واتصلت هذه الأشعار بالمعتمد فضاعفت حنقه عليه، وحفزته لأن ينظم في ابن عمار شعرا هازئا صاخبا يذكر فيه أوليته، ويقارن بين حاله في أيام بؤسه وخموله، وحاله الآن وقد وصل إلى درجة ينازع فيها ولي نعمته السلطان، وسر بنو عبد العزيز بهذه القصيدة سرورا لا يقدر، أما ابن عمار فاغتم لذلك غما شديدا، وبدأ من فوره ينظم شعرا يناقض فيه شعر المعتمد حشاه بالهجاء والمثالب وعرض فيه لشأن المعتمد مع اعتماد وقذف زوجاته، وكشف عن عيوبه وفضائحه، ولم يطلع أحدا على هذه القصيدة التي نظمها وهو في ثورة غضبه سوى نفر من أصدقائه الذين يثق بهم ومن بينهم يهودي يتجسس لابن عبد العزيز كان يثق به أيضا، ولم يكن متهما عنده.
وقد حصل اليهودي بأيسر كلفة وأقل عناء على نسخة من القصيدة مكتوبة بنفس خط ابن عمار وقدمها للأمير صاحب بلنسية وهذا كتب في الحال كتابا إلى المعتمد من طيه القصيدة، وأرسله إليه بواسطة الحمام الزاجل. •••
ومن هذه اللحظة التي اطلع فيها المعتمد على الرسالة والقصيدة أصبح التوفيق بينهما أمرا مستحيلا، فلا المعتمد ولا اعتماد ولا بنوهما في مكنتهم جميعا أن يغتفروا لابن عمار هذه السقطة التي كبا فيها كبوة لا قيام له بعدها، وعثر عثرة لا يقيله منها أحد، ومن ذا الذي يستطيع أن يمحو عار ذلك السباب الجارح، والعهر الفاحش، وقد حان حين ابن عمار وجاء وقت الاقتصاص منه، وليس المعتمد هو الذي يباشر الاقتصاص منه بنفسه، بل هناك آخرون قد تعهدوا له بذلك وهم له بالمرصاد.
وانصرف ابن عمار إلى مباهجه ولذاته، ولم يكن ليكترث للأمر أو يفطن لما يدور حوله، أو يقدر في حسابه أن ابن رشيق سيقلب له ظهر المجن، ويخونه بمساعدة خصمه العنيف ملك بلنسية وقد ثاب إلى رشده وفطن للأمر، ولكن بعد أن فاتت الفرصة، ومضى الوقت، فلم يشعر إلا والجند - بتحريض ابن رشيق - جاءوا في حال هياج وثورة وصخب مطالبين بأعطياتهم المتأخرة، ولم يكن في استطاعة ابن عمار في هذا الظرف أن يشبع نهمتهم، أو يجيبهم إلى ما طلبوه، فتوعدوه بتسليمه إلى المعتمد إذا هو عجز عن الوفاء لهم بما يطلبون، وهنا عرته رجفة، وأيقن بالهلاك، ولم ير بدا أمام هذا التهديد والوعيد إلا أن يفلت من أيديهم، ويسارع إلى اللياذ بالفرار.
والتجأ - بعد فراره - إلى الأذفونش ليحتمي به، وليجد منه عونا على فتح بلنسية وقد ظهر له أنه كان واهما فيما قدره، بعد أن خيب الأذفونش أمله، وجعل كلامه دبر أذنه، وبان له أن ميله إلى جانب ابن رشيق كان لقاء الأموال والهدايا التي قدمها له، وقد كاشفه الأذفونش بقوله: «أنا لا أرى فيكم إلا أنكم جماعة لصوص، فاللص الأول قد سرق، وجاء الثاني فسرق من الأول ما سرقه، وجاء الثالث فسلب من الثاني ما سرقه من الأول.» •••
لم ير ابن عمار أن أمله يتحقق في ليون فتحول إلى سرقسطة وهناك اتصل بخدمة صاحبها المقتدر ولكنه لم ير في قصره - من الروعة وأبهة الملك - ما كان يراه في قصر إشبيلية فأنف من البقاء هناك، وزهد في عمل يغض من مركزه السياسي، ويحط من قيمته الاجتماعية، فمضى إلى «لاردة» حيث يقوم على الحكم المظفر شقيق المقتدر فقوبل بحفاوة بالغة، ثم بدا له أنه سيكون في «لاردة» أكثر عزلة وانقطاعا عن العالم الخارجي، فعاد إلى سرقسطة حيث خلف المؤتمن أباه المقتدر على عرش المملكة. •••
هذا الاضطراب والتقلقل أورث ابن عمار كثيرا من الملل والسآمة، وجعله يشعر بالفشل، وخيبة الأمل، وتركه ينظر إلى حاضره ومستقبله، وقد جلله سوء الطالع بسحابة سوداء مظلمة، فكان يتلمس - في تضاعيف هذه الأوقات المنكودة، والساعات المنحوسة - لحظة مريحة يطرد بها عن نفسه الفتور والألم، ويزايل فيها الكسل والملل، وعرف أن أحد أصحاب الحصون امتنع في حصنه، وتمرد على المؤتمن فطلب منه أن يعهد إليه في إخضاعه وقهره فخرج في سرية قليلة من الفرسان، ووصل إلى الحصن، وكان منيعا لقيامه على قمة جبل، فراسل صاحب الحصن، ورجاه أن يسمح له بدخول الحصن هو ورجلان من خدمه، ولم يشك صاحب الحصن في حسن نيته، ولم يسئ به الظن، وكان ابن عمار قد أوعز إلى تابعيه أنهما إذا عاينا صاحب القصر يصافحه ويماشيه جنبا لجنب، سارعا إليه فأغمدا في صدره سيفيهما، وتمت الحيلة وقتل صاحب القصر، وسلم الجناة من إلقاء التبعة عليهم، وسر المؤتمن من ذلك سرورا لا يقدر، وأراد ابن عمار أن يضيف إلى هذه الفتكة فتكة أخرى، يجدد فيها حمى نشاطه السياسي، فظن أنه بنفس هذا الأسلوب الوحشي المنطوي على الختل والغدر يكفل للمؤتمن أن يستولي على «شقورة».
وكانت هذه القلعة أشد مناعة من سابقتها، لقيامها على قمة جبل يتعذر تسلقه، ولمناعتها، وتوعر طريق الوصول إليها، احتفظت باستقلالها، بينما نرى المقتدر قد استولى على دانية التي امتلكها سراج الدولة ردحا من الزمن، ولما قضى نحبه أراد بنو سهيل وهم الأوصياء على بنيه، أن يساوموا في «شقورة» ويعطوها لبعض الملوك المجاورين، فعهد ابن عمار إلى المؤتمن أن يستخلصها له بنفس الطريقة التي استخلص بها الحصن المتقدم، ولتنفيذ هذه الخطة الخطرة سار هو وثلة من الجند إلى بني سهيل، وطلب منهم أن يسمحوا بمقابلته، ولكن عوضا عن أن يوقعهم في الشرك الذي نصبه لهم، فقد قدر له أن يقع هو نفسه في ذلك الشرك، وذلك لأن أولئك النفر ممن أساء إليهم ابن عمار في مرسية وناصبهم وقومهم العداء.
وطريق الوصول إلى هذا الحصن المنيع كان كثير الوعورة والتعرج، وإذا بلغه أحد فلا بد أن يستعين على الوصول إليه، والاستقرار في داخله بقوة ساعديه، وقد وصل ابن عامر وشريكاه في المغامرة الأولى إلى ذلك المكان الرهيب الخطر، وفي أقل من ارتداد الطرف جذبوه إلى أعلى الحصن، وما كادت تستقر قدماه على الأرض حتى أحاط به الجند، وصاحوا بزميليه أن يجدا في الهرب، وإلا قتلهما الرماة بالسهم، فانحدرا مسرعين، وطفقا يعدوان حتى أتيا سرقسطة وأبلغا الجند أن ابن عمار وقع أسيرا، فركبوا يبغون نجدته، ولكنهم وجدوا المكان صعب المرتقى، ورأوا الحصن أمنع من عقاب الجو، فعادوا من حيث أتوا، بعد أن أيقنوا أنه لا سبيل إلى نجدته وإنقاذه من مخالب أعدائه بني سهيل الذين اعتقلوه في الحصن، وأودعوه في غيابات سجن لا خلاص له منه، وبقي على سوم الشراء لديهم حتى يبذل في فك اعتقاله من ملوك وقته من يدفع أغلى ثمن، وكان المعتمد هو الذي غالى في دفع ثمنه، وتمت له الصفقة فيه، فأرسل ابنه الراضي في جماعة من الحرس لأخذه من صاحب «شقورة» وأمرهم أن يبالغوا في الاحتياط حتى لا يفلت من أيديهم، وجاءوا به إلى قرطبة أسيرا، ودخلها الوزير التاعس مكبلا بالسلاسل والأغلال حاسر الرأس منزوع العمامة، وقد أركبوه بغلا بين عدلي تبن، وبعد أن طافوا به في أنحاء المدينة على هذه الحال من التعاسة والسخرية، أدخلوه القصر حيث مثل بين يدي المعتمد فانهال عليه لوما وتقريعا، وإقذاعا وسبا، وأخذ يعدد أياديه عليه، ويحصي عليه جرائمه وهو مطرق الرأس، لا ينبس ببنت شفة، إلى أن فرغ المعتمد من كلامه، فكان من جواب ابن عمار أن قال: «لا أنكر شيئا مما يقوله مولاي، ولو أنكرته لشهدت علي به الجمادات، فضلا عمن ينطق، ولكن عثرت فأقل، وزللت فاصفح.»
فقال المعتمد: «هيهات! إنها عثرة لا تقال، وزلة لا تمحى.» •••
Bog aan la aqoon