في إحدى سني الحرب العامة كنت أقضي شطرا من الصيف في الإسكندرية، ولي صديق سري من أهل القاهرة يقضي الصيف كذلك هناك، فدعاني ذات عشية إلى داره، وأخبرني أنه سمع بشاب من أهل الإسكندرية يجيد الغناء، وأنه قد وصفه له فلان، وأحسن القول فيه، فأرسل في دعوته ليسمعنا شيئا، فانقبضت ووجمت، وكان لهذا مني سبب قوي، فقد رمينا في عامنا ذلكم بكثير ممن يتكلفون الغناء، هواة ومحترفين، وتقدمتهم ألوان المبالغات، فلم نخرج منهم إلا بصك الآذان وتعكير الأذواق، وهممت أكثر من مرة بالانصراف، وصديقي يمسكني، ويعالج تبرمي بفنون التبصير والتعليل!
شكله ودله
ثم أقبل علينا فلان هذا ومعه شيخ معمم، مستدير الوجه، أسمر اللون، مليح العينين، في أنفه شيء من الفطس، وفي فمه قليل من الفوه، وهو يميل إلى الطول، غير بادن الجسم وإن كان مكتنز اللحم ، نظيف الثوب، يتأنق في ثيابه برغم ما يبدو عليه من رقة الحال، وهو في الجملة مقبول الخلق والشكل، لا تنقبض النفس دونه، فإذا داخلته بالحديث وباسطته في السمر، تكشف لك عن عذوبة نفس، وظرف طبع، وخفة روح، وحضور ذهن، وإصابة في القول، وأدب إيماءة وخطاب، فسرعان ما تهفو نفسك إليه، وتحسها قد تهافتت من فورها عليه!
هذه هي الصورة التي جليت علي لسيد درويش في أول مجلس جمع بيني وبينه، ولكن بقي الغناء! ... ويا ويلي مما سألقى من هذا الغناء، أو على الصحيح من هذا العناء، وصدق من قال: من لسعته الحية خاف من الحبل!
سيداتي، سادتي
من حق هذا الشعور الذي جلوته عليكم، شعور الكراهية بظهر الغيب، لاستماع غناء هذا الرجل أن يلفت الذهن إلى أمرين حقيقين بالنظر والتدبير: (1)
أنه إذا ساغ للمرء أن يصانع في الضرورات، بل لقد يجب عليه ذلك في بعض الأحيان، فإنه لا ينبغي له مطلقا أن يصانع في الكماليات، فلقد تقضي عليه الضرورة بأن يتبلغ بكسرة الخبز اليابس ليدفع ألم الجوع، وقد يشرب الماء الآسن ليمسك عليه نفسه، أما أن يطلب الترفيه والتلذيذ فيقعد لسماع صوت ناشز على السمع، في صنعة نابية عن الطبع، فذلك ما لا يسوغ، لأن تركه خير من تناوله. (2)
أن الإنسان متعصب بالطبع، لقد تسبق إلى نفسه كراهة الشيء، لا لعلة واضحة، ولا لحجة ناصحة؛ بل لقد يدخل عليه هذا لمحض حدس أو سوء تقدير، فما يزال كارها له نافرا منه، حتى ما يطيق أن يسمع فيه قولا معروفا، ولو قد طرح تعصبه، وأقبل عليه مخلصا صادق الوزن نزيه الحكم، فلربما تغير رأيه فيه، فأحبه وآثره، وأنزله من هواه أكرم المنازل، وأغلب الظن أنه لو أخذ الناس نفوسهم بهذا في تناول الأشياء وبحثها والحكم عليها، لخف كثير من هذه الأحقاد المذهبية والحزبية المتفشية في جميع بلاد العالم في طول الزمان!
سيداتي، سادتي
دعي للشيخ بعود فجسه وأصلحه، وجعل يعزف عليه وأنا مشغول عن الإصغاء إليه بما ملكني من التبرم والتكره لما سنرجم به في ليلتنا من سمج الغناء، متجه بالرغبة إلى الله تعالى في ألا يطيل مدته، إذا لم يكتب لي من هذا المجلس الفرار.
Bog aan la aqoon