Hordhac u Dirasadda Suugaanta Carabta
مقدمة لدراسة بلاغة العرب
Noocyada
والعرب في عيشتهم وحياتهم البدوية الصرفة، لم يخرجوا عن الدائرة التي وضعتهم فيها طبيعة بلادهم، ولم يروا غير هذه الصحراء الواسعة وما توحيه إلى النفوس من العظمة والهيبة والغموض الذي تضل فيه الظنون. ثم هذا البسط «اللانهائي» الذي يحمل على الظن بأن الحياة لا تتغير، وكأن الإنسان يخلق ويموت وهو على حال واحدة من العيش، وأن هذه الحياة البدوية الساذجة هي كل شيء، وأن الشجاعة والكرم والمروءة هي كل فضيلة، وكأنه ليس وراء ذلك من فخر، وكأن العصبية والإغارة على الأعداء والانتصار عليهم هي كل ما يفهم من معنى الشجاعة، وأن العربي في حريته واستقلاله أفضل إنسان وأكرم نفس وأرقى مخلوق. كذلك تكونت خيالات العربي على ما يرى وما يحيط به من حيوان ونبات، ولم يكن لديه من الفرصة ما يمكنه من معرفة أحوال الأمم الأخرى، فنشأ قانعا بما لديه، راضيا بحالته؛ لأنه ظنها أفضل وأكمل من غيرها، فلم يرغب في تغيير حالته الاجتماعية ولم يأخذ عن غيره؛ لأن ذلك لم يكن متيسرا له في حالته الأولى، ولأن الحاجة لم تحمله على ذلك؛ لاقتناعه بما لديه من كل شيء حتى في العلوم والمعارف، ولأنه كان يرى سعادته في هذه الحال، والإنسان إن لم تدفعه الحاجة لا يميل إلى العمل ولا يحب التعب. كل ذلك أثر البيئة الطبعية والاجتماعية عند العرب، وهي بنفسها التي نراها في بلاغاتهم وأشعارهم، فقد امتلأت خيالاتهم بما كان يحيط بهم، ولم تتعد أفكارهم البيئة التي كانوا يعيشون فيها، فكان إذا وصف أو شبه أحدهم شيئا أخذ خياله وفكره مما يحيط به، وذكره على سذاجته؛ لأنه كان يميل في الافتنان والصناعة إلى إلهاماته وما توحي إليه فطرته، فكانت السذاجة تظهر في كل شيء من كلام وشعر وخيال ، ومع أن هذه السذاجة البدوية هي عيب الشعر العربي؛ لأن الحقائق «العريانة» كما يقولون ليست مقبولة لدى كل نفس، ولا يتذوقها كل إنسان، خصوصا في الشعر والبلاغة؛ إذ لا بد من الافتنان في إظهار المعاني المقصودة، ولا بد أن يعتري المتفنن من الحيرة والشك في الوصول إلى أغراضه ما يحمله على البحث والتنقيب حتى يصل إلى ما يقرب من الإتقان والكمال والإبداع. مع أن هذا هو عيب الشعر العربي البدوي، فهو أيضا كل ما فيه من الجمال؛ لأن السذاجة الفطرية أو الكلام المطبوع الذي تظهر فيه طبيعة الإنسان كما هي، له نوع خاص من القبول والاستمراء، وقد تدعو هذه الحال إلى الإعجاب.
هذه السذاجة التي اكتسبها البدوي من البيئة التي يعيش فيها هي روح الشعر العربي، التي أكسبته هذه العذوبة وهذا الجمال اللذين لا يوجدان دائما في الشعر الحضري؛ لأن إطلاق العربي لنفسه العنان يقول كما توحي إليه فطرته، ويملي عليه ضميره من السذاجة المقبولة المحبوبة السائغة على النفوس، هو السر في حياة هذه البلاغة ومظهر جمالها.
1
فانظر هذه التشبيهات وأثر البيئة فيها وما رسمته في نفس الشعراء، مثل ما قال بعضهم وقد حلق رأسه:
فأصبح رأسي كالصحيرة أشرفت
عليها عقاب ثم طار عقابها
وقالوا: إن هذا البيت من المعاني المحدثة المقبولة لدى الأفكار والعقول؛ فالحال السياسية والحال الاجتماعية والحال الفكرية، لها أثر عظيم في البلاغات والأدب؛ لأنها سائرة وراء الاجتماع «حذو النعل بالنعل» كما يقول المثل العربي. وقد ظهر بعض هذه الآثار في الشعر العربي؛ لأن الشعر هو كل الأدب العربي، أو هو مجموع الصورة العامة لبلاغة العرب ولحركات أفكارهم. والبيئة الاجتماعية أقل أثرا وظهورا من البيئة الطبعية فيه؛ بدليل أن الاجتماع تغير تغيرا عظيما، وتناوبته الممالك والدول، والشعر العربي لم يتغير في جملته ولم تعتوره أطوار الاجتماع، بل كان الشاعر الحديث يسطو على المعنى القديم، فيصقله في قالب جديد من الألفاظ، ويكسوه ثوبا آخر لينسب إليه. ونحن لا نرى هذا أثرا للاجتماع، وإنما هو ضرب من رقي الخيال ؛ لأنه لا يدل على حالة الاجتماع السياسية ولا على أي نوع من حياة الأمة. وكان من الممكن أن نرى تقلبات الدول والحوادث الكثيرة التي ملأت تاريخ المسلمين ظاهرة في بلاغاتهم، ولكنا لم نر في بلاغات العرب أصدق وأدل على الاجتماع من الشعر الجاهلي؛ لأن الشعر إذ ذاك كان بمثابة الحديث والمسامرات اليومية والكلام الاعتيادي، وفي مدة الأمويين كان يدل على شيء من الحالة الاجتماعية دلالة إجمالية، وكان أثر البيئة الاجتماعية ظاهرا بعض الشيء في المدح والذم بين الشعراء، وفي قصائدهم إلى خلفاء بني أمية، ولم يكن دالا تمام الدلالة على الحياة؛ لأن هذه كانت مناقشات شخصية لأهواء شخصية، وكان أكثر ذلك ناشئا من ميل الشعراء إلى التكسب، ولم يكن في الشعراء أو لم يكد يوجد بينهم من كان ذا أغراض اجتماعية ترمي إلى إصلاح الاجتماع، أو إلى تربية الأفكار وتهذيبها. وكل ما كان من الصدق في نفوس الشعراء كان عبارة عن عواطف نفسية، يرجع أكثرها إلى شيء من العقائد الدينية أو إلى تأييد مذهب سياسي وكراهة أحد البيوتات الحاكمة؛ كما مدح الفرزدق زين العابدين في قصيدته المعروفة، عندما تظاهر بعدم معرفته هشام بن عبد الملك، لما رأى من إقبال الناس على علي بن الحسين، فقال: «من هذا الشاب الذي تبرق أسرة وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها؟» فقال الفرزدق: «هذا الذي تعرف البطحاء وطأته» ... إلخ القصيدة. ومع ذلك فقد كان الشعر مدة الأمويين أقرب إلى الجد منه إلى التسلية والمجون، وكانت لا تزال الصبغة العربية ظاهرة فيه وفي مجموع أوصافه؛ من الصراحة وحرية القول وعزة النفس وغيرها من الأخلاق العربية.
أما في زمن العباسيين فقد ظهر أثر البيئة في نوع خاص من الشعر؛ لأن بيئة خاصة أثرت في الشعر، وهي بيئة المجون واللهو والطرب، وأشهر شعراء هذا العصر كانوا من هؤلاء، كأبي نواس وبشار وابن الضحاك وغيرهم ممن أكثروا من وصف الغلمان والخمر ومجالس اللهو. وكانت هذه حال البلاغة في العصر الأول العباسي، مما لا يكاد يخرج عن التسلية والمجون ، وكانت مجالس الخلفاء والأمراء غاصة بالغناء والمغنين، وكانت الأشعار التي تغنى لا تخرج عن وصف الحب والغرام والخمر، وكانت المجامع في ذلك العصر أشبه بالجنان ونعيمها. وشجع الخلفاء والأمراء الشعراء على ذلك؛ فانكب هؤلاء على هذا النوع من الشعر الوجداني، وانتشر الغناء، وكانت مجالسه حافلة بالأدباء والشعراء (تشبه المجتمعات التمثيلية عندنا اليوم). ولم يؤثر انتشار الفلسفة في الشعر إلا في أواخر الدولة العباسية عند مثل المتنبي وأبي العلاء؛ أي عندما أخذت العقول تنضج وترقى، وترى وتفهم من الأدب غير ما كان يراه ويفهمه الأولون. غير أن هذا العصر لم يطل، ولم تكد تظهر فيه المواهب العربية وأثر الإسلام في الرقي، حتى وقفت حركة العلم والأدب، وهزمت العجمية العربية بسيلها الجارف، فوقفت حركة العقول والأفكار.
أما أبو نواس وأمثاله فكانوا شعراء وجدانيين وخلعاء متهتكين، لم يهتموا بحالة الاجتماع ولم يكن عندهم من التربية والتعليم ما يساعدهم على ذلك، ولم تدفعهم البيئة إلى هذا النوع من الشعر،
2
Bog aan la aqoon