Hordhac u Dirasadda Suugaanta Carabta
مقدمة لدراسة بلاغة العرب
Noocyada
4
هكذا فهم طائفة العلماء الأدب والبلاغة، وفسروهما على حسب فهمهم، ولم يكن هناك غيرهم من النقاد والعلماء، الذين يمكنهم أن يؤثروا في الحركة الفكرية بغير ذلك، ولا من كان لآرائهم ما لهؤلاء من القوة والسلطان على الأدب والأدباء، فزجوا بالأدب والبلاغة في هذا السبيل، وأصبح الشعر شيئا «ثانويا» كما يقولون؛ لأن هم العلماء والنقاد لم يكن متجها لفهم البلاغة فهما حقيقيا. سأل سائل أحد هؤلاء العلماء عن حد البلاغة فأجابه: «إنك إذا أردت تقرير حجة الله - تعالى - في عقول المتكلمين، وتخفيف المئونة على المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالألفاظ المستحسنة في الآذان، المقبولة عند أهل الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة من الكتاب والسنة، كنت أوتيت فصل الخطاب، واستوجبت من الله جزيل الثواب .»
5
أما الطائفة الثانية، وهي جماعة الشعراء والخلعاء، فقد كانت تتخذ البلاغة - خصوصا الشعر - آلة من آلات اللهو والطرب والاستجداء. وحسبنا أن نرجع إلى الشعر والشعراء مدة الأمويين والعباسيين، حتى عند الحكماء منهم مثل أبي الطيب وغيره، وحتى كان فهم النقاد أنفسهم للشعر فهما غريبا؛ لأنا إذا سردنا أقوالهم وآراء الأدباء، رأيناها غير محتوية على النقد «التحليلي» لمعاني الشعر، ومن يراجع مقدمة ديوان أبي نواس وكلام أبي حاتم ير كيف كانت آراء النقاد، وأنها ليست إلا ألفاظا مرصوصة غامضة المعنى، يقولها كل إنسان، ليس فيها شيء من النقد الصحيح. وأبو حاتم السجستاني توفي في أواسط القرن الثالث الهجري؛ أي إبان نضوج العلم والأدب عند العرب، فالذنب ليس على الشعراء ولا على الكتاب في ذلك؛ لأنهم كتبوا ونظموا كثيرا وقالوا في كل شيء، وطرقوا كل باب أوحت إليهم به نفوسهم وقرائحهم. ولكن حركة النقد لم تكن لديها القوة التي كانت تمكنها من الحكم على الآراء، وقود الحركة الفكرية، ونقل الأدب والبلاغة إلى طريق اجتماعي أفيد وأمتن وأفضل مما سارت فيه، بل ساعدت على وقوف البلاغة من شعر ونثر، فلم تصل البلاغة العربية من التأثير في الاجتماع والتأثر منه إلى ما وصلت إليه بلاغات الأمم الأخرى.
ونعود فنقول: لو وهب الله الأدب العربي من النقاد ما نبه العقول إلى فهم البلاغة فهما اجتماعيا، وبحث فيها مباحث اجتماعية، وبين أنها عامل من عوامل الاجتماع، لكانت في نوعها أحسن بلاغة وأمتعها؛ لما للغة العربية من الميزة في الغناء وضروب التعبير، وجمال القول، ومتانة الأسلوب، خصوصا الصناعة اللفظية التي لا توجد في لغة أخرى.
إن كل حركة ظهرت في بلاغات الأمم الأخرى، ونقلتها من حال إلى حال، كان منشؤها آراء النقاد وأفكارهم وإرشاداتهم، كحركة الكتابة التي ظهرت في أوروبا أثناء القرن التاسع عشر، فقادت الأدباء إلى الطرق المختلفة، وأوجدت الأطوار الأدبية المعروفة.
تبعة الشعراء والكتاب
الحوادث المختلفة واستعداد الأمم الفكري، لهما أثر عظيم في سير البلاغة والأدب ومساعدتهما على الرقي؛ لأن ذلك أثر من آثار الاجتماع ، وللكتاب أثر آخر في الاجتماع، أو في الرأي العام، ليس أقل من أثر الاجتماع في البلاغة؛ وعلى ذلك نرى مقدار التبعة التي تقع على قواد الحركة الفكرية والنقاد الذين بيدهم زمام العقول، وما أشد هذه التبعة على الكاتب أو الشاعر! ولا سيما إذا كان فائق البراعة في طريق الإفهام، وفي الاستيلاء على نفوس القراء ومعرفة امتلاك الأفكار، فقد يكفي أن يصل الكاتب إلى درجة خاصة من البلاغة؛ ليتمكن من قيادة النفوس إلى ما يريد، وحملها على اعتقاد المعنى الذي قصد. مثل هذا الكاتب قد يكون خطرا عظيما على الاجتماع، إذا كان في آرائه شيء من الخطأ، أو في مذهبه ما يخالف الإصلاح، كما أنه قد يصلح من النفوس ما لا تتمكن الحكومات بقوتها من إصلاحه، ويساعد على تقويم الأخلاق وعلى نشر الأفكار الصحيحة، وعلى ارتقاء المدنية وعلى توضيح المسائل الاجتماعية الكبرى، وعلى استنارة العقول وتثقيفها. ولكن هذه القوة هي ما يخشى منه على الاجتماع، وهي ما تحمل كثيرا من الخلقيين على الخوف من أثرها لما في عقول بعض الكتاب من الأفكار التي قد تؤثر في نفوس القراء أثرا غير محمود، بواسطة براعة الكاتب في جعل الصور التي يذكرها في شعره أو قصته أمرا مقبولا وأجدر بالاقتداء، فهذه البراعة نفسها كما أنها تدل على عبقرية الكاتب تدعو إلى الخوف منه، فتكون من أكبر العيوب لديه؛ ولذلك ذم كثير من الخلقيين الشعر، وخافوا من أثره وحذروا منه.
وفي الحق إن جناية البلاغة على الأخلاق قد يكون خطرها عظيما. ولكن لا بد من الفرق بين الفنون وتقويم الأخلاق؛ إذ ليس من غرض الفنون تقويم الأخلاق لأنها تقصد إلى إظهار الجمال بأي شكل كان، وعلى أي طريقة كانت، وعلى كتب الأخلاق تقويم النفوس وتربيتها، وإلا لو أخذنا على البلاغات ما فيها من ضروب الغزل والمجون؛ لوجب أن نحذف منها نحو نصفها. وهل نجد الآن قصة أو رواية تمثيلية بدون أن يكون للحب فيها أثر كبير؟ ذلك لأن تحريك هذه العاطفة من أكبر الدواعي لحمل الناس على القراءة ودرس أفكار الكاتب وأغراض الكتابة، كما رأى ذلك ابن قتيبة في مقدمة «الشعر والشعراء» إذ قال: «لأن النسيب قريب من النفوس، لايط بالقلوب؛ لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقا منه بسبب، وضاربا فيه بسهم حلال أو حرام.»
يقول الفقهاء: لا حياء في الدين. ويلزم أن يقول الأدباء والكتاب والشعراء والفنيون: لا حياء في الفنون. كما يجب أن يقول العلماء: لا حياء في العلم؛ فإن الله - تعالى - خلق الإنسان وخلق له أنواع الجمال يتمتع بها، وتوحى إليه من الأفكار والخيالات ما قد يساعد على عبقريته، كما أنه خلق له الخير والشر، ووهب له عقلا يميز به الخبيث من الطيب، وترك له الحرية المطلقة في اتباع الطريقين، وبين له سوء العاقبة وحسن المآب، فكما أن العلم والفلسفة يبحثان عن حقائق الأشياء بأي وسيلة، كذلك الفنون الجميلة تبحث عن إظهار الجمال بأي وسيلة، وأي طريقة كانت؛ لأنها سر من أسرار الحياة، وسبب من أسباب ترقية العواطف والنفوس؛ إذ النفوس التي لا تعشق الجمال ينقصها كثير من فهم الحياة؛ لأنها لا تدرك ما يحيط بها من جمال الكون الذي هو أبدع شيء في الوجود.
Bog aan la aqoon