ثم غنى الشيخ بصوت خشن مطلعه، إن لم يزدني بادئ الرأي يقينا بما قدرت، فقد أمسك علي بعض هذا اليقين، على أنني من باب المجاملة، التي جرت بها العادة، كنت أتكلف إظهار شيء من أمارات الاستجادة والاستحسان، وشهد الله ما بقلبي من هذه الاستجادة وذلك الاستحسان كثير ولا قليل!
ثم لم يرعني إلا أن يبعث انتباهي ما كان يصيب الرجل في تصرفه من فنون النغم، وهي على أنها طريفة جديدة، إلا أن طرافتها وجدتها لا تنبو بها عن السمع، ولا تخرج بها عن آفاق الذوق، فكنت أحيل الأمر على محض المصادفة، وهذا لقد يقع لكثير ممن لا كفاية لهم في صناعة الغناء ولا سداد.
ثم راح يرجع مقطوعة في تلحين يستوقف السمع بطرافته وحسن سبكه، فسألته عن ملحنها، فزعم أن ذلك من صنعته، فأوقع التعصب في نفسي أن الأمر لا يعدو إحدى اثنتين: فإما أن الرجل ينتحل ما ليس له، أو أنها كانت منه بيضة الديك كما يقولون.
ثم تفرقنا على موعد، فلما كانت الليلة الثانية رفع لي من الرجل قدر، وصح عندي أنه ممن يحسن الإقبال عليه والإصغاء إلى غنائه، ثم كانت ليلة ثالثة، فرابعة فخامسة، وهو في كل ليلة يزداد عندي قدرا على قدر، ويرجح وزنا على وزن، حتى لقد استطاع في بضع ليال أن يغزو كل تعصبي غزوا، ويقتاد كل سمعي وكل ذوقي لفنه الجليل أسيرا. •••
ولقد كنت ممن حسنوا للشيخ سيد التحول إلى القاهرة، ففيها متسع لقدره، فهي عاصمة البلاد، وفيها فحول المغنين وحذاق أهل الفن، وبعد لأي فعل، واتصل من فوره بنادي الموسيقى، وكان حضرة رئيسه قد سمعه من قبل في الإسكندرية، فقدره وأعجب بكفايته.
وعلى كل حال، فإذا كان سيد درويش يوم مهبطه القاهرة مقدورا فيها من خمسة نفر أو ستة، فلقد كان يومئذ مغمورا عند عامة أصحاب الغناء وأسبابه بوجه خاص، وعند جمهرة الناس بوجه عام!
ليت شعري: كم سنة كان ينبغي أن يقضي هذا الفتى في نضال وكفاح حتى يدرك حظه، ويرتفع صيته، ويسلم له مشيخة أهل الفن بمكان الإمامة، ويعقدوا له لواء الزعامة؟ وأنتم أدرى بأن خلال الغيرة والحسد والحقد قل أن تجد لها مرعى أخصب من صدور أصحاب الفنون، ولكن اسمعوا! اسمعوا!
لم يمض على مهبط هذا الفتى بضعة أشهر حتى رأيته يغني في «كازينو» البسفور ومن حوله أحذق العازفين وأجلهم في مصر قدرا، ووقف بين يدي «تخته» أئمة الفن من أقطاب نادي الموسيقى، وهو يغني صوتا (دورا) من تلحينه، ولعله كان من نظمه أيضا: يغني ويتصرف، ويعلو ويهبط، ويتيامن ويتياسر، ويخرج من فن إلى فن، ويتعطف من نغم إلى نغم، ويلم بالقديم، ثم يميل إلى ما أبدع من الحديث، وكل أولئك يفعله في خفة ولباقة وقوة صنعة وروعة أداء، وترى القوم وقد أمسكوا كلهم رهن بيانه، وطوع بنانه، وكأنه فيهم «دكتاتور» قد خلص له وجه السلطان كله، لا اعتراض لقوله، ولا تعقيب لإشارته، وما شاء الله كان!
أسلوبه وصنعته
سيداتي، سادتي
Bog aan la aqoon