مثل ذلك يقال عن فشلهم في الوصول في الوقت المناسب لما وراء النهر، وعن عدم انتفاعهم من ضعف إمارة موسكو لتثبيت أقدامهم في المناطق شمالي البحر الأسود، ولم تحاول الدولة العثمانية - فيما نعلم - أن تنتفع من امتلاكها أقصر الطرق بين الشرق وأوروبا للمشاركة في الحركة التجارية الكبيرة، ولكنها على العكس كانت تعمل على أن يكفي العالم العثماني نفسه بنفسه، وأن يقل الاتصال بينه وبين بقية الدنيا بقدر الإمكان.
وإذا بحثنا عن سر رضا العثمانيين عن أنفسهم واطمئنانهم إلى ما هم عليه نجده في نجاحهم الباهر في إنشاء أداة قوية للحكم والحرب، بهذه الأداة استطاعوا أن ينشئوا ملكا عريضا وأن يحافظوا عليه قرونا عديدة وأن يقودوا - كما يقود الراعي قطيعه - أمما وأقواما وقبائل من سلالات بشرية مختلفة وعلى أديان ومذاهب متعادية، وعلى درجات متفاوتة من الثقافة نحو الطاعة والانقياد.
حقيقة أنه مما سهل على السلطان العثماني وأعوانه قيادة رعاياه أن هؤلاء الرعايا كانوا عند دخولهم في طاعة السلطان على نوع من الإعياء؛ نتيجة للاضطراب الذي ساد أقطار الشرقين الأدني والمتوسط، على أثر انهيار الدولة العباسية ودولة الروم الشرقية، ولكن براعة القيادة العثمانية كانت أيضا حقيقة ينبغي التسليم بها، والظاهر أن مشقات الحرب والحكم استنفدت من السلاطين كل جهدهم، وأنهم خشوا عواقب التغيير والتعديل، فأوصدوا الأبواب دون كل فكرة سياسية اجتماعية جديدة ولم يتيحوا لرعاياهم العديدين المختلفين فرصة تنظيم علاقاتهم المختلفة فيما بينهم وفيما بينهم وبين دولتهم على غير ما عرفوا من المبادئ، فضاعت عليهم بذلك الإفادة مما كان لهذا الملك من موقع جغرافي فريد في نوعه، ومن ميزات اشتماله على أمم لها ما لها من نصيب وافر في تقدم الإنسانية.
الفصل الأول
وفي الأرض الأوروبية من العالم العثماني ولد ونشأ محمد علي.
وقد نقل الترك الإسلام إلى أوروبا الجنوبية الشرقية كما نقله العرب والبربر إلى أوروبا الجنوبية الغربية وإلى صقلية وجنوبي إيطاليا، وانتشر الإسلام في البلقان بين بعض أصحاب البلاد الأصليين من الألبانيين والصرب والبلغار واليونان، كما حل في البلقان أيضا جماعات من الترك استقرت في الإقطاعات الحربية وفي المدن المختلفة جندا وحكاما، وكان مسلمو البلقان ومسلمو الأناضول أكثر رعايا السلطان مساهمة في حكومة الدولة وحروبها.
كما أن الحياة الدينية الإسلامية في الجزيرة البلقانية والأناضولية قد اتسمت بسمات خاصة تجعلها مختلفة عن الحياة الدينية في العالم العثماني العربي؛ في روحها وفيما تتجلى فيه الروح الدينية من مظاهر، وقد شارك مسلمو البلقان في إعزاز الإسلام بسيوفهم ودمائهم، كما كان الكثير منهم مثالا حسنا للتقوى الشخصية والتمسك المطمئن بأوامر الدين ونواهيه؛ كل ذلك هادئ بسيط لا يتطرق إليه التحليل العقلي ولا يهيجه الهيام التصوفي، يميل للاعتدال والاتزان، ويستنكر الاندفاع والانزلاق من جانب الأفراد ومن جانب الجماعات، وينظر للمسائل بعين الحاكم المسئول الذي يخشى ما قد يجره الحماس أو الشذوذ من إثارة الحزازات، أو «يخدش الأذهان» في اصطلاح إدارة الأمن العام العثمانية.
وقد اختلف مسلمو البلقان فيما بينهم تبعا لاختلاف بيئاتهم؛ فمنهم الألبانيون؛ رجال حرب وعصابات تنظمهم قبائلهم ويقودهم رؤساؤهم؛ إما في خدمة الدولة أو في خدمة أنفسهم، ومنهم أصحاب الأرض وفلاحوها في بعض الأراضي البلغارية والصربية والمقدونية واليونانية، كما أن منهم سكان المدن المختلفة جنودا وحكاما وصناعا وتجارا.
في إحدى المدن الإسلامية البلقانية، في مدينة قولة - وهي مدينة بحرية صغيرة ذات أسوار - ولد محمد علي، وتاريخ مولده على المشهور سنة 1183 الهجرية/1769 الميلادية، وهو تركي عثماني مسلم، لا يمت للألبانيين ولا لصقالبة مقدونيا ويونانها بسبب ولا نسب، والثابت أن أباه «إبراهيم أغا» كان على رأس كتيبة من رجال الحفظ في المدينة، وأنه مات وابنه لا يزال صغيرا، وأن والي المدينة كفل محمد علي بعد موت أبيه؛ ونشأ محمد علي نشأة علمية صرفة: تعلم أصول دينه، وركوب الخيل، واستعمال السلاح، ولما ترعرع كان يشترك في التجريدات التي توجهها حكومة المدينة لتعقب قاطعي الطريق، أو لتحصيل أموال الدولة، وقد تولى قيادة بعض هذه التجريدات، وأظهر فهما لفن المباغتة، وإدراكا لصفات الرياسة، وقوة قلب، وقوة احتمال بدني يسترعي النظر.
ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره، تزوج بسيدة من قريبات الوالي ورزقه الله منها بخمسة من أبنائه وبناته، ويقال: إنه عمل بعد زواجه في تجارة الدخان (والأرض حول قولة تنتج أفضل أنواع الدخان التركي)، تلك بعض حقائق حياة محمد علي في قولة، وكانت حياة مرح ونشاط ومغامرات وسعادة، وكان محمد علي - العاهل العظيم - كثير الحنين إلى سنوات الطفولة والشباب، وكان كثير الإشارة في أحاديثه إلى بعض وقائع تلك الأيام؛ أيام الحرية والبساطة والمغامرات، وقد زار - كما نعلم - عند اقتراب النهاية معالم صباه في قولة، وأغدق على أهلها وأنشأ فيها منشآت خيرية وحبس عليها مالا.
Bog aan la aqoon