ذكر ما في هذه السنة بالشام
قال: وقعت المنافسة بين الحلبيين مدبري الملك الصالح واستولى على أمره ابن العجمي أبو صالح، وكان مرهوب الشداة مشبوب الشباه مخوف البطش مخشي النهش ولا يلزم طوره ولا يعرف أحد غوره ولا يرض أمرا فوق أمره ولا يريد إلا الاستبداد بخيره وشره.
وكان سعد الدين كمشتكين الخادم مقدم العسكر وأمير المعشر وكبير المحشر وهو صاحب حصن حارم وقد حسده أمثاله من الأمراء لأنه مستقل بالإدارة فسلموا للعدل الاستبداد والتمكين من منافسة كمشتكين فصار يبرئ ويقسط ويرفع ويحط وبرأيه يتسلط وفي المخاوف يتهور ويتورط فقفزت عليه الإسماعيلية في جامع حلب بعد الصلاة وفجعوه في الحياة وشغلوه بمرارة المنون عن المنى الحلوة المشتاة.
ومن بعده انبسط كمشتكين بعد انكماشه، واغتر بوفور ريشه ورياشه، وترك المبالاة بأوشاب الملك وأوباشه فقالوا هو الذي قتل العدل وحسن للإسماعيلية الفتك به والقتل، وحسنوا للملك الصالح وهو صبي وعلموه وهو غبي وقالوا: أنت السلطان ولا حكم إلا لك وقد استكملت الحجر ارفع عنك الحجر وهذا كمشتكين يحتقرك وأنت كثير ويستصغرك وأنت كبير وبالأمس تقلد وزر وزيرك وأشار بالفتك بمشيرك، ومازالوا به حتى بسطوا يده على قبض المذكور وطالبوه بتسليم قلعة حارم وارتكبوا في تعذيبه المحارم فكتب إلى نوابه بها فنبوا وأصروا على الامتناع وأبوا فحملوه ووقفوا به تحت القلعة فلما طال أمه قصر عمره فتركوا رقبته وفكوا رقبته واستبد الصغار بعده بالأمور الكبار وامتنعت القلعة عليه ونزل عليها الفرنج ودافع عليها الكمشتكينية ولزموا في حفظها النخوة والحمية ثم رحل الفرنج عنها بقطيعة بذلها لهم الملك الصالح، ونزل أصحاب كمشتكين عنها وهم رزايا طلايح، وولى بها مملوكا لأبيه يسمى سرخك.
ذكر نزول الفرنج على حماه يوم الأحد العشرين من جمادى الأولى ورحيلهم عنها بعد أربعة أيام
قال: قد وصل في هذه السنة إلى الساحل من البحر كند كبير يقال له كند أفكنت من اكبر طواغيت الكفر. ونايب السلطان بدمشق أخوه الملك المعظم شمس الدين فخر الدين تورانشاه وقد بذل الفرنج ما آمنت به البلاد من معراتهم وسلمت الغلات من غاراتهم، وهو خايض في أمره وانفاد غايض في بحر ملاذه، واشتغل كل من الأمراء في ثغره بهزله وجده وبدا للكافر الواصل ضعف العاقل وخلوها من الجند المقاتل ومن جمله شروط هدنة الفرنج إنهم إذا وصل لهم ملك كبير ما لهم في دفعه تدبير إنهم يعاونونه ولا يباينونه ويحالفونه ولا يخالفونه فا ذا عادت الهدنة كما كانت وبحكم هذا الشرط حشدوا الجنود وجندوا الحشود.
ونزلوا على حماه في العشرين من جمادى الأولى وصاحبها شهاب الدين محمود محموم، والملك بمرضه مهموم مغموم. وكان سيف الدين على بن احمد المشطوب بالقرب فدخلها وخرج للحرب، واجتمع إليه رجال الطعن والضرب وجرت ضروب من الحروب، وكاد الفرنج تهجم على البلد فأخرجوهم من الدروب وواصلوا الاشتجار وقطعوا الأشجار، وكشفوا الأسوار وابعدوا (١٩١ أ) في الإنجاد والأغوار، فأعجزهم القدر الغالب وتجمعت على كتبهم الكتايب، وهم في كل يوم يقلون، والمسلون يكثرون ثم سقطت مهابتهم فما صدقوا كيف يرحلون، فكسفت أدبارهم وكسحت آثارهم وكثر قتلهم واسارهم ثم تجمعوا بعد حين ونزلوا على حارم وقالوا رجالها على صاحب حلب عاصية، وهي من نجدة المسلمين قاصية، وصاحبهم قد قتل وهم موتورون فحاصروهم شهرين وجرح أكثر من في الحصن وغلب وهن الوهن.
ثم تسامع الحلبيون برحيلنا من مصر لقصد الشام، وقالوا أول ما يصل صلاح الدين يتسلم حارم فراسلوا الفرنج وارهبوهم وقالوا صلاح الدين واصل فتنازلوا عن النزال بما قرروه من قطيعة المال وعدة من الاسارى فرسان القتال ورحل الفرنج وما انفصلوا عن حارم إلا بعد انفصالنا عن مصر.
وأما الحلبيون فإنهم راسلوا من بقي بحارم، وقد قتل وجرح مقاتلوهم، ولما فرج الله عنهم تركوا في طاعة الله العصيان، وخرجوا، ومضى كل واحد في طريقه (وحصلت القلعة للحلبيين» .
1 / 56