وجعل نساء القصر يعبثن به، ويرمينه بكل لفظ شائن، وسباب جارح، وإنما نلن منه بسبب تلك القصيدة التي هجا بها اعتماد وغيرها من أميرات القصر، ثم أمر به فأحضر إلى إشبيلية بين هزء الجمهور وسبابهم وسخريتهم ولعناتهم، وجعل في غرفة على باب قصر المعتمد المعروف «بالمبارك» طال فيه حبسه واعتقاله، ومع كل هذا فقد مرت عليه ظروف كان يؤمل فيها أن ينال عفو المعتمد والراشد ابنه هو الذي كان يفتح أمامه طريق الأمل، وقد رق له هذا الأمير وعطف عليه لكثرة ما كان يبعثه إليه من قصائد يحشوها بالتنصل والاعتذار، وكثيرا ما كانت ترد الرسائل إلى المعتمد من الراشد وغيره من رجال الدولة في طلب العفو عنه، وهو الذي كان يحفزهم بما كان يكتبه إليهم وهو في سجنه، إلى أن ثقل على المعتمد كثرة ما يرد عليه من الرسائل، فأمر أن يمنع عنه ما يتمكن به من الكتابة، وقد أعطي - بأمر المعتمد - ورقتين كان طلبهما، كتب في إحداهما قصيدته المشهورة التي يتوسل بها إليه، وقد رفعت إليه في المساء عقب الانتهاء من وليمة، ولما أنشدت بين يديه أدركته عليه رقة، فأمر به فأتي به إليه ليلا وهو في بعض مجالس أنسه، فجاء يرسف في قيوده، فجعل يعدد عليه مننه ويعيب عليه من جديد إنكار الجميل، وجحود النعمة، فما كان جوابه إلا البكاء، وهملان الدمع، واجتلاب كل ألفاظ الرقة، وكل ما يمكن أن يزرع في قلب المعتمد الرأفة والحنان، فما زال به يستعطفه حتى عطفته عليه سابقته، وما كان بينهما من قديم الصداقة والصحبة، وخاطبه بكلام يدل على الصفح تلويحا، ولا يدل عليه تصريحا، فاطمأن بعض الشيء، ولم يدر أنه كان مخدوعا في شعور المعتمد نحوه، فهو وإن كان محتفظا ببعض الذكريات القديمة التي تعطفه عليه، وتجعله يرثي لحاله إلا أن هناك مسافة بعيدة بين ما هو ميل وعطف، وبين ما هو عفو وصفح، وقوي عنده الظن خطأ في أن الحظ سيواتيه، وأن السعادة ستعاوده، ولم يستطع أن يكتم سروره، فبعث بكتاب إلى الراضي يخبره فيه أن المعتمد قد وعده بالخلاص. •••
وكان بحضرة الراضي - حين وصل إليه الكتاب - قوم يكرهون ابن عمار ويضمرون له الشر، وسرعان ما ذاع الخبر في المدينة، وعرفه ابن عيسى وابن زيدون من وزراء المعتمد وكثر المرجفون وابن زيدون واجم مشرد الفكر، قد بات ليلته تلك ضيق الصدر، يخشى أن يتحقق الخبر، فتسقط منزلته ويكون لابن عمار المحل الأول من الاعتبار، لا بل هو الموت عنده، وفي صباح ليلته هذه لم يستطع أن يذهب إلى القصر كعادته في الوقت المحدد، إلى أن أرسل إليه المعتمد فدخل القصر، واستقبل أحسن استقبال، فسري عنه حين علم أن المعتمد لا يزال ناقما على ابن عمار وأن موقفه بإزائه لم يتغير، وقد كثر الإرجاف، وتوالت الإشاعات حول ما دار بين المعتمد وابن عمار ونشروه في المدينة أقبح نشر، وعلقوا عليه بزيادات قبيحة أحفظت المعتمد، فأرسل لابن عمار، وقال له: «هل أخبرت أحدا بما كان بيني وبينك البارحة؟»
فأنكر ابن عمار كل الإنكار، فقال المعتمد لأحد خصيانه: اذهب إليه، وقل له: «الحديث الذي دار بيني وبينك أمس كان بيننا سرا مكتتما، فما الذي أذاعه في الخارج؟»
فذهب إليه الخصي وعاد يقول: «يصر ابن عمار على إنكاره، ويقول إنه لم يقل لأحد شيئا.» فقال المعتمد: عد إليه، وقل له: «الورقتان اللتان طلبتهما أمس كتبت في إحداهما القصيدة، فماذا صنعت بالأخرى؟»
فعاد الخصي وقال: «يقول: إنه سود فيها القصيدة.»
فقال المعتمد: «علي بالمسودة إذن!» •••
وهنا لم يستطع ابن عمار أن يتمادى في إنكاره، بل قال بصوت متهدج تخنقه العبرة: «الورقة الأخرى كتبت فيها إلى مولاي الراضي أذكر له فيها ما وعدني به مولانا الملك من الإفراج عني.»
وعلى أثر هذا الاعتراف الرهيب غلا الدم في عروق المعتمد، وقام مغضبا، وصعد إليه وبيده أداة قاتلة من آلات الحرب كان أهداها له الأذفونش فلما عاينه ابن عمار على هذه الحال من الغضب والثورة العصبية أيقن أنه لا شك قاتله، فزحف وقيوده تثقله إلى أن ارتمى على قدمي المعتمد يقبلهما، ويبللهما بدموعه. •••
ولم تكن الشفقة لتعرف إلى قلبه سبيلا، فعلاه بالسلاح في يده، ولم يزل يضربه حتى برد.
هذه هي الفاجعة الأليمة التي ختمت بها حياة ابن عمار وقد أثرت هذه الكائنة المحزنة أثرها في إسبانيا العربية.
Bog aan la aqoon