صحيحا؛ ولكن لا يلزم مدرس البلاغة العربية أن يبالغ في ذلك؛ فقد نجد في بلاغة العرب ما نجده في غيرها من أنواع الشعر والنثر. ولكنه ليس ظاهرا فيها ظهوره في غيره لقلته ولاندماجه في الوجدانيات. فكأنه إذا جاء فإنما يجيء عفوا مع ندورته المعروفة؛ ولذلك لا يصح أن يعد من أصول البلاغة العربية، ولا من طبيعة هذا اللسان المبين.
على أنه من الممكن أن توجد هذه الطرق الحديثة في دراسة بلاغة العرب من جهة صلتها بالتاريخ والاجتماع صلة صحيحة، ودراسة نفوس الكتاب والشعراء من أقوالهم بقدر ما تسمح به طبيعة هذه البلاغة وأصولها الفنية. غير أن ذلك لا يتسنى الآن، ولا يمكن أن تثبت هذه الطريقة إلا بعد أن يكثر البحث على هذا النحو، ويوجد بين المدرسين والنقاد علماء في الفلسفة والاجتماع تكون لهم طرق واضحة ومذاهب مبنية على قاعدة فلسفية أو طريقة اجتماعية علمية.
ولأجل أن تدرس البلاغة العربية بهذه الطرق المفيدة، لا بد من مزج التاريخ الإسلامي بها؛ إذ لو كان من الضروري الاستدلال على أطوار البلاغة بدراسة التاريخ، فذلك ألزم ما يكون في بلاغة العرب؛ لأنها أشد ما تكون صلة بالتاريخ؛ إذ التاريخ الإسلامي من أكثر تواريخ الأمم وأشدها حركة وانتقالا، وأظهرها أثرا في العقول والأفكار؛ لأنه ليس تاريخا سياسيا لا غير، بل هو أيضا تاريخ ديني؛ أي تاريخ مذاهب وأحزاب دينية، وآراء في السياسة والاجتماع مبنية على أثر الدين في العقول والعقائد ... ولو كان كل المسلمين الذين ملئوا الأرض شرقا وغربا، ودوخوا العالم حينا من الدهر من أصل عربي، لغتهم العربية الصحيحة؛ لكانت تصوراتهم وإدراكاتهم عربية، ولظهرت مدنية الإسلام ظهورا تاما في بلاغة العرب ظهور مدنيات الأمم الأخرى في بلاغاتهم. ولكن تغلب الأعاجم على الدولة محا منها كثيرا من الصبغة العربية، وجعلها مدنية إسلامية مختلطة؛ فلم تجد اللغة العربية من سعة المجال ما كان يكون لها لو أن الدولة كانت عربية صرفة، فمعنى مزج التاريخ بالبلاغة دراسة الاجتماع في زمن من الأزمان، ودراسة الحالة العقلية، أي معرفة الزمن بواسطة البحث عن كبار المفكرين والعلماء وآثار آرائهم في المجتمع، أو بعبارة أخصر دراسة التاريخ الاجتماعي والحركة العقلية دراسة علمية تاريخية، بقطع النظر عن كل شيء سوى البحث عن الحقيقة، مع الابتعاد عن جميع الميول والأهواء والمذاهب الشخصية بقدر الإمكان، ثم البحث عن ذلك من الوجهة الفنية في النظم والنثر.
فليس الغرض على رأينا من دراسة الشعر الجاهلي مثلا أن نبين أنه خال من التكلف سهل العبارة، ليس به من التشبيهات والاستعارات ما في شعر المولدين، وأن فلانا الشاعر بكى واستبكى وذكر الديار، وإنما الغرض الذي يجب أن يكون ضالة الباحث هو الحالة العقلية لهؤلاء الناس، وعاداتهم الاجتماعية وتربيتهم النفسية، وتصوراتهم وخيالاتهم ، ومجموع معلوماتهم وعواطفهم وإحساساتهم، وغير ذلك مما هو لب البلاغة وغرضها، وهذا هو غرض من قال: إن الأدب صورة الاجتماع.
لهذا لا بد من العناية بالتاريخ عناية تامة لمن يريد أن يدرس البلاغة، وبدون هذه الطريقة لا يمكن التمييز بين شعر وشعر، ولا بين كتاب وكتاب، إلا ما يظهر جليا من الاختلاف في الأسلوب والديباجة، مما لا يخفى على من له أدنى ملاحظة. هذه الصلة - صلة التاريخ الاجتماعي بالأدب والبلاغة - من أهم الطرق التي يجب أن تتبع في كشف مخبآت العقول، ومعرفة سير الحركة الفكرية لدى الأمم. مع هذا لا بد من دراسة التاريخ الخاص بالكتاب. ونقصد من هنا أيضا ما قصدناه هناك من التاريخ العقلي؛ أي تاريخ النفوس وحركات العقول، لمن يريد أن يتكلم على شاعر في شعره أو ناثر في نثره، وعلى صلة الكاتب بغيره من المؤثرات التي كونت عقله وفكره من أشخاص عرفهم، ومن بيئات تربى فيها، ومن زمن عاش فيه ومر به.
وبعد؛ فلا بد من دراسة الأدب دراسة تاريخية أخرى. نريد بالدراسة التاريخية عدم العمل على مذهب أو رأي ثابت، يجعله الإنسان قاعدة له قبل الدراسة ليقيس عليه ما يعرف؛ كاعتبار أن بلاغة العرب مثلا أرقى وأصح ما أنتجته العقول والأفكار، أو أنها ناقصة في جملتها، قبل الاطلاع والدرس. مثل هذه المباحث المبنية على الأهواء الشخصية والمذاهب الثابتة هي خطأ في مبدئها وفي نهايتها، ولا يمكن أن توصل إلى شيء من الحقيقة.
وليس الغرض من دراسة البلاغة دراسة تاريخية البحث عن الحوادث التاريخية الصرفة، كالعناية بالتواريخ والأزمنة التي ولد وعاش فيها الكتاب، وسيرهم الشخصية، أو سرد تاريخ البلاغة في العصور المختلفة، بقصد إثباتها كما تذكر الحوادث التاريخية سواء بسواء؛ هذه طريقة تاريخية تظهر في كتب الأدب مكملة له ومتممة لموضوعاته العامة، كما يتخلل الأدب حوادث تاريخية صرفة، بقصد كشف مخبآته وتوضيح موضوعاته. على أنها ليست من الأدب ولا من البلاغة. ولا بد لمدرس البلاغة من الملاحظة الصحيحة والموازنة والمقارنة؛ تقريبا للأفهام وإيضاحا للبلاغة نفسها؛ لأن هذا من دواعي ضبط آراء الباحث، وعدم اندفاعه في المدح أو الذم التابعين للأهواء والأغراض، وهذا أيضا من علامات الحرية في الفكر ودقة البحث؛ فلا بد أن يكون الغرض من تدريس البلاغة البحث العلمي المبني على المعلومات الصحيحة، للوصول إلى الفهم الصحيح الخالي من التعصب القومي والميول المذهبية؛ فإن مدرس الأدب إن لم يكن كذلك كان كمن لديه نموذج جميل، يريد أن يقيس عليه غيره ويجعله مثله.
وليس الغرض من البحث والفهم المباحث اللفظية؛ أي ما يعطيه اللفظ من الدلائل والمعاني اللغوية لا غير، ولا الشرح والتأويل لجملة المعاني، بل الغرض البحث عن كل ما تنطوي عليه العبارات؛ من: صور النفوس، والآراء، وأسرار اللغة، مما يصح أن يعطي للإنسان صورة صحيحة من صور الحياة العقلية للأمم، ثم عن صلة ذلك بالأسباب التي دعت هذه العقول للخوض في هذه الموضوعات، وولدت هذا النوع من الفكر والخيال، ثم الوقوف على خواص اللغة وأثر الشعوب التي تميز أفكارها من سواها، وأثر الزمن والبيئة في ذلك، والأنواع التي يكتب فيها الكتاب وقوانينها، وما في ذلك من شخصياتهم؛ لأن الكتابة تمت بألف سبب لما يحيط بها.
قال المسيو موريس كروازيه في مقدمة الجزء الأول من كتاب تاريخ الأدب اليوناني: «إن جملة لخطيب، أو بيت شعر لشاعر، أشبه بمرآة ينعكس فيها صورة منها، تدل على ماضي اللغة والتاريخ لشعب من الشعوب، وتدل على الفني الذي وهبها هذا الشكل؛ كل هذا يرى في الكتابات من شعر ونثر ... ولأجل التمكن من الوصول إلى ذلك لا بد للباحث في اللغة والأدب من أن يطلع على الفنون، ويعرف الأخلاق والنظام الاجتماعي؛ لترشده إلى قوة الذكاء للأمم وأثر الحوادث في ذلك، ولا بد من الاعتماد على المخطوطات؛ لأن الغرض الأولي من دراستها هو معرفة العقول التي تظهر آثارها في المؤلفات الفنية، بواسطة العبارات الأصلية وضروب البيان. ومؤرخ الأدب كالمؤرخ الطبعي؛ أي المشتغل بدرس العلوم الطبعية وجمعها، فهو قبل كل شيء ذو ملاحظة خالية من الأهواء والأغراض، وليس معنى هذا أن مؤرخ الأدب ليس له حق الحكم ولا أن يكون له رأي يبديه. ولكن الواجب عليه أن يكتفي بالمعرفة الصحيحة ... يقول سنت بوف: يلزم أن نكون كعلماء الطبيعة نجمع مجموعات مختلفة تامة من العقول. ولكنا لا نتجنب الحكم عليها تجنبا كليا حتى نبتعد عن تذوقها، بل يكفي أن نمنع أذواقنا من القلق والملل ونوقفها عند حدها، لا أن نميتها موتا. قال: والنقد الحقيقي هو دراسة الأشخاص، أي دراسة الكتاب وقوة الإدراك لديهم، كل على حسب طبيعته بقصد الحصول على صورة صحيحة من نفوسهم، لنضعها في المكان الذي تستحقه، والمنزلة الفنية التي تليق بها، ولا بد من العناية بالنصوص وموازنة بعضها ببعض، ومعرفة الصحيح من الخطأ فيها.»
وهذا هو أساس ما يسمونه الآن طريقة علمية؛ لأنها مبنية على نوع من التحقيق العلمي، الذي لا يتطرق إليه الشك. ولكن ذلك من الصعوبة بمكان في أدب العرب؛ لأن الوقوف على «النسخة الأصلية» كما يقولون، لا يكاد يتحقق في كل المؤلفات، ولا سيما مجموعات الشعر والنثر القديم، غير أن ذلك لا يمنع من العمل على ذلك بقدر الاستطاعة. على أن الظاهر لنا أن معرفة المؤلفات الأصلية ربما لا تتحقق في الأدب العربي.
الأدب أو البلاغة
الأدب
1
عند العرب يشمل كل شيء، أو هو مجموع معلومات الإنسان التي اكتسبها بالقراءة والدرس من علوم عربية كالنحو والصرف، وعلوم البلاغة، والشعر والأمثال، والحكم والتاريخ، وغيرها من فلسفة، وسياسة، واجتماع؛ وحتى جعل ابن قتيبة في كتابه «أدب الكاتب» من شروط الأديب أن يعرف جملة من الرياضيات والصناعات. وقالوا: الأدب كل ما تأدب به الإنسان، يقصدون بذلك كل ما صح أن يعرف فهو من الألفاظ التي ليست لها معان محدودة؛ يطلق على دعوة الطعام، وعلى العادات والأخلاق الكريمة، وعلى التربية والتعليم. قال صاحب تاج العروس: «وإطلاقه على العلوم العربية مولد حدث في الإسلام.» وقد توسع المسلمون في هذا اللفظ بسبب اختلاطهم بالعجم، حتى أصبح معنى الأدب جامعا للعلم والأخلاق والفنون والصنائع وغيرها، فأطلقوه على ضرب العود ولعب الشطرنج، وعلى الطب والهندسة والفروسية، وعلى مجموع علوم العرب، وعلى مقتطفات الحديث والسمر، وما يتلقاه الناس في المجالس.
هذا التوسع العظيم في استعمال هذا اللفظ يدل على خفاء مدلوله، وخصوصا أن هذا الاستعمال لم يخصص في معنى من هذه المعاني.
2
وقد رأينا بعد مراجعة آراء الأدباء أن إطلاق هذا اللفظ على المعنى الذي نستعمله الآن، إطلاق ناقص لا يؤدي المعنى الذي نريده نحن؛ لأننا نطلقه على الشعر والنثر فحسب. وذلك لا يطابق تعريف الأدب عند العرب؛ لأننا نريد أن ندرس ضروب الكلام وأنواع البلاغة، والمؤثرات التي أثرت فيها. ومن رأينا أنه مهما صح من العموم والخصوص والتأويلات الكثيرة، فإنه من الغامض أو من النقص في التعبير أن نخص الأدب بهذا المعنى الذي نريد، ونسلخ عنه معانيه الأخرى، أو نستعمله استعمالا مشتركا. ولم يجلب علينا ذلك إلا خطأ مشهور لم نتداركه، وعندنا من الألفاظ ما هو أولى وأوفق.
وقد حد ابن خلدون الأدب، ورأى «ألا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها» قال: «وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته.» وفهم الأدب كما فهمه أهل زمانه، صناعة من الصناعات تتعلم ويتوصل إليها بالتمرين، لا أثرا من آثار الكتاب والشعراء. فقال: «هو الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم.» وجعل من تمام هذه الصناعة «أن يجمعوا لذلك من كلام العرب ما عساه أن تحصل به الملكة من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يستقرى منها في الغالب معظم القوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، يفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة.» قال: «والمقصود بذلك كله ألا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم، ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه؛ لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه ...» واختصر التعريف فقال بعد ذلك: «ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف ...»
نحن لا نفهم الأدب بهذا المعنى العام، ولن يكون تدريسنا على هذه الطريقة العامة. ولكنا نريد أن يكون للأدب موضوع، وأن نحده حدا إيجابيا؛ لذلك رأينا أن نطلق على الشعر والنثر البليغ - وهو ما نقصده من الأدب، وما يراد من دراسته في مدارسنا - كلمة «بلاغة»، وتعرف البلاغة (الأدب) حينئذ: «بأنها الكلام الذي يدعو إلى الإعجاب من حيث الافتنان في الصناعة.» إذ لا يمكن أن نجري على التعريف القديم، وندخل في الأدب ما كان يقصده القدماء من جميع فروع اللغة العربية؛ لأننا ليس من غرضنا أن ندرس ذلك، وليس من غرض إنسان يريد أن يقرأ كلام العرب أن يصرف وقته في قراءة النحو والصرف، وعلم العروض وعلوم البيان، والجغرافيا والتاريخ وغيرها، وإنما يريد أن يقرأ النثر والشعر لا غير؛ ليقف على أسرار اللغة، وليهذب نفسه بما في ذلك من المعاني، وليعرف أغراض الكتاب والشعراء؛ وبالجملة ليعرف سر اللغة العربية وقيمتها؛ وذلك بقراءة الكلام البليغ نفسه من شعر ونثر، ويكفي أن يكون اللفظ متينا، والعبارة واضحة؛ لتصل من نفس المتكلم إلى نفس السامع. كما روى الجاحظ «أن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان.» معنى ذلك أن الكاتب إذا كان مخلصا متأثرا بما يقول، نال من نفس القارئ وبلغ منه المراد. هذه هي البلاغة، وهكذا يجب أن تفهم. فليس ما ندرسه هو الأدب إذا دققنا النظر في التعريف المعروف؛ لأننا نريد أن ندرس أنواع كلام العرب الذي هو الغرض من دراسة الأدب.
قال صاحب كشف الظنون: «الأدب علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا وكتابة.» وواضح بعد ذلك أن الأدب ليس هو المنظوم والمنثور، بل هو مجموع العلوم العربية، كما قال المؤلف نفسه: «اعلم أن فائدة التخاطب والمحاورات في إفادة العلوم واستفادتها، لما لم تتبين للطالبين إلا بالألفاظ وأحوالها، كان ضبط أحوالها مما اعتنى به العلماء، فدعت معرفة أحوالها إلى علوم انقسم أنواعها إلى اثني عشر قسما، سموها العلوم الأدبية؛ لتوقف أدب الدرس عليها بالذات، وأدب النفس بالواسطة، وبالعلوم العربية أيضا لبحثهم عن الألفاظ العربية» (طبعة أوروبا، صفحة 217).
وما دام الأدب هو ما يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا وكتابة كما رأينا، أو هو كما قال الجرجاني في تعريفاته: «عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ.» فلا يصح بعد هذا أن نريد منه النظم والنثر؛ لأن الأدب - كما قالوا - وسيلة لفهم الشعر والنثر اللذين هما أنواع كلام العرب، والوسيلة غير الغاية فلا بد أن نخص ما نفهمه الآن أدبا بالشعر والنثر البليغ، ونطلق عليه «بلاغة» لتكون تسمية حقيقية لا تمس الاصطلاح القديم، بل تنطبق على تعريف البلاغة، فنقول: «بلاغة العرب» ونريد ما يريده الناس الآن من «أدب العرب».
وعلى هذا تكون البلاغة كل قول الغرض منه - قبل كل شيء - الاستيلاء على نفس السامع أو القارئ بفصاحة العبارة وحسن التركيب، وبراعة الكاتب أو الشاعر، أو بعبارة أخصر «هي الكلام الفني الممتع»، والكلام الفني يملأ نفس السامع وعواطفه في أي موضوع كان، وعلى أي معنى دل، وذلك يطابق معنى البلاغة عند العرب كما قال الجاحظ: «وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه ... فإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع، بعيدا عن الاستكراه، ومنزها عن الاختلال، ومصونا عن التكلف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة. ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله من التوفيق، ومنحها من التأييد، ما لا يمتنع عن تعظيمه صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمه عقول الجهلاء.»
3
ويمكن رفع اللبس بين البلاغة وعلوم البلاغة المصطلح عليها الآن، بالرجوع إلى قول عبد القاهر الجرجاني وأشياعه، الذين كانوا يطلقون علوم البيان على علوم البلاغة. على أن الفرق واضح بين البلاغة وعلوم البلاغة.
ويؤيد قولنا: إنه يصح إطلاق البلاغة على ما نسميه «أدب اللغة» أن البلاغة هي تحبير اللفظ وإتقانه؛ ليبلغ المعنى قلب السامع أو القارئ بلا حجاز، ولينال الكاتب أو الشاعر من الأفئدة ما يريد ، وهي المقصودة بقوله - عليه السلام: «إن من البيان لسحرا.» وأنها إبلاغ المتكلم حاجته بحسن إفهام السامع؛ ولذلك سميت بلاغة، وأنها حسن العبارة مع صحة الدلالة،
4
وأنها إهداء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.
وأوضح من هذا قول ابن المقفع - كما رواه ابن رشيق وأبو هلال العسكري والجاحظ. قالوا: «لم يفسر أحد البلاغة تفسير ابن المقفع؛ إذ قال: البلاغة اسم لمعان تجري في صور كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكون، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا، ومنها ما يكون خطبا»، إلى آخر ما ذكر.
5
وقد أطلقوا على الكلام البليغ بلاغة، وقالوا: «بلاغات النساء»، وإذا قالوا: فلان بليغ، أرادوا به شاعرا أو كاتبا فصيح العبارة، واضح المعنى، بقلمه وبلسانه ضرب من سحر الكلام، وشيء من معرفة امتلاك الأفهام، بخلاف الأديب فإنه ليس من الضروري أن يكون شاعرا أو ناثرا. وفي الكلام الآتي عن البلاغة ما يدل أيضا على صحة ذلك، مما رواه الجاحظ في البيان والتبيين عن بعض الأدباء: «أنذركم حسن الألفاظ، وحلاوة مخارج الكلام؛ فإن المعنى إذا اكتسى لفظا حسنا، وأعاره البليغ مخرجا سهلا، ومنحه المتكلم قولا متعشقا، صار في قلبك أحلى، ولصدرك أملأ. والمعاني إذا اكتسبت الألفاظ الكريمة، وألبست الأوصاف الرفيعة، تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما بينت، وعلى حسب ما زخرفت ...»
وليست كل كتابة تعد من البلاغة؛ فلن يكون الطبيب بليغا في كتبه، ولا الرياضي أو العالم أو النباتي بليغا في نظرياته العلمية. ولكنهم قد يكونون بلغاء في قطع مخصوصة، إذا تكلموا وكتبوا كتابات بليغة، يقصدون منها أن ينالوا من نفس القارئ أو السامع، بخلاف ما إذا قصدوا أن يفيدوا إفادة علمية، أو أن يشرحوا نظرية من نظرياتهم، أو قاعدة من قواعدهم؛ لأن هذا ليس من البلاغة في شيء؛ إذ غرض البلاغة غير غرض التعليم كما قلنا.
والأوروبيون إذا ذكروا من بين الكتاب عالما، مثل ديكارت
Descartes ، أو مشرعا أو اجتماعيا مثل روسو
Rousseau
ومنتسكيو
Montesquieu ، أو فيلسوفا مثل رنان
Renan
وتين
Taine
وفولتير
Voltaire ، فإنما يذكرونهم من حيث أثرهم في البلاغة، أو لاقتفاء الحركة الكتابية أثر الحركة الفلسفية والاجتماعية، لا من حيث إنهم علماء أو فلاسفة.
ولا بد من الفرق بين البلاغة وتاريخها،
6
فتاريخ البلاغة هو البحث في مجموع ما تنتجه قرائح الأمة من علوم وفنون، أو هو مجموع الحركة الفكرية في الأمة؛ ولذلك يكتب مؤرخ البلاغة عن الشاعر والناثر، كما يكتب عن الفيلسوف والعالم، ليجمع صورة كاملة من الحياة العقلية للأمة، فهو لذلك مضطر لأن يكتب عن كل من له أثر في هذه الحركة، وكان الأولى أن يسمى ذلك تاريخ العلوم والفنون. ولكنهم أدخلوه في تاريخ البلاغة من باب التوسع؛ لأنهم لم يكتبوا عن كل علم على حدة، ولم يتوسعوا في ذلك، ولأنهم كتبوا عن ذلك عرضا لإثبات أثر ذلك في تاريخ حركة اللغة. أما من يريد التمكن من شيء فعليه بكتبه الخاصة به، وعلى كل حال فتاريخ البلاغة بالطريقة المعروفة الآن لا يوجد في كتب العرب بهذا التسلسل كما هو عند الأوروبيين. وكتب الأدب الخاصة بأمة من الأمم مثل: نفح الطيب مثلا، عبارة عن دائرة معارف؛ لأن بها من كل شيء طرفا؛ ففيها: نبذ من التاريخ العام، وشذرات من التاريخ الخاص، وشيء من تراجم الأشخاص، من شعراء وملوك ونوكى وسوقة، وفيها شيء من الفكاهات والملح، وشيء عن وصف البلدان، وغير ذلك من الأمور التي لا تدخل في فن واحد. أما البلاغة فهي أخص من ذلك بكثير.
وقد ظن جماعة من العلماء والأدباء أن الغرض من البلاغة نشر المعلومات الصحيحة بأسلوب يلذ للنفس، وقالوا: إنه لا يصح أن يقول الشاعر ما لا معنى له، أو يكتب الناثر صحيفة أو صحيفتين بدون أن تحتوي على معلومات مفيدة؛ وحتى قال تين
Taine
في مقدمة كتابه تاريخ البلاغة الإنجليزية:
7 «إن البلاغة صورة كاملة صحيحة من الزمن والأشخاص الذين يعيشون فيه.» وقال: إن الغرض من البلاغة التوصل إلى معرفة نفس الإنسان؛ لأنها ظرف لأفكاره، كما أن الصدف وعاء لما فيه، والرأي الصحيح السائد هو أن الغرض من البلاغة إعجاب القارئ أو السامع ببراعة الكاتب أو المتكلم، وأنه لا يطلب من البليغ أن يملأ كلامه بشيء من المعلومات الصحيحة، وليس الشاعر مضطرا لأن يأتي بالفلسفة والحكمة في شعره، كما أن الغرض من التصوير هو إعجاب الناظر، والاستيلاء على حواسه الظاهرة بما في الصورة من الإبداع والإتقان. ولكن ليس معنى ذلك أن الكاتب أو الشاعر يتصيد الألفاظ والجمل الجميلة، ويرصفها رصفا بدون أن تحتوي على معان، كما أنه لا يقصد من المصور أن يأتي بالألوان المختلفة بعضها بجوار بعض، بدون أن يكون هناك رسم خاص أو صورة معينة؛ وإلا كان الإعجاب إعجابا ظاهرا لا يلمس القلب ولا يحرك العواطف، كذلك البلاغة سواء بسواء، وإذا كان الغرض الإعجاب ببلاغة الكاتب أو الشاعر، فذلك لن يكون ذا أثر فعال في النفس إلا إذا كانت ذات معان دقيقة حقيقية أو تدل على الحقيقة، والأدباء العصريون الآن يرون أن البلاغة فن من الفنون الجميلة مثل: التصوير، والموسيقى، الغرض منها تهذيب النفس وترقيق العواطف، وتقوية الملاحظة، فهو مسلاة النفوس وأنيس الجليس؛ فعلى هذا هي ضرب من الكمال. أما من جهة أنها معرض عام للحياة، وجعبة لأفكار الإنسان، ومسرح الآراء والفلسفة، فهي شيء من الضروريات لتربية الأفكار وتهذيبها، وإن جاء ذلك عرضا لا قصدا.
وظن جماعة من الأدباء أيضا أنه يكفي الاطلاع على تاريخ البلاغة وتصفحه؛ ليقف الإنسان وقفة إجمالية على سير الحركة الفكرية، وليكتفي بذلك من عناء قراءة كل كاتب أو شاعر أو مؤلف، ومن بين هؤلاء رنان
Renan
فقد قال: «إن دراسة تاريخ البلاغة يمكنها أن تغني عن دراسة الكتب نفسها.» ورد عليه في ذلك الأستاذ لنسون
Lanson
في مقدمة كتابه تاريخ البلاغة الفرنسية،
8
وقال: إن ذلك معنى سلبي للبلاغة؛ لأنه يجعلها أشبه بتاريخ للأفكار أو الأخلاق ... قال: «ولا مناص من الرجوع إلى المؤلفات نفسها، لا إلى الملخصات والمختصرات؛ إذ لا يكفي معرفة فن التصوير بقراءة تاريخية، بدون أن ينظر الإنسان إلى الصور نفسها، والبلاغة كالفنون لا يمكن التفرقة بينها وبين شخصية الكاتب.» إذ إنها تحتوي على معان ودقائق تتجدد كلما أنعم الإنسان النظر فيها، كما أن القصيدة الواحدة كلما قرأها القارئ تأثرت نفسه بأثر جديد، وفهم منها شيئا جديدا، بل هي عبارة عن تمرين فكري، ونوع من ترقية الذوق، وضرب من السرور. وقال الأستاذ لنسون
M. Lanson : «والبلاغة لا تتعلم ولا تحفظ. ولكن يتعهدها الإنسان بالتنمية، ويميل إليها ويحبها.» فمن خواصها أنها توجد للنفس لذة عقلية وسرورا نفسيا، وذلك يساعد على تربية الذوق واستعداد الفكر لقبول الجمال، كما أنها وسيلة من وسائل تربية النفوس تربية فنية.
وإذا كان من غرض المشرع الأمر والنهي، ليعمل الناس الخير ويتجنبوا الشر، فليس من غرض البليغ - أي الكاتب أو الشاعر - عرض حقيقة من الحقائق، ولا أمر ولا نهي. ولكن غرضه الأول أن ينال من قلب السامعين والقارئين، ويؤثر فيهم ويحرك من نفوسهم، سواء قرب من الحقيقة أم بعد عنها. ومن هذه الوجهة ربما يصح أن نلتمس عذرا لأدباء العرب الذين قالوا في الشعر: «إن أكذبه أعذبه.» ولكن تهذيب الإنسان وتعلمه العلوم والفنون المختلفة في هذه الأيام، حمله على ألا يقبل شيئا خاليا من معنى، أو محتويا على فكر غير صحيح؛ ولذلك ظهرت الحركة العلمية الأدبية الآن، وغرض العلماء منها أن يمزجوا أنواع البلاغة بأنواع العلوم، وألا تكون البلاغة عبارة عن خيالات محضة، أو تصورات بعيدة عن الحقائق، وزجوا بها من مكانها إلى موضع آخر أقرب إلى العلوم، وظهرت القصص العديدة المملوءة بالمعلومات المفيدة والفنون المتعددة. ولكن لا يزال هناك حد فاصل بين البلاغة والعلم؛ لأن البلاغة دراسة العقول وحالة الاجتماع، فهي عبارة عن معلومات عامة، وملاحظات للكاتب، وتأثرات اكتسبها من الخارج، دخلت في نفسه وخرجت للناس لابسة شخصيته. ولم تغير حركة الإيجابيين
Les Positivistes
العلمية من البلاغة إلا طريقة التصور والخيال. أما البلاغة من حيث إنها فن سره في تركيب اللفظ، ووحي النفس، فلم تتغير بحال ما، وكل ما تغير هو موضوعاتها التي أصبحت مبنية على التعقل والتدبر، وعلى عرض الحياة عرضا مملوءا بالحكمة والعبرة. وهذا أثر العلوم الحديثة وأثر تعلم الإنسان وتربيته تربية علمية.
أنواع البلاغة
البلاغة أو الكلام البليغ فن من الفنون الجميلة الفطرية للإنسان؛ لأنه مدفوع بطبيعة الحاجة إلى التفاهم، وسائر بفطرته إلى التعبير عما يجول بخاطره من سرور وحزن وآلام ولذة وارتياح. وكل متكلم يرغب في أن يكون له سلطان على نفوس السامعين، وأن يحملهم على تصديق ما يقول، والإنسان حساس يتأثر بصناعة الكلام، وتفعل فيه براعة المتكلم، وحسن العبارة ما لا ينال منه البرهان والتعقل. والكلام من وسائل الاستيلاء على العقول، وتقابل النفوس بعضها ببعض، ونشر الحقائق والأدلة والبراهين. وبقدر ما تكون براعة المتكلم أو الكاتب في الوصول إلى إفهام السامع ما يريد، وبلوغه المعنى الذي قصد، يكون كلامه أمتن، وتكون عبارته أبلغ إلى النفس؛ ومن هنا سمي الكلام بليغا.
ولكن بلوغ هذا المراد صعب، واختيار الألفاظ الدالة على المعاني المقصودة دلالة تامة عسير، وكل إنسان له استعداد خاص، وميل لنوع من التعبير يوافق طبعه، وينطبق على مزاجه. والمعاني كثيرة مختلفة، والألفاظ الدالة عليها تختلف في وضوح الدلالة ودرك المعنى؛ ولذلك اختلفت التعابير، وتباينت الدلالات. وتتفاوت ضروب البلاغة بتفاوت الاستعداد الفطري، وقوة العقول، وقالوا: «اختيار المرء قطعة من عقله.»
ولكن ليس كل إنسان أهلا لأن يكون بليغا؛ لأن البلاغة هبة فطرية واستعداد نفسي، فليس أصعب من أن يصل الإنسان إلى التعبير عما يرى أو يشعر، تعبيرا دالا على الحقيقة دلالة تامة؛ لأن الإنسان يتفاوت قوة وضعفا في ذلك، كما يتفاوت في إدراك المبصرات على حسب قوة نظره وضعفه. فقد يتألم آلاما شديدة تكاد تذهب بقواه، وتستولي على جميع حواسه، ومع ذلك لا يمكنه أن يفسر ما يشعر به إلا بكلمات معدودات محفوظات، يقولها أيضا من كدر صفوه إنسان لا يحب مجلسه، أو غاب عنه صديق وهو في انتظاره منذ ساعة أو ساعتين، وقد يظفر الإنسان بأمنيته، ويحصل على ضالته المنشودة، ولا يستطيع أن يعبر عما في أعصابه من الهياج، وعما في نفسه من السرور، إلا بإظهار الارتياح، وبسط الجبين، مما يحصل عند من لاقى صديقا له في الطريق فهش وبش في وجهه.
والبلاغة إما أن تكون عبارة عن إظهار ما يجول في نفس الإنسان، من عواطف وإحساسات وخيالات وغيرها، مما يدل على شخصية الكاتب أو المتكلم فحسب، وإما أن تكون صورة غير صورة نفس الكاتب أو الشاعر؛ أي صورة من الحياة العامة للإنسان - أو جزءا من تاريخ الإنسانية، كما يقولون - فالأولى هي البلاغة الوجدانية
1
والثانية هي البلاغة الاجتماعية.
هذا هو التقسيم الفني في البلاغة، وهذه هي أنواع البلاغة، وعلى حسب ما تكون البلاغة جزءا من الحياة العامة لكل إنسان وفي كل زمن، يكون الكلام أثبت، وتكون العبارة أمتع، وتكون الكتابة أبقى وأخلد؛ لأن البلاغة التي تنال من كل نفس هي التي تبقى، والأفكار التي تجد لها عند كل إنسان أذنا واعية لا تبلى، وذلك لا يكون إلا إذا صادفت شيئا عاما ينزل من كل نفس، ويصح أن يقبله كل فكر، ولا يثقل على الطبائع. وهذا هو سبب ارتياح النفوس للحكم والمواعظ؛ لأنها تنال من كل نفس وتتسرب إلى كل فؤاد، وهو السر في رأي من فضل أشعار الحكمة في مثل قول النابغة الذبياني:
ولست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
وقدم أبا الطيب المتنبي وأبا العلاء المعري؛ لأنهم جاءوا بالحكمة في أشعارهم، وتكلموا عن بعض طبائع الإنسان وعقائده الكامنة في كثير من الأشخاص. مثل هذه البلاغة في القول تبقى ما بقي الإنسان.
2
والناظر لأول وهلة في اللغة العربية يجدها خالية من هذا النوع، الذي له أثر في نفس كل إنسان؛ لأن بلاغة اللغة العربية في جملتها تعبر عن نفس قائلها لا غير، ولا تكاد تخرج عن شعور الشاعر وتصورات الكاتب؛ لأن العواطف هي أصل الشعر العربي والباعث عليه.
3
ومن هنا كانت له هذه المتانة والقوة في التعبير؛ إذ الإنسان أخلص ما يكون إذا دفعه شعوره إلى القول، ومتى أخلص الكاتب أو الشاعر فيما يقول، كان أثره أقوى في النفس وأدعى إلى الإعجاب، وكان جمال القول أظهر، وكانت البلاغة أصح وأبين ، وهذه ميزة الشعر الجاهلي؛ لأنه يكاد يكون خاليا من المبالغة والكذب، صادرا عما في نفس الشاعر وعقائده.
ولكن العواطف محدودة، وشعور الإنسان بالفرح والسرور والغضب والرضا لا يكاد يتغير. ومهما وجد الإنسان من ضروب التعبير في ذلك، فإنها توشك أن تنفد، ليس للخيال فيها مجال واسع؛ ولذلك يكثر فيها تكرار المعنى الواحد؛ إذ الغرام وشكواه، أو البكاء والنحيب، أو المدح والذم، أو الوصف والتشبيه، ذلك كله ذو معان سرعان ما تنفد من قائلها؛ ولذلك تجد المعنى الواحد مكررا عند نفس الشاعر في قصائد متعددة، يسترها خلاف الألفاظ الظاهري.
ومن هنا أيضا جاءت السرقة في الشعر؛ ذلك لأن المعاني والخيالات محدودة، وفكر الشاعر محدود، فلا بد للشاعر من تكرار المعنى والسطو على معاني غيره يلبسها لباسا آخر من الألفاظ؛ فتجد العاشق يخاف الرقباء ويشكو الجفاء والهجر، ويتألم من طول الليل، ويبكي ألم الفراق. على أن هذه المعاني تختلف باختلاف شعور كل إنسان، وقد يجد فيها الشاعر مجالا واسعا.
4
ولكن شعراء العرب لم يبيحوا لأنفسهم هذه الحرية في القول ولا في الخيال، بل وقفوا أنفسهم على اتباع طريقة الشعر القديم، وأخذ يقلد بعضهم بعضا في المعنى الواحد، ولا أنبئكم بما في باب «سرقة الشعر»؛ فقد يجد الإنسان المعنى الواحد عند عشرات من الشعراء مكررا.
ومع هذا فقد ظن العرب أن شعراءهم طرقوا كل معنى من قديم، ووصلوا إلى كل خيال
5
فوضعوا من أول الأمر القواعد والقوانين في ذلك، ورسموا المعاني وحددوها، وحصروا أنواع الشعر والخيال، وجعلوا لها خطة وقانونا. كما فعل قدامة في كتابه «نقد الشعر»، وتبعه في ذلك من جاء بعده. وروى ابن رشيق «في العمدة»: أن قواعد الشعر أربعة: الرغبة، والرهبة، والطرب، والغضب. فمع الرغبة يكون المدح والشكر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق ورقة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والتوعد والعتاب الموجع ... وقيل لأحد الشعراء: أتقول الشعر اليوم؟ فقال: والله ما أطرب ولا أغضب ولا أشرب ولا أرغب، وإنما يجيء الشعر عند إحداهن. ورد بعضهم الشعر كله إلى نوعين : مدح وهجاء، قال: «فإلى المدح يرجع الرثاء والافتخار والتشبيب، وما تعلق بذلك من محمود الوصف، كصفات الطلول والآثار والتشبيهات الحسان، وكذلك تحسين الأخلاق، كالأمثال والحكم والمواعظ، والزهد في الدنيا والقناعة، والهجاء ضد ذلك.»
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: قلت لأعرابي: من أشعر الناس؟ قال: من إذا مدح رفع، وإذا هجا وضع. فكان الشعر عند العرب وجدانيا على حسب تقسيمهم وفهمهم له، وهذا من مميزاته؛ لأنه كله على هذا النحو، حتى في الشعر الحماسي؛ فإنك إذا قرأت أخبار الحروب وجدت شخصية الشاعر ظاهرة فيها؛ لأنه يفتخر بشجاعته وبحسبه، وذلك يجعل الشعر أقل أثرا في نفس القارئ مما إذا تجرد الشاعر عن نفسه، ودخل فيما يصح أن يكون صورة من صور النفوس الأخرى، وحالة من الأحوال العامة، بخلاف الشعر الاجتماعي.
6
لسنا الآن في موقف يسمح لنا أن نشرح هذه البلاغة العامة أو الاجتماعية شرحا وافيا، ولكنا أردنا أن ندل عليها دلالة إجمالية؛ ليتبين الفرق بين البلاغتين. وليس لنا ولا لإنسان أن ينكر أن هذا النوع من البلاغة لا يوجد عند العرب وجوده في بلاغات الأمم الأخرى. أجل، إن الحكم والمواعظ تملأ أشعار العرب. ولكن هذا النوع من البلاغة النفسية
7 (بسكلوجية) لا تكاد توجد عند العرب، وإن وجدت فهي قليلة نادرة ندور وجود الشعر القصصي؛ لأن «تحليل» نفس من النفوس الإنسانية لا يكون، ولا يمكن أن يكون، إلا في القصص الطويلة التامة. والشعر العربي لا يعرف القصص الطوال، وإن وجدت قصيدة أو قصيدتان في ذلك فلا يصح أن يحكم به على الشعر العربي؛ لندورته. ويكفي في ذلك أن أصبح الغزل افتتاح كل قصيدة، كذكر الغرام ووصف الدمن، وبكاء الأطلال؛ حتى صار ذلك طابعا من طوابع الشعر العربي، وإن كان الشاعر لم يعشق عمره، ولم يتذوق للغرام معنى، ولو كان المقام لا يصح فيه ذكر العشق.
8
غير أن هذه هي طريقة الشعر العربي وذلك أسلوبه، فلا يعاب عليه ذلك، كما أن شعراء اليونان كانوا يبدءون شعرهم بمناجاة ربة الشعر؛ لأن هذا أثر يدل عليهم ويميزهم من غيرهم؛ كذلك الشعر العربي سواء بسواء.
ومهما يكن من شيء، فإنا إذا بحثنا في الشعر العربي عن قصص طويلة مستوفاة لا نجد لها أثرا، كما نجد ذلك عند جميع الأمم الأخرى، وقد قال بعض المستشرقين: إن العرب كجميع الأمم السامية لا يعرفون الشعر القصصي الطويل، وإنه من طبيعة السامي أن يختصر القول اختصارا، ويقصد إلى الحكمة فيضعها في كلمة أو كلمتين، ويعمد إلى الفكر الكبير فيسطره في بيت أو بيتين، وإنه من شروط الشعر عنده أن يشتمل كل بيت على معنى تام، ويكون قائما بذاته. قالوا: ولذلك كثرت الأمثال والحكم عندهم.
ولعل العرب في جاهليتهم لم تنضج عندهم صناعة الشعر نضجا كافيا. ومهما قيل من أن المعلقات لا يصح أن تكون من أوائل الشعر العربي؛ لما بها من الصناعة والإتقان - وذلك يستلزم أن يكون الشعر قد تخطى زمنا طويلا، وأدرك أطوارا مختلفة - فإنا لا نزال نرى فيها سذاجة ظاهرة، وصناعة أولية. وإذا جارينا بعض المستشرقين القائلين بأن كثيرا من الشعر الجاهلي دخيل، كانت السذاجة ممتدة في الصناعة الشعرية إلى ما بعد الإسلام. والحق أن طبيعة السامي غير طبيعة الأمم الأخرى من حيث الخيال والتصور، فقد سلك مسلكا آخر في طرق التعبير غير ما سلكه غيره، ولم يلتفت لمجاراة الأمم الأخرى في بلاغتهم، ولم يسمح له حب لغته والإعجاب بها، أن يقلدهم، أو أن يزيد شيئا لم يكن من مخترعاته، ولا من مميزات لغته؛ فاكتفى بما عنده وقنع بما في يده.
وتقسيم العرب للشعر لم يكن من حيث الأغراض العامة كما قسمناه، وإنما قسموه من جهة النوع، أو من جهة أغراض الشاعر نفسه: كالمدح والذم، والوصف والنسيب، إلى آخر ما هناك. وجاء النقاد فآثروا هذا التقسيم، ولم يفكروا في تقسيم آخر، كما فعل أهل أوروبا في تقسيم الشعر إلى: «أبيك» وإلى «ليريك» ... إلخ. بل كان تقسيمهم جزئيا لا كليا. وذهب بهم ذلك إلى البحث في البيت الواحد أو البيتين، وأكثروا من البحث في اللفظ والديباجة؛ فقسم ابن قتيبة في مقدمة كتابه «الشعر والشعراء» أنواع الشعر «إلى ما جاد لفظه ومعناه، وإلى ما جاد معناه وساء لفظه.» إلى آخر ما قال هناك. وذكر قدامة بن جعفر في كتابه «نقد الشعر» شيئا مثل هذا: كنعت اللفظ «بأن يكون سمحا، سهل مخرج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة.» ونعت الوزن ثم نعت القوافي ... إلخ. وذكر «أن أغراض الشعراء وما هم عليه أكثر حوما، وعليه أشد روما، هو المديح والهجاء، والنسيب والمراثي، والوصف والتشبيه ...» وأخذ يذكر نعوت وشروط هذه المعاني، وكذلك قلده من جاء بعده. فسار الأدباء على هذا النحو، ولم يفتح النقاد بابا جديدا في الشعر، بل ألزموا الشعراء أن يقفوا أثر المتقدمين في موضوعاتهم وأساليبهم، وهذا من الأسباب في وقوف حركة البلاغة عند العرب. فإذا لم تحصل هناك أنواع جديدة، خصوصا في الشعر
9
فلأن المتأخرين اقتفوا أثر المتقدمين فلم يبتدعوا ولم يبحثوا للبلاغة نفسها، وإنما جعلوها وسيلة لا غاية.
ومن أسباب عدم وجود الشعر القصصي عند العرب عدم نظر العربي في الاجتماع نظرة عامة؛ لأن العربي كان يهتم بنفسه وبفوائده الشخصية، ومن هنا جاءت مسألة العصبية، والغرض منها حماية الشخص ضمن قبيلته، وحالته المعيشية تجبره على ذلك، وعيشته البدوية وما فيها من القتال والنزاع سيرت أفكاره في طريق خاص.
والشعر القصصي النفسي يحتاج إلى شيء من التعمل والكلفة، ودقة النظر والفكر، وشيء من المعاني الفلسفية الاجتماعية؛ لأنه يستلزم إظهار البلاغة في معنى فلسفي، بمثل ذلك يمكن أن يفيد الشعر؛ لأنه يصور النفوس تصويرا تاما، ويصور الحياة صورة حقيقية أو قريبة من الحقيقة، وهذا ما قصده العرب من وضع الحكم والأمثال في البيت والبيتين من الشعر. ولكن ذلك لا يفيد الفائدة التي في القصص، وقد أصبح من اللازم الآن أن يضم الكاتب أو الشاعر على كلامه وأفكاره صفة الأشخاص الجسمية أبطال قصصه؛ ليجسم المعنى في نفس القارئ أو السامع، ولتكون أقرب إلى الحقيقة وأدعى إلى العظة.
كل هذا يحتاج إلى الروية والفكر، والعربي لا يعرف الروية في القول ، ولم يتعود كد القريحة، كما قال أبو عثمان الجاحظ: وكل شيء للعرب إنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين أن يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناضلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد؛ فتأتيه المعاني أرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا، ثم لا يعيده على نفسه، ولا يدرسه أحدا من ولده.
وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، ويحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله؛ فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم واتصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب.
10
هذه هي حقيقة البلاغة عند العرب وجماع القول فيها،
11
وهذا يخالف طريقة الشعر القصصي المعروفة الآن، التي اتخذها الأدباء والكتاب والشعراء قاعدة لهم، بل إن الشعر القصصي المصطلح عليه الآن المسمى عندهم «أبيك» - وهو ما نسميه نحن بالشعر الحماسي - خاص بالحروب وسير الشجعان، وما يلاقونه في حياتهم من الأسفار والحوادث، كما في قصة «الأودسى» لهومروس، وكما في «أنشودة رولند» الفرنسية، التي فيها وصف حرب من حروب شالمان.
والشعر القصصي من لوازمه تسلسل المعنى لاتصال الأبيات بعضها ببعض، وذلك يخالف أصول الشعر العربي وصناعته، قال ابن خلدون في باب صناعة الشعر: «وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه؛ حتى كأنه كلام مستقل عما قبله وما بعده، وإذا أفرد كان تاما في بابه في مدح أو تشبيب أو رثاء، فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته، ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك، ويستطرد للخروج من فن إلى فن، ومن مقصود إلى مقصود.»
وجملة القول أن الشعر العربي ميزته الأولى أنه شعر وجداني، يمثل العواطف والإحساسات الشخصية، وأنه احتوى في جملته على أنواع كثيرة، وأن هذه الروح الشعرية الفطرية هي سبب ما فيه من المتانة وخفة الروح، وموافقته لكثير من الطبائع؛ فإن أكبر مظاهر البلاغة العربية الأولى هو الشعر، وأكبر منابع الشعر الفطرة والوجدان والخيال والحياة العامة. فالشعر القديم وجداني فطري في أصله ومأخذه، اجتماعي في صورته وشكله؛ لأن به كثيرا من أثر الاجتماع العربي. ولكن الشعر القصصي والشعر التمثيلي بالمعنى المعروف الآن عند الأدباء في بلاغات الأمم الأخرى لا وجود له عند العرب.
12
على أن هذا ليس بمعيب للشعر العربي؛ لأن لكل أمة منزعا، ولكل شعب خيالا خاصا، وطريقة خاصة في التصور والإدراك والصناعة، وشعر العرب في نوعه لا يضارع ولا يجارى في أمة أخرى.
الشعر الجاهلي
الأمة العربية من أذكى الأمم وأصفاها قريحة، وأكثرها استعدادا للرقي. ولكنها انزوت بطبيعة بلادها في جوف الصحراء فرضيت بحالتها، ورغبت في البقاء عليها، واكتسبت من حريتها المطلقة نوعا من الإعجاب، ففخرت على غيرها، وحسب البدوي نفسه أفضل ما يكون إدراكا، وأكمل ما يكون أخلاقا. تعود الحرية في أعماله، فكان كل رئيس قبيلة مقيدا برأي أهله وعشيرته. وكان العربي كريما يجود بكل شيء، وكان سيفه ورمحه ورحله كل ما يملك، يناديه أصغر إنسان باسمه فلان بن فلان، ومع أنه كان ميالا إلى المساواة، وإلى هذا النوع الذي يسمونه الآن «ديمقراطية» كان يرى نفسه قد خص بمزايا ليست لغيره من الأمم الأخرى؛ مزايا في جنسه وأخلاقه، وعاداته ولغته، وكل شيء لديه، فترفع عن الصناعات والأعمال، ووكل ذلك إلى الخدم والموالي والعبيد، وامتاز هو بالشجاعة والكرم والذكاء، وقوة الخيال الشعري، وبلاغة الكلام.
أما العصبية فكانت أشد ما تكون عند العرب، وهي التي حفظت كيانهم، كما أنها كانت من الأسباب التي هاجت الحرب بينهم، فقد كان العربي يجود بكل شيء في سبيل نصرة قومه وعز قبيلته، وهو مخلص كل الإخلاص؛ لأن ذلك أصبح لديه من أغراض الحياة لحفظ نفسه وأهله.
نشأ العربي على هذه الحرية والسذاجة في العيش، ووهبه صفاء سمائه وصفاء قريحته سهولة الكلام، واكتسب من سهولة عيشه الرضا بما لديه، فلم يكن له هذا النوع من القلق في الفكر، الذي يدعو إلى البحث وحب الاستطلاع، وكان يتهاون بضروب الآلام شأن كل شجاع، ولم يكن يهتم بما سيكون في غده، ولا بالبحث والتنقيب في أسرار الحياة، وكل ما يعرف عن حكمائهم وكهانهم جمل تشتمل على نصائح، وعبارات مملوءة بالحكم والعبرة.
هذه الحياة الفطرية بما فيها من البساطة والسذاجة والأخلاق من كرم وشجاعة ووفاء، هي كل الشعر العربي الجاهلي، أو الشعر العربي الجاهلي هو كل ذلك. كان العربي يصف في شعره ما يراه، ويتكلم عما يشعر به في نفسه من عواطف وفضائل، وقد تكلم وعبر عما يجول بخاطره بنفس الشجاعة والإقدام اللذين كانا له في الحياة.
والعرب أكثر الأمم اهتماما بالشعر واشتغالا به؛ فلا تكاد تجد عربيا إلا نطق بالشعر وقال الأبيات والقصائد، سواء في ذلك رجالهم ونساؤهم وبناتهم وصبيانهم؛ لأن الشعر طبيعة من طبائعهم، وسجية من سجاياهم، فما هو إلا أن يحرك نفس العربي داع صغير أو كبير لينفتق لسانه بالكلام البليغ، وليسترسل في القول استرسالا، فيبدع ويغرب، ويستولي على النفوس استيلاء، ويقود الجماعات ويذكي الحروب، ويصلح ذات البين، ويفعل في النفس فعل الكأس.
ذلك لصفاء قريحته ولصفاء جوه، ولسذاجة فكره وبساطة عيشه، ولحاجته إلى الغناء والتفاخر بحسبه، والدفاع عن نفسه وأهله؛ ولأن طبيعة بلاده الجافة ذات الشكل الواحد لم تلهمه ولم توح إليه من أنواع الجمال غير جمال القول بالتعبير عما يجول بخاطره، وإظهار عواطفه إظهارا ساذجا؛ غاب عنه جمال الطبيعة من حقول وخمائل، ومن جبال وتلال مكللة بالأشجار والأزهار، وندر لديه جريان الماء وهدوء الجو، فلم ير إلا الصحراء المحرقة ذات الفضاء اللانهائي - على قول المنطقيين - والنخل المصعد في السماء على شكل واحد؛ فأثر ذلك في خياله، وجعله أيضا لا يعرف التغيير. ولكنه إنسان له نفس ككل النفوس ، تتطلع إلى الكلام والتعبير عما هو كامن فيها، وعما تراه وتفهمه من هذه الحياة، وهي من النفوس الصافية تحب الجمال وتميل إلى فهمه، وليس لها من وسائل الفنون إلا البلاغة، فاندفع بطبيعته إلى الشعر، ووصف طبيعة بلاده، وتفنن في ذكر ما يحيط به، من حيوان وغيره، ووصف كل دقيقة وعظيمة في ذلك، ثم أحب جمال المرأة؛ لأنه كل ما عنده من الجمال، فشبهها بالكواكب والماء الزلال، وتصبب ونسب بها؛ لأنه رأى في الحب تسلية للنفس، وشفاء للغليل، ووسيلة من وسائل الارتياح والسرور، وداعيا من دواعي البلاغة؛ فأكثر من ذكرها في أشعاره، وبدأ قصائده بذلك، وهام بها هيام اليونان بذكر آلهتهم في أشعارهم، فأصبح الغزل طابعا من طوابع الشعر العربي، وأبدع في ذلك أيما إبداع.
1
هذا ولم يقف الباحثون إلى الآن على أثر يدل على أصل الشعر العربي ولا كيف بدأ، وما وصل إلينا من الشعر القديم، لا يدل إلا على متانة في الصناعة، مما لا يصح أن يكون من أوائل الشعر.
والمظنون أن الشعر القديم لم يصل إلينا لعدم تدوينه، ولانتشار الأمية في ذلك الزمن؛ إذ لا يمكن أن يصل الشاعر إلى هذا الضرب من البيان، ولا إلى هذا الإتقان إلا بتعمل كبير وجهد عظيم، خصوصا هذه الأوزان المختلفة والقوافي المتعددة. وإذا ذهبنا إلى أبعد ما قيل من الشعر الجاهلي، قبل الإسلام بنحو قرنين - على بعض الأقوال - نرى أن هذا لا يكفي لما وصل إليه من الإتقان والإمتاع في الصناعة، ولا لوصول الأفكار لهذا الحد من الحكمة في القول كما في معلقة زهير، وشعر عدي بن زيد وغيرهما؛ لأن الأفراد لا يمكن أن يصلوا إلى ذلك إلا بعد تربية طويلة للمجموع، يتخرج فيها أصحاب المذاهب الخاصة، فلعل الشعر الجاهلي أقدم مما نظن بكثير.
قالوا: وأول ما انفتق لسان العربي بالشعر كان في سيره مع الأبل أثناء أسفاره، التي كان يقطع فيها الصحراء المحرقة الواسعة الفضاء، وهو على جمله يهتز هذه الهزات المتوالية، التي تطوي وتنشر جسمه طيا ونشرا؛ فدعاه ذلك إلى الحداء ليقطع الوقت، وليخفف على هذا الحيوان ألم السير؛ إذ بحنوه إلى سماع الغناء ينسى هذا الحيوان الصبور كل ألم، وقد ظهر في حركات سيره شيء يشبه أن يكون سببه الطرب من سماع الغناء، في ارتفاع عنقه وانخفاضه. قالوا وأخذ العربي أوزان الشعر من حركات الإبل في سيرها.
ومن المحتمل أن يكون هذا صحيحا، وأن يكون ما دعا العربي لقول الشعر كثرة أسفاره وأتعابه من اختراق الصحراء. ولكن العربي ككل الناس من جهة العواطف والإحساسات والاستعداد إلى قول الشعر. بل ظهر أن العربي أكثر الناس استعدادا لقرض الشعر، وأكثر من قال شعرا؛ لا تكاد تجد أمة أخرى أنتج خيالها من الكلام الموزون المقفى مثل ما أنتج العرب، ولا يوجد عدد من الشعراء في أمة من الأمم أكثر من عدد شعراء العرب؛ لأن الشعر كان سجية من سجاياهم، فكان لديهم أشبه بالحديث والمسامرات عند غيرهم. فلماذا لا تكون هذه الطبيعة النقية، وهذا الاستعداد السليم هما اللذان دعوا العرب لقول الشعر من أول الأمر؟ وأن الحياة البدوية والحاجة إلى الدفاع عن النفس والأهل هي التي فتقت لسانه بهذا الكلام البليغ؟ وأن مفاخره جعلته يملك أعنة الكلام، ويتصرف هذا التصرف في القول؟ وأن هذه الصبغة التي في شعره فطرية ناشئة عن أسباب كثيرة، بعضها خاص باللغة وغنائها والبيئة وما فيها.
وقد قال بعض المستشرقين مثل رينان ومن جرى على مذهبه: إن العرب ككل الأمم السامية ليس لها أساطير في شعرها ولا في عقائدها، وإن هذا يدل على ضيق الخيال لديهم؛ لأن الأساطير والخرافات إنما هي نتيجة سعة الخيال، ونتيجة الحيرة وحب البحث والاطلاع، وإن الفكر كلما كان قلقا متطلعا إلى غاية أسمى وكان بعيد الغرض؛ دعاه ذلك إلى حب البحث وإلى أن يكون في حركة مستمرة للوصول إلى ما يريد، كأنه يبحث عن حقيقة خفية، وكلما أكثر من البحث ظهرت له أشياء ووقف على معان جديدة، وتبينت له أسرار دقيقة في الحياة، وعرف ما لم يكن يعرف قبلا. قالوا : كل ذلك يظهر أثره في بلاغات الأمم من نظم ونثر، كما هي الحال عند الأمم الآرية كاليونان وغيرهم من الأمم الأوروبية. وقالوا: سعة الخيال، ولا يقصدون بالخيال ما نقصده نحن من المجاز والتشبيه، وإنما يقصدون سعة الخيال في تصور الحقائق وفي إدراك الموضوعات المختلفة؛ لأن أساطير اليونان كان منشؤها البحث عن الخالق وتصوره، فلم ترشدهم عقولهم إلا إلى ضرب من الخرافات، كتبوا عنها وألفوا فيها الأسفار، ونصبوا لها التماثيل، وتوسعوا في الفنون؛ فاستدل الباحثون بذلك على قوة الذكاء وسعة الخيال وحب الجمال والافتنان فيه. وربما كان هذا من الأسباب التي حملتهم على طول الكلام، والميل إلى القصص في النثر والشعر؛ لأن هذا النوع من البلاغة ليس إلا ضربا من سعة الخيال في التصور والفكر والتعبير؛ ومن هنا يكون تعدد الأنواع في ضروب البلاغة نظما ونثرا.
أنكر المستشرقون هذا النوع من سعة الخيال عند الأمم السامية، وفي جملتها العرب. ولكنهم يبالغون في ذلك؛ لأن العرب تصوروا آلهة متعددة، ونصبوا لها الأصنام قبل الإسلام، وكانت لهم أساطير،
2
وتخيلوا لشعرائهم نفوسا أخرى من الجن كانت توحي إليهم عبقريتهم، وعدوهم أصحابا لكبار الشعراء، ورووا عنهم الشعر. قالوا: فكان صاحب امرئ القيس لافظ بن لاخط، وصاحب عبيد بن الأبرص هبير، وغير ذلك من الشعراء الكبار،
3
أما أن الأمم السامية ذات أفكار هادئة غير قلقة، راضية بصدق وصحة ما ترى، فهذا صحيح في جملته؛ لأنهم أقنع الأمم في حب الاستطلاع، وأرضاهم بما لديهم؛ ولذلك أيضا كانوا أقلهم فلسفة، وأكثرهم سذاجة في حالتهم الاجتماعية وفي نظام حكوماتهم، كما يظهر ذلك في بلاغتهم من شعر ونثر، وكلها أشبه بالحقائق العريانة كما يقولون.
وقد قال جماعة من المستشرقين خصوصا الألمانيين منهم إن نسبة الشعر الجاهلي إلى قائليه لا يصح الاعتماد عليها ولا التصديق بها؛ لأنه مهما صحت قوة الذاكرة عند العرب ومهما قويت حافظتهم، فإنها لا تحتمل رواية كل هذا الشعر كما كان، وكما نطق به الشعراء الجاهليون؛ لأن الذاكرة كثيرا ما تخون، والأمانة في النقل نقلا صحيحا لا تكون إلا بالكتابة والتقييد، وأن حمادا الراوية جامع المعلقات وراويها متهم في روايته وفي صحة قوله، ومطعون في ذمته بإقراره عن نفسه، وبرواية معاصريه عنه، واستدلوا على ذلك بما في روايات الأغاني وغيرها، مثل ما ذكر في ترجمته:
4 «سمعت المفضل الضبي يقول: قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أنشده فلا يصلح أبدا، فقيل له: وكيف ذلك، أيخطئ في روايته أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، لا. ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها، ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق؛ فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك؟»
5
وأن خلفا الأحمر وأمثاله خلقوا من الشعر ما لم يكن موجودا في الجاهلية، وكذبوا على الشعراء، وكان يكفي نسبة الشعر إلى أي إنسان، حتى لقد كانوا كثيرا ما يحفظون الكلام بدون معرفة قائله؛ ولذلك تجدهم يعدونه من قصيدة لشاعر ومرة لشاعر آخر من قصيدة أخرى؛ كل هذا يدل على خلط في الروايات، ويحمل على عدم الثقة بها. قالوا: ومما يضعف الاعتماد على الرواة تعدد الأشخاص المسمين باسم واحد، فقد ظهر أن هناك سبعة عشر رجلا، كل منهم يسمى بامرئ القيس، وأربعة يسمون بعلقمة، وثلاثة بعنترة، وخمسة بطرفة. وهذا أيضا من الأسباب التي تدعو إلى الخلط في معرفة صاحب القصيدة، وزادوا على ذلك أن الرواة كانوا يستبدلون بالعبارة البدوية المحضة التي لا يفهمونها من الكلام القديم، عبارات وألفاظا من عندهم على الوزن والقافية نفسها؛ لتكون أوضح لهم ولغيرهم. قالوا: وإذا صدقنا ما قيل عن حماد الراوية، من أنه كان يعي ضمن محفوظاته ستين قصيدة تبتدئ كلها «ببانت سعاد»، ولا نعرف منها الآن إلا قصيدة كعب بن زهير، ظهر لنا قيمة ما يقوله الرواة وصحة ما يروى عنهم، وقالوا أكثر من ذلك.
6
وقد لخص هذه الآراء المسيو «رينيه بسيه» رئيس القسم الأدبي بجامعة الجزائر في رسالة له سماها «الشعر العربي قبل الإسلام ».
الرواية في ذاتها متهمة، ولا يصح الأخذ بها علميا إن كانت رواية ككل الروايات. ولكن المسلمين عنوا عناية خاصة بالرواية، حتى أصبحت من الطرق العلمية؛ لأن كثيرا من أحكام الدين مبنية عليها، ولا يمكن أن تكون قاعدة علمية أثبت وأصح مما وضعوه في رواية الحديث، وما قرروه من الشروط في ذلك، مما يصح الآن أن يكون من أحدث الطرق العلمية. ولكن هل هذه العناية بنفسها وجدت في رواية الشعر؟ هذا ما لا يمكن الجزم به؛ بدليل ما نسب إلى الرواة، وبدليل ما نراه من الاختلاف في ذلك؛ فإن بعض الأشعار لا يزال قائله مجهولا. أما إذا اتبعنا الطرق العلمية المحضة، التي تقول: إنه لا يصح الجزم بالشيء إلا إذا ثبت بدليل قطعي، فلا يصح التصديق بذلك تصديقا تاما؛ لأنه يحتمل عدم الصحة. وأما إذا نظرنا نظرة المتساهل الذي يحسن الظن، ولا يقيد نفسه بالقواعد والقوانين العلمية، فإننا لا نجاري هؤلاء في شكهم، خصوصا أنه في المستحيل أن تكون كل هذه الأشعار أو أكثرها مخترعة، أو منسوبة إلى غير قائلها بدون سبب ولا داع إلى ذلك، وإذا كذب الرواة أو دسوا على بعض الشعراء شيئا، فإن ذلك لا يمكن أن يصل إلى مقدار ما نعرفه من الشعر الجاهلي، وكيف يمكن اختراع هذا الشعر الكثير، وبه من العبارات والأساليب ما يدل على أنه بدوي صرف؟ وأي إنسان يمكنه أن يحصل على هذه القدرة؛ ليشغل وقته بذلك وينسبه إلى غيره، وكان أولى به أن يذكره لنفسه ليفخر به؟ وأي فائدة لأي معتوه أن يتعب في التأليف ويقول: هو لفلان؟ أنرمي كل الرواة وعلماء اللغة والأدب بالكذب أو نتهمهم بعدم الثقة؛ لأن حمادا وغيره كذب مرة أو مرتين؟ وهل يصح أن نحكم على البلد أجمع بالمرض لأن بها إنسانا مريضا؟
إن المستشرقين يبالغون في ذلك، كما يبالغ بعض المؤرخين في نسبة التاريخ اليوناني القديم أجمعه إلى الأساطير والخرافات، والحق أن المسألة لا تزال موضع البحث، ولا يمكن الجزم بشيء في ذلك الآن. غير أننا نرجح أن كثيرا من الشعر القديم منسوب كذبا إلى الشعراء المعروفين. ولكن هذا لا يطعن في صبغته العربية من حيث الأسلوب.
البلاغة والاجتماع
هل البلاغة صورة الاجتماع؟ وهل يصح أن تتخذ حركة الكتابة من شعر ونثر دلالة على حياة الأمم الاجتماعية، وعلى مجموع صورة الاجتماع من أفكار وعقائد، وتصورات وخيال، وذكاء ودقة في الفهم، وخمول في القريحة، أو على ما في الأمم من ميل إلى الجد وإلى اللهو، وما في النفوس من قوة وضعف وإرادة، وعلى اختلاف الأذواق وفهم الجمال، ثم على العادات وغير ذلك، مما يدل على شيء من التاريخ والأخلاق القومية؟
قال بعض الفلاسفة الاجتماعيين: «يلاحظ أنه حصل منذ هومروس تقدم تدريجي في الكتابة والشعر؛ حتى لقد يمكن أن نعتبر البلاغة صورة للاجتماع، فقد مرت بأطوار كثيرة وأنواع من الموضوعات الساذجة الخاصة بالأفراد، إلى الأنواع العامة، وتطرقت إلى الموضوعات الشريفة التي يمكن أن تمثل الجمهور.» أي بعد أن كان الكاتب أو الشاعر لا يتكلم ولا يكتب إلا عن نفسه وعيشته الخاصة، أخذت الكتابة تتسرب إلى الموضوعات الاجتماعية شيئا فشيئا، حتى انتقلت من وصف الأشخاص إلى وصف الجمهور والمجتمع، وقالوا: طريقة الكتابة والتعبير تدل على نفس الكاتب وحقيقته، يريدون أن الأفكار بنفسها مع أسلوبها تدل على صاحبها، وقالوا بعد ذلك: إن البلاغة صورة الاجتماع؛ يريدون أن ما يوجد من الأفكار في الكتابات من نظم ونثر يمثل الحالة الاجتماعية، ولا سيما الفكرية منها. وقالوا: إن القوانين والنظامات أثر من آثار الرجال. أما البلاغة فتمثل شخصيات الأمم، يريدون أن الكتاب الاجتماعيين يمثلون دائما في كتاباتهم الحالة الاجتماعية للأمم، ويظهرون فيها مجموع الأفكار ومجموع العادات السائدة في ذلك الوقت؛ لأن هذه الكتابات إنما تمثل أشخاصا، وتصور أفرادا من المجتمع، ومحور الكلام أو مغزى البلاغة يكون دائرا حول جماعة من بيئة خاصة، فهي تمثل هذه البيئة.
وأخلاق الكتاب والشعراء التي تبدو في كتاباتهم إنما هي حالة من أحوال البيئة التي يعيش فيها هؤلاء الكتاب؛ فهم جزء من مجموع الجمهور، الذي يعبرون عن حالته ، ويسمعنا صرير أقلامهم صوته.
وعلى ذلك فالحركة الكتابية هي نفس الاجتماع بما فيه؛ أي صورة أصلية للأمم، وحقيقة من الحقائق الثابتة، تمثل كل ضروب الحياة، وحركات عقول الأفراد من علماء، وأدباء، وفنيين، وفلاسفة، وغيرهم.
ويمكننا نحن أن نضرب لذلك مثلا بالشعر العربي مدة الدولة الأموية من الهجاء والمدح، وانقسام الشعراء إلى أحزاب سياسية، كل يمثل رأيا من الآراء السائدة في ذلك الوقت، وانقسم الشعراء إلى علويين ينصرون آل علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وإلى أمويين يؤيدون سياسة بني أمية، وغير ذلك.
وهل يكون أدل على الحرية في ذلك الوقت من قول النعمان بن بشير، وقد دخل على معاوية أمير المؤمنين يؤنبه على هجو الأخطل الأنصار:
معاوي إلا تعطنا الحق تعترف
لحى الأزد مشدودا عليها العمائم
ويشتمنا عبد الأراقم ضلة
وماذا الذي تجري عليك الأراقم
فما لي ثأر غير قطع لسانه
فدونك من يرضيه منك الدراهم
وإني لأغضي عن أمور كثيرة
سترقى بها يوما إليك السلالم
فما أنت والأمر الذي لست أهله
ولكن ولي الحق والأمر هاشم
فهذا الشعر يصح أن يكون صورة صحيحة من صور الحياة إذ ذاك، ويصح أن يدل على حرية الشعب مدة خلافة معاوية. ومثل ذلك يقال في العادات والأخلاق، كقول امرأة رزقت بنتا، فغضب عليها زوجها وهجرها إلى بيت قريب منها، فكانت تناغي ابنتها بالأبيات الآتية:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا
تالله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
ونحن كالزرع لزارعينا
ننبت ما قد زرعوه فينا
فهذا أيضا يدل على ضرب من المعاملات، وعلى أحوال الاجتماع، وعلى ما للمرأة من رقة الأخلاق ولين الجانب. قالوا: ولما سمع زوجها هذا النشيد هم بتقبيلها هي وابنتها؛ فكان ذلك سببا لرجوعه إلى زوجته. ومثل ذلك يقال في الأشعار الدالة على الكرم والشجاعة والعشق وغيرها.
قال أصحاب هذا المذهب: إن «أمثال»
1
لافونتين الشاعر الفرنسي الشهير، «وأخلاق» لابرويير
2
الكاتب النقدي، تدل دلالة تامة على حالة الاجتماع في القرن السابع عشر في فرنسا، وعلى زمن لويس الرابع عشر وحاشيته؛ لأن لافونتين مثل الأشخاص في صور حيوان، ولابرويير ذكر في «أخلاقه» صور الذين كانوا يعيشون في ذلك الزمن، بما لهم من الأخلاق والعادات، فكأنما رسم الاجتماع والزمن اللذين كان يعيش فيهما، كما يرسم المصور لوحته بالألوان، ويبين فيها مميزات الشخص.
وعندنا نحن من الأمثلة على ذلك ما يقرب من هذا في البلاغة المصرية «حديث عيسى بن هشام» لمحمد بك المويلحي؛ فإن فيه رسما للحياة والأسر في مصر على اختلافها في زمن من الأزمان. وهو من أفضل الكتب، التي يصح الاعتماد عليها في معرفة الحياة المصرية الحاضرة، وفي معرفة الأفكار والأخلاق والعادات المنتشرة عندنا، والفضائل والرذائل السائدة فينا.
3
وكان من رأي جماعة من الأدباء أن القصص والروايات تصح أن تكون منبعا من منابع التاريخ، ومرجعا من مراجعه؛ لأنك تجد فيها كل أشكال الناس؛ ففيها الطفل والشاب، والجندي والحاكم، والمالي والشريف والسياسي، بمميزاتهم وأخلاقهم النفسية والاجتماعية، وبأشكالهم الحقيقية، فقد أخذت الكتابة شكلا علميا تاريخيا، وصارت البلاغة كتراجم لأشخاص ونفوس اجتماعية لأفراد خاصة معينة، أو بعبارة أخرى، أصبحت الكتابة تمثل أخلاق المجتمع، وتكشف حقيقته، كما أن العلوم يتوصل بها إلى تقرير الحقائق، كدرس طبيعة حيوان، أو صفة عامة في فصيلة من فصائل النبات.
هل أصحاب هذا الرأي محقون؟ وهل يؤخذ هذا الكلام على علاته؟ وهل الأشخاص الذين نراهم في جوف القصص وفي بطون الحكايات لهم صورة أصلية في الخارج؟ وهل أوصافهم وأعمالهم ووظائفهم حقيقة من الحقائق الثابتة؟ إذا بحثنا في ذلك بحثا دقيقا وجدنا أن هناك فرقا ظاهرا، وأحيانا مخالفة واضحة بين بعض الكتابات البلاغية وبين البيئة التي نبتت فيها وخرجت منها. وسبب ذلك أهواء الكاتب الشخصية وأغراضه النفسية، أو تأييد فكرة يعمل على إثباتها ويبالغ في تقديسها.
ذلك لا يظهر في الآداب العربية ظهورا واضحا؛ لأن بلاغة العرب محصورة أو تكاد تكون محصورة في الشعر، والشعر لا يمثل حالة الاجتماع تمثيل النثر له؛ لضيق المجال فيه؛ لأنه لا يسع جميع الأفكار، ولا يحتمل إظهار الحقائق كما ينبغي، لما فيه من القوانين التي يجب على الشاعر اتباعها. وكثيرا ما تضطره إلى ذكر ما لا يلزم أو حذف ما يلزم. فالشاعر لا يجد في شعره الحرية المطلقة التي يجدها الناثر في نثره. ولأن الشعر رغم كل شيء مبناه الخيال والمبالغات، والصناعة الشعرية كثيرا ما تضطر الشاعر اضطرارا لاتباع أهوائه، خصوصا الشعر العربي لأنه أكثر الشعر رونقا وبهاء، وأشده ارتباطا بالنغمات الموسيقية، والموازين والألفاظ الضخمة، والاستعارة والتشبيه والمجاز.
4
فجمال الشعر العربي في الصناعة، وهو كذلك عند جميع الأمم خصوصا الشعر الوجداني، فإنه يكاد يكون مبنيا على ذلك فحسب، فكيف يستدل بالشعر على الحقيقة؟ وقولهم: «إن الشعر ديوان العرب، به أخلاقهم وعاداتهم وأنسابهم وحروبهم» ليس معناه أن الشعر يصح أن يكون دليلا من أدلة التاريخ العام؛ فإذا روى أحد الشعراء قصة فلا يصح أن تؤخذ على أنها حقيقة من الحقائق الثابتة، كما في كتب التاريخ، وإلا لصح أن تعتبر الأساطير الشعرية «والأمثال» حجة تاريخية، ولم يقل بذلك مفكر؛ لأن كل الشعر اليوناني القديم خرافي، وكل ما فيه من الآلهة والحروب خرافي أيضا، وربما لم يحصل شيء مطلقا من هذه الحروب، بل من المحقق أن أشيل وأغمنون وآلهة الشعر التي نزلت من السماء أشخاص خياليون، والقصة نفسها خيالية. بل قالوا: إن هوموروس نفسه شخص خرافي لا أثر له في الحقيقة، فكيف تكون هذه الأشعار ومثلها دليلا على حالة الاجتماع وعلى حياة الأمم دلالة تاريخية؟ وهل يصح أن نصدق بوجود الأشخاص الذين وجدوا في أشعار الجن عند أدباء العرب؟ وأن تكون قصة «ألف ليلة وليلة» صحيفة صادقة من صحف التاريخ الإسلامي؟ أو صورة صحيحة من صور الحياة الاجتماعية في بغداد ومصر وغيرهما؟ لا نزعم أن كل ما بها ضرب من الكذب أو الافتراء. ولكن الإنسان يرى من أول وهلة أن بها مبالغات هي أثر الكتابة الخرافية، والأساطير الأدبية وأثر الصنعة، فيها أشخاص معروفون، فيها ملوك وأمراء، فيها نساء وحكام. ولكن أوصافهم أو أشخاصهم غير حقيقية .
وربما كان هذا الكذب الصناعي هو الذي يحمل القارئ أحيانا على استمرائها، والاسترسال في قراءتها؛ لأن الأشياء التي هي غير مألوفة، كثيرا ما تعجب الإنسان وترضي النفس التي تحب الخداع، وتميل إلى الانتقال وتحب التغيير، خصوصا عندما يكون فيها من الأفكار والخيالات ما يحرك عواطف الشاب، ويعجب الشيوخ والكهول. وكثيرا ما يكون تشويه الحقيقة في الفنون داعيا من دواعي الإعجاب. لماذا يعجبنا أن نرى صورة مشوهة، ذات رأس ضخم على جسم صغير لا يمكنه أن يتحمل هذا الرأس؟ أليس ذلك لأنه غريب عنا، بعيد عما نراه من الحقائق، محرك فينا حب الاستطلاع؟ كذلك الحال في جميع الفنون. غير أن هناك نوعا من الفنون التي تدخل في باب الحقائق، وتجعلها سائغة على النفس خفيفة الروح، سهلة القبول؛ فإن صورة يصورها المصور لإنسان، لا يمكن أن تكون غيره. ولكن ربما اقتضت الصناعة أن يضع على رأسه العمار بشكل خاص، أو أن يغير من شكل ملابسه أو لونها بعض التغيير، أو أن يجعل ارتفاع «طربوشه» مثلا ارتفاعا مناسبا لما يريد، أو أن تقضي الصناعة وضع ثلاثة أو أربعة أزرة في ملابسه، وهو لم يحمل إلا اثنين مثلا. هذه التفصيلات لا تغير من حقيقة الشخص نفسه. غير أنه لا وجود لها، كذلك الحال في الشعر والنثر؛ ففي أشعار العرب ما يدل في مجموعه على أخلاقهم، كالكرم والشجاعة وعدم احتمال الضيم، إلى غير ذلك مما ورد في شعرهم. ولكن لا يمكن أن ندرس إنسانا دراسة تامة في شعره، نعم قد يستدل من كتابات الرجل على شيء من أخلاقه، ويمكننا أن نعرف إن كان الشاعر عاقلا أو مجنونا، كما يمكننا أن نعرف إن كان مخطئا أو مصيبا في أفكاره. ولكن هل يصح أن نحكم على إنسان بالشجاعة لأنه مدح الشجاعة؟ أو نقول: إنه كريم لأنه مدح الكرم؟ لدينا الآن من يصف السيف والرمح، ويمدح الشجاعة والموت في سبيلها، وهو لا يعرف أن يقبض على السيف، وتهتز فرائصه خوفا إذا هم إنسان يضربه بيده لا بسيفه، وكم من شاعر وصف الخمر وهو لم يشربها، ومدح التقوى وهو لم يعرفها.
وقد يكون للكاتب أو الشاعر رأي خاص، يريد أن ينشره أو يعمل على تأييده، ورأيه غير معروف في البيئة التي يعيش فيها، أو معروف عند القلة، فإن قصص بول بورجيه
، القصاص الفرنسي بها نزعة دينية كتوليكية؛ لأنها تدعو إلى الكنيسة الكتوليكية وإلى مذاهبها، وتعمل على تأييد ذلك، وأنطول فرانس
Anatolé France
المعاصر له رجل فيلسوف ملحد، قصصه مملوءة بالهزء والسخرية من العالم ومن الأفكار الدينية، وكلا الكاتبين يكتب وينشر أفكاره الخاصة في نفس البيئة التي ينشر فيها الآخر أفكارا تخالفها، فأيهما يصح أن يكون قلمه وأفكاره دليلا على البيئة التي يعيش فيها؟ هذا يدل على نزعات فردية، وعلى مجتمعات وأفكار خاصة، لا على الأمة أو حالة الاجتماع العام، اللهم إلا في الكتابة العلمية أو في مذهب الحقائق
Réalisme ، الذي من غرضه إظهار الشيء كما هو. على أن ذلك لا يخلو من بعض المبالغة أحيانا، ومن الصناعة التي تضطر الكاتب إلى الخروج عن الحقائق.
وعلى كل حال فلا يصح أن تعتبر البلاغة دليلا صحيحا على الزمن والأشخاص الذين ظهرت بين ظهرانيهم، أو أن تكون أثرا تاريخيا.
نعم لا تكون الكتابة من الأدلة التاريخية لأمة من الأمم؛ لأن الكاتب لا يقصد من وضع قصة تمثيلية لحادثة تاريخية تمثيلا خاليا من الزيادة والنقص. ولكنه يريد إظهار رأيه وإثباته في قصته، وهذا ما يدور عليه محور التمثيل؛ ولذلك يعمل على إظهاره بأي شكل كان وبأي وسيلة كانت، هذه الزينة التي توجد على المسارح من ستائر وأثاثات وألوان وأضواء، وهذه الملابس والحركات والأشكال، قد تكون غيرها في الزمن الذي وجدت فيه القصة وربما لا تشبهها، كالكلام الكثير والمناظر المختلفة التي لا تكون من القصة في شيء. ولكن المؤلف يريد أن يعجب الحاضرين، وينال من نفوسهم بهذه المظاهر ليتوصل إلى إثبات فكرته، أو إلى نشر حقيقة خفية بهذه الوسائل. كل ذلك لازم تقتضيه قواعد الفن وتستلزمه الرغبة في الإعجاب؛ ولذلك كثيرا ما يغير أصحاب الفنون مناظر القصة التمثيلية إلى غيرها ؛ لأنهم يرون ذلك أوفق وأدعى للجمال، ولأن الفنون ليس من غرضها البحث عن الحقائق، ذلك يرجع إلى الفلسفة والعلوم، إنما غرض الفنون إظهار الجمال.
هذا مثل ضربناه لأن الصناعة فيه أظهر، وعدم اتباع الحقيقة فيه أبين، والجري وراء أهواء الكاتب في إظهار البراعة فيه أوضح؛ لأنه مبني على المشاهدات، ومثل ذلك يقال في أنواع النثر والشعر، وهل مثل قول ابن كلثوم:
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما
تخر له الجبابر ساجدينا
يدل على حقيقة؟ وهل هذه كانت حالة الاجتماع في ذلك الزمن؟ هذا من باب الفخر والحماسة وجمال القول والمبالغة، أو من التهاون بالحقائق لاقتضاء الصناعة ذلك. كل ما يمكن أن تدل عليه البلاغة من نظم ونثر، وقصص وحكايات، وروايات تمثيلية واجتماعية، هو مجموع الحركة الفكرية للأمم، والصورة العامة للميول والأهواء للمجتمع، وشيء من حركة النفوس والعقول، وبعض الأخلاق والعادات التي يمكن أن تؤخذ من بطون هذه الصحف.
وقد قال بعض النقاد: إن الحالة الاجتماعية لأمة من الأمم تعرف من آراء النقاد أكثر مما تعرف من البلاغة نفسها؛ أي إنه يمكن أن يعرف الإنسان من ملاحظات النقاد على الكتاب والشعراء صحة مطابقتها للأخلاق والعادات من عدمها؛ لأن النقاد يرون ما لا يراه الكاتب نفسه؛ فتكون آراؤهم أقرب إلى الصواب من آراء الكاتب، وهذه الآراء تبين أفكار الكاتب وحكمه على المجتمع الذي يعيش فيه، نضرب لذلك مثلا بحالة القصص الاجتماعية الآن: كثير من هذه القصص يمثل طبقات الناس تمثيلا غير حقيقي، يمثل المرأة أو الفتاة في حالة من الأخلاق لا يرضاها لها إنسان، خصوصا في موقف الحب والغرام، كما هي الحال في القصص التمثيلية، فلو لم تظهر آراء النقاد ما في هذه الكتابات والأفكار من المبالغات، واعتمد كل إنسان على ما يقرؤه في أخذ الحقائق منها؛ لامتلأت نفسه خطأ من الحكم على المجتمع، وكما هي الحال للأجانب الذين يصفون البلاد من بطون الكتب لا غير، كالقصص والروايات، ويحكمون عليها بناء على ذلك؛ لهذا قيل: إن الحكم على البلاغة نفسها هو صورة الاجتماع ؛ أي إن المؤرخ الذي يريد أن يأخذ شيئا من كتابة الأمم للحكم على مدنياتها، عليه أن يجمع آراء النقاد المختلفة ويوازن بينها؛ ليستخلص منها صورة صحيحة من الحالة الاجتماعية، فقد يجد أفكارا متناقضة مختلفة في عصر واحد؛ لأن كل إنسان له رأي، فإن لم يكن هناك تمييز بين هذه الأفكار فبأيها يحكم القارئ؟ وعلى أي اجتماع يكون حكمه صحيحا؟ وماذا تكون الحال إذا حكمنا على زمن الرشيد بشعر أبي نواس وأمثاله، وحكمنا على الشعراء بمثل هذه الأخلاق؟ وأبو نواس يكاد يكون وحيدا في بابه مع أصحابه، كما قال حمزة بن الحسن الأصبهاني جامع ديوان أبي نواس: «وقد خص شعر أبي نواس ممن لهج بإضافة المنحول إليه بما ليس في غيره من الأشعار، وذلك أن تعاطيه لقول الشعر كان على غير طريقهم؛ لأن جل أشعاره في اللهو والغزل والمجون والعبث، كأشعاره في وصف الخمر ولغة النساء والغلمان، وأقل أشعاره مدائحه. وليس هذا طريق الشعراء الذين كانوا في زمانه، وكانوا من بعده؛ فأبو نواس في توفره على الهزل بإزاء عمران بن حطان وصالح بن عبد القدوس في توفرهما على الجد الصرف.»
هذا معنى أن آراء النقاد هي صورة الاجتماع أكثر من البلاغة نفسها. وجملة القول أن كل ما يصح أن يؤخذ من البلاغة هو الحالة العامة للأفكار، وطريق سيرها في زمن من الأزمان، حتى في البلاغة الحقيقية التي تنشر الحقائق بدون زيادة ولا نقص؛ لأنه ليس الغرض منها تقرير الحقائق، بل عرض صورة الشيء عرضا إجماليا وبث العبرة والعظة. كما إذا وصف الكاتب رجلا قذرا رث الثياب حافي الأقدام، فإنه لا يصفه لذاته، وإنما يصفه لإظهار النفس الكامنة فيه، وكما نجد في الكتابات الحديثة الآن أثناء الكلام على شخص من الأشخاص، وصف حجرته، وما لديه من الأثاث وغيرها؛ كل هذا للتوصل للحكم على الرجل وعلى نفسه. فإذا أردت أن تبحث عن أمة من الأمم، فإنك لا تجدها في بلاغتها، وإنما تجد في بلاغتها أذواقها وأنواع ميولها.
النزعات المختلفة في فهم البلاغة
يقرر العالم نظريته ويبرهن على رأيه، ولا يكاد ينتهي من تقريره البرهان حتى تخرج الحقيقة من نفسه إلى نفوس سامعيه، وتظهر آراؤه لدى تلاميذه جلية واضحة، وتنتقل من تلاميذه إلى غيرهم، وتدخل في مائة نفس، وتملأ ألف رأس، كما خرجت من نفس قائلها، وكما قررها الأستاذ الأول، لا تؤثر فيها نفس أخرى، ولا تغيرها آثار الناس. فالقضية القائلة: «إن مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين.» والقضية القائلة: «إن الاحتكاك يولد حرارة.» لا تزال هي هي في كل رأس وعند أي إنسان.
أما في البلاغات وفي أنواع الفنون فالأمر غير ذلك؛ لأن أثر الكاتب لا بد أن يكون ظاهرا فيها ظهورا تاما؛ فهو الذي يميزها من سواها ومن الأذواق الأخرى، وهو الذي يكسبها رونقا وجمالا، أو يجعلها ثقيلة على النفس. ولكن ذوق الكاتب أو الشاعر لا يتفق مع كل نفس، ولا يفهم بطريقة واحدة؛ لاختلاف الأذواق في طرق الإدراك، التي يرجع إليها في الحكم على الفنون وفي تذوق الجمال؛ ولذلك يختلف الناس في تقدير وقبول البيت والقصيدة من الشعر. كذلك الحال في الموسيقى والتصوير: تكون هذه الصورة جميلة مقبولة لدى إنسان، وغير مقبولة عند آخر، ونجد فلانا الموسيقار الشهير له طائفة تحبه، وترغب في سماع صناعته؛ لأن نغماته شجية، وهؤلاء يميلون للحزن والابتئاس، على حين أننا نجد آخرين لا يرغبون في هذا النوع الذي لا يحمل على السرور. غير أن هذه الفروق في الأذواق تقل في جماعة تربوا على طريقة واحدة، وعاشوا في بيئة واحدة، وفي زمان واحد. ولكن متى كان للعواطف أثر في إدراك الجمال والحكم عليه؛ كان للخلاف مجال واسع في تقويمها، هذا الاختلاف في الفهم والإدراك هو الذي يحيي ويميت المذاهب والأفكار المختلفة في كل زمان؛ ومن هنا تنشأ الحركة الفكرية واختلاف المذاهب والأطوار، وتتولد المذاهب الكتابية أو مذاهب البلاغة؛ لأن أثر الأفكار وأثر حركة العقول يظهر دائما في بلاغات الأمم الحية؛ إذ البلاغات ليست إلا صورة من حركات الأفكار، كما حصل في القرن الثامن عشر في فرنسا، حيث انتشرت الفلسفة، وانحط الخيال وسقطت منزلة الشعر، وفي القرن التاسع عشر، حيث ابتدأت البلاغة بالمذهب الوجداني، ثم بمذهب الطبعيين، ثم بمذهب الحقائق، وكما حصل في بلاغة العرب أن انحطت منزلة الشعر عند ظهور الإسلام - على رأي بعض الأدباء - أي قل احترام المسلمين للشعر في ذلك الوقت لاشتغالهم بالدين ونشر دعوته.
1
ولما أسس بنو أمية دولتهم انتشرت أنواع الهجاء في الشعر، وشجع الخلفاء الشعراء على مدحهم وذم أعدائهم، بما كانوا يفيضون عليهم من العطايا والأموال الكثيرة، وظهرت كل أنواع الشعر، وانتشر الغزل وظهر من كبار رجاله جميل وكثير وابن أبي ربيعة وغيرهم، وأخذ يظهر المجون، وبينما كان هؤلاء وغيرهم ممن أتى بعدهم زمن العباسيين يفهمون البلاغة نوعا من جمال القول، وضربا من تسلية النفس، وشيئا من المجون والخلاعة، وأحيانا آلة للدفاع عن النفس والأهل، ووسيلة من وسائل الكسب، جاء علماء اللغة والأدب كالأصمعي وأبي عبيدة وغيرهم، فلم يحفلوا بالمحدثين ولا بأشعارهم؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى الشعر نظرة أخرى غير نظرة أصحاب الفنون، وكادوا يقصرونه على استنباط الأدلة اللغوية، وجعلوه وسيلة لتفسير الآيات الكريمة والأحاديث النبوية، وغمطوا من حق الصنعة، ووضعوا من قدر المحدثين، لا لشيء سوى أنهم محدثون.
2
ولما انصرف المسلمون انصرافا تاما إلى الاشتغال بتفسير القرآن الكريم، واهتم العلماء والأدباء منهم بجمع الأشعار واللغة. قالوا: إن علوم الأدب جمعاء وسيلة لفهم كتاب الله - تعالى - وقالوا: إن حكم البلاغة وحكم معرفة العلوم الأدبية الوجوب الكفائي، وشرفها بشرف ما يتوصل إليه، فهي كلها علوم آلية (كما قال ابن خلدون في مقدمته)، كذلك كان فهم المسلمين للأدب والبلاغة، حتى لقد ترفع كثير منهم عن قول الشعر وذمه ذما؛ لأن السواد الأعظم من الشعراء جعله وسيلة للسؤال، على ما كان له من الرفعة في المنزلة والروعة في المدح والذم، وكان الأمراء والخلفاء يملقون الشعراء ويخافونهم. فلم يكن الشعر والبلاغة صورة من الاجتماع العام أو الخاص، أو شيئا جديا في المجتمع، بل كان شبه ألعوبة للأهواء والأغراض وتسلية للنفوس، ولم يكن لشاعر أن يقصد إلى تربية النفوس وتهذيب الأخلاق، أو إظهار صورة عامة من صور الحياة، إلا ما جاء عفوا عند بعض الشعراء الزهاد والحكماء مثل: أبي العتاهية، والمتنبئ، وأبي العلاء. فكانت روح البلاغة أو الروح الأدبية كأنها في حالة اختناق؛ لأنها انحصرت في طائفتين، وكلتا الطائفتين لم تعمل على رقيها كما كان ينبغي: فطائفة العلماء والمشتغلين بالدين والعلوم العربية اهتموا بالبلاغة من أجل ذلك فقط، فكان همهم الجمع والدرس، لا لشرح هذه البلاغة من حيث إنها بلاغة، أو من حيث إنها أثر أدبي، أو من حيث إنها نتيجة جهد العقول والقرائح، بل لأنها وسيلة من وسائل حفظ اللغة وفهم مفرداتها.
وعلى ذلك انتشر هذا المذهب وبني النقد الأدبي، بل لم يفهم الأديب أو اللغوي أو العالم الأدب إلا من هذه الوجهة؛ ومن هنا قالوا: الغرض من الأدب التوصل إلى فهم كتاب الله تعالى. روى الجاحظ عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أنه قال: «كفاك من علم الدين أن تعلم ما لا يسع جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل.»
3
وقيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلغ بك الجنة، وعدل بك عن النار، وما بصرك مواقع رشدك وعواقب غيك.
4
هكذا فهم طائفة العلماء الأدب والبلاغة، وفسروهما على حسب فهمهم، ولم يكن هناك غيرهم من النقاد والعلماء، الذين يمكنهم أن يؤثروا في الحركة الفكرية بغير ذلك، ولا من كان لآرائهم ما لهؤلاء من القوة والسلطان على الأدب والأدباء، فزجوا بالأدب والبلاغة في هذا السبيل، وأصبح الشعر شيئا «ثانويا» كما يقولون؛ لأن هم العلماء والنقاد لم يكن متجها لفهم البلاغة فهما حقيقيا. سأل سائل أحد هؤلاء العلماء عن حد البلاغة فأجابه: «إنك إذا أردت تقرير حجة الله - تعالى - في عقول المتكلمين، وتخفيف المئونة على المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالألفاظ المستحسنة في الآذان، المقبولة عند أهل الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة من الكتاب والسنة، كنت أوتيت فصل الخطاب، واستوجبت من الله جزيل الثواب .»
5
أما الطائفة الثانية، وهي جماعة الشعراء والخلعاء، فقد كانت تتخذ البلاغة - خصوصا الشعر - آلة من آلات اللهو والطرب والاستجداء. وحسبنا أن نرجع إلى الشعر والشعراء مدة الأمويين والعباسيين، حتى عند الحكماء منهم مثل أبي الطيب وغيره، وحتى كان فهم النقاد أنفسهم للشعر فهما غريبا؛ لأنا إذا سردنا أقوالهم وآراء الأدباء، رأيناها غير محتوية على النقد «التحليلي» لمعاني الشعر، ومن يراجع مقدمة ديوان أبي نواس وكلام أبي حاتم ير كيف كانت آراء النقاد، وأنها ليست إلا ألفاظا مرصوصة غامضة المعنى، يقولها كل إنسان، ليس فيها شيء من النقد الصحيح. وأبو حاتم السجستاني توفي في أواسط القرن الثالث الهجري؛ أي إبان نضوج العلم والأدب عند العرب، فالذنب ليس على الشعراء ولا على الكتاب في ذلك؛ لأنهم كتبوا ونظموا كثيرا وقالوا في كل شيء، وطرقوا كل باب أوحت إليهم به نفوسهم وقرائحهم. ولكن حركة النقد لم تكن لديها القوة التي كانت تمكنها من الحكم على الآراء، وقود الحركة الفكرية، ونقل الأدب والبلاغة إلى طريق اجتماعي أفيد وأمتن وأفضل مما سارت فيه، بل ساعدت على وقوف البلاغة من شعر ونثر، فلم تصل البلاغة العربية من التأثير في الاجتماع والتأثر منه إلى ما وصلت إليه بلاغات الأمم الأخرى.
ونعود فنقول: لو وهب الله الأدب العربي من النقاد ما نبه العقول إلى فهم البلاغة فهما اجتماعيا، وبحث فيها مباحث اجتماعية، وبين أنها عامل من عوامل الاجتماع، لكانت في نوعها أحسن بلاغة وأمتعها؛ لما للغة العربية من الميزة في الغناء وضروب التعبير، وجمال القول، ومتانة الأسلوب، خصوصا الصناعة اللفظية التي لا توجد في لغة أخرى.
إن كل حركة ظهرت في بلاغات الأمم الأخرى، ونقلتها من حال إلى حال، كان منشؤها آراء النقاد وأفكارهم وإرشاداتهم، كحركة الكتابة التي ظهرت في أوروبا أثناء القرن التاسع عشر، فقادت الأدباء إلى الطرق المختلفة، وأوجدت الأطوار الأدبية المعروفة.
تبعة الشعراء والكتاب
الحوادث المختلفة واستعداد الأمم الفكري، لهما أثر عظيم في سير البلاغة والأدب ومساعدتهما على الرقي؛ لأن ذلك أثر من آثار الاجتماع ، وللكتاب أثر آخر في الاجتماع، أو في الرأي العام، ليس أقل من أثر الاجتماع في البلاغة؛ وعلى ذلك نرى مقدار التبعة التي تقع على قواد الحركة الفكرية والنقاد الذين بيدهم زمام العقول، وما أشد هذه التبعة على الكاتب أو الشاعر! ولا سيما إذا كان فائق البراعة في طريق الإفهام، وفي الاستيلاء على نفوس القراء ومعرفة امتلاك الأفكار، فقد يكفي أن يصل الكاتب إلى درجة خاصة من البلاغة؛ ليتمكن من قيادة النفوس إلى ما يريد، وحملها على اعتقاد المعنى الذي قصد. مثل هذا الكاتب قد يكون خطرا عظيما على الاجتماع، إذا كان في آرائه شيء من الخطأ، أو في مذهبه ما يخالف الإصلاح، كما أنه قد يصلح من النفوس ما لا تتمكن الحكومات بقوتها من إصلاحه، ويساعد على تقويم الأخلاق وعلى نشر الأفكار الصحيحة، وعلى ارتقاء المدنية وعلى توضيح المسائل الاجتماعية الكبرى، وعلى استنارة العقول وتثقيفها. ولكن هذه القوة هي ما يخشى منه على الاجتماع، وهي ما تحمل كثيرا من الخلقيين على الخوف من أثرها لما في عقول بعض الكتاب من الأفكار التي قد تؤثر في نفوس القراء أثرا غير محمود، بواسطة براعة الكاتب في جعل الصور التي يذكرها في شعره أو قصته أمرا مقبولا وأجدر بالاقتداء، فهذه البراعة نفسها كما أنها تدل على عبقرية الكاتب تدعو إلى الخوف منه، فتكون من أكبر العيوب لديه؛ ولذلك ذم كثير من الخلقيين الشعر، وخافوا من أثره وحذروا منه.
وفي الحق إن جناية البلاغة على الأخلاق قد يكون خطرها عظيما. ولكن لا بد من الفرق بين الفنون وتقويم الأخلاق؛ إذ ليس من غرض الفنون تقويم الأخلاق لأنها تقصد إلى إظهار الجمال بأي شكل كان، وعلى أي طريقة كانت، وعلى كتب الأخلاق تقويم النفوس وتربيتها، وإلا لو أخذنا على البلاغات ما فيها من ضروب الغزل والمجون؛ لوجب أن نحذف منها نحو نصفها. وهل نجد الآن قصة أو رواية تمثيلية بدون أن يكون للحب فيها أثر كبير؟ ذلك لأن تحريك هذه العاطفة من أكبر الدواعي لحمل الناس على القراءة ودرس أفكار الكاتب وأغراض الكتابة، كما رأى ذلك ابن قتيبة في مقدمة «الشعر والشعراء» إذ قال: «لأن النسيب قريب من النفوس، لايط بالقلوب؛ لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقا منه بسبب، وضاربا فيه بسهم حلال أو حرام.»
يقول الفقهاء: لا حياء في الدين. ويلزم أن يقول الأدباء والكتاب والشعراء والفنيون: لا حياء في الفنون. كما يجب أن يقول العلماء: لا حياء في العلم؛ فإن الله - تعالى - خلق الإنسان وخلق له أنواع الجمال يتمتع بها، وتوحى إليه من الأفكار والخيالات ما قد يساعد على عبقريته، كما أنه خلق له الخير والشر، ووهب له عقلا يميز به الخبيث من الطيب، وترك له الحرية المطلقة في اتباع الطريقين، وبين له سوء العاقبة وحسن المآب، فكما أن العلم والفلسفة يبحثان عن حقائق الأشياء بأي وسيلة، كذلك الفنون الجميلة تبحث عن إظهار الجمال بأي وسيلة، وأي طريقة كانت؛ لأنها سر من أسرار الحياة، وسبب من أسباب ترقية العواطف والنفوس؛ إذ النفوس التي لا تعشق الجمال ينقصها كثير من فهم الحياة؛ لأنها لا تدرك ما يحيط بها من جمال الكون الذي هو أبدع شيء في الوجود.
لا بد أن تكون الحياة ككتاب مفتوح أمام كل إنسان بما فيه من: جمال وقبح، وفضيلة ورذيلة؛ لأن الله - تعالى - خلقه لننظر إليه ونفهمه ونتدبر ما فيه ونتعظ به. فتبعة البلاغة راجعة إلى نفس الجمهور وإلى القارئين أنفسهم؛ لأن القارئ كمتعلم يصرف وقته في معمل كيميائي؛ ليفيد ويستفيد، وليقف على أسرار ما لديه. فإن استعمل المواد الكيميائية لقتل نفسه، فقد «جنت على نفسها براقش.» والكاتب كالعالم يظهر نتيجة تجربته في الحياة وما رآه وفهمه، وعلى القارئ أن يستفيد ويميز بنفسه الضار والنافع،
1
على أن كل كاتب له خيال خاص، وطريقة خاصة، وله أفكار خاصة تجد لها من القراء من يميل إليها بطبيعته؛ فكل نفس تقبل ما يوافقها وترغب فيما تميل إليه. فالقصة التي تعرض صورة من صور الحب قد تضل نفوسا، وقد تفتح على بعض الناس أبوابا من الفجور لم يكونوا يعرفونها، كما أنها قد توحي إلى بعض النفوس حب الجمال ورقة الشعور، وتهذيب العواطف؛ لأن الرجل الحساس صاحب الشعور الرقيق والنفس الشريفة والأخلاق الكريمة، يهذبه الحب، ويرشده الغرام إلى الفضيلة، وكثيرا ما كان الحب سببا في إصلاح النفوس. ولكن لكل إنسان استعدادا خاصا في تصور الأشياء وفهمها. وعلى هذا الاستعداد تكون حظوته من السعادة والشقاء تقوده إليها نفسه، وترشده إليها فطرته. غير أنه لا يلزم قراءة هذه الكتب للعمل بما فيها، كما تقرأ كتب الأخلاق وكتب الدين مثلا، وإنما تقرأ لدراسة موضوعاتها، ومعرفة ما بها من الآراء وأسرار البلاغة والفصاحة.
في قراءة الكتب عاملان: عامل التأثير، وعامل الإفادة. والثاني أكثر أثرا وأبقى، فإن ما يبقى في نفس القارئ من المعلومات التي اكتسبها من القراءة أنفع وأثبت. أما التأثرات والانفعالات التي منشؤها العواطف فإنها سرعان ما تزول، فالكاتب الذي يصف مجلسا من مجالس الخمر، ليس عليه أدنى تبعة إذا قام إنسان بعد قراءة كلامه فشرب كأسا أو كأسين، كما أن الخلقي ليس في قدرته أن يحمل الناس على اتباع ما يقول؛ ولذلك قيل «إنه من الواجب علينا بث النصائح والإرشادات. ولكن ليس علينا حمل الناس على العمل بها.» ولو كان للبلاغة الأثر الذي يدعو إلى العمل بما فيها لكانت كتب الأخلاق كافية في إصلاح النفوس. فلماذا يكون وصف المجون سببا في فساد الأخلاق والاجتماع؟ ولو صح حذف كل ما من شأنه أن يفسد الأخلاق، أو يؤثر فيها أثرا سيئا؛ لوجب على الإنسان أن يصم أذنيه ويغمض عينيه، حتى لا يرى ولا يسمع نصف المخلوقات أو أكثر، ولعمل على عدم فهم كثير من الأمور التي يراها كل يوم أمامه في الحياة.
البلاغة من غرضها عرض كل شيء، وعلى القارئ أن يحكم عقله ويميز الخبيث من الطيب.
النقد الأدبي
يقرأ الإنسان ليفهم، ويفهم ليكون له رأي فيما يقرأ، وكل إنسان له استعداد خاص في الفهم وطريق خاص في الإدراك، وذوق خاص في قدر الكلام والحكم على الأفكار؛ ولذلك تعددت المذاهب وتفاوتت طرق البحث.
القراءة والفهم والتفسير والحكم هي أصول النقد وهي حده أيضا؛ إذ لا يمكن حد النقد حدا تاما لعدم اندماجه في قانون عام؛ لأنه ليس علما من العلوم التي لها قواعد خاصة، وإنما هو فن من الفنون التي تضبط بالعلوم وتتقدم بتقدمها، فإنه مبني على قوة الذكاء وسلامة الذوق، وذلك ليس داخلا تحت قانون عام، فضلا عن أنه لا بد من ظهور أثر الناقد الشخصي في حكمه على ما يقرأ؛ لأنه إنما يحكم على غيره بمزاجه الخاص؛ ولذلك كانت الفروق كثيرة بين آراء النقاد؛ لأن النقد صورة من صور عقولهم المختلفة.
ويختلف النقد باختلاف الموضوعات والأغراض المقصودة منه، فقد يكون من غرضه دراسة الأساليب، أو دراسة نفوس الكتاب أو دراسة الأفكار والآراء، فهو متغير لا يثبت على حالة واحدة ولا يلزم قاعدة واحدة، فليس علما من العلوم؛ لأن العلوم لا بد أن تكون قواعد عامة، تنطبق على جزئيات كثيرة، بدون أن يكون للنفوس أثر فيها. والنقد غير ذلك، فهو قبل كل شيء أثر من الآثار الخاصة للعقول، يبحث عن آراء الكتاب ولا سيما خواصهم الذاتية، والتصورات والخيالات والإدراكات كانت متعددة مختلفة، على حسب المواهب والطبائع؛ فلا بد أن يكون النقد الذي هو فهم العقول المختلفة والإدراكات المختلفة أيضا مختلفا، غير مقيد بقانون ولا قاعدة؛ ولذلك كان كل نقد قاعدي قابلا للطعن وعرضة للنقض؛ لأن النقد القاعدي أو المذهبي يرمي إلى تقييد العقول والأفكار، وحملها على اتباع طريق واحد في الفكر والتصور والخيال، وإلى الحكم عليها حكما عاما بطريقة واحدة.
هذا إذا كانت الطريقة علمية كطريقة تين
Taine
مثلا القائلة: «إن كل أهل جنس واحد وبلد واحد وزمن واحد تتشابه عقولهم وتصوراتهم.» وهو مذهب مردود في جملته كما سنرى؛ لأن الذكاء والإدراك والتصور والخيال لا تنشأ من هذه العوارض فحسب، بل هناك أسباب أخرى، فإن كانت الطريقة غير علمية، كأن تكون مبنية على الأذواق والميول ، أو على قواعد اتفاقية، كجعل قصيدة من القصائد أو قصة من القصص نموذجا عاما لغيرها، أو منهجا ينسج على منواله، فإن هذه الطريقة ليست خطأ فقط، بل هي خطر يهدد سير البلاغة، ويقف تقدمها، ويجعلها عبارة عن ضرب من التقليد لا غير.
على أن الإنسان يرى في نفسه من الاستعداد للفهم وطرق البحث اليوم ما لم يكن له بالأمس، والقارئ تمر بذاكرته أفكار الكاتب وتتراكم، ثم يتناسى ما قرأ وما تأثر به. فإذا أعاد قراءة الكتاب الواحد مرة أخرى، كان حكمه عليه غيره في المرة الأولى، فالأفكار تتغير والحكم يتغير بتغير المؤثرات.
ولا يصح أن يبنى النقد على الأذواق الخاصة؛ لأن الذوق استحسان ما يحبه الإنسان ويميل إليه، وهذا غير ما يراد من النقد؛ إذ النقد الصحيح «تحليل» فكر شخص آخر غير فكر القارئ نفسه، واندماج الإنسان في نفس غيره ليفهمه بفكره ويدرك عقله بعقله، والذوق «تحليل» نفس القارئ وفكره لمناسبة ما يقرأ، وبسبب ما يجده مما هو في نفسه في كلام غيره؛ إذ شعور القارئ بسروره ورضاه عما يقرأ، هو في الحقيقة ناشئ من أنه وجد ما يحبه وما يميل إليه، وذلك شيء من خواص نفسه وميولها الذاتية. فكأنه إنما وجد فيما يقرأ نفسه لا نفس الكاتب، وأعجب بميوله وآرائه لا بميول الكاتب وآرائه، أو أنه وجد إنسانا آخر صور نفسه بالصورة التي هي عليها، ووجد أفكاره يعبر عنها غيره. فهو إذا فهم ذلك فإنما يفهم نفسه ويرى صورتها، كالشاعر أو الكاتب الغرامي، يذكر صور النفوس العاشقة، وما تتذوقه من الآلام، فيقرؤها العاشق ويتلذذ بها ويتذوق ما فيها؛ لأنها صورة نفسه، وإن كانت صورة نفس مريضة أكلها اليأس ونال منها البؤس. ولكنه راض عنها لأنه يجد فيها ما يجول بخاطره. وكالذي يحب الشعر الحماسي مثلا فإنه يعجب به، ويريد أن يحمل الناس على الإعجاب به؛ لأن له ذوقا خاصا في فهم هذا النوع، وإقدار هذا الكلام قدره، وكالخلقي يحب الحكمة والموعظة فيحكم بهذا الذوق على كل ما يقرأ ويسمع ؛ من هنا تعددت المذاهب في النقد. فإذا كان مرجع ذلك الأذواق الخالصة إذن لضلت الأفهام ولحارت العقول. فليس في حكم القارئ بالحسن أو بالقبح شيء من الحقيقة أو على خلافها، متى كان ذلك مبنيا على الأهواء الصرفة؟ وليس ذوق الناقد في كتاب يقرؤه إلا استحسان الكتاب أو استقباحه، وليس ذلك إلا اتفاق فكر القارئ وميوله مع فكر الكاتب وميوله. ولكن الذوق والنقد عند ذوي العقول السليمة يستمد بعضهما من بعض، ويساعد أحدهما الآخر، ويعمل كل منهما على حفظ أثره في نفس القارئ، بحيث لا يضل بينهما، ولا يكون خاضعا خضوعا تاما لأحدهما، فيبطل أثر الآخر، بل يتذوق ما يعجبه مما هو في نفسه، ولا يمنعه ذلك من الإعجاب بما هو مخالف لطبيعته.
مثل هذا الذوق يتكون بالقراءة والدرس، ويكتسب شيئا من اللين والمرونة وقبول الجديد؛ لأن الذوق خلق من الأخلاق القابلة للتهذيب والتنقيح والغناء بالقراءة والدرس والفهم؛ بحيث يكون ذوقا مبنيا على التجربة مما قرأ الإنسان وفهم من العلوم والفنون، فالذوق الصحيح ينضج ويتربى بالنقد، والنقد يتهذب بالذوق؛ لأنه معين ومساعد على الفهم وتفضيل الشيء على الشيء؛ فلو أن إنسانا خلا من ذلك كان حب الاستطلاع لديه ناقصا؛ لأنه إن لم يكن في نفسه ذوق ثابت لنوع من الأنواع، مبني على التجربة، ولم توجد في نفسه ملكة التفضيل والتفرقة بين الأشياء؛ كان سواء عليه أقرأ هذا أم هذا، وخفي عليه كثير من المميزات، وكانت الفائدة من القراءة لديه أقل مما لو كان له ميل خاص، وربما خرج من الكتاب الذي يقرأ بدون فائدة ولا أثر، وهذا مشاهد معروف. أعط أحد المهندسين أو الأطباء أو الذين لا يميلون إلى الأدب ولا يحبونه، قصيدة من القصائد المتينة، أو قصة أدبية ممتعة ليقرأها، ربما قرأها وفهمها ولكنه يخرج منها بدون أثر في نفسه؛ لأنه ليس له ذوق خاص في هذا النوع، فلا يهتم بأن تصل نفسه، أو أن يصل إلى نفسه سر هذا الكلام. ودع إنسانا لا يحب التمثيل ولا يميل إليه، يحضر «قطعة» تمثيلية مملوءة بضروب الفنون ونقد الاجتماع، دعه يسمع قطعة لموليير أو لشكسبير أو لجيت، ثم ابحث في نفسه عما أخذه من مجلسه، تجده لم يتأثر بشيء، ولم يستفد فائدة كبيرة؛ ذلك لأنه ليس في نفسه تفضيل لهذا النوع، كذلك تكون القراءة الخالية من الرغبة والميول الخاصة عبارة عن اطلاع عام، ومشاهدات عامة لا تبقى في نفس الإنسان ولا توقظ من حركة الفكر. فالذوق الصحيح يساعد النقد على الإعجاب بالشيء أو على كراهته، أي إنه من الوسائل التي تمهد للنقد الحكم على الفنون وآثارها.
نرى من ذلك أن النقد الخالص الذي ليس للذوق فيه أثر هو نقد ناقص أو نقد جاف، وأن الذوق الخالص من أثر النقد، ومن أثر التجربة العلمية والاطلاع - أي الذي هو الاستسلام إلى ميل الشخص فحسب - لا يرقي العقل، ولا يساعده على نمو قوة الإدراك، ولا يصل بالإنسان إلى كشف الحقائق.
قلنا إن النقد ليس علما من العلوم، بل هو فن من الفنون التي مرجعها استعداد النفوس في الفهم والإدراك. ولكن هذا ليس كافيا في تعريف النقد، أيستسلم كل إنسان لفكره في الحكم على ما يقرأ ويسمع؟ أيكل الأمر إلى الذوق لا غير؟ ألا يكون النقد شيئا آخر غير هذه الفوضى في الحكم والإدراك؟ أليست هناك طرق ومذاهب تحدد ذلك، وتبين الخطأ من الصواب في أحكام الناقدين؟ وإذا كان شيء من هذا فعلي أي أساس يبنى؟ مهما يكن من شيء، فالذي لا يصح إنكاره هو أن هناك حقائق فنية، كما أن هناك حقائق علمية، فالقارئ لقصيدة أو لقصة تاريخية يجد أثناء قراءته من الحقائق الفنية، ما يجده العالم أو الفيلسوف من الحقائق العلمية أو الفلسفية، نريد بالحقائق الفنية سر البلاغة الذي تشعر به النفوس، وبه تكون قيمة الكاتب والكتابة، ونريد بالحقائق الفنية جمال القول وجمال الفكر وجمال الصناعة، ثم نفس الموضوع بما فيه من الصور الإنسانية، التي يجد فيها القارئ كثيرا من النفوس والأشكال المختلفة لحياة العقول. يقرأ الإنسان القصيدة أو القصة البلاغية ، فيشعر بشيء في نفسه لم يكن له قبل قراءتها، هذا أثر جديد حدث عنده، أو حقيقة من الحقائق ظهرت له فيما قرأ. ومهما وجد من الاختلاف والتناقض في فهم هذه الحقائق الفنية، وفي الحكم على الكتب والمؤلفين؛ فذلك لا يدل على عدم وجودها، وإنما يدل على اختلاف طرق الفهم. على أنها حقائق نسبية ككل شيء في الوجود من أثر الإنسان.
فالنقد هو البحث عن فهم هذه الحقائق، وهو توضيح وترتيب ما في الكتابات من الأفكار والآراء والأساليب، ثم الحكم على ذلك. والناقد الحاذق من يكون عالما بالموضوع وبمنزلته من العلوم والفنون الأخرى، بأن يكون حدد وعين لنفسه طريقة خاصة في الفهم، ثم بعد ذلك يبدي رأيه النهائي فيما قرأ. فإذا قرأ قصيدة من القصائد عرف من أي نوع هي: أمن الشعر الوجداني، أم من الشعر الاجتماعي، أم من الشعر التمثيلي؟ فإذا حكم عليها بأنها من الشعر الوجداني، لا بد أن يكون عارفا بخواص هذا النوع من الشعر وبموضوعه وبصناعته وبكل ما يميزه من غيره، ثم لا بد أن يقيس ذلك على طريقة خاصة قد عينها لنفسه، يجعلها كمقياس عام له يقيس به ما يقرأ، بأن يكون له مذهب يبني عليه أحكامه: كأن يكون من مذهب البيانيين الذين يحكمون على الكتابة على حسب ما بها من أنواع البيان: كالاستعارة، والتشبيه، وأنواع البديع، أو من الذين يحكمون عليها بما فيها من المعاني الجيدة والأفكار الصحيحة، أو ممن يبنون مذهبهم على البحث في الكتابة من جهة صلتها بالاجتماع، أو ممن يحكمون عليها من جهة مطابقتها للحقائق، وغير ذلك من المذاهب الكثيرة؛ وبهذا يمكن الحكم على الكتابة من شعر ونثر بناء على طريقة ثابتة، مبنية على أساس ثابت، وهذا ما يسمونه بالمذاهب الأدبية في النقد، أو أنواع النقد الأدبي، وطرق النقد كثيرة متعددة سنذكر منها شيئا، ونبين المذاهب المختلفة فيها.
فالنقد في جملته لا يخرج عن وصف الكتابات «وتحليلها». ولكن النقد البياني واللغوي والنقد المبني على القواعد النحوية والصرفية أصبح الآن غير كاف في الحكم على كبار الكتاب ومواهبهم، ولم يعد فهم الكتابات الأدبية الآن قاصرا على الحكم بدون نظر إلى الصلة التي بينها وبين الكاتب وأحواله النفسية وتربيته العقلية، ثم إلى صلة ذلك كله بالاجتماع. أي إن النقد الأدبي أصبح الآن ممزوجا بالتاريخ العام، وبالتاريخ الخاص بنفوس الكتاب وحياتهم الشخصية، وهذه خطوة خطاها أخيرا النقد الأدبي في القرن التاسع عشر.
إذن فلا بد من البحث في الصلة بين الكاتب وكتابته والاجتماع، ولا بد من معرفة البلد الذي ولد فيه الكاتب، والجو الذي تربى فيه، والزمن الذي عاش فيه، وحالته الصحية، ومزاجه وسيرته، والتربية التي حصل عليها، ومعرفة أصله وقبيلته، والأوصاف العامة لها. وإذا كان عاش عيشة مرضية سهلة، وكان من أهل الرفاهية واليسر، أم عاش عيشة فقير مجد مجتهد في الحصول على قوام حياته؟ ثم لا بد من معرفة حالته النفسية وكيف كان يفكر، وكيف كانت ميوله الدينية، ومقدار نصيبه من العواطف، وأحوال الغرام، وكيف كان ميله للمجون واللهو، وكيف كان يتصور الجمال ويفهم الفنون، وما في كتاباته من «شخصياته»، وغير ذلك مما يساعد على معرفة حالة الكاتب النفسية والجسمية؛ لضرورة ذلك كله في الوصول إلى فهم استعداد النفوس وما فيها من أثر الذكاء؛ إذ كما أن البلاغة لا تكون دائما صورة الاجتماع، فليست أيضا دائما دليلا على نفوس الكتاب؛ ولذا يجب البحث عن الأسباب التي تدعو الكاتب إلى ما كتب وإلى خروجه عن طبيعته، ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة الأسباب السابقة.
والخلاصة: أن النقد ليس له قواعد ثابتة ولا قوانين عامة، بحيث يتخذها كل إنسان لتكون عمدته في البحث، بل هو فن من الفنون يختلف باختلاف الذكاء والاستعداد، وأنه لا يصح الاعتماد على الأذواق الصرفة في الحكم على البلاغات. ولكن هناك صلة حقيقية بين الذوق والأثر الذي يحدث في نفس الإنسان عند قراءة شيء من الأدبيات، أو رؤية شيء من الفنون الجميلة. هذه الصلة يكون لها أثر صحيح نافع في إدراك حقائق الأشياء، إذا كان الذوق قد تهذب بالتربية والتعليم، وتكون بالعلوم والفنون المختلفة، وقد يكون النقد الخالي من الذوق صحيحا لمتانة طريقته، ولكنه يكون جافا. ومهما كان النقد بعيدا عن العلوم، غير مقيد بقاعدة، فإنه يمكن سن طريقة له، والطريقة التي نختارها هي: (1)
أن يكون الناقد واقفا تمام الوقوف على نوع الكلام الذي يدرسه، وعلى جملة آراء الكاتبين فيه؛ بحيث يمكن أن يميزه من غيره، وأن يحكم عليه بناء عن خبرة تامة بآراء النقاد والمختصين بهذه الموضوعات. (2)
أن يكون له طريقة يبني عليها حكمه، وأصول يرجع إليها في ذلك: كأن يكون مبناها صحة الأساليب أو صحة الفكر، أو رقي الخيال أو صلة البلاغة بحوادث خاصة. (3)
البحث عن صحة ما في الكتابة بواسطة صلتها بالكاتب والاجتماع، وتأثير ذلك في الكلام والصناعة.
هذا هو جماع القول في النقد الأدبي، وسنذكر المذاهب المختلفة في ذلك.
النقد الأدبي في فرنسا
رأينا أن نجمل القول إجمالا في تاريخ النقد الأدبي في فرنسا؛ لنقف على سير حركة النقد وأطواره وأثره في الأدب الفرنسي، وعلى المذاهب المختلفة في ذلك، ثم نذكر بعد هذا حركة النقد عند العرب ومذاهب الأدباء لديهم.
يقولون: إن أرسطو أول من كتب في النقد الأدبي في نحو القرن الرابع قبل التاريخ المسيحي، وكتابه «فنون الشعر» عبارة عن كتاب في البيان وقواعد البلاغة، بنى عليه طريقته في النقد، وهو أول من قال «إنه يجب أن تكون أعمال الإنسان جارية على قوانين الطبيعة ونظاماتها.» وبدأ بالبحث عن عيوب الكتابات التي يثقل على النفس تذوقها، ووضع كل ثقته في علوم البلاغة؛ ليصل بها إلى كشف مخبأ الكلام البليغ. ولكنه لم يصل إلى قانون يبين الأنواع الأدبية، ولا إلى دراسة الأطوار التي تعتري البلاغة أثناء تقلب التاريخ عليها. غير أنه أرشد إلى الوسائل العامة التي يصح أن تكون طرقا ومناهج للكتاب، وظهرت بعد أرسطو كتب كثيرة في النقد لا تكاد تخرج عن هذا المعنى، أكثرها من قبيل النقد اللغوي.
وكتب النقد عند الرومان في نحو القرن الثاني قبل الميلاد كانت مملوءة بالمباحث اللفظية؛ إذ كان الغرض منها تقويم ألسنة الخطباء، وإصلاح حالة الخطابة في مواقف النزال، ولم يكن اهتمامهم بشيء من أنواع الكلام إلا من أجل ذلك؛ فكان النقد عند الرومان لا يكاد يخرج عن صناعة الخطابة، فلم يكن لديهم مذهب أدبي ولا طريقة واضحة في النقد؛ ولذلك انحصر النقد عندهم في النقد اللغوي وعلوم البلاغة، وفي القواعد النحوية والصرفية؛ أي في البحث عن اللفظ وأصله وصحته، ثم في البحث عن مطابقته للمعنى المقصود، وفي طرق تأثيره في نفوس السامعين، واستمر الحال على ذلك إلى القرون الوسطى، ومر على النقد نحو ستة قرون في تلك الأزمان، وهو لم يخط خطوة واحدة؛ لأن العقول في القرون الوسطى كانت مقيدة بأهواء الملوك والأمراء ورؤساء الأديان، ومتى كانت الأفكار خاضعة لغيرها فإنها لا تعرف الحرية، ولا ترى طرق الإصلاح؛ ولذلك لم يكن الشعراء إلا آلة لأهواء هؤلاء الرؤساء، فلم يكن لأحدهم أن يقول شيئا إلا لإرضاء أمير أو رئيس، فكيف يجد النقد له منفذا أو طريقا؟ إذ لا يمكن أن يكون الإنسان ناقدا إلا إذا كان حرا في الفكر؛ لأن حركة العقول تابعة دائما للحركة العامة للحالة الاجتماعية.
أما في عصر النهضة فقد تحررت العقول، وظهرت «شخصيات» الكتاب والشعراء؛ ولذلك تغيرت أيضا طرق النقد. ولكن النقد أيضا في هذه الأيام لم يخرج عن النقد البياني مع بعض التوسع عما كان عليه في الأيام الماضية، وكان من رجاله دانت
Dante (1265-1321)، وبترارك
(1304-1374) الشاعران الإيطاليان الشهيران، واشتهرا بالنقد اللغوي، وهما أول من فك القيود القديمة عن النقد الأدبي، وكان النقد عندهم يقرب جدا من النقد عند العرب في كتب البلاغة وآراء الأدباء، بناء على ما كانوا يشعرون به من قراءة الشعر والنثر، ولعلهم أخذوه من العرب، كما أخذ الفرنسيون منهم كثيرا من أوزان الشعر وطرقه، أو أن هذه من الأطوار الأولى التي لم يتخطها النقد الأدبي عند العرب.
وأول حركة للنقد الصحيح في فرنسا ظهرت في عصر النهضة، عندما اختلط الفرنسيون بالإيطاليين أثناء الحروب الكثيرة، وقلدوهم في شعرهم، وعرفوا منهم أساليب الآداب القديمة وطرق بلاغتها ، وانتشر عندهم تعليم اللغة اللاتينية، واطلعوا على كتبها وترجموا منها، فاتجهت عقولهم إلى الموازنة بين أدبهم الساذج والآداب القديمة، فكان الإيطاليون أول من كشف أسرار الآداب القديمة ومخبآتها، وأدرك مطابقتها للطبيعة الإنسانية وموافقتها للتعقل، وهم أيضا أول من وجه الأنظار إلى ربط الصلة بين الآداب والفنون الجميلة.
وفي أوائل القرن السادس عشر تألف مذهب نقدي جديد، كان على رأسه الشاعر الشهير رونسار
Ronsard (1524-1585) أحد كبراء الأشراف، واجتمع حوله جماعة الأدباء من علية القوم ونبلائهم، وزجوا بالأدب في طريق «أرستقراطي»؛ فلم يلاحظوا ذوق الشعب ولا حالته العقلية، بل لاحظوا أذواق الأشراف والكبار من عواطف وإحساسات وأفكار وغيرها.
وكان أساس هذا المذهب تقليد البلاغة القديمة، وما بها من البراعة وجمال الصناعة والإتقان. وارتقت في هذا الزمن منزلة الشعر والشعراء، وعظم تبجيل الناس لهم؛ لأن الشعر كان جمال القول وموضع مظاهر الذكاء، وكان الشاعر أقوى وأبرع إنسان، كما كانت الحال عند العرب في بعض الأزمان. وانفتح أمام الأدباء باب الموازنة بين الشعر القديم وبلاغة القرون الوسطى في فرنسا، وأعجب الناس أيما إعجاب بالبلاغة القديمة، وأخذوا في تقليدها. ولم يعد الإنسان يحكم على الشعر والشعراء إلا بواسطة الموازنة بين القديم والجديد، وبني النقد على مجاراة تلك البلاغة؛ لأنهم رأوا أن بلاغة القدماء متينة من جهة الصناعة، ومن جهة الموضوعات، ومن جهة ما فيها من تصوير النفوس الإنسانية ورسم الحياة؛ لأنها تصور الحقائق كما هي، ولأنها مبنية على الفكر والتعقل.
لهذا اشتدت رغبة الفرنسويين في تقليدها، وأسسوا لذلك القواعد، وبنوا طريقة النقد عليها، فكانت هي نموذج البلاغة ونموذج الأفكار، وربما فاق هذا التقليد والإعجاب تقليد المسلمين وإعجابهم بالشعر الجاهلي، ولا يزال أهل أوروبا في تعصبهم لليونان والرومان إلى اليوم، ولكنهم يقلدونهم في لب الموضوعات، وفي أن البلاغة يجب أن تمثل حياة الأمم ونفوس الأشخاص، لا أنهم يجارونهم في الألفاظ والعبارات لا غير. وكان مذهب رونسار مبنيا - كما قلنا - على ذوق «أرستقراطي»؛ بحيث تكون البلاغة من شعر ونثر شريفة العبارة، لا تحتوي على ألفاظ مقذعة، ولا على شيء من المجون ، وأن يتحاشى الكتاب والشعراء كل ما يخرج عن حد الأدب، أو ما يدعو إلى سوء الأخلاق، وظهر أثر هذا المذهب في كل أنواع البلاغة الفرنسية، خصوصا في التمثيل، ثم شيد الفرنسيون على أنقاض هذه الآداب والبلاغة القديمة آدابهم وبلاغتهم لإعجابهم بها إعجابا شديدا. ولكنها لم تخمد منهم قوة الابتكار، ولا حب الانتقال من حال إلى حال؛ لأنها بلاغة اجتماعية متينة ممتعة، بل هذبت من أفكارهم، ورقت منهم ملكة الصناعة الأدبية، وعلمتهم دقيق الملاحظة، وهذبت من استعدادهم الفطري، وتخرج فيها أشهر الكتاب والشعراء، ولا تزال أشهر وأمتع البلاغات؛ لأنها بلاغة نفسية اجتماعية، بليغة في معناها أكثر منها في ألفاظها وأساليبها، ولا يزال أشهر الكتاب الآن يستمدون أفكارهم وتربية عقولهم من هذه البلاغات القديمة المتينة.
ذلك أثر اطلاع الفرنسيين على الآدب القديم، وأثر احتكاك العقول والأفكار كما يقولون، وأثر مذهب رونسار في النقد؛ وهكذا يجب أن تكون قوة النقد. كل هذه الحركة جاءت من الخارج بواسطة الاطلاع على بلاغات الأمم الأخرى، والميل إلى تقليد اليونان والرومان، والمتأمل في بلاغات الأمم يرى أن كل حركة من الحركات الأدبية الكبرى ذات الأثر العظيم، هبت ريحها من الخارج بسبب تقابل الأفكار وتفاهمها ... ولم يظهر أثر النقد في أمة من الأمم ظهوره في بلاغة الأمة الفرنسية، ويمكن أن يعد تاريخ النقد الأدبي عند الفرنسيين من أهم ما يكون في أنواعه؛ لذلك اخترنا أن ندرسه في محاضراتنا، ونذكر ما به من المذاهب التي نهضت ببلاغة الفرنسيين فجعلتها أجمل وأمتع من غيرها.
نذكر من بين النقاد الكبار، بل من أوائل النقاد الشاعر الناقد بوالو
Boileau ، الذي عاش من سنة 1636 إلى سنة 1711، ويعتبر عند الفرنسيين أول من كتب في النقد، كما أن القرن السابع عشر هو أول القرون في نقد الفنون والأدب. وقد بسط بوالو مذهبه في كتابه «الفنون الشعرية»، وظهر هو وكتاب «الهجاء»
Satire ، الذي ذم فيه مذاهب البلاغة اللفظية من سنة 1660 إلى سنة 1705، وأيد بوالو في كتبه مذهب تقليد القدماء، قال: «إذا قلنا بتقليد البلاغة القديمة ، فليس ذلك حبا في تقليد بندار أو هوميروس الشاعرين اليونانيين، بل لموافقتها للطبيعة العقل؛ لأنها تقليد لطبيعة الإنسان، ووصف للحياة وصفا بعيدا عن المبالغة.» وقال: «إن الآراء المبنية على التعقل هي التي توجد الصلة بين أفراد الإنسان.» يريد بذلك أن البلاغات من نظم ونثر عبارة عن حقائق ثابتة، ولا يريد بالحقائق الحقائق التاريخية؛ أي إنه لا يلزم من كتابة شيء حصوله، بل يريد الحقائق الإنسانية كما يقولون، وهي ما يقع مثلها بين الناس؛ كما في بلاغة اليونان مثلا، فإنها تكاد تكون كلها خرافية. ولكن بها كثيرا من الحقائق التي هي في طبيعة الإنسان، تمثل عواطفه وحواسه تمثيلا تاما، قال بوالو: «وبقدر مطابقة البلاغة للحقائق يكون نصيبها من الجمال؛ لأن العقل لا يقبل غير الحقائق، ولأجل أن يكون الكلام حقيقيا لا بد أن يكون موافقا للطبيعة.» أي لما نعهده من الأشياء التي نراها؛ فالموضوعات الشعرية لا تكون جميلة إلا إذا مثلت الطبيعة تمثيلا تاما. قال: «وكل هذا ينطبق على البلاغة القديمة؛ لأنها بلاغة إنسانية - قبل كل شيء - تمثل الإنسان وخواصه النفسية، وهذا هو السبب في جمالها وعذوبتها، وقبولها في كل زمن وعند كل أمة.»
فمذهب بوالو في النقد مذهب مبني على تقليد طبيعة الأشياء ورسم الحياة كما هي. ولكنه لم يرد إلا جهة الجمال والخير، قال: «لأن البلاغة تقصد إلى إظهار الجمال، فلا بد من تجنب كل ما يخالف ذلك، أو يؤدي إلى عكس هذا، فهي من فنون الجمال. فإذا خرجت عن ذلك لا تعد من الفنون في شيء.» وكان يقصد أيضا من تقليد الطبيعة الأشياء العامة التي توجد في طبيعة الإنسان، فإذا كتب الكاتب عن «نيرون» مثلا، فإنه لا يكون غرضه شخص «نيرون»، وإنما يقصد وصف خلق الظلم والاستبداد الكامن في نفس الإنسان؛ فلا بد من محو «الشخصيات» ومميزات الأفراد في البلاغة، بل يصف الكتاب النفوس العامة، والفضائل العامة، والطبائع العامة، كما في البلاغة القديمة، وكما فعل كرني
Corneille ، وراسين
Racine ، وموليير
Moliére
في كتاباتهم وقصصهم التمثيلية التي بقيت إلى الآن، ولا يزال الناس يتذوقونها من أجل ذلك.
1
القدماء والمحدثون في فرنسا
كان المذهب الأدبي الذي انتشر في فرنسا منذ منتصف القرن السادس عشر إلى أواخر القرن السابع عشر، مبنيا على تقليد البلاغة اليونانية والرومانية القديمة، ولم يكن الإعجاب بالقديم لأنه قديم فقط؛ بل لأنها بلاغة طبعية حقيقية قريبة من تمثيل الطبيعة الإنسانية والحياة المادية والعقلية، كما لاحظ النقاد الشهير بوالو. ثم هي حقيقية في معانيها خالية من المبالغة التي تضر بالمعنى، وخالية من الخيال الذي يبعد عن الحقيقة، وقد وصل الإعجاب بالقدماء إلى أقصى ما يمكن؛ حتى لقد كان يخيل إلى كبار الأدباء أنه ليس هناك موضوع يصح أن يطرقه الكتاب والمفكرون إلا ما كان جزءا من التاريخ القديم، أو تقليدا لشاعر أو كاتب يوناني أو روماني.
ولكن تشعب من هؤلاء الأدباء - الذين ربت عقولهم هذه الآداب وهذبت من ذوقهم - فرقتان: فرقة مزجت الفلسفة بفنون الكتابة، وحرمت التقليد، وقالت: إن كل إنسان له أن يعتمد على استعداده الخاص، وأن يكون دليله في كل ما يكتب ويفكر العلم والفلسفة، وأن كل طريق يخالف ذلك يكون متهما في صحته ومطعونا في أصله، وتظاهرت هذه الفرقة بالعداء لأنصار القديم. وفرقة أخلصت في حبها للقدماء، وفي اقتفاء آثارهم، وهم الأدباء الخلص الذين لم ينظروا للبلاغة إلا من حيث إنها فن من فنون الجمال، ورأوا حاجاتهم شديدة إلى تقليد بلاغة القدماء للوصول إلى غرضهم؛ لأنها أمتن وأمتع ما تكون بلاغة وصناعة؛ ولذلك كانوا يدعون إلى التمسك بمذهبهم، والإعجاب بالقدماء، وكان من أنصارهم كبار الكتاب والشعراء في القرن السابع عشر، وقد انتشر المذهبان وتنازعا البقاء نحو أكثر من نصف قرن، أي منذ ظهور كتب ديكارت الفيلسوف (سنة 1637)، التي انتشرت منها فكرته القائلة «بأن الفكر الإنساني سائر دائما إلى الرقي» إلى أواخر القرن السابع عشر، حين ألقى شارل بيرو
Charles Perrault
قصيدته الشهيرة في المجمع الأدبي (سنة 1687)، وافتتحها بمساواة المحدثين للقدماء، بل بفوقانهم عليهم، ووازن بين زمن لويز الرابع عشر والأزمان القديمة، فأخذ المحدثون أنصار ديكارت يظهرون وينشرون مذهبهم؛ وانتشر النزاع بين القدماء والمحدثين .
أثار عجاج هذا الخصام شارل بيرو، وهو أحد كبار كتاب وشعراء وأدباء القرن السابع عشر، وقد كان من المقدمين في حظيرة الملك لويز الرابع عشر، ومن المشتغلين بالفنون، المعروفين بالذكاء وحب الجديد في هذا العصر، ونشر كتابه المعروف «بالموازنة بين القدماء والمحدثين»،
2
وهو عبارة عن حديث بين قسيس عالم ذكي، يدافع عن المحدثين ويمثل المؤلف نفسه، وبين رئيس كبير وصفه الكاتب بالغباوة والتعصب، يقدس القدماء ويعجب بهم. وقد بث المؤلف أثناء هذه المحادثة ما أراد أن يثبت ويبرهن عليه من مذهبه وآرائه في تفضيل الحديث على القديم، وكان مدار الحديث دائرا على هذه الفكرة الأساسية: وهي «أن القانون العام للعقول البشرية والأفكار الإنسانية، هو التقدم والارتقاء في العلوم والفنون، وأن المحدثين وصلوا إلى ما لم يصل إليه القدماء من الاختراع والابتكار في الماديات؛ لأنهم اطلعوا على أكثر ما عرف واطلع عليه القدماء، فكان لهم من التجربة ما لم يكن لهؤلاء، والمعرفة والعلوم ليست إلا نتيجة التجربة والاطلاع؛ فالمحدثون إذن أرقى وأعلم من القدماء؛ لأنهم وقفوا على معلوماتهم، ثم على ما حدث بعدهم من العلوم والأفكار. فلماذا إذن لا يسبقونهم أيضا في فنون الأدب والبلاغة؟ بل لا بد أن يسبقوهم في هذا، كما فاقوهم في المخترعات المادية والوسائل الأخرى للمدنية الحديثة.» قال: «وقد كان القدماء أطفالا في العلوم والفنون بالنسبة لما ظهر من نتائج العقول والقرائح بعدهم. أما المحدثون فإنهم يمثلون نضج الفكر وغاية ما وصل إليه الإنسان من الذكاء، والأدب يبرهن على ذلك، وعلى أن كل عظيم من القدماء له مثيل من المحدثين.»
وقد التف بشارل بيرو فونتنل
Fontenelie
أحد كبار الأدباء، وألف كتابا في ذلك
3
أيد فيه رأي بيرو قال فيه: «إن طبيعة الإنسان واحدة في كل زمان ومكان، قابلة للرقي والفلاح، فلا بد أن يكون لدينا الآن من العقول الناضجة والعبقرية ما كان لأهل الأزمان الماضية، وإن الأجيال السالفة تترك للأجيال الآتية علومها واختراعاتها، فعقولنا الآن تعرف وتنقح كل الأفكار الماضية ونتائج القرائح السابقة، ذلك إلى ما نصل إليه نحن باستعدادنا الفطري ومباحثنا الشخصية.» قال: «والحقيقة أن بعض الأقاليم يساعد على الذكاء ويربي الإدراك، وأن هناك عصورا تدعو إلى التقهقر، وحوادث تقف حركات الأفكار والعقول، وأن هذه الحوادث قد تمنع ظهور كثير من مواهب أصحاب العقول والأفكار الراقية.» وقال: «من الممكن ألا يصل أحد إلى ما وصل إليه الشعراء الأقدمون. ولكن ليس من المستحيل أن يفوقهم سواهم، بل لا بد أن يكون ذلك.»
4
نرى من خلال هذا النزاع الذي احتدم بين القدماء والمحدثين أنه مبني على فكرة فلسفية، وإن الفلسفة أوضح وأبين فيه من الأدب؛ إذ إن الفكرة الأساسية هي مسألة التقدم والارتقاء التي هي أصل فلسفة ديكارت، المتسربة إلى الأدب، المبنية على الاهتمام بالأفكار قبل الاهتمام بالصناعة اللفظية، فإنه جعل للفكر المنزلة الأولى، وقال: إن الإتقان والإبداع هما في متانة الموضوع، وفي الأحوال العامة التي تولد في نفس القراء نوعا من السرور والارتياح مما يقرءون. وقد زج هذا المذهب بالبلاغة في مضايق الفلسفة، وجعله مبنيا على البحث عن الحقائق، بدل البحث عن مظاهر الجمال في القول. وعلى ذلك لا يكون هناك فرق بين البلاغة والفلسفة ولا بين الفيلسوف والكاتب والشاعر؛ لأن كلا منهما على رأي ديكارت يقرر الحقائق. غير أن الفيلسوف قد يكون أسلوبه أجف من أسلوب الأديب. وكان ينبغي أن تكون هذه البلاغة المبنية على مثل هذا المذهب الفلسفي الصرف، بعيدة عن كل معنى من معاني الجمال مما هو خاص بالفنون وسبب تفوقها، وكان هذا يكون عند أنصار الجديد الذين لم يفهموا البلاغة، ولم ينظروا إليها إلا من جهة أنها تعبر وتبحث عن الحقائق. ولكن الذوق الأدبي في فرنسا كانت هذبته الآداب القديمة بما فيها من الجمال؛ ولذلك بقيت البلاغة فنا من الفنون الجميلة، ولم يتغلب العلم والفلسفة على محو ميزة البلاغة، وهي الجمال في القول وفي حسن التعبير، وامتزجت الحقائق العلمية بالحقائق الفنية، وأصبح البحث عن الحقائق سالكا طرق الجمال، ولم يغير مذهب ديكارت الفلسفي من أثر الجمال وأثر الصناعة الأدبية، وأصبحت «وظيفة » البلاغة القديمة التوفيق بين الجمال وصناعة الكلام، وبين الآراء الصحيحة والحقائق الممتعة.
وقد انضم إلى أنصار الجديد الأدباء والظرفاء، الذين كانت تدور عليهم رحى المحاورات في المجتمعات، وساعدهم في ذلك النساء الأديبات، اللائي كن يعجبن من المحدثين بذوقهم الأدبي الموافق لأذواقهن؛ لأن طريقة أنصار القديم كانت ثقيلة على نفوسهن، ككل شيء متين جدي، والنساء يعجبهن الخفة وعدم التعمق في الأفكار؛ ولذلك كن من أنصار بيرو وفونتنل. وكان الناس في ذلك العصر في حاجة لأن تكون بلاغتهم أقرب إلى الاجتماع الذي يعيشون فيه، منها إلى الاتصال بتاريخ القدماء، فإن تقليد القدماء كان قد وصل إلى أقصى ما يمكن، والشيء إذا بلغ النهاية انقلب إلى ضده، فكان لموافقة الظرفاء، وأهل الخلاعة، والنساء الأديبات، المحدثين، أثر عظيم في الحركة الأدبية الجديدة؛ لأن ذلك كان من الأسباب التي منعت البلاغة من أن تسير في طريق فلسفي صرف، بل سلكت مسلكا فنيا، وتعانق الأدب والفلسفة، وتآخت الصناعة الأدبية وفنون الكلام الجميلة التي ورثها الفرنسيون من البلاغة القديمة، مع الأفكار الفلسفية المتينة، ولبثت البلاغة ثوبا جديدا، وصارت ترمي إلى تمثيل الاجتماع.
هذه نتيجة الخصام الذي كان بين القدماء والمحدثين في فرنسا، وهذا هو أثره في البلاغة الفرنسية، وكان من جراء هذا النزاع أنه استل من القرن السابع عشر آداب القرن الثامن عشر، التي أجدر بها أن تسمى فلسفة لا آدابا، وانقلبت الأفكار انقلابا عظيما، وظهر العلماء أصحاب الموسوعات
Encyclopédistes
الذين كانت فكرتهم الأساسية هي التقدم والارتقاء.
هذه الحركة نقلت النقد إلى البحث والتنقيب في القديم والحديث، وكاد يكون القرن الثامن عشر خاليا من أثر واضح للنقد الأدبي؛ لأن الأدب نفسه كان في عصر انتقال، فلم يكن النقد قد تمكن بعد من بناء أساس يرتكز عليه. على أنه قد ظهرت عدة كتب ومباحث لكثير من النقاد والأدباء. ولكنها لم تؤسس مذهبا ولم تبن رأيا متينا، بل كانت أشبه بآراء فردية وإرشادات للأدباء والكتاب، وعندما أشرقت شمس القرن التاسع عشر ظهرت في عالم الأدب والاجتماع سيدة أديبة عالمة، جالت الأقطار والأرضين، وصرفت زمنا طويلا في ألمانيا، ثم رجعت إلى بلادها في نحو سنة 1803، هذه هي مدام دي ستال
Madam de Staël ، وقد ظهر كتابها «البلاغة» أو الآداب
La littérature ، وكتابها «ألمانيا»
L’Allemgne
في سنة 1810، فكان من الوسائل التي نشرت في فرنسا الأفكار الأجنبية، وأظهرت للعالم الفرنسي ما لم يكن يعرفه خارج «منطقة» عقله ومباحثه القومية.
وقد رأينا أن منهج البلاغة في فرنسا كان تابعا للبلاغة اليونانية والرومانية فقط، أما الآن فقد ظهرت الموازنة بين بلاغات الأمم الأخرى والبلاغة الفرنسية، واتجهت الأفكار إلى أن في الجديد ما يصح أن يعجب به، وأخذ النقد يسير في طريق آخر، ويدعو إلى التأمل في بلاغات الأمم الأخرى، فخطا خطوة جديدة، وهي: أن الأدب صورة الاجتماع
La littérature est l’expression de la société
وأن الكتابة الأدبية زيادة عما فيها من فنون الكلام وضروب الإعجاب، بها شيء آخر غير ذلك، وهو قيمتها التاريخية، وأنه لا بد أن يلاحظ الناس أن هناك صلة متينة بين بلاغات الأمم ومدنياتهم المختلفة؛ لأنها دليل عليها وعلى مقدار ما أنتجته العقول والقرائح.
ثم عمل النقاد على ربط الكتابات الأدبية بالوسائل والأسباب التي أنتجتها، خلافا لما كان معروفا عندهم من فهم البلاغات بقطع النظر عن الأسباب والحوادث والأزمان، وجعلوا النقد جزأ من التاريخ العام، فأخذ النقد شكلا آخر بدخول القرن التاسع عشر. ثم جاء سنت بوف
Sainte Beufe (1804-1896) أكبر النقاد وأستاذهم جميعا، ودفع بالنقد الأدبي في طريق جديد، فإنه لم يكتف بفهم الأدب من البيئة أو من العوامل الأخرى، بل أراد أن تكون صلة الأدب بين الكتاب أنفسهم، وبين أمزجتهم وخواصهم النفسية والعقلية، فكان مذهب سنت بوف من المذاهب التي ساعدت التاريخ العام على كشف حقائق النفوس والأفراد، وصار النقد عبارة عن «معمل تحلل» فيه النفوس وخواصها، وأصبح إحدى وسائل علم النفس، وعلم سنت بوف الباحثين والقراء كيف يقرءون وكيف يبحثون، واتسعت على الباحثين دائرة معرفة الرجال ووسائل ذلك، ووصل سنت بوف إلى ترتيب العقول فصائل فصائل؛ لأن النقد عنده عبارة عن تاريخ طبعي للعقول والنفوس، يميز منها القوي من الضعيف، والأفكار العلمية من العقول الخيالية .
ومذهب سنت بوف في النقد من أعدل المذاهب وأقربها إلى الطريقة الأدبية، وقد ترك في كتاباته النفسية
المعروفة «بحديث الاثنين» مجموعة من التاريخ الطبعي للنفوس والأفكار لا توجد عند أمة أخرى، ولا في أدب غير الأدب الفرنسي، وهو أول من جعل النقد الأدبي وسيلة من وسائل علم النفس.
5
وجملة القول أن سنت بوف كان يهتم «بشخصيات» الكتاب والشعراء أكثر من غيرهم، فلم يكن من غرضه أن يعرف الاجتماع وآثاره من جولات الكتاب وميادين الفصاحة، بل كان يبحث عن الأمزجة الخاصة وصور النفوس من خطوات الأقلام في الصفحات والطروس، وكانت جميع أحكامه على المؤلفات أحكاما على المؤلفين أنفسهم، وكان يقفو أثر المؤلف ويرافقه في منزله وحياته الخاصة، ويشرف عليه وهو عند أصدقائه وفي مجتمعاته، ويتجسس عليه ليقف على أسراره النفسية وعواطفه وميوله، ويعرف منه الخبيث والطيب، وعلو النفس وانحطاطها، وعقله وفكره وأهواءه ...
كل هذا ليعرف الكاتب وآراءه ومؤلفاته، وبذلك أيضا يتوصل إلى صلة ذلك بأسباب عامة تتصل بالمدنية العامة.
مذهب «تين» في النقد
نجد في الرجال الأبيض والأسود، والأصفر والأحمر، ونجد فيهم الذكي والغبي، ونجد النشيط والخامل، ونجد اختلافات كثيرة في الطبائع والعادات وطرق الفهم والتصور والإدراك والعقائد، ونظام العيش في الحياة والاجتماع وغير ذلك. ويقول العلماء والباحثون: إن لذلك أسبابا ثلاثة: الجنس، والبيئة، والزمن. وقد نوه بشيء من هذا ابن خلدون في «مقدمته» ونسب اختلاف الأخلاق والألوان إلى طبيعة الإقليم، ونسب إلى السودان الخفة والطيش والميل إلى الطرب، ووصفهم بالحمق، وغير ذلك مما سببه طبيعة الأقاليم الحارة. وفي كلام ابن خلدون عن العرب وأخلاقهم العمرانية والاجتماعية، ما يدل على أنه يقصد بذلك خواص الجنس وأثره في الأمم، واختلاف الأمم بعضها عن بعض بسبب اختلاف الأجناس والبيئات.
هذا أساس مذهب تين
Taine
العالم النقاد الفرنسي.
6
يقول تين: «الرجل ثمرة من ثمرات البيئة التي ولد وتربى فيها، كالشجرة تنمو في الأرض التي نبت فيها أصلها، وإنه يمكن أن ترجع جميع الأسباب التي تكون الرجل إلى ثلاثة أصلية: الجنس، والبيئة الطبعية والاجتماعية، ثم الزمن الذي تكونت فيه حياته العقلية.» قال: «ولا يمكن معرفة الشخص إلا إذا وقف الإنسان على هذه الأشياء؛ لأنها الوسائل الثلاثة اللازمة لمعرفته.» وكل طرق تين في البحث بنيت على هذه الأصول، وطريقته هذه من أهم الطرق وأنفعها؛ لأنها تحمل الناقد على دراسة ووصف الأمة التي فيها نشأ الكاتب، وإلى البلد الذي عاش فيه والمدنية التي تأثر بها.
وأصل مذهب تين بناء الأحوال النفسية من فكر وإرادة، وقوة وضعف في الرأي على أسباب جسمية؛ أي على ما يسمونه الآن «علم وظائف الأعضاء»؛ لأنه يرى أن جميع الأفكار والإحساسات متصلة اتصالا تاما بحركة الأعصاب، وعنده أن الوسائل إلى معرفة الحقائق هو الحواس والإلهامات، وما عدا ذلك كذب وافتراء، مما لا يصح أن يهتم به العلماء. فكانت طريقته علمية صرفة، فأراد أن يدخل الأدب والبلاغة في هذه الدائرة العلمية، وأن يجعلها من العلوم الاجتماعية. وإذ كان يبني مذهبه على التجارب العلمية، أراد أن يجعل الأدب والبلاغة إحدى هذه التجارب؛ ليتوصل بها إلى الحكم على الأفراد والمجتمع - كما أراد قبله «سنت بوف» أن يجعل دراسة البلاغة كتاريخ طبعي للأفكار والعقول - ولأن هذه الحوادث والأعمال التي تمر في المجتمع وتملأ البلاغات، هي التي يستمد منها الكتاب والشعراء معلوماتهم وأفكارهم. قال تين: «... يجب أن يكون أساس التاريخ «التحليل» العلمي للنفوس، وأن ما يفعله المؤرخ لإظهار الحوادث الماضية وإيضاحها يفعله الكاتب والقصاص لإيضاح الحوادث الحاضرة ... إذ ليس الضرر في الجري وراء الأحلام فقط، أو في ترك النفس تسبح في الخيالات. ولكنه أيضا فيما ليس محققا ولو كان محتمل الوقوع؛ لأن المخ خلق لحفظ الحقائق، كما أن البصر خلق لإدراك المبصرات إدراكا واضحا. ومتى اهتمت العقول بغير الحقائق دبت فيها الأمراض دبيبا؛ كالعين تضطرب عند اضطراب الأشياء التي تراها؛ فالحقائق هي سلامة العقول.»
وبناء على هذا المذهب لم يعتقد تين بغير أثر الحواس. وعنده أن كل موجود عبارة عن جزء من سلسلة حركات وإحساسات.
هذه الطريقة العلمية البحتة المبنية على المشاهدات والتجارب، هي التي بنى عليها تين مذهبه في نقد الأدب والبلاغة؛ لأن كل نقد عنده عبارة عن ملاحظات نفسية (بسكلوجية) علمية؛ إذ البلاغة أثر الاجتماع ونتيجة الأسباب الثلاثة التي ذكرناها؛ أي إن الأدب والبلاغة على رأي تين نتيجة لازمة لتلك الأسباب الثلاثة التي هي: الجنس والبيئة والزمن. فكان من غرض تين أن يؤسس مذهبه في النقد الأدبي على قواعد ثابتة، ويجعله علما من العلوم، وأراد أن يبنيه على الأسباب الطبعية والاجتماعية الثابتة، ويحكم على ذلك بناء على ما في الاجتماع؛ إذ لا يمكن في نظره معرفة الإنسان إلا بمعرفة هذه الأسباب الثلاثة. ولم يكن غرض تين أن يقرأ الكتب لنفسها، بل كانت دراسة الكتب لديه وسيلة لمعرفة أحوال الأمم؛ فهي بمثابة مقياس «لجس نبض» الأمم والشعوب.
7
لا شك أن الإنسان ثمرة البيئة والزمن والجنس. ولكن هذه أسباب عامة، يندمج فيها كثير من الأسباب الأخرى، وليست وحدها تؤثر في نفس الشخص وتربيته. هنالك حوادث خاصة وأحوال نفسية، واستعدادات فطرية وأمراض عقلية وعصبية، وهناك قوة وضعف في الجسم والعقل، وفي التصور والخيال، وهناك أحوال كثيرة لا تعرف إلا بدراسة الشخص نفسه منفردا، أو بعيدا عن كل المؤثرات العامة الأخرى. كل ذلك يجب اعتباره والرجوع إليه في «تحليل» نفوس الأشخاص وآثارهم العقلية والكتابية، وإنما مثل من يحكم على الشخص بمجموع ما يحيط به وباندماجه مع غيره، كمثل الطبيب يمتحن الجسم كله ليتوصل بذلك إلى الحكم على عضو خاص، بدون نظر إلى العوارض الخاصة بذلك العضو. نجد في الأمة الواحدة وفي البلد الواحد، وفي الأسرة الواحدة وفي البيت الواحد، عقولا مختلفة وأفكارا مختلفة وأميالا وأهواء مختلفة، فكيف نفسر ذلك على طريقة تين؟ الاختلافات الظاهرة في الخلق بين أخوين من طول وقصر، وبياض وسمرة، ونحافة وبدانة، واعتدال واعوجاج، توجد بنفسها في الأخلاق من حمق ورزانة، وحلم وطيش، وتوجد في أثر العقول والأفكار من ذكاء وغباوة، وقوة في الإدراك وضعف في التصور؛ ومن هنا كانت الاختلافات العظيمة بين الأفراد في الحكم والإدراك والمبادئ والعقائد وغيرها. الحق واحد لا يتغير. ولكن الخلاف في طرق الإدراك وفي النفوس واستعدادها لقبوله؛ فلا بد من مراعاة الأسباب الخاصة في معرفة الشخص، أكثر من الأسباب العامة في تكوين نفسه وإدراك حقيقتها.
من أجل ذلك يمكن أن تعتبر مباحث تين كمقدمات عامة لمعرفة الأشخاص، كما لاحظ ذلك أحد النقاد، وقال: إن هذه الطريقة واضحة في تفسير الأحوال العامة، كالحكم على شعب أو أمة بأجمعها، كما فعل تين في كتابه «تاريخ بلاغة الإنكليز»؛ إذ يصح أن يوجد في هذا الكتاب أدلة صحيحة واضحة في الحكم على الجنس السكسوني ومميزاته. ولكنا إذا رجعنا إليه وهو يبحث أو يدرس أفرادا خاصة، وجدنا أن الأوصاف التي استنتجها يصح أن تنطبق على غيرها من جنس آخر وبيئة أخرى.
هذه الطريقة في النقد هي نتيجة فلسفة تين الإيجابية، ونتيجة أفكاره المذهبية المبنية على مذهب علمي ثابت وقواعد ثابتة، وهي نتيجة انتشار مذهب أوغست كونت وأتباعه؛ فمذهب تين الأدبي هو أثر مذهبه العلمي الفلسفي، مبني على صلة الأدب بالفلسفة والعلوم، وعلى تسرب المبادئ العلمية إلى الأدب والبلاغة، وأن البلاغة أثر من آثار العلوم، ليست عبارة عن خيالات وتشبيهات فقط، بل هي مجموع أفكار الإنسان ونتائج العقول والقرائح.
ولو أردنا أن نشرح مذهب تين بتفصيل أوسع لطال بنا البحث، وربما عاد علينا ذلك بالملل؛ لأن الرجل غير معروف عندنا؛ ولأننا لم نتعود اندماج الأدب في الفلسفة، ولأن مذهبه مذهب علمي جاف لا يسوغ لنا قبوله.
البيئة وأثرها في العقول
يستمد الإنسان تصوراته، وتتربى إدراكاته على حسب ما يراه، ويحيط به من المشاهدات والمعقولات، وعلى قدر بلوغ ذلك من نفسه واستيلائه على حواسه، تكون درجة الإدراك لديه، فإذا كانت المشاهدات كثيرة مختلفة، كانت قوة الموازنة وحب الاستطلاع والرغبة في البحث أعظم وأدعى إلى نمو العقل والإدراك، وكبرت في نفسه ملكة التمييز بين الأشياء، وصار ذلك شبه خلق له؛ فيصبح وقد تربى على نوع خاص من الذكاء والملاحظة، وتشكلت نفسه وإدراكاته ومعلوماته بهذا الشكل الخاص، الذي ينبئ عن حياته العامة التي كانت له في هذه البيئة الخاصة، وكانت تصوراته وتشبيهاته مأخوذة عن ذلك، وأفكاره ومعقولاته صورة من الاجتماع الذي عاش فيه، وأثرا من آثار تلك البيئة، وباختلاف البيئة يكون اختلاف الناس في عقولهم وإدراكاتهم وتربيتهم؛ فليس من يعيش بين العلماء كمن يعيش بين الجهلاء، ولا من نشأ في بيت كريم كمن نشأ بين السوقة والسفلة.
لذلك كان من عمل الناقد أن ينظر إلى هذه الأسباب؛ ليتمكن من الحكم على آراء الكتاب والمفكرين حكما صحيحا، وليعرف أسباب المؤثرات الفعالة، فالذي عرف البلاغة «بأنها ما بلغ بك إلى الجنة وعدل بك عن النار» كان متأثرا بالبيئة الاجتماعية الدينية التي عاش فيها؛ فلا يصح أن يؤخذ هذا التعريف كما هو، وإلا ما هي الصلة بين البلاغة وبين الجنة والنار؟ والذي قال: «إن دراسة الأدب بأجمعه من تاريخ وفنون، ومن شعر ونثر، إنما هي وسيلة لفهم كتاب الله - تعالى» لا يصح أن يعد من الأدباء؛ لأن أديبا من الأدباء الذين يفهمون الأدب، ويقولون إنه صورة النفوس والعقول وحالة من أحوال الاجتماع لا يقول ذلك. وإنما هذه نتيجة التربية العقلية عند فقهاء المسلمين، الذين اشتغلوا بالأدب وجمعه وعنوا به من أجل ذلك، ونشروا هذا الرأي وأشاعوا هذه الفكرة، فأخذها الناس عنهم كما هي بدون بحث ولا نقد. وكان يمكن الرجوع إلى الأدب وبلاغة العرب لفهم ما في كتاب الله - تعالى - بدون أن يكون ذلك الغرض الفذ من دراستها. ولكن أدباءنا وأكثرهم من الفقهاء صرفوا همتهم إلى الوجهة الدينية فقط. هذا أثر للبيئة الاجتماعية وأثر اتجاه العقول والأفكار اتجاها خاصا، وهذا يفسر معنى صلة هذه الأسباب بالأدب والنقد.
الإنسان كما قلنا ثمرة البيئة الطبعية والاجتماعية، والأدب والبلاغة من شعر ونثر ومن كتابات اجتماعية وفلسفية وغيرها - من أثر العقول والقرائح - ثمرة من ثمار الإنسانية، ونتيجة تربية العقول والنفوس. فإذا كانت الأمة في مبدأ تربيتها العقلية وأول نشأتها كالطفل لا يعرف إلا ما يقع عليه نظره، ولا يدرك إلا ما يحيط به، أصبحت معلوماتها منحصرة في ذلك، وخيالاتها مقصورة على ما ترى وتسمع حولها. فإن لم تكن محبة للبحث والتنقيب ولا راغبة في الاستطلاع، بقيت في هذا النوع من التربية الأولية. وبعض الأمم يموت ويعيش وهو في شباب الحياة وطفولة التربية؛ لأن البيئة الاجتماعية لم تدفعه إلى حب الاستطلاع، ولم تولد فيه البحث في معرفة الجمال وفهمه.
والعرب في عيشتهم وحياتهم البدوية الصرفة، لم يخرجوا عن الدائرة التي وضعتهم فيها طبيعة بلادهم، ولم يروا غير هذه الصحراء الواسعة وما توحيه إلى النفوس من العظمة والهيبة والغموض الذي تضل فيه الظنون. ثم هذا البسط «اللانهائي» الذي يحمل على الظن بأن الحياة لا تتغير، وكأن الإنسان يخلق ويموت وهو على حال واحدة من العيش، وأن هذه الحياة البدوية الساذجة هي كل شيء، وأن الشجاعة والكرم والمروءة هي كل فضيلة، وكأنه ليس وراء ذلك من فخر، وكأن العصبية والإغارة على الأعداء والانتصار عليهم هي كل ما يفهم من معنى الشجاعة، وأن العربي في حريته واستقلاله أفضل إنسان وأكرم نفس وأرقى مخلوق. كذلك تكونت خيالات العربي على ما يرى وما يحيط به من حيوان ونبات، ولم يكن لديه من الفرصة ما يمكنه من معرفة أحوال الأمم الأخرى، فنشأ قانعا بما لديه، راضيا بحالته؛ لأنه ظنها أفضل وأكمل من غيرها، فلم يرغب في تغيير حالته الاجتماعية ولم يأخذ عن غيره؛ لأن ذلك لم يكن متيسرا له في حالته الأولى، ولأن الحاجة لم تحمله على ذلك؛ لاقتناعه بما لديه من كل شيء حتى في العلوم والمعارف، ولأنه كان يرى سعادته في هذه الحال، والإنسان إن لم تدفعه الحاجة لا يميل إلى العمل ولا يحب التعب. كل ذلك أثر البيئة الطبعية والاجتماعية عند العرب، وهي بنفسها التي نراها في بلاغاتهم وأشعارهم، فقد امتلأت خيالاتهم بما كان يحيط بهم، ولم تتعد أفكارهم البيئة التي كانوا يعيشون فيها، فكان إذا وصف أو شبه أحدهم شيئا أخذ خياله وفكره مما يحيط به، وذكره على سذاجته؛ لأنه كان يميل في الافتنان والصناعة إلى إلهاماته وما توحي إليه فطرته، فكانت السذاجة تظهر في كل شيء من كلام وشعر وخيال ، ومع أن هذه السذاجة البدوية هي عيب الشعر العربي؛ لأن الحقائق «العريانة» كما يقولون ليست مقبولة لدى كل نفس، ولا يتذوقها كل إنسان، خصوصا في الشعر والبلاغة؛ إذ لا بد من الافتنان في إظهار المعاني المقصودة، ولا بد أن يعتري المتفنن من الحيرة والشك في الوصول إلى أغراضه ما يحمله على البحث والتنقيب حتى يصل إلى ما يقرب من الإتقان والكمال والإبداع. مع أن هذا هو عيب الشعر العربي البدوي، فهو أيضا كل ما فيه من الجمال؛ لأن السذاجة الفطرية أو الكلام المطبوع الذي تظهر فيه طبيعة الإنسان كما هي، له نوع خاص من القبول والاستمراء، وقد تدعو هذه الحال إلى الإعجاب.
هذه السذاجة التي اكتسبها البدوي من البيئة التي يعيش فيها هي روح الشعر العربي، التي أكسبته هذه العذوبة وهذا الجمال اللذين لا يوجدان دائما في الشعر الحضري؛ لأن إطلاق العربي لنفسه العنان يقول كما توحي إليه فطرته، ويملي عليه ضميره من السذاجة المقبولة المحبوبة السائغة على النفوس، هو السر في حياة هذه البلاغة ومظهر جمالها.
1
فانظر هذه التشبيهات وأثر البيئة فيها وما رسمته في نفس الشعراء، مثل ما قال بعضهم وقد حلق رأسه:
فأصبح رأسي كالصحيرة أشرفت
عليها عقاب ثم طار عقابها
وقالوا: إن هذا البيت من المعاني المحدثة المقبولة لدى الأفكار والعقول؛ فالحال السياسية والحال الاجتماعية والحال الفكرية، لها أثر عظيم في البلاغات والأدب؛ لأنها سائرة وراء الاجتماع «حذو النعل بالنعل» كما يقول المثل العربي. وقد ظهر بعض هذه الآثار في الشعر العربي؛ لأن الشعر هو كل الأدب العربي، أو هو مجموع الصورة العامة لبلاغة العرب ولحركات أفكارهم. والبيئة الاجتماعية أقل أثرا وظهورا من البيئة الطبعية فيه؛ بدليل أن الاجتماع تغير تغيرا عظيما، وتناوبته الممالك والدول، والشعر العربي لم يتغير في جملته ولم تعتوره أطوار الاجتماع، بل كان الشاعر الحديث يسطو على المعنى القديم، فيصقله في قالب جديد من الألفاظ، ويكسوه ثوبا آخر لينسب إليه. ونحن لا نرى هذا أثرا للاجتماع، وإنما هو ضرب من رقي الخيال ؛ لأنه لا يدل على حالة الاجتماع السياسية ولا على أي نوع من حياة الأمة. وكان من الممكن أن نرى تقلبات الدول والحوادث الكثيرة التي ملأت تاريخ المسلمين ظاهرة في بلاغاتهم، ولكنا لم نر في بلاغات العرب أصدق وأدل على الاجتماع من الشعر الجاهلي؛ لأن الشعر إذ ذاك كان بمثابة الحديث والمسامرات اليومية والكلام الاعتيادي، وفي مدة الأمويين كان يدل على شيء من الحالة الاجتماعية دلالة إجمالية، وكان أثر البيئة الاجتماعية ظاهرا بعض الشيء في المدح والذم بين الشعراء، وفي قصائدهم إلى خلفاء بني أمية، ولم يكن دالا تمام الدلالة على الحياة؛ لأن هذه كانت مناقشات شخصية لأهواء شخصية، وكان أكثر ذلك ناشئا من ميل الشعراء إلى التكسب، ولم يكن في الشعراء أو لم يكد يوجد بينهم من كان ذا أغراض اجتماعية ترمي إلى إصلاح الاجتماع، أو إلى تربية الأفكار وتهذيبها. وكل ما كان من الصدق في نفوس الشعراء كان عبارة عن عواطف نفسية، يرجع أكثرها إلى شيء من العقائد الدينية أو إلى تأييد مذهب سياسي وكراهة أحد البيوتات الحاكمة؛ كما مدح الفرزدق زين العابدين في قصيدته المعروفة، عندما تظاهر بعدم معرفته هشام بن عبد الملك، لما رأى من إقبال الناس على علي بن الحسين، فقال: «من هذا الشاب الذي تبرق أسرة وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها؟» فقال الفرزدق: «هذا الذي تعرف البطحاء وطأته» ... إلخ القصيدة. ومع ذلك فقد كان الشعر مدة الأمويين أقرب إلى الجد منه إلى التسلية والمجون، وكانت لا تزال الصبغة العربية ظاهرة فيه وفي مجموع أوصافه؛ من الصراحة وحرية القول وعزة النفس وغيرها من الأخلاق العربية.
أما في زمن العباسيين فقد ظهر أثر البيئة في نوع خاص من الشعر؛ لأن بيئة خاصة أثرت في الشعر، وهي بيئة المجون واللهو والطرب، وأشهر شعراء هذا العصر كانوا من هؤلاء، كأبي نواس وبشار وابن الضحاك وغيرهم ممن أكثروا من وصف الغلمان والخمر ومجالس اللهو. وكانت هذه حال البلاغة في العصر الأول العباسي، مما لا يكاد يخرج عن التسلية والمجون ، وكانت مجالس الخلفاء والأمراء غاصة بالغناء والمغنين، وكانت الأشعار التي تغنى لا تخرج عن وصف الحب والغرام والخمر، وكانت المجامع في ذلك العصر أشبه بالجنان ونعيمها. وشجع الخلفاء والأمراء الشعراء على ذلك؛ فانكب هؤلاء على هذا النوع من الشعر الوجداني، وانتشر الغناء، وكانت مجالسه حافلة بالأدباء والشعراء (تشبه المجتمعات التمثيلية عندنا اليوم). ولم يؤثر انتشار الفلسفة في الشعر إلا في أواخر الدولة العباسية عند مثل المتنبي وأبي العلاء؛ أي عندما أخذت العقول تنضج وترقى، وترى وتفهم من الأدب غير ما كان يراه ويفهمه الأولون. غير أن هذا العصر لم يطل، ولم تكد تظهر فيه المواهب العربية وأثر الإسلام في الرقي، حتى وقفت حركة العلم والأدب، وهزمت العجمية العربية بسيلها الجارف، فوقفت حركة العقول والأفكار.
أما أبو نواس وأمثاله فكانوا شعراء وجدانيين وخلعاء متهتكين، لم يهتموا بحالة الاجتماع ولم يكن عندهم من التربية والتعليم ما يساعدهم على ذلك، ولم تدفعهم البيئة إلى هذا النوع من الشعر،
2
ولم يفهم الناس هذا الضرب من الأدب الاجتماعي، وكان إذا أراد أحدهم أن يقول شيئا من ذلك أو ما يقرب منه أفصح إفصاحا، وبث الموعظة على أنها موعظة ونصيحة. ولو أنه فكر في وضع أفكاره ونصائحه في قصة لكانت أوقع وأشد فعلا في النفس من قص الكلام قصا وسرده سردا. ولكن العقول لم تكن نضجت بعد، ولم يصل الأدب إلى الحالة التي كانت تلهم الشعراء نوعا جديدا في الكلام والصناعة. على أن بها من جمال القول ومتانته ما لو وضعه شاعر عصري في قالب قصصي لوصل إلى ما وصل إليه موليير وغيره.
خواص الأجناس البشرية وأثرها في العقول
العوارض المختلفة التي تظهر في الأشخاص وتميز بعضها من بعض أكثرها ناشئ من اختلاف الأجناس. فإن لكل جنس أوصافا عامة تدل عليه، ومدنية خاصة تميزه من سواه في طرق الفهم والإدراك، وإذا كانت أفراد الجنس الواحد تختلف بعض الاختلاف في شيء من الصفات الخاصة فإنها تتفق في الأوصاف العامة؛ فالجنس الآري مثلا الذي منه سكان أوروبا يختلف أفراده بعضها عن بعض اختلافات بينة في مجموع مدنياتها. ولكنها تتفق في الأمور العامة، كالنوع الجرماني الذي منه أكثر أمم النمسا وممالك ألمانيا ومعظم أهل أوروبا الوسطى، فإن هؤلاء من الجنس الآري. ولكن بينهم بعض الاختلافات في تكوين مدنياتهم.
والنوع اللاتيني في جملته يميل إلى الرقة ولين الأخلاق ودقة الفهم في الفنون الجميلة، ويحب الحرية في كل شيء، ولا يرغب كثيرا في التقيد بالقوانين والقواعد حتى في العلوم، حساس كثير الخيال، خفيف الروح، يميل إلى المجون، وله صبغة خاصة في الفنون كالموسيقى والتصوير، فإنها عند الإيطاليين والفرنسويين أدق وأخف على النفس منها عند الجرمانيين، وهي أمتن وأبرع في الصناعة وأضخم عند الجرمانيين منها عند جيرانهم. هذا مثل ضربناه، ومثل ذلك يقال في المباحث العلمية والأدبية، فإن الطريقة الجرمانية تميل إلى القواعد والقوانين في كل شيء؛ لأن الفكر الألماني قاعدي؛ أي ميال إلى القوانين، وإلى بناء كل شيء على قاعدة، يرغب في أن تكون الفنون كالعلوم ذات قواعد ثابتة لا تتغير. والطريقة العلمية في دراسة البلاغة ظهرت أولا في ألمانيا، وتين ورينان وغيرهم من رؤساء الحركة الإيجابية والطرق العلمية في البحث أخذوا ذلك عن الألمانيين. هذه الفروقات نجدها أوضح وأكبر منها بين الأجناس. وقد أثبت العلماء والباحثون أن بين الأجناس وبين أفرادها فروقا مادية في تركيب الأجسام، وفروقا عقلية في كيفية الإدراك والتصور؛ فإن خصوبة العقول عند بعض الأجناس أكثر منها في غيرها.
1
فقد قالوا: إن الأمم التي هي أسبق من غيرها في مضمار المدنية واكتسابها، والتي يظهر فيها التقدم والانتقال أسرع مما يظهر في غيرها، تكون أعرق في الحضارة. ومن هنا يظهر أن في الأمم من هو أرقى من غيره، ومن هو أحط من سواه؛ ففي بعض الأمم أو في بعض الأجناس نجد «الإنسانية» ومعناها أكثر منها في غيرها؛ أي نجد ما يميز الإنسان من عقل وذكاء واستعداد للرقي وميل إلى العلوم والفنون والأدب أظهر، على حين أننا نجد الوقوف والخمول وعدم الاهتمام بالتربية في جنس آخر .
2
هذا الاختلاف الأصلي في الأجناس سبب الاختلاف في العقول والتصورات والإدراكات، أو إنه دليل على تغيير النفوس واختلاف إدراكاتها، وكل هذا يظهر في اللغة وتكوينها.
قال تين في مقدمة كتابه «تاريخ بلاغة الإنكليز»: «إذا كان تصور الأمة للأشياء تصورا جافا، كانت اللغة ضربا من الرموز أو ما يقرب من ذلك، وكان الدين عبارة عن عقيدة ساذجة، والشعر خيالا «بسيطا»، وكانت الفلسفة أشبه بشيء من النصائح والمواعظ، والعلوم مسائل مجموعة مرصوفة. وهذا يدل على جفاء العقول وجمود الأفكار على ما تقرأ وتسمع، والأمة الصينية هي مثال ذلك. فإذا كان الإدراك العام مرنا يشبه أن يكون خيالا شعريا، كانت اللغة أشبه بالشعر والقصص سهلة لينة، يكاد يدل كل لفظ منها على نفس أو على إنسان لمرونتها وعذوبتها، وكان في الدين والشعر شيء كثير من العظمة والجلال، وانتشرت الأفكار الفلسفية انتشارا عظيما. وعلى حسب ذلك يكون إدراك الجمال ودقة الفهم، وسعي العقول وراء الكمال في تحقيق ما تريد.»
3
إن مسألة الجنس من حيث أثرها في الأمم وعقولها، مسألة غير مسلم بها على إطلاقها، ولا يمكن أن يسلم بها إنسان مفكر تسليما مطلقا؛ لأن مذهب الفيلسوف تين في ذلك مذهب أصبح الآن متهما بالمبالغة وعدم التحقيق، ولأن الحوادث أثبتت لنا أن بعض الشعوب الصغيرة التي اتخذها أصحاب هذا المذهب برهانا ودليلا على نظرياتهم، ظهرت فيها قدرة تكاد تضارع أهل الجنس الأبيض. والحوادث والأيام تبرهن على تأييد مذهب هؤلاء. والحقيقة أن السبب في هذا الاختلاف الذي نراه في الأمم وتربيتها راجع إلى البيئة والحوادث. ونضرب لذلك مثلا بحالة العرب قبل الإسلام وبعده؛ فقد كانوا في جاهليتهم، لا يعرفون غير عيشتهم الساذجة وحياتهم الفطرية، ولا يدركون من أحوال الاجتماع غير شن الغارات والحروب، وكان العربي ليس له إلا سيفه ورمحه ومركبه، ولم يكن من طبيعة بلاده أن تحرك من فكره أو توسع من خياله، فنشأ ونشأت أفكاره صورة صحيحة من البيئة التي كان يعيش فيها، ولم يعرف من العلوم والفلسفة إلا ما أوحت إليه نفسه وما دفعته الضرورة لمعرفته ، ولم يتعلم من الفنون إلا جمال القول، وقد توارث ذلك عن آبائه وأجداده، وتعود هذا النوع من العيش. ومرت الأزمان والأيام وهو كذلك، فلم يكن له من الفرصة ما يمكنه من تغيير حاله، أو ما يدفعه إلى التقدم، أو ما يغير إدراكه وتصوره للحياة والاجتماع، ولبث على هذه الحال دهرا طويلا. ولما جاء الإسلام وانتشر واختلط العرب بغيرهم، أخذوا عنهم النظامات وسنوا الشرائع والقوانين، واكتسبوا من الدين وتعاليمه ما غير حالتهم الاجتماعية والسياسية، واستفادوا من القرآن الحكيم فائدة عظيمة، ونظموا الحكومات وأسسوا الممالك والجيوش وغير ذلك.
ولما احتك الأمويون بالروم ومدنيتهم، أخذوا عنهم كثيرا من أبهة الملك ونظام الحكومة، وكان لمعاوية بن أبي سفيان الجند والحشم، وتناسى العرب خشونة البدو، واعتادوا الرفاهية والحضارة. كذلك كان الأمر في الدولة العباسية؛ فقد اكتسب العرب مدنية الفرس، وغيروا كثيرا من عاداتهم وأخلاقهم، وأنواع الفهم والإدراك ونظام العيش والحكومة والاجتماع، وتهيأت عقولهم وأفكارهم لقبول فلسفة اليونان ومدنيتهم العقلية والمادية، وظهر فيهم العلماء والفلاسفة والمؤرخون، مما لم يكن له أثر قبل في عربيتهم العرباء، وارتقت معارفهم وزادت معلوماتهم، ووسعت إدراكاتهم كل ما طرأ عليهم من الخارج، وبالجملة تغيرت خواص جنسيتهم العامة، وأشبه استعدادهم استعداد الأمم الأخرى، ولم يمنعهم جنسهم من الاندماج في غيرهم والأخذ عنهم، ومشابهتهم بعض الشبه لهم، ولولا الدين وسلطانه وغلبته على نفوس المسلمين لاندمجوا اندماجا كليا في غيرهم، ولتغيرت عقائدهم وحالتهم الاجتماعية تغيرا تاما. وعرب الأندلس كانوا غير عرب أفريقية، وهؤلاء كانوا غير سكان نجد والحجاز. على أنهم كلهم من جنس واحد وأصل واحد.
من أجل ذلك لا يصح النظر إلى مسألة الجنس والأخذ بها على إطلاقها؛ لأن المؤثر الأصلي في تكوين الجنس هو البيئة؛ إذ الجنس أو الأصل الواحد معناه أن جماعة سكنوا مكانا واحدا أو منطقة واحدة، تشابهوا في كثير من العادات والأخلاق العامة وطرق الفهم والإدراك، مما كونته البيئة في أخلاقهم واستعداداتهم على شكل خاص، وجاءهم هذا التكوين بمرور الأزمان واختلاف الأحقاب، فاندمجوا في البيئة التي تربوا فيها. فإن عوارض ومميزات الجنس الأسود مثلا تحتاج إلى مئات من السنين لتتكون هذا التكوين الخاص الذي هو من طبيعة الأقاليم، ثم يتوارث بعض الأفراد عن بعض ذلك حتى تصبح هذه الأوصاف صفة لازمة للسكان.
هذا هو الأصل في مسألة الجنس، ونحن نرى أن الإنسان يمكنه أن يعيش في اجتماع غير اجتماعه الأصلي، فتختلف إدراكاته ومواهبه؛ لأن الإنسان حيوان مقلد أكثر منه ناطقا؛ وعلى ذلك يجب أن تكون البيئة سابقة للجنس لا العكس؛ إذ لأجل أن يتكون الجنس بأوصافه لا بد من أن يبقى الإنسان في بيئة خاصة مدة طويلة ليتشكل بشكلها، وليس الغرض من البيئة البيئة الجغرافية فقط، بل ذلك يشمل البيئة الاجتماعية أيضا، فإن أثر الاجتماع في الأفكار لا يقل عن أثر الأقاليم فيها؛ إذ القسيس أو المتدين الذي تربى في بيئة تربية دينية هو غير العالم الذي تربى في بيئة علمية، فلا يمكن قبول رأي تين على ظاهره من أن الجنس له أثر خاص بدون أن ننظر إلى أثر الأزمان والبيئات في ذلك.
لا شك في أن الآداب السامية غير الآداب الآرية، وأن العقول والأفكار عند الساميين غيرها عند الآريين. ولكن أليس معنى ذلك أن تصور السامي وتربيته وتعليمه غيرها عند الآري؟ وهل ذلك غير أثر البيئة وتأثير الإقليم؟ فإذا كان الشعر العربي غير الشعر اليوناني مثلا؛ فذلك لأن حياة العربي حملته على هذا النوع من الخيال. وربما كانت هناك أسباب تاريخية واجتماعية جعلته لا يتصور ولا يفهم إلا على هذا النحو. وربما لم يكن العربي في حاجة إلى أنواع الحكومات المنتظمة والقوانين المسنونة؛ لأنه كان يعيش عيشة ابن السبيل، ولو كان ذلك ضروريا لحفظ حياته ونظامها، لحملته الضرورة على الفكر والاستنباط والابتكار لمثل هذه الأشياء.
وسواء أصح مذهب تين أم لم يصح في أثر الجنس في الأمم، فمما لا نزاع فيه أننا نجد اختلافات ظاهرة في الأمم المختلفة من حيث العلوم والمعارف، ومن حيث التصور والإدراك. وهذا كله يظهر في آداب الأمم وبلاغاتها؛ لأن الأدب تابع لكل هذه المؤثرات، فهو يتغير بتغيرها ويتشكل بأشكالها؛ لأنه صورة عامة من صور الأمم وحياتها، وذلك كله تابع لاختلاف الفطر وأسبابها في الإنسان.
مذهب التدرج والانتقال في أنواع البلاغة
فرديناند برونتيير هو صاحب هذا المذهب،
1
ويجدر بنا أن نجمل آراءه ومذهبه فيما يأتي:
تربى برونتيير تربية علمية، وسارت أفكاره وآراؤه في طريق علمي حتى في مذهبه الأدبي وفي طريقته في النقد؛ ولذلك لم يكن يميل إلا إلى الوضوح والصراحة، ولا يعجب إلا بالآراء السليمة الصحيحة، وعمل على إصلاح كثير من الأفكار السقيمة التي كانت منتشرة في الآداب، وكان يقول: «إن الأفكار قوة ذات أثر، وإن البلاغات شيء آخر غير نوع من التسلية واللهو.» وكان يرى أن البلاغة «الشخصية»، أي الكتابات التي منشؤها ميول الكتاب وأهواؤهم بدون نظر إلى المجتمع ولا إلى النفوس العامة، ليست إلا ضربا من الأهواء والشهوات النفسية، فإنها خطر على الأخلاق وعلى البلاغة نفسها، ولأنها لا تمثل شيئا من الحياة الاجتماعية العامة، التي هي حياة الآداب والبلاغات؛ ولذلك كان ضد مذهب الوجدانيات
Romantisme ، ولهذا أيضا أحب ألا يكون مذهبه في النقد مذهبا شخصيا؛ كي لا يحكم على الكتابات بذوقه الخاص، أو بما يحدثه في نفسه أثر القراءة، بل أراد أن يضع مذهبا عاما للنقد، مبنيا على أساس علمي وعلى الموازنة بالكتابات الشهيرة، لا لأنها نموذج ونظام فريد، بل لأنها أمثلة تدل على طرق الإتقان في الفكر والصناعة. وكان لا يهمه من القراءة أن يعجبه ما يقرأ، بل صحة ما فيها من الأفكار والآراء والافتنان والصناعة، لكبار الكتاب، ثم يتساءل بعد ذلك: «هل للكاتب غرض يرمي إليه؟ وهل من غرضه أن يهدي القراء إلى فضيلة من الفضائل؟» لأنه لا يرى غرضا جديرا بالكتابة، ذا قيمة حقيقية لأي نوع من أنواع البلاغة، إلا إذا كان يؤدي إلى نوع من أنواع التهذيب، أو يرشد إلى فكرة نافعة في الاجتماع؛ لذلك كان يحارب مذهب القائلين: إنه يلزم النظر إلى الفنون من حيث إنها فنون
L’Art pour L’Art
لأنه كان يرى أن الكتابة الأدبية يجب أن تترك في نفس القارئ أثرا نافعا، وأن الحذاق وأصحاب الفنون لا يستحقون هذه الألقاب إلا إذا استعملوا الفنون وسيلة تساعد على نمو «الإنسانية» في الإنسان.
وقسم الفنون إلى فنون عظيمة وفنون حقيرة، فإن من الفنون ما ليس إلا ضربا من اللهو واللعب والتسلية، وهي مع ذلك تأخذ بالألباب وتسحر العقول بجمالها وبلاغتها، ومنها ما هو جدي متين ممتع.
2
أما طريقته في النقد، فكان يرى أنه يجب الاهتمام بإظهار عيوب الكتاب أو الشعراء قبل الاهتمام بإظهار محاسنهم؛ لأن العيوب هي ضرب من المحاسن في نظر الكاتب أخطأ في فهمها، فمن المفيد في النقد تمييزها من المحاسن الحقيقية؛ فالذي يتعمد إظهار عيوب الكتاب هو في الحقيقة يعمل على إظهار محاسن الكتابة، كما أنه يعمل على تجنب العيوب بإظهارها وشرح الوسائل والأسباب التي دعت إليها؛ وعلى ذلك فالنقد الذي من غرضه البحث عن عيوب الكاتب يقصد إلى إظهار قواعد البلاغة الصحيحة ومحاسن الكتاب التي يجب اتباعها، هذا هو أصل طريقته في النقد، وكان يعمل على تأييد فكرته ومذهبه بعزم صادق وحجة قوية وصراحة نادرة، فقد كان من أكبر الرجال الذين خصوا بقوة الجدل وحب المخاصمة والمناقشة؛ ولذلك كثر أعداؤه، ولم يكن له من الأصدقاء إلا تلاميذه وقليل من إخوانه.
وقد امتاز برونتيير ميزة خاصة بمذهبه الأدبي، وأصبح إماما ومخترعا لمذهب علمي أدبي؛ فقد انتحل من مذهب دارون العلمي مذهب «التدرج والارتقاء» مذهبا أدبيا هو مذهب «التدرج الأدبي»؛ فقد رأى أن الأنواع الأدبية من وجدانيات، واجتماعيات، وشعر، ونثر تمثيلي، تنقسم إلى فصائل كما في علم النبات والحيوان، وأنه يجري عليها قانون التدرج والارتقاء الذي يجري على الأنواع الحية سواء بسواء، ويرى أن لها أطوارا تتخطاها كأطوار النبات والحيوان، فقال: «إن الأنواع الأدبية ككل شيء حي في هذا الوجود، تولد لتموت ولتدركها الشيخوخة على حسب ما تلد وتنتج من المؤلفات النافعة الممتعة. ومثل ذلك مثل من ينسخ كتابا على كتاب آخر، وينسخ من هذا كتابا ثانيا، ومن الثاني ثالثا وهكذا؛ فتكون كل نسخة تابعة لما قبلها مع شيء من التحريف، إلى أن تكون النسخة الأخيرة كأنها غير الأولى، أو كأنما كتبها أحد تلاميذ المؤلف ولم يؤلفها أستاذ حاذق.» قال: «وهكذا تفنى الأنواع الأدبية مهما حاول الكتاب حفظها وبلوغها إلى درجة الإتقان أو ما يقرب منه.» ويقول: «كما أن العقول تتشابه فتتآلف، وتتناكر فتتخالف، كذلك المؤلفات الأدبية التي هي نتاج العقول، تكون أنواعا قريبة أو بعيدة من بعضها، وإن هذه الأنواع لازمة للمجموعات الأدبية، وإن لها حياة خاصة وصناعة خاصة بكل واحد منها، توجد وتتوالد في الأفكار توالدا ساذجا أوليا، ثم تتكون ويتم تكونها شيئا فشيئا، وتنمو كما ينمو الحيوان والنبات إلى أن تنضج، ثم تقف برهة من الزمن حافظة حياتها إلى أن تدركها الشيخوخة، ثم تتحول إلى نوع آخر فتحيا مرة أخرى وهكذا ...»
وعنده أن تاريخ البلاغة عبارة عن تتبع هذه الأنواع في جميع أطوارها وأعمارها، وفي جميع أدوار حياتها وتقلباتها. قال: «وهذا ما يحمل على الظن بأن تاريخ البلاغة يمكن أن يكون علما من العلوم. وعلى هذا المذهب يمكن أن نفسر ما يعتري بعض الأنواع الأدبية من الوقوف والانحطاط، وما يدعوها إلى الظهور مرة أخرى» (كما حصل في الشعر الوجداني في فرنسا، فقد مر به نحو قرنين وهو في حالة موت ونزاع، ثم انتشر انتشارا غريبا، وحيي حياة أخرى في أوائل القرن التاسع عشر بحال لم تكن له في حياته الأولى، وكاد يكون النوع الوحيد في البلاغة الفرنسية، ومثل ذلك يقال في غيره من الأنواع). ومن الأمثلة على مذهبه: أن القصص الطويلة الموجودة الآن أصلها حكايات قصيرة جاءت من المحادثات، ثم تكونت وكبرت شيئا فشيئا إلى أن أصبحت إلى ما هي عليه الآن، وتولدت من ذلك أنواع كثيرة، وكان يتغلب في كل زمن نوع منها على غيره، ثم يظهر منه نوع آخر يمحو النوع الأول.
هذا المذهب هو القول بأن الأفكار الإنسانية والفنون جميعها مرتبة ترتيبا طبعيا، فصائل فصائل، ومجموعات متحدة الجنس، كفصائل النبات والحيوان، وأن لكل مجموعة قوانين ونظامات وسلسلة حياة خاصة تولد وتعيش وتموت ، وأن هذه الأنواع إذا بلغت ذروة مجدها تحولت إلى أنواع أخر، كما يتحول النبات والحيوان، أو وقفت برهة من الزمن ثم عادت إليها حياتها ... إذا تم بناء هذا المذهب كان من أعظم مذاهب النقد، التي تساعد على دراسة تاريخ البلاغة، وكشف مخبأ أنواع الكلام، وترتيب وتبويب ضروب الكتابات، وجعلها خاضعة لقوانين عامة كالأنواع الحية والمسائل العلمية؛ وعلى ذلك يصبح النقد الأدبي علما من العلوم لا فنا من الفنون كما هو الآن. ولكن ذلك لم يتحقق بعد، وربما لن يتحقق أبدا؛ لأن الأدب فن لا علم.
هذا المذهب العلمي البحت يخالفه وينازعه مذهب آخر في النقد، وهو مذهب التأثير والانفعال
Impressionisme ، الذي من أئمته ودعاته «جول لمتر»، وهو من كبار الكتاب الحذاق والنقاد الشهيرين، ومذهبه من أشهر المذاهب الأخيرة في النقد؛ لأن الرجل مات سنة 1914.
مذهب التأثير والانفعال في النقد الأدبي
هذا مذهب في النقد يخالف المذاهب السابقة؛ لأنه مبني على تأثير النفس وانفعالها بما يبقى فيها من أثر القراءة والدرس، فليس له أي صبغة علمية ولا أي قاعدة يبنى عليها، بل مرجعه الميول النفسية والتأثيرات الشخصية، فهو نوع من اللذة العقلية التي يجدها القارئ في الفنون، ويشعر بها عندما يراها أو يعثر عليها فيما يقرأ من أساليب الكتاب وأفكارهم، ولا سيما في الصلة النفسية التي يجدها بينه وبين الكاتب أو الشاعر؛ فيظهر له أنها هي بنفسها ميوله وأهواؤه. قال أحد أساطين هذا المذهب:
1 «عندما أقلب آخر صفحة من كتاب أقرؤه أشعر كأني ثمل بما امتلأت به نفسي من الأثر بما قرأت، وأجدني أحيانا متأثرا بانفعالات كثيرة شديدة محزنة؛ فأجد قلبي مفعما بنوع من الشفقة المبهمة، وتارة أجدني مضطربا من شدة السرور، وكأنما يجري ذلك في لحمي ودمي.» هذا كلام جول لمتر
Jules Lemaitre ؛ لأن النقد عنده نوع من اللذة العقلية العلمية، فإن العواطف والإحساسات تتغذى بالمعلومات التي هي من وسائل تربية الشعور.
وهو يرى أن الشعور من الأشياء النسبية التي تختلف باختلاف الأمزجة والأحوال، فلقد يقرأ الإنسان بعض المؤلفات، ويعجب بها أول مرة . فإذا أعاد قراءتها لم يجد في نفسه الإعجاب الأول؛ ذلك لأن الشعور يتغير دائما، فيلزم الإنسان ألا يجرأ بالحكم على ما يقرأ حكما نهائيا لا يقبل النقض؛ لأن كل رأي فني لا يصح أن يكون حكما باتا؛ إذ لا يدل على شيء سوى تأثير وقتي؛ فإنه ميل شخصي قابل للتغير، ويمكن أن يتجدد هذا التأثير في نفس شخص آخر غير القارئ، كما أنه ربما لا يعود مرة أخرى عند شخص واحد في قراءته كتابا واحدا.
وصاحب هذا المذهب لا يعنى إلا بما يحب من عقول الكتاب وآثارهم في الكتابة؛ لأنه يقول «إن القارئ إذا أراد أن يفهم الكاتب لا بد من حبه والميل إليه، فإن الذكاء والفهم ليسا إلا ضربا من الرغبة والميل إلى الأشياء أو المعقولات، وذلك يساعد على فهم الفنون والافتنان فيها. ولكن كل إنسان يفهم ذلك على حسب فطرته وطبعه الشخصي.» وحسب هذا المذهب أهمية أنه يبحث عن مواضع الجمال لإظهار مواهب الكاتب وفهم قصده، وأنه يجعل فائدة النقد ليست أقل أثرا من قراءة الكتب الممتعة، وقد يفوقها أحيانا في الاستمراء؛ فقد يلذ للناقد نقده كما تلذ له قراءة كتب الآداب المختلفة.
ومهما قيل من أن هذا مذهب من لا مذهب له في النقد، فإنه رغم كل شيء مبني على الاختيار الصحيح والاستسلام إلى ذوق تربى وتهذب بالعلم، وربما تشابه مع المذاهب الأخرى من حيث الوصول إلى غاية واحدة، وهي توضيح وفهم أثر العقول والأفكار؛ لأن أصحاب هذا المذهب يرون أن المذاهب النقدية هي أيضا ميول شخصية، واستسلام إلى الأذواق المقيدة تقييدا صريحا ببعض قواعد العلوم والفنون، كما يرى الآخرون أن طريقة أصحاب التأثير والانفعال مبنية على الاختيار الذي يرجع في جملته إلى ذوق تربى تربية علمية، مبنية على أصول وقواعد وتهذب بأنواع الفنون.
نذكر هنا جملة من كلام جول لمتر في كتابه «المعاصرون» لنتعرف رأيه من كلامه، ونقف على صورة من نوع هذا النقد المبني على التأثير والانفعال، قال وهو يتكلم عن الكاتب الشهير أناطول فرانس
Anatol France : «من آراء مونتني
Montaigne
الممتعة أنه لا يمكننا أن نقف على معلومات صحيحة ثابتة؛ إذ ليس في الوجود ما لا يقبل التغيير لا في المشاهدات ولا في المعقولات، وأن العقول وما يتصل بها في حركة دائمة. ثم قال: ونحن متغيرون؛ فلا بد أن يكون إدراكنا للعالم متغيرا أيضا، ولقد يكفي في تغيير الأشياء المحكوم بقبولها أن تمر بأفكارنا، التي من شأنها ألا تثبت على حال واحدة ونحكم عليها على حسب المؤثرات الوقتية، ليدركها التغيير ونحكم عليها حكما جديدا غير الأول. فكيف يمكن أن يثبت النقد ويلزم طريقة واحدة لا تتغير؟! تمر المؤلفات بعقولنا مرورا تتغير في أثنائه ذاكرتنا. فإذا مرت بها مرة أخرى تصورناها تصورا آخر، وحكمنا عليها حكما جديدا. وكل إنسان له أن يجرب ذلك بنفسه ... لقد مرت بي أزمان وأنا معجب كل الإعجاب بفكتور هيجو، وها أنا ذا الآن أشعر بأن روحه غريب عن روحي، ولا أكاد أعيد قراءة الكتب التي كانت تملأ نفسي إعجابا وتبكيني أحيانا منذ خمسة عشر عاما، إلا وجدتني غيري بالأمس. ومهما أردت أن أخلص في فهمي لها والحكم عليها فإني أجدني مخالفا لآرائي السابقة، ولقد أتردد أحيانا في أن أصرح برأيي. قد يذكر الإنسان ما كان يتذوقه في الأيام الخالية، وما أمره أساتذته بالميل إليه؛ لأن هذا الميل والشعور هما اللذان يكونان أحكام النقد في الأدب.
لدى بعض العقول شيء كثير من القوة والثبات تتمكن بهما من بناء الأحكام على أصول ثابتة، هذه العقول بطبيعتها أو بما لها من الإرادة ذات ذاكرة قليلة التغيير والانتقال، أو بعبارة أخرى هي عقول قليلة الابتكار؛ لأن المؤلفات على اختلافها تمر بها فتحدث فيها دائما أثرا واحدا. ولكن هذا نوع من الميول الشخصية الثابتة، ولا يمكن أن تتحكم هذه الطرق في جميع العقول.
يحكم الإنسان بالحسن على ما يحب، وبعض الناس لا يعرف إلا طريقا واحدا في الحكم؛ لأنه يحب شيئا خاصا ويظن أنه محبوب لجميع الناس، وبعضهم ليس لديه من الإرادة ما يجعله يلزم طريقا واحدا في الحكم والإدراك. ومهما يكن من شيء فالنقد الصحيح في جميع أشكاله ليس إلا عبارة عن وصف التأثير النفسي، الذي يحدث من القراءة في نفس القارئ، وأن كل عمل فني هو نتيجة ما يتأثر به المؤلف من حوادث الحياة في بعض الأوقات. ومن حيث إن الأمر كذلك، فلنحب الكتب التي تعجبنا، بدون أن نعنى بمنزلتها أو بمذاهب النقاد، عالمين أن ما نجده من الأثر أثناء قراءة هذه الكتب اليوم، لا يلزم أن نحصل عليه من قراءتها في الغد. وماذا علي إذا قرأت كتابا ممتعا عظيما خالد الذكر، فلم يحرك من نفسي ولم يترك فيها أثرا ما؟ ثم ماذا يكون إذا أعجبني كتاب تافه ونال مني؟ هل أظن أني مخطئ فأعود باللوم على نفسي؟ إن عظماء الرجال لا يتسنى لهم أن يكونوا دائما واثقين بأنفسهم ولا بما يقولون، فقد يغلب عليهم في كثير من الأوقات الجهل والسذاجة والأشياء التي يسخر منها الناس، وكثيرا ما يحكمون أحكاما غير عادلة مبنية على سهولة الإدراك لديهم، فهم لا يعرفون كل ما يعملون، ولا يعملون كل ما يعلمون عن قصد وروية ...»
2
هذا شيء من مذهب «جول لمتر» نأخذ منه أن النقد عنده لا يبنى على قاعدة ولا يقيد بمذهب من المذاهب؛ إذ لا يصح أن يفهم الإنسان ما يقرأ بعقل غيره، كما أنه لا يمكن أن يرى بعيني غيره، ولا أن يفكر بفكر غيره. كل هذا مبني على أن الغرض من قراءة كتب البلاغة لذة النفس وسرورها، لا التعلم والاستفادة، كما أن الغرض من سماع الموسيقى لذة السمع، والغرض من التصوير تمتع النظر. وعلى ذلك تكون البلاغة وجميع الفنون نوعا من السرور لا غير. والنقد ليس عبارة عن حكم القارئ على ما يقرأ، وإنما هو فهمه لما يقرأ، وشعوره بما في ذلك (Contem. T. 3. P. 340) .
ولكن هذا المذهب ليس له طريقة خاصة تتعلم، بل هو مذهب شائع بين كل القراء، فكل إنسان يمكنه أن يشعر ويتأثر بما يقرأ؛ فكيف يمكن قدر الكتاب والشعراء؟ وبأي شيء يصل الإنسان إلى تفضيل كاتب على غيره إذا استسلمنا لأذواق الأفراد؟ مهما أنكر مذهب التأثير والانفعال القواعد والقوانين العامة للنقد الأدبي، فلا يمكن إنكار أن هناك جهة عامة تتفق فيها جميع الأذواق، هذه الجهة في رأينا هي ما يوجد في الفنون من المعاني الإنسانية العامة؛ لأن كل فن من الفنون يقصد إلى تمثيل شيء من حياة الإنسان العقلية أو المادية، وهذا يوجد في كل نفس ويشعر به كل إنسان؛ لأنه تمثيل الطبيعة التي هي الجهة العامة في كل عمل فني ذي قيمة حقيقية، وذلك ما يرى في الفنون العظيمة لكبار الرجال ويخلد ذكرهم.
يقول جول لمتر: يتغير النقد تغييرا لا نهاية له، على حسب الموضوع الذي يقرأ، وعلى حسب العقول التي تبحث، وعلى حسب المباحث التي تقصد؛ إذ يمكن أن يكون غرض الناقد البحث عن الكاتب نفسه أو عن الأفكار ذاتها، ويمكن أن يكون غرض الناقد الحكم على ما يقرأ، ويمكن أن يقصد إلى بيان وتعريف وتوضيح ذلك بدون أن يبدي رأيا له. قال: «وقد ابتدأ النقد بطريقة مذهبية، وانتقل إلى آراء تاريخية وعلمية. والظاهر أن أطواره لم تنته بعد. وقد ظهر نقص الطريقة العلمية، فالنقد آخذ طريقا آخر، وهو التمتع بالقراءة لترقيق الشعور وإنمائه بما يطلع عليه الإنسان» (Contemporains. T. 3. P. 342) .
ويميل «جول لمتر» إلى الصراحة في الفكر ووضوح الكتابة، وحسن ذوق الكاتب، بأن يكون من طبعه جذب قلوب القارئين إليه، ويحب أن تمزج البلاغة اللفظية في الأسلوب بمتانة الموضوع ودقة الأفكار النافعة.
وعلى الجملة فمذهب التأثير والانفعال هو عبارة عن تتبع ما تحتوي عليه الفنون لجذب القلوب إليها؛ لأن هذا في رأيهم هو معنى الجمال؛ إذ الجمال عند هؤلاء لا يتحقق ولا يكون له معنى إلا إذا وجد من النفوس ميلا، ونزل من القلوب منزلة الإعجاب. بل قال بعضهم إن الكاتب الذي لا يمكنه أن يجذب قلوب القارئين إليه، ولا يعرف أن يستولي على إحساساتهم ليملك منهم إرادتهم، ليس في كتاباته شيء من الجمال، ولا يعد من كبار الكتاب؛ لأنه لم يتسن له الوصول إلى المعاني العامة التي تلمس الأفئدة والقلوب.
النقد الأدبي عند العرب
رأينا أن النقد الأدبي في فرنسا ابتدأ وسار سيرا تدريجيا، إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن، وكانت أطواره ظاهرة ظهورا تاما، وهو تابع في طريقه وسيره لقانون الارتقاء، وأنه لم ينبت في بلاده، ولم ينشأ بين أهله، بل جاء من الاطلاع على كتب اليونان القديمة، وعلى الحركة الأدبية أيام النهضة في إيطاليا، وأنه أوجد صلة بين النقاد أنفسهم وبين آثارهم في كتاباتهم.
أما النقد الأدبي عند العرب فهو بعيد عن كل فكرة أجنبية، وعن كل أثر خارجي، وليس الغرض منه تقويم حركة العقول والأفكار، بل شرح الشعر العربي وتقرير طريقة الشعر الجاهلي؛ لتكون نموذجا ومنهجا للشعراء. وقد سار النقاد في هذا الطريق بعزم صادق، وكلهم أنصار الطريقة العربية الأولى، وساعدهم على بلوغهم ما أرادوا، مزجهم الأدب بالدين؛ فتمكنت الطريقة العربية القديمة وطريقة الخيال والتصور عند العرب من الاستيلاء على أفكار الشعراء والكتاب.
ومع أن اللغة العربية اتسعت بما دخلها من الشعر والنثر، ونتائج العقول والقرائح الكثيرة، فإن النقاد لم يتحولوا عن اتباع القديم، ولم يرق الأدب الرقي الذي كان يكون له، ولا سيما الشعر الذي هو أظهر مزايا البلاغة العربية، بل لا يزال الشعر القديم إلى الآن أرقى أنواع بلاغة العرب، وأصحها وأمتع ما فيها؛ ذلك لأن النقاد وأئمة اللغة والأدب قصروا العقول على تقليد الشعر القديم، في الطريقة والأسلوب والصناعة، وحتى في الأفكار والموضوعات ...
كان العربي يتأثر بالكلام وضروب البلاغة، وساعدته فطرته على سهولة التعبير، ونبغ في هذا النوع من الشعر الذي دعته الحاجة إليه، ولم يتجه فكره إلى الخروج عن الدائرة التي كان يعيش فيها.
ولم يكد يفهم الناس من بلاغة الشاعر وبراعته إلا ذما مقذعا، ومدحا يرفع الممدوح ويجله؛ فدخل المدح والذم في حياة البدوي، وامتزج بنفسه امتزاجا. وكان تبجيل الشاعر لا يقل عن تبجيل أعظم رجل له أعظم أثر في الحياة، وكان النظر إلى الشعر كالنظر لأكبر أعمال الإنسان في الحياة ؛ لذلك فاقت العناية بالشعر ونقده كل عناية، ولقد كان حكمهم على الشعر لا من جهة أنه أثر من آثار العقول والأفكار، بل لأنه من الأشياء الحيوية للإنسان التي تساعده على فهم حياته.
وكأنهم لم يفهموا الشعر إلا بالنسبة لأثره في الخارج، ولم يتذوقوه لما به من الأفكار أو من حيث إنه فن من فنون الجمال، بل لأنه يرفع من شأن العشيرة ويحط من قدر العدو. وعلى ذلك لم تكن البلاغة معتبرة وسيلة من وسائل تكميل النفوس، ومظهرا من مظاهر الفنون، بقدر ما كانت معتبرة آلة من آلات المدح أو الذم، أو مظهرا من مظاهر ميول الشخص وأهوائه.
ومن هنا كانت البذرة الأولى من بذور الشعر الوجداني الشخصي في بلاغة العرب، التي ملكت عقول الشعراء وخيالاتهم وصناعاتهم، ومن هنا أيضا كان سبب جفاف النقد، فقد اقتصر على الملاحظة بدون أن يغير من حركة الأدب.
ذلك لأن حركة النقد عند العرب كانت مثل حركة الأدب سواء بسواء، ليست نتيجة كد الأفهام وإعمال الفكر، فلم يكن هذا النقد من دواعي التقدم والانتقال في بلاغة العرب. وإذ كان الشعر القديم الجاهلي نموذج الشعر العربي في جميع أزمنته، كانت الحركة الشعرية ضربا من التقليد المحض في الألفاظ والديباجة، وهذا التقليد هو الذي قاد عقول الكتاب والشعراء وكان مقياسا لها. وذلك في جملته هو مثال النقد الأدبي العربي في مجموعه، وعليه بنيت كل فكرة أدبية، ولم يحاول أحد من النقاد الانحراف عن هذا الطريق، فلم يحرر الشعر من الطريقة الأولى، ولم يسلك مسلكا آخر لا من جهة الأفكار، ولا من جهة الصناعة؛ فوقف النقد أيضا في طريق واحد وثبت على حال واحدة.
من أجل ذلك كان النقد الأدبي عند العرب فهم الشعر وتأويله على الطريقة القديمة، التي جعلت الشعر الجاهلي نموذجا لها؛ فلم يكن له من القوة ما يمكنه من تغيير سير الأفكار، ولا من تقويم حركة العقول.
ولقد يتساءل الإنسان: أكان يكون تقليد الشعر الجاهلي سببا في وقوف حركة النقد والأدب عند العرب؟ أجل؛ فإن العرب منذ ظهور الشعر فيهم ظنوا أنهم ابتدءوا في ذلك بطريقة كاملة، وأن هذا كل ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من صناعة الكلام، وأنهم طرقوا كل موضوع فوقفوا عند ذلك، بل حافظوا على عدم التوسع، أو الخروج من عاداتهم في صناعة الكلام، وامتلأت نفوسهم بهذا الرأي، فتوارثها الأجيال منهم، وليس تقليد القدماء عند العرب مثل تقليد الفرنسيين لليونان والرومان؛ لأن تقليد هؤلاء كان من الأسباب التي حملت الفرنسيين على الاطلاع على آداب أخرى غير آدابهم؛ فحركت فيهم الميل إلى البحث والموازنة، ووسعت فيهم دائرة النقد.
أما العرب فقد أبقوا النقد على ما هو ثابت في أفكارهم وتابع لآرائهم، بدون أي اقتباس آخر، وبدون أن يرجعوا إلى شيء سوى العمل على تأييد آرائهم؛ وعلى هذا كانت كل قواعد اللغة والبلاغة، فكان مثلهم كمثل صانع يتبع مناهج صنعته ونماذج أعماله، وهو معتقد بدقة عمله، فلا يرغب في أن يعرف أثرا آخر ينسج على منواله. هذا مثل النقد الأدبي عند العرب. ومثل هذا النقد المحدودة قواعده وطرقه، كان من شأنه أن ينتهي إلى نوع من المباحث اللغوية والقواعد النحوية. نعم، وقد كان ذلك؛ فقد عني النقاد عناية تامة بالمباحث اللغوية والقضايا اللفظية. ولم يصل النقد إلى حمل الشعراء على النظر في بعض المذاهب الكتابية الأخرى التي ظهرت عند غيرهم من الأمم، ولا إلى البحث في الشعر من حيث إنه باعث من بواعث الأفكار، ومظهر من مظاهر النفس الإنسانية، بل اقتصروا على مباحث دقيقة في الأساليب وضروب التركيب، بدون نظر إلى ما يرقي الأفكار، وإلى ما كان يمكن أن يكون سببا في رقي الشعر وانتقاله من طور إلى طور. وكان النقاد إذا بحثوا في المعنى بحثوا فيه من حيث إنه مظهر من مظاهر براعة الكاتب أو الشاعر، أو من حيث الخيال والتشبيه والاستعارة، وقالوا: «من لوازم الشعر أن يشتمل كل بيت على معنى تام يصح أن ينفرد به.» فصار نقد القصيدة نقدا لكل بيت على حدة، ومثل هذا لا يمكن أن ينتج في النقد إلا آراء متقطعة أو أفكارا مفككة عن الشاعر وعن طريقته؛ إذ لا تظهر براعة الكاتب أو الشاعر إلا في اتصال أفكاره بعضها ببعض، ولا يمكن أن تظهر قوة النقد إلا في بحث وتحليل متسلسلين؛ بحيث يقود الفكر إلى فكر آخر، ويتصل الرأي بالرأي، وإلا كان مثل ذلك مثل باب مصنوع مفكك قطعا قطعا، تظهر فيه براعة النجار، ولا يمكن أن يحكم الناظر على صناعته إلا حكما ناقصا. •••
وإذا بحثنا عن تاريخ النقد الأدبي عند العرب وجدناه ابتدأ مع الشعر، وسار معه وظهر بظهوره؛ فإن المجتمعات والمجالس الكثيرة التي كانت للشعر والشعراء فيها المنزلة الأولى، ربما كانت أكثر ما تكون في التفضيل بين الشعراء، والحكم على أحسن الشعر وأفضله؛ فقد كانوا يفتخرون بالشعراء المجيدين، ويميلون كل الميل إلى حفظ الشعر الجيد وسماعه، ويضربون به المثل في الحكم والعظة وفنون الجمال؛ إذ لم يكن لديهم من الفنون غير هذا النوع من جمال القول، وفصاحة اللسان، ودقة البيان؛ ولذلك عظم اهتمامهم به، واتجهت هممهم إلى الإكثار منه، فكانت لهم آراء في الشعر والشعراء، ومذاهب في تفضيل بعضهم على بعض، تناقلها السلف من بعدهم، وأصبحت شيئا من أصول النقد في بلاغة العرب. ولكن أكثر هذه الآراء فردية، مبنية إما على الذوق الخالص والميل الشخصي، وإما على الأهواء والأغراض الخاصة، وما كان أسهل على أحدهم أن يعجبه البيت فيقول: هذا والله أشعر ما قالته العرب، ثم يسمع بيتا آخر لشاعر آخر، فيقول: هذا أشعر الناس.
مثل هذه الآراء لا يصح أن تعد من النقد الصحيح، ولو كانت آراء لأكبر الشعراء أو الأدباء؛ لأنها مبنية على الميول الصرفة والأهواء الشخصية، لا على مذهب ثابت، ولا على رأي صحيح؛ فلا يصح أن يكون هذا من النقد في شيء.
كذلك ابتدأ النقد عند العرب، وكان لا بد أن يكون في أول أمره على هذه الحال. ولكنه انتهى أيضا بنحو ذلك أو ما يقرب من هذا. ولا يمكننا أن نجعل هذه الآراء النقدية داخلة في المذهب النقدي المعروف بمذهب «التأثير والانفعال »؛ لأن هذا المذهب مبني على ذوق سليم، تهذب بالتربية والتعليم والقراءة الكثيرة لأنواع بلاغات الأمم المختلفة، والموازنة بينها.
لهذا كان النقد الأدبي ليس له تاريخ في بلاغة العرب، (ولا بد من الفرق بين النقد الأدبي الذي شرحنا شيئا منه عند الأمم الأخرى، وبين علوم البلاغة عند العرب)، ولم يبحث فيه باحث بحثا خاصا يبين المذاهب المختلفة، التي كانت تكون هداية الكتاب والشعراء وقدوة البلغاء. فمن العبث أن يبحث الإنسان عن أطوار النقد، أو عن المذاهب المختلفة فيه عند العرب؛ لأنه من الفنون التي لم تنضج في الآداب العربية، ويخيل إلينا أن أدباء العرب لم يفهموا النقد بالطريقة التي يفهمها أدباء اليوم من «تحليل» الأفكار والآراء، وصلة الكتابة بالكتاب أنفسهم، والمؤثرات الأخرى، وأنهم لم يعتبروا أن البلاغة مظهر من مظاهر الاجتماع، وغير ذلك من الأسباب التي دعت إلى رقي الأدب الحديث.
ونعود فنقول: إن كل ما وجد من النقد هو أفكار فردية، وآراء لبعض كبار الأدباء، منثورة مبعثرة في كتب الأدب والأخبار، وفي طبقات الشعراء وتراجمهم (ومن أراد أن يطلع على ذلك فليراجع مقدمة «الشعر والشعراء» لابن قتيبة، ومقدمة «جمهرة أشعار العرب» لابن أبي الخطاب، وترجمة النابغة الذبياني في الأغاني، وغيره من فطاحل الشعراء، كجرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم). •••
إذا بحثنا عن هذه الآراء في النقد وجدناها ناشئة من طبيعة العربي ومزاجه؛ لأن العربي شجاع، شديد التأثر بالكلام، سريع الغضب، لا يحب السكون كثيرا، ولا يميل إلى الهدوء، يهيج لأقل سبب، ويغضب لأدنى مناسبة، شريف النفس، لا يقبل الضيم، يضحي بكل شيء في الدفاع عن شرفه، أكثر أخلاقه ظهورا الشهامة وحب الانتقام، كانت تكفيه الكلمة يسمعها، فتهيج من نفسه، وتثير فيها حب النزال، وتؤجج حربا عوانا. على هذه الأخلاق وعلى هذا الشعور وعلى هذه الفطرة المتأججة كان مظهر آراء العربي في كل ما يفهم وفي كل ما يدرك؛ فظهر ذلك في نقده الشعر والشعراء، وتذوقه الكلام البليغ، فكان أحسن الكلام لديه أكثره أثرا في النفس وهياجا للعواطف، وأحسن الشعر ما احتوى على عبارات ضخمة وألفاظ تستولي على السامعين، وتملك من نفوسهم وتنال منهم، بقطع النظر عن كل شيء آخر؛ من أجل ذلك كان للألفاظ المنزلة الأولى في الكلام، وكان لها المكان الأول في نفس السامع، وربما كان ذلك من البواعث على استقلال كل بيت من الشعر بمعنى تام، وعلى أنه كان يكفي سماع بيت واحد يهز النفس، ويشغل الفكر، ليحكم الشاعر بأن هذا أفضل بيت قالته العرب؛ لهذا أيضا قلما اجتمع الناس على شاعر واحد يفضلونه.
1 •••
وبعد، فإما أن يكون النقد عبارة عن قضايا الغرض منها إرشاد الكتاب والشعراء إلى الطريقة المثلى في الأساليب وصناعة الكلام، وهذا هو النقد البياني - نسبة إلى علوم البيان التي هي علوم البلاغة - ويدخل تحت هذا القسم البحث في الألفاظ والأساليب، وما بها من: الاستعارة، والتشبيه، والمجاز، والمحسنات البديعية. وهذا النوع من النقد أكثر ما يكون شيوعا في النقد الأدبي عند العرب.
وإما أن يكون النقد عبارة عن البحث عما في الكتابة والشعر من الأفكار والآراء، واختيار الموضوعات واستيعابها ودقة الملاحظة في المعاني الصحيحة الاجتماعية، والغرض الذي يعود على القراء من ذلك، ثم «تحليل» النفوس الذي ذكرت أثناء الكلام - كما في القصص التي يقصد منها تصوير الطبائع ورسم النفوس الإنسانية - ثم ترتيب الكلام، ومعرفة طريقة الكاتب في الفهم والإدراك والتصور، ومقدار ما عنده من الحذق في الصناعة، وعلى الجملة كل ما له صلة بنفسه وكتاباته. وهذا هو النقد «التحليلي» وهو الذي يكشف أسرار العقول، ويوضح المؤلفات وما بها، ويظهر قيمتها الفنية ويبين منزلتها من العلوم والفنون، وأكثر ما يكون هذا النقد في الآداب الاجتماعية والفلسفية المملوءة بالآراء والأفكار وأشكال الناس وصور الحياة، وهو أقل ما يكون ظهورا في الوصف والوجدانيات. وبدون هذا النقد لا يفهم العقل السليم من العقل السقيم، ولا الكلام الصحيح من الخطأ؛ فالنقد «التحليلي» يعتبر البلاغات نتيجة من نتائج العقول والقرائح، ويبحث عن الصلة بين الكتاب والشعراء وبين حركاتهم العقلية، والمؤثرات التي دعت إلى ذلك، وذلك لا يظهر كثيرا في الشعر الوجداني المبني على الخيال الصرف.
2
أما أكبر مظاهر النقد الأدبي عند العرب فهي علوم البلاغة. ولا يكاد يوجد كتاب في النقد إلا وكان اهتمامه بشرح ما في الكلام من أنواع البيان والبديع أشد اهتمام، ولم يفرق الأدباء بين علوم البلاغة وبين النقد، فإن كتاب قدامة بن جعفر «نقد الشعر» كتاب في علوم البلاغة لا غير. على أنه معدود من كتب النقد الأدبي. وكتاب ابن رشيق «العمدة في نقد الشعر وصناعته» يدل على أن النقد كان لفظا مبهما غامضا لم يحدد معناه بعد، أو أنه لفظ عام كلفظ الأدب نفسه؛ فقد احتوى هذا الكتاب على كثير من الموضوعات المختلفة من أدب، وسير، وعلوم البلاغة، واشتمل على ذكر أيام العرب، وفيه قسم كبير في علم البيان والبديع. على أن هذا الكتاب من الكتب المعتبرة في النقد، وهو على رأي ابن خلدون «أوعى وأجمع كتاب في النقد لم يساوه قبله ولا بعده كتاب آخر.» مع أننا نرى أن كل ما فيه من النقد هو كلام عام، لا يضبط طريقة ولا يؤيد مذهبا (من هذا ما رواه ابن رشيق في أغراض الشعر وصنوفه. راجع صفحة 92، جزء2). نرى من هذا أن أدباء العرب مزجوا النقد بعلوم البلاغة، بل لم يعرفوا من النقد غير علوم البلاغة.
3
مع هذا فقد وجد من بين النقاد من كانت آراؤه صحيحة نافعة، وحام حول هذه الطرق الجديدة. ولو أن هذا النوع من النقد سار تدريجيا لوصل إلى ما وصل إليه النقد البياني من المكانة والتأثير في الأدب، فقد ابتدأ هؤلاء النقاد أن يعرفوا النقد الصحيح، وأن تكون لهم آراء خاصة، وذهبوا إلى نوع من النقد «التحليلي». ولولا أنهم كانوا لا يميلون في جملة آرائهم إلى تقليد القديم وإلى التقيد بعلوم البيان، لخطا النقد خطوة واسعة ولرقت الآداب رقيا.
هذا النوع من النقد يظهر في بعض الكتب الخاصة ببعض الشعراء، والموازنة بين بعضهم بعضا. ومن أشهر هؤلاء النقاد القاضي عبد العزيز الجرجاني (المتوفى سنة 392ه)، فقد جاء في كتابه «الوساطة بين المتنبي وخصومه» (طبع في صيدا بالشام سنة 1331) ما دل على براعته في الأدب العربي، وبشرنا بشيء جديد في النقد. وهو من أحسن وأمتع كتب النقد في بلاغة العرب؛ لما فيه من المنافع الجمة المبنية على ذكاء المؤلف نفسه، واستعداده الخاص في النقد، ودرجة فهم الكلام «وتحليله». وقد احتوى هذا الكتاب على كل ما يصح أن يخطر ببال أديب في ذلك العصر، وما يمكن أن يفيد القارئ فائدة إجمالية صحيحة عن بلاغة العرب وصناعة الشعر، ومعرفة الآراء الشهيرة فيه؛ ومثل كتاب الوساطة في موضوعه وأسلوبه النقدي كتاب «إعجاز القرآن» للقاضي الباقلاني (المتوفى سنة 413)، وهو أيضا من أفضل كتب النقد ومن أوضح الأدلة على أن النقد «التحليلي» أخذ يتسرب إلى عقول الأدباء، فقد حلل الباقلاني كثيرا من آيات القرآن الكريم تحليلا بديعا لا يكاد يوجد في غيره، ولم يعتمد في ذلك على قواعد البلاغة فقط، بل قصد إلى تحليل المعاني نفسها، وهو من أصح الكتب التي يمكن أن تتخذ نموذجا للنقد التحليلي، ولولا أنه خاص بالقرآن لكان نافعا في نشر هذه الطريقة التحليلية. على أن الباقلاني لم يخل من الغموض في كلامه واتباع الألفاظ العامة.
ولم يظهر هذا النوع من النقد في بلاغة العرب ظهور النقد البياني لقلة أتباعه، ولأن نفوس الأدباء كانت تميل إلى فهم الأساليب وشرح الألفاظ أكثر منها إلى غيره، ووجدت غير هذه الكتب كتب أخرى كثيرة، أكثرها لا يخرج عما ذكر من الطرق المعروفة، وجملة القول: أن النقد الأدبي لم ينضج عند العرب ولم يتميز من علوم البلاغة.
القدماء والمحدثون عند العرب
لا نريد هنا أن نتبع تقسيم الأدباء لشعراء العرب إلى جاهلي ومخضرم وإسلامي ومحدث، وإنما نريد أن ندرس تحت هذا العنوان ما أدرك الشعر العربي من الأطوار والانتقال من حال إلى حال؛ لنعرف إن كان هناك خلاف ظاهر أو مذاهب بلاغية أو كتابية في الشعر العربي أثناء مروره بالعصور المختلفة.
إذا تتبعنا حركة النقد الأدبي عند العرب وجدنا أن الباعث على الاشتغال بالأدب والعناية بجمع أشعار العرب، هو القرآن الكريم والمحافظة على لغته التي هي العربية الفصحى الصحيحة. ولم يظهر الإسلام دينا محمديا فقط، بل ظهر دينا عربيا جاء بكتاب عربي مبين، فنهض المسلمون نهضة دينية، ودفعهم إيمانهم بكتابهم وإخلاصهم له إلى دراسة العلوم والفنون المختلفة، ولا سيما علوم اللغة والأدب لفهم القرآن وإدراك أسراره، وتأييد معجزته الإلهية، واهتموا بذلك اهتماما فاق كل اهتمام، فجمعوا الأشعار الكثيرة الجاهلية لصحتها وخلوها من الخطأ اللغوي، واختص بذلك جماعة من الحفاظ والرواة؛ فكبرت منزلة الشعر الجاهلي في نفوسهم، وكان في الحق أن يفضلوه على غيره، وأن يجعلوه قاموسا لهم في العبارة، ونموذجا لهم في الأسلوب، وأن يتحدوا به ما عداه. وكان أكثر علماء اللغة والأدب من علماء الدين؛ فكثر تمجيدهم للقدماء، وخلطوا الغرض الديني بالغرض الأدبي، وقالوا: لا بد من اقتفاء آثار القدماء. وفهموا أن جمال الشعر القديم مبني على الاستعارة والتشبيه، فعرفوا الشعر بأنه الكلام الموزون المقفى المبني على الاستعارة والتشبيه، إلى آخر ما قالوا. وانصرفوا إلى شرح العبارات والألفاظ، وتشاجروا في حد البلاغة والفصاحة، ولم يتفقوا على شيء اتفاقهم وإجماعهم على تتبع طريقة القدماء؛ ذلك لأن اهتمامهم بالشعر كان يفوق اهتمامهم بالنثر؛ إذ احتجاجهم على صحة اللغة والمعاني كان بالشعر لا غير، وكأنهم فهموا أن أكبر مظاهر البلاغة العربية لا تظهر إلا في الشعر؛ لذلك لم يكن أثر النثر في الأدب العربي كأثر الشعر؛ ولهذا أيضا كان الشعراء أكثر من الكتاب، وكانت كتب النثر سواء في النقد أو في الأدب أقل من كتب الشعر ونقده.
ولعل السبب في الميل إلى الشعر عند العرب أن الباعث على القول في بلاغتهم هو الوجدان والخيال، وذلك أكثر ما يكون جولانا في ميادين الشعر؛ إذ النثر أظهر ما يكون في تقرير الحقائق ورسم النفوس والاجتماع، وذلك ليس من طبيعة العربي في بلاغته؛ لأن العربي - كما قلنا في غير هذا الموضع - مرتجل بطبيعته، ميال إلى البديهة. والارتجال والبديهة لا يصلحان لعمل النثر الجيد المبني على الفكر والتعقل، ومن هنا قل النثر الأدبي عند العرب فيما يظهر لنا .
مع أن كل اهتمام أدباء العرب كان موجها للشعر لا غير، فإن الذي ينظر إلى حالة الشعر العربي لا يجده تغير في جملته. وما يوجد من الفروق بين الأشعار وطرائقها في العصور المختلفة، أكثره أو كله يرجع إلى الاختلاف في الأسلوب والديباجة، وإدخال بعض الألفاظ والعبارات التي لم تكن، ثم اختلاف طرق الخيال باختلاف المنظورات؛ كالفرق بين وصف الصحراء ووصف البساتين، والفرق بين وصف الأطلال والكلام في الخمر. وهذا لا يعد من الأطوار الأدبية المعروفة؛ لأنه مبني على أصل واحد، وهو تقليد القدماء في الشعر الوجداني، فالقديم والحديث من نوع واحد، خصوصا أن الأدباء والنقاد حددوا الموضوعات وقسموها تقسيما نهائيا، ووضعوا القواعد لمن يأتي بعدهم، وحصروا أنواع الفكر والخيال فيما فكر وتخيل القدماء. وكتب النقد والبلاغة مملوءة بذلك. فلم يكن البحث إلا في الأسلوب والعبارات، وحسن الديباجة والفصاحة والبلاغة؛ لذلك قالوا عندما أرادوا أن يتكلموا على أنواع الشعر: من «الشعر الجاف المشتمل على الغريب، ومنه العذب الرقيق السهل، ومنه ما هو «كالفستق المقشر»، ومنه ما دخلته ألفاظ إسلامية، وما احتوى على ألفاظ فارسية وعبارات اقتضتها الحضارة.» وتكاد تكون هذه الملاحظات هي المذاهب الكتابية المعروفة عند العرب.
4
وهذا دليل على أنهم لم يقدروا الجديد قدره، ولم يقولوا بوجوب «التطور» والانتقال؛ فإن من عني بالمحدثين منهم لم ير لهم أثرا في غير الصناعة. قال ابن رشيق: «والعرب لا تنظر في أعطاف شعرها بأن تجنس أو تطابق أو تقابل، فتترك لفظة للفظ، أو معنى لمعنى كما يفعل المحدثون. ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته، وبسط المعنى وإبرازه، وإتقان بنية الشعر وإحكام عقد القوافي، وتلاحم الكلام بعضه ببعض.» وقال عن المحدثين أيضا: «وليس يتجه البتة أن يتأتى من الشاعر قصيدة كلها أو أكثرها متصنع من غير قصد، كالذي يأتي من أشعار حبيب والبحتري وغيرهما، وقد كانا يطلبان الصنعة ويولعان بها. فأما حبيب فيذهب إلى حزونة اللفظ، وما يملأ الأسماع منه مع التصنع المحكم طوعا وكرها، يأتي للأشياء من بعد ويطلبها بكلفة ويأخذها بقوة. وأما البحتري فكان أملح صنعة وأحسن مذهبا في الكلام، يسلك منه دماثة وسهولة، مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ، لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة، وما أعلم شاعرا أكمل ولا أعجب تصنعا من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية لطيفة، لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر، وهو عندي ألطف أصحابه شعرا وأكثرهم بديعا وافتنانا وأقربهم قوافي وأوزانا. ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب.
غير أنا لا نجد المبتدئ في طلب التصنع ومزاولة الكلام أكثر انتفاعا منه بمطالعة شعر حبيب وشعر مسلم بن الوليد لما فيهما من الفضيلة لمبتغيها؛ ولأنهما طرقا إلى الصنعة ومعرفتها طريقا سابلة، وأكثرا منها في أشعارهما تكثيرا سهلها عند الناس وجسرهم عليها. على أن مسلما أسهل شعرا من حبيب وأقل تكلفا، وهو أول من تكلف البديع من المولدين وأخذ نفسه بالصنعة، ولم يكن في الأشعار المحدثة قبل مسلم إلا النبذ اليسيرة، وهو زهير المولدين كان يبطئ في صنعته ويجيدها» (عمدة، جزء أول، ص83-85).
كل هذا يدل على أن الخلاف لم يكن في اختراع نوع جديد من أنواع الشعر الذي لم يكن عند العرب القدماء، وإنما هو في الأسلوب والديباجة والصناعة لا غير ...
5
على أن المحدثين أنفسهم لم يقولوا إنهم اقترحوا جديدا، أو جاءوا بنوع لم يكن عند العرب، وكل ما قالوه يرجع إلى الخيال الذي يرجع في جملته إلى الشعر الوجداني، ولا يدل على شيء من الأطوار الأدبية، ولا أنبئكم بباب «السرقة في الشعر» وانتشاره في كتب النقد؛ فكم أخذ الأواخر من الأوائل، وكم معنى ابتكره البدوي فأخذه عنه الحضري المحدث، وغير من لفظه لينسبه إلى نفسه. وباب السرقات طويل جدا يدل على أن المحدثين في جملتهم لم يخترعوا ولم يبتكروا. قال عبد العزيز الجرجاني في كتابه «الوساطة»: «والسرق - أيدك الله - داء قديم، وعيب عتيق. وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر ويستمد من قريحته، ويعتمد على معناه ولفظه. وكان أكثره ظاهر التوارد، الذي صدرنا بذكره الكلام، وإن تجاوز ذلك قليلا في الغموض لم يكن فيه غير اختلاف الألفاظ، ثم تسبب المحدثون إلى إخفائه بالنقل والقلب، وتغيير المنهاج والترتيب، وتكلفوا جبر ما فيه من النقص بالزيادة والتأكيد، والتعريض في حال، والتصريح في أخرى، والاحتجاج والتعليل؛ فصار أحدهم إذا أخذ معنى أضاف إليه من هذه الأمور ما لا يقصر معه عن اختراعه وإبداع مثله ... ومتى أنصفت علمت أن أهل عصرنا ثم العصر الذي بعدنا أقرب إلى المعذرة، وأبعد من المذمة؛ لأن من تقدمنا قد استغرق المعاني وسبق إليها، وأتى على معظمها، وإنما يحصل على بقايا؛ إما أن تكون تركت رغبة عنها واستهانة بها، أو لبعد مطلبها واعتياص مراميها، وتعذر الوصول إليها. ومتى أجهد أحدنا نفسه وأعمل فكره، وأتعب خاطره وذهنه في تحصيل معنى يظنه غريبا مبتدعا، أو يجد له مثالا يغضي من حسنه، ثم تصفح عنه الدواوين لم يخطئ أن يجده بعينه، أو يجد له مثلا يغضي من حسنه ...» إلخ (ص166-167).
ومع ذلك فقد لمحوا في نفوسهم الحاجة إلى التغيير والانتقال، فقال الفرزدق في شعر عمر بن أبي ربيعة: «هذا الذي كانت الشعراء تطلبه، فأخطأته وبكت الديار» (أغاني، أول، ص36). ولعل هذا أول من شعر بالحاجة إلى شيء جديد في الشعر قبل مطيع بن إياس، الذي روى خبره صاحب الأغاني، قال: قال مطيع بن إياس: جلست أنا ويحيى بن زياد إلى فتى من أهل الكوفة، كان ينسب إلى الصبوة ويكتم ذلك، ففاوضناه وأخذنا في ذكر أشعار العرب ووصفها البيد، وما أشبه ذلك فقال:
لأحسن من بيد يحار بها القطا
ومن جبلي طي ووصفكما سلعا
تلاحظ عيني عاشقين كلاهما
له مقلة في وجه صاحبه ترعى
6
كان ذلك في مدة الأمويين وفي أوائل الدولة العباسية. فلما تربع الفرس في دولة بني العباس وعلا شأنهم، أثروا في كل شيء وأثروا في الشعر أيضا. وكان يمكن أن يكون هذا الأثر سببا لانقلاب عظيم في تاريخ الشعر العربي. ولكن هذه العاصفة الآرية التي هبت من بلاد الفرس، لم توشك أن تظهر حتى ذهبت هباء في صحراء العرب، فهزم السامي الآري؛ لأن الدولة كانت له واللغة لغته والدين دينه، بل لم يكتف الآري بهذه الهزيمة حتى اندمج في السامي وأخذ عنه، وبدل أن يؤثر فيه تأثر منه. وهذه من مزايا اللغة العربية؛ فإنها لم تظهر في أمة من الأمم التي دانت بكتابها الكريم إلا أثرت في عقولها ومعلوماتها، وجذبتها إليها ومحت منها خواص لغتها، واستولت على خيالاتها وتسربت إلى لغاتها، واحتلت بحق أو بغير حق مواضع البلاغة منها؛ شأن القوي في الإنسان والحيوان والنبات؛ وذاك ما نراه حتى الآن في بلاد الفرس وفي بلاد الترك وفي بلاد البربر وفي مصر، مع ذلك ظهر أثر الفرس في الشعر العربي، فقد أراد الشعراء أن يدخلوا في الشعر العربي أثر المدنية الحديثة، وأن يخرجوا من مضيق البلاغة وفنون البيان إلى العبارات النفسية.
ولكن هذا التغير أبعدهم عن الزمن العربي الأصلي وصبغته، التي كانت تدل على الإخلاص في القول وعدم التعمل والبعد من التكلف؛ فوقعوا فيما كانوا يخشون. ولم يظهر أثر الحضري في الشعر العربي إلا في نقله من الشعر المطبوع إلى الشعر المتكلف المصنوع، فلم يوجد فيه شيئا جديدا، ولم يبتكر نوعا حديثا، وأصبح الشعر صنعة من الصناعات أكثر منه في كل عصر. وأخذ الشعراء يتناسون ما كان عند سلفهم من الشعر الصادر عن الشعور والعواطف إلى التصنع والبحث، لا في الصناعة لا غير، بل في الأفكار والخيال. حتى إن الغزل والنسيب اللذين أخذا شكلا جديدا سائغا على النفس، مع شيء من الفكاهة وخفة الروح مدة الأمويين، عند جميل بن معمر، وعمر بن أبي ربيعة، وكثير عزة، صار إلى نوع من المجون والمزح عند والبة ومن جاراه.
7
لا نقول: إن حركة المحدثين كان نصيبها الخيبة وعدم التمكن من رقي الأدب، وإيجاد نوع جديد فيه فقط، بل نزيد على ذلك أن المحدثين أبعدوا الشعر العربي عن طريقته الأولى، ومحوا منه خلتين كانتا من أكبر أسباب المتانة والجمال فيه، وهما السذاجة الطبعية والإخلاص. فقد كان الشعر الجاهلي بهذين الخلتين قريبا جدا من الشعر الاجتماعي، الذي يمثل صور النفوس وأخلاق الأمم العامة. ولكن من أسف أن المحدثين زجوا به في طريق التصنع والتعمل، وقصروه على ضرب من البراعة في الصناعة المتكلفة، وطريقة أبي تمام من المثل المضحكات في ذلك.
ولو أن حركة الشعر سارت تدريجيا كحركة النثر لصح القول بأن الشعر العربي تدرج وانتقل، واتبع قانون «النشوء والارتقاء» - كما يقولون - ككل شيء حي. ولكن ذلك أظهر ما يكون في النثر كما هو معروف، فقد كان النثر في الجاهلية عبارة عن سجعات قصيرة أشبه بالشعر، من حيث الاستقلال بمعنى تام، ولم يظهر أثره إلا في الخطب والنصائح، كخطب قس بن ساعدة وغيره، ثم ارتقى برقي الخطابة في صدر الإسلام، واتسع وزاد بالمناقشات السياسية بين الخلفاء وعمالهم ومن كان ينازعهم السلطان، وكان أول ظهور ذلك بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، ثم بين الإمام علي ومعاوية، ولو صحت نسبة نهج البلاغة لابن أبي طالب - كرم الله وجهه - لكانت خطوة النثر في نحو أربعين عاما أوسع خطوة خطتها بلاغة العرب في التقدم والارتقاء؛ لأن الفرق كبير جدا بين سجع كهان العرب وهذا الكلام البليغ الممتع. ثم أخذ النثر شكلا أوسع في آخر الدولة الأموية. أما مدة العباسيين فقد ارتقى فيها النثر ارتقاء عظيما ليس له مثيل في عصر من عصور الدولة العربية؛ إذ ظهرت فيه المقالات الطويلة في موضوعات مختلفة، وأشهر الكتاب والمؤلفين في ذلك العصر: الجاحظ وابن المقفع، وكان لكل منهما مذهب خاص وطريقة معروفة في الأسلوب، ولم يعد النثر منذ ذلك الزمن مقصورا على الخطب والرسائل. ثم انتقل إلى درجة أخرى وهي طريقة السجع والصناعة في تحسين العبارة، كما في طريقة ابن العميد والصاحب بن عباد وبديع الزمان الهمذاني، الذي اخترع فن المقامات، وأخذها عنه الحريري؛ وبذلك أخذ النثر طريقا آخر وأسلوبا جديدا يصح أن يطلق عليه من بعض الوجوه أنه نثر قصصي.
ذكرنا هذا لنبين معنى الأطوار الأدبية، وكيف تتحول وتتوالد أنواع البلاغة. وقد اخترنا أن نضرب مثلا بالنثر العربي لوضوحه وضوحا تاما لا يوجد في الشعر.
والكلام يحتاج إلى توسع نرجو أن نوفق لدراسته دراسة تامة في المستقبل إن شاء الله.
Bog aan la aqoon