مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
محمد علي الكبير
محمد علي الكبير
تأليف
محمد شفيق غربال
مقدمة
مما ذاع بيننا نقلا عن المصطلح الفرنجي تقييد استعمال الكلمة «إسلامي»، فكما أن العلماء الأوروبيين لا يستخدمون في دراساتهم التاريخية الوصف «نصراني»، إلا على الأزمنة السابقة للعصور الحديثة والمعاصرة، أو لا يطلقونه إلا على ما يتصل بالعقائد، فإنا أيضا أخذنا عنهم تحديد طور «إسلامي» داخل أطوار نمو الأمم الإسلامية، هذا الاستعمال الفرنجي له ما يبرره عندهم؛ هو نتيجة الفصل بين ما سموه السياسة وما سموه الدين، أما عندنا، فما وجه تبريره؟ وما مقياس «الإسلامية»؟ أهو وقوع الشيء في عصر سابق للقرن الثالث عشر أو الرابع عشر الهجري مثلا؟ أو أن المؤثر الفلاني في حياة المسلمين كان مصدره أوروبيا معاصرا؟
إنا نعلم جميعا أن الحضارة الإسلامية التاريخية كانت مزيجا من عناصر متباينة، شرقية وغربية، فليس من سبب معقول لاستبعاد الوصف «إسلامي» عن الحياة الفكرية للمسلمين في دور تأثرها بفلسفة ديكارت أو سبنسر، بينما لا نجردها من هذا الوصف في دور تأثرها بفلسفة أفلاطون أو أرسططاليس، مثل ذلك يقال عن الحكومة الإسلامية، لا يمنعنا تأثرها بنظم الساسانيين أو الروم من أن نحتفظ لها بإسلاميتها، بينما ننزع عنها ذلك عندما يكون التأثير - كما هو حالنا الآن - مصدره الثورة الفرنسية أو البرلمانية الإنجليزية.
والواقع أننا لا نستطيع بحال أن نعتبر الحضارة الإسلامية أمرا طواه الزمان كما طوى حضارة الفراعنة طيا تاما، أو أن التطور الإسلامي قد وقف عند حد معين، بل - على العكس - نعتبره مستمرا متصل الأدوار، ويحق لنا - على هذا الأساس - أن نحاول الترجمة لمحمد علي، على الرغم من أنه عاش في القرن الثالث عشر الهجري، وعلى الرغم من أنه ولى وجهه صوب الحضارة الأوروبية؛ علما من أعلام الإسلام.
وكانت دار الإسلام وقت مولد محمد علي؛ أي في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) قد اكتسبت مظاهرها الخارجية وحياة أهليها الداخلية حدودا ومعالم وصبغات يرجع أهمها لحوادث القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، ففي ذلك القرن الحافل في تاريخ دار الإسلام، وفي تاريخ أوروبا حدث في العالم الإيراني من دار الإسلام الانفجار الهائل الذي سببته ثورة الشاه إسماعيل الصفوي الدينية، وكان من جرائه تفكك أوصال ذلك العالم الإيراني، وانقطع عن أممه ودوله في الهند والأناضول والبلقان وفيما وراء النهر الدم الذي غذى ثقافة إيرانية إسلامية حية زاهرة.
وإيران نفسها اتخذت لحياتها منذ أيام إسماعيل أساسا مذهبيا ضيقا، وكان من جراء ذلك الانفجار أيضا طغيان الدولة العثمانية - وكانت حتى ذلك القرن جزءا هاما من العالم الإيراني - على العالم العربي وضمته لحكمها قسرا؛ ففسد أمر العثمانيين وفسد أمر العرب.
وفي القرن السادس عشر أيضا كان انفجار آخر أثر آثارا قوية في دار الإسلام، وكان من جراء حركة الكشف الجغرافي وانتشار النفوذ الأوربي، ولم يبسط الأوربيون حكمهم حتى نهاية القرن الثامن عشر إلا على مسلمي الهند وجزائر المحيط الهندي، ولم يمسوا بعد إلا الإمارات والشياخات والسلطنات الإسلامية القريبة من الطرق التجارية البحرية الكبرى، ولكن وضعت في خلال تلك القرون - من السادس عشر إلى الثامن عشر - أسس علاقات المستقبل بين دار الإسلام وأوروبا، وخرجت في أثناء تلك القرون دار الإسلام عن دور المساهمة والمشاركة في الحركات العالمية الثقافية والاقتصادية (دورها أيام عز الإسلام) إلى دور آخر: دور مناطق الاستغلال والاستعمار، دور الأمم التي تترقب من يوم لآخر نزول العدو.
ولم تستطع الدولة العثمانية ولا غيرها من دول دار الإسلام في خلال تلك القرون من السادس عشر للثامن عشر منع نزول تلك الكوارث، كما أنها لم تستطع إذ ذاك أن تحول من أنظمتها؛ بحيث تستطيع المساهمة في التطورات العالمية الجديدة، والواقع أن فتوح العثمانيين على عظمتها - وعلى الرغم من أنهم وضعوا أيديهم على مفاتيح الطرق الكبرى - حدثت متأخرة عن أوانها، ففاتتهم فرصة تعطيل الانقلاب التجاري الكبير؛ نزلوا بساحل الجزائر من أقطار المغرب الإسلامي فيما بين 1512-1519، ولو بكروا قليلا لاستطاعوا أن يمدوا أيديهم لشد أزر ما بقى للمسلمين في الأندلس، ولمنعوا بذلك انصراف فرديناند وإيزابلا إلى حركة الاستعمار الإسباني. وقصروا نفوذهم على الجزائر ولم يبسطوه على السواحل المراكشية، ولو فعلوا لاستطاعوا أن يعرقلوا تقدم البرتغاليين في اتجاه رأس الرجاء الصالح حول الساحل الإفريقي الغربي، كذلك كان فتحهم لمصر في 1517، وللعراق في 1534 متأخرا عن وقته، ولو بكروا فيه لسبقوا البرتغاليين إلى المحيط الهندي.
مثل ذلك يقال عن فشلهم في الوصول في الوقت المناسب لما وراء النهر، وعن عدم انتفاعهم من ضعف إمارة موسكو لتثبيت أقدامهم في المناطق شمالي البحر الأسود، ولم تحاول الدولة العثمانية - فيما نعلم - أن تنتفع من امتلاكها أقصر الطرق بين الشرق وأوروبا للمشاركة في الحركة التجارية الكبيرة، ولكنها على العكس كانت تعمل على أن يكفي العالم العثماني نفسه بنفسه، وأن يقل الاتصال بينه وبين بقية الدنيا بقدر الإمكان.
وإذا بحثنا عن سر رضا العثمانيين عن أنفسهم واطمئنانهم إلى ما هم عليه نجده في نجاحهم الباهر في إنشاء أداة قوية للحكم والحرب، بهذه الأداة استطاعوا أن ينشئوا ملكا عريضا وأن يحافظوا عليه قرونا عديدة وأن يقودوا - كما يقود الراعي قطيعه - أمما وأقواما وقبائل من سلالات بشرية مختلفة وعلى أديان ومذاهب متعادية، وعلى درجات متفاوتة من الثقافة نحو الطاعة والانقياد.
حقيقة أنه مما سهل على السلطان العثماني وأعوانه قيادة رعاياه أن هؤلاء الرعايا كانوا عند دخولهم في طاعة السلطان على نوع من الإعياء؛ نتيجة للاضطراب الذي ساد أقطار الشرقين الأدني والمتوسط، على أثر انهيار الدولة العباسية ودولة الروم الشرقية، ولكن براعة القيادة العثمانية كانت أيضا حقيقة ينبغي التسليم بها، والظاهر أن مشقات الحرب والحكم استنفدت من السلاطين كل جهدهم، وأنهم خشوا عواقب التغيير والتعديل، فأوصدوا الأبواب دون كل فكرة سياسية اجتماعية جديدة ولم يتيحوا لرعاياهم العديدين المختلفين فرصة تنظيم علاقاتهم المختلفة فيما بينهم وفيما بينهم وبين دولتهم على غير ما عرفوا من المبادئ، فضاعت عليهم بذلك الإفادة مما كان لهذا الملك من موقع جغرافي فريد في نوعه، ومن ميزات اشتماله على أمم لها ما لها من نصيب وافر في تقدم الإنسانية.
الفصل الأول
وفي الأرض الأوروبية من العالم العثماني ولد ونشأ محمد علي.
وقد نقل الترك الإسلام إلى أوروبا الجنوبية الشرقية كما نقله العرب والبربر إلى أوروبا الجنوبية الغربية وإلى صقلية وجنوبي إيطاليا، وانتشر الإسلام في البلقان بين بعض أصحاب البلاد الأصليين من الألبانيين والصرب والبلغار واليونان، كما حل في البلقان أيضا جماعات من الترك استقرت في الإقطاعات الحربية وفي المدن المختلفة جندا وحكاما، وكان مسلمو البلقان ومسلمو الأناضول أكثر رعايا السلطان مساهمة في حكومة الدولة وحروبها.
كما أن الحياة الدينية الإسلامية في الجزيرة البلقانية والأناضولية قد اتسمت بسمات خاصة تجعلها مختلفة عن الحياة الدينية في العالم العثماني العربي؛ في روحها وفيما تتجلى فيه الروح الدينية من مظاهر، وقد شارك مسلمو البلقان في إعزاز الإسلام بسيوفهم ودمائهم، كما كان الكثير منهم مثالا حسنا للتقوى الشخصية والتمسك المطمئن بأوامر الدين ونواهيه؛ كل ذلك هادئ بسيط لا يتطرق إليه التحليل العقلي ولا يهيجه الهيام التصوفي، يميل للاعتدال والاتزان، ويستنكر الاندفاع والانزلاق من جانب الأفراد ومن جانب الجماعات، وينظر للمسائل بعين الحاكم المسئول الذي يخشى ما قد يجره الحماس أو الشذوذ من إثارة الحزازات، أو «يخدش الأذهان» في اصطلاح إدارة الأمن العام العثمانية.
وقد اختلف مسلمو البلقان فيما بينهم تبعا لاختلاف بيئاتهم؛ فمنهم الألبانيون؛ رجال حرب وعصابات تنظمهم قبائلهم ويقودهم رؤساؤهم؛ إما في خدمة الدولة أو في خدمة أنفسهم، ومنهم أصحاب الأرض وفلاحوها في بعض الأراضي البلغارية والصربية والمقدونية واليونانية، كما أن منهم سكان المدن المختلفة جنودا وحكاما وصناعا وتجارا.
في إحدى المدن الإسلامية البلقانية، في مدينة قولة - وهي مدينة بحرية صغيرة ذات أسوار - ولد محمد علي، وتاريخ مولده على المشهور سنة 1183 الهجرية/1769 الميلادية، وهو تركي عثماني مسلم، لا يمت للألبانيين ولا لصقالبة مقدونيا ويونانها بسبب ولا نسب، والثابت أن أباه «إبراهيم أغا» كان على رأس كتيبة من رجال الحفظ في المدينة، وأنه مات وابنه لا يزال صغيرا، وأن والي المدينة كفل محمد علي بعد موت أبيه؛ ونشأ محمد علي نشأة علمية صرفة: تعلم أصول دينه، وركوب الخيل، واستعمال السلاح، ولما ترعرع كان يشترك في التجريدات التي توجهها حكومة المدينة لتعقب قاطعي الطريق، أو لتحصيل أموال الدولة، وقد تولى قيادة بعض هذه التجريدات، وأظهر فهما لفن المباغتة، وإدراكا لصفات الرياسة، وقوة قلب، وقوة احتمال بدني يسترعي النظر.
ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره، تزوج بسيدة من قريبات الوالي ورزقه الله منها بخمسة من أبنائه وبناته، ويقال: إنه عمل بعد زواجه في تجارة الدخان (والأرض حول قولة تنتج أفضل أنواع الدخان التركي)، تلك بعض حقائق حياة محمد علي في قولة، وكانت حياة مرح ونشاط ومغامرات وسعادة، وكان محمد علي - العاهل العظيم - كثير الحنين إلى سنوات الطفولة والشباب، وكان كثير الإشارة في أحاديثه إلى بعض وقائع تلك الأيام؛ أيام الحرية والبساطة والمغامرات، وقد زار - كما نعلم - عند اقتراب النهاية معالم صباه في قولة، وأغدق على أهلها وأنشأ فيها منشآت خيرية وحبس عليها مالا.
وشاء القدر أن يخرج محمد علي من وطنه الأول في قولة إلى ميدان خليق بالأبطال؛ إلى مصر، وأن يدخلها في ساعة هي أيضا خليقة بالبطولة.
الفصل الثاني
وكان الآذن بذلك الخروج نزول جيش فرنسي يقوده الجنرال بونابرت بأرض مصر في صيف سنة 1798، وتصميم الدولة العثمانية على إجلائهم عنها.
ولم يكن ذلك الغزو أول إغارة للفرنسيين عليها؛ فقد حاولوا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر امتلاكها، وتلاقت صفوة فرسانهم بمماليك مصر في أكثر من موقعة.
ولكن شتان ما بين مصر بيبرس ومصر مراد وإبراهيم، وشتان ما بين فرنسيي الملك القديس لويس وفرنسيي الثورة الفرنسية وبونابرت!
مصر بيبرس محور ذلك العالم العربي الذي اكتسب مقوماته وانفرد بشخصيته على أثر انهيار الخلافة العباسية، وهو اجتماع يتركب من طوائف وجماعات لها شخصيتها وقانونها وعرفها ووظيفتها، فمن أصحاب السيوف إلى أصحاب الأقلام، ومن أهل الفلاحة للأصناف (أصحاب الصناعات)، ومن أرباب السجاجيد إلى هيئات التدريس وهلم جرا، ويكتسب ذلك الاجتماع الصاخب حيويته من حكم الجماعات نفسها بنفسها، كما يكتسب لونا من التنسيق والانسجام من شخصية السلطان، يدفع الناس بعضهم ببعض ويحاول أن يخضع الأهواء والمصالح لجهود عامة في تحقيق مثل عليا تهم الناس جميعا.
ولكن كانت آفة ذلك الاجتماع ما صحبه من سرف وتبديد كان من شأنهما - على توالي الزمن - وضع أعباء على الطوائف المنتجة من أهل الفلاحة والصناعة والتجارة، أنهكت قواها الحسية والمعنوية، وكانت آفته الأخرى - من أول الأمر - انصراف الناس نحو شئونهم الخاصة بأشخاصهم وجماعاتهم وابتعادهم عن الشئون العامة واعتبارهم إياها «سياسة عليا» كما نقول الآن، هي مما ينبغي النظر فيه للسلطان والأمراء، وليست مما ينبغي للرعية، وقد وجدوا في تعليم أئمتهم ما يبرر إيثارهم العافية.
هذا حجة الإسلام نفسه «الإمام الغزالي» يقول في رده المشهود على الباطنية: «إنا لسنا نقدم إلا من قدمه الله تعالى، فإن الإمامة عندنا تنعقد بالشوكة، والشوكة تقوم بالمبايعة، والمبايعة لا تحصل إلا بصرف الله تعالى القلوب قهرا إلى الطاعة والموالاة، وهذا لا يقدر عليه البشر، ويدلك عليه أنه لو أجمع خلق كثير لا يحصى عددهم على أن يصرفوا وجه الخلق عن الموالاة للإمامة العباسية عموما وعن المشايعة للدولة المستظهرية - أيدها الله على الدوام - خصوصا لأفنوا أعمارهم في الحيل والوسائل وتهيئة الأسباب والوصائل ولم يحصلوا بالآخرة إلا على الخيبة والحرمان.»
وهاك في موضع آخر من الرسالة نفسها وصف الإمام لاغتصاب الترك سلطان الخلافة، قال: «قد سخر الله رجال العالم وأبطالهم لموالاة هذه الحضرة وطاعتها حتى تبددوا في أقطار الدنيا - كما نشاهد ونرى»، إن ثمن الحرية - كما يقول الإنجليز - هو الكدح والدأب والمراقبة، ولما كانوا يكرهون النصب أكثر مما يحبون الحرية؛ فقد عاشوا يستبد بأمرهم كل ذي همة وعزيمة.
وبينما كان العالم العربي على هذه الحالة، حدث تحول التجارة الكبرى إلى الطرق البحرية، كما حدث أيضا انقسام العالم الإيراني على نفسه واستيلاء الدولة العثمانية على مصر وسوريا والجزيرة العربية والعراق والمغرب، والأمران لهما أسوأ الآثار في الأقطار العربية وأهليها، فالأول: أدى إلى نقصان الموارد، وأسوأ من هذا: أدى إلى ضيق الأفق - وهو شر من ضيق ذات اليد - إلى اعتزال الغير، إلى الركود، أما الثاني: فإن أهل مصر وسائر العرب لم يجدوا في الملك العثماني ما يعوضهم عما فاتهم: السلطان المستقل والمساهمة في الحياة الاقتصادية العامة، فلم يفتح لهم هذا الملك بابا لأي جديد نظير ما أضافه الفتح العثماني من أعباء إلى أعبائهم السابقة، وإن شقاء أهل الأقطار العربية بعد ذلك الفتح لا يرجع إلى أن سلاطين الدولة وأمراءها لم يرغبوا رغبة صادقة في إحقاق الحق وفعل الخير وتثبيت العدل.
وهذا مؤرخ النظم العثمانية في مصر - وهو حسين أفندي من رجال الروزنامة، وقد كتب في أثناء الاحتلال الفرنسي لمصر - يقول عندما سئل عن انتفاع السلطان بملك مصر: إن هذه المملكة جميعها ملكة وإنه لا ينظر إلى الانتفاع منها، بل رتب مصرفها على قدر جبايتها، وقرر أن ما فاض من الجباية يبقى لينفق منه في عمارتها وما ينعم به على الناس، إنما يرجع سوء الحال إلى الركود وانعدام الحوافز، وهما مما اقتضته طبيعة الحكم العثماني، هذا إلى ما جره تراخي قبضة الحكومة السلطانية من نمو العصبيات المختلفة في مصر، وقد عاثت هذه العصبيات في البلاد فسادا، وزادت في فقر الأهلين، ونزلت بالمستويات الثقافية والفنية والمعنوية إلى أضعف ما عرفت مصر في تاريخها الطويل.
ولم تكن تلك العصبيات مما قصد السلطان سليم إلى خلقه بعد أن فتح مصر، كما يتوهم البعض عندما يزعمون أن ذلك السلطان أنشأ هيئة تسمى هيئة المماليك توازن باشا مصر العثماني من جهة، والحامية العثمانية من جهة أخرى، ولعل من يزعم ذلك اختلط عليه أمر عفو السلطان وإبقائه على بقايا مماليك السلطنة المصرية، وظن أن السلطان سليم وضع بذلك أساس هيئة المماليك.
والواقع أن النظم العثمانية لا تعرف شيئا عن هذا، إنما تعرف أن اختلال أمر الجند العثماني أتاح لكل من يملك مالا أن يجمع حوله عصابة من رجال الحرب، ولم يكونوا دائما مماليك يشتريهم بماله، بل ربما كان أكثرهم من مرتزقة بربر المغرب أو بدو الصحراء أو السودان أو اليونان أو البشناق، وما إلى ذلك، كما أن «المملوكية» لم تكن خاصة بالأمراء وعصاباتهم فهي سارية أيضا على رجال المناصب الحربية والإدارية الذين احتفظت السلطنة بحق إرسالهم من القسطنطينية نفسها، ويماثل هذا النوع من العصبيات العصبيات العربية القبلية المنبعثة في الصعيد والدلتا.
وقد توهم الأستاذ الشيخ محمد عبده في مقالة ظالمة عن محمد علي نشرها الشيخ في مجلة المنار في سنة 1902، وهي مقالة سياسية صرفة، يود كل مقدر له أن لو لم يخطها؛ توهم الأستاذ أن العصبيات السائدة في مصر عند الاحتلال الفرنسي تقابل بالضبط أمراء الإقطاعات الأوربية، وأن الأمراء المصريين اضطروا إلى أن يتخذوا من الأهلين أنصارا، وأن ذلك «أحدث بطبعه في النفوس شمما وفي العزائم قوة، وأكسب القوى البدنية والمعنوية حياة حقيقية مهما احتقرت نوعها، فكانت العناصر جميعها في استعداد لأن يتكون منها جسم حي واحد يحفظ كونه، ويعرف العالم بمكانته لولا محمد علي!»
هذا كله لا أصل له، لا في أوربا ولا في مصر، وقد غفل الأستاذ عن حقيقة مهمة: أن فعال تلك العصبات وفسادها في الأرض وقلة حيلتها في الحرب الجدية هي التي أغرت الفرنسيين بغزو مصر في 1798، وأن الذي أخرج الفرنسيين من مصر لم تكن العصابات بل الأسطول الإنجليزي والجيش الإنجليزي، وأن الذي خلق من مصر الجسم الحي هو محمد علي، وأن مصر محمد علي - لا مصر أبي الذهب ومراد وإبراهيم والشيخ همام والشيخ سويلم بن حبيب - هي التي بطل التفكير الأوروبي في امتلاكها بل وفي استغلالها في ظلال السلم! •••
اصطدم أمراء مصر في صيف 1798 بغربيين غير الغربيين الذين عرفهم السلاطين أيام الحروب الصليبية؛ ففي القرون الخمسة التالية لتلك الحروب تحول فارس العصور الوسطى - كما عرفه سان لويس وبيبرس - إلى الرجل الغربي الذي عرفه مراد والألفي والبرديسي في 1798، خمسة قرون زال فيها النظام الإقطاعي وما ترتب عليه من طرق الحكم والحرب وعلاقات طبقات الأمة بعضها ببعض، خمسة قرون رأت انفصام وحدة الغرب الدينية والسياسية وظهور مناهج العلم الحديثة وطرق التنظيم السياسي والاقتصادي الجديدة، ولم يبلغ أهل مصر عن انقلابات الغرب إلا أضعف الأنباء، ولكن سرعان ما رأى الأمراء أن لا أساس لما زعموه: من أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم، وتمكن الفرنسيون من احتلال مصر.
وقد حكم الفرنسيون مصر مدة تزيد قليلا على ثلاثة أعوام، وقد تخللت هذه المدة محاولة من جانبهم لفتح الولايات السورية، وضيق عليهم أثناءها حصار بحري إنجليزي، وقام المصريون ضدهم كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأباد منهم الطاعون وغيره من الأمراض الوبائية عددا لا يستهان به، وظل مراد ومماليكه ومن انضم إليه من عرب مصر والجزيرة شهورا عديدة ينازعونهم ملك الصعيد شبرا شبرا، وأخدت تبطل التجارة البحرية ويقل ورود قوافل دارفور وسنار وفزان وبرقة وغيرهما من بلاد الغرب.
ولم تطب للفرنسيين الإقامة بمصر؛ فقد وجدوها دون ما توقعوا وشق عليهم البعد عن وطنهم وبخاصة بعدما بلغهم من تألب الدول الأوروبية - من جديد - ضد فرنسا وإرغامها على التخلي عن فتوحها في إيطاليا وغيرها، وحتى مصر نفسها عرفوا معرفة أكيدة أن السلطان قد اعتزم ألا يتخلى عنها، وأرسل نحوها من ناحيتي البحر والشام جموعا من جنده قد لا تكون قيمتها الحربية مما يأبه له الغربيون، ولكنها - ولا بد - لها مع الزمن أثر.
لا بد من تذكر هذه الظروف عند الحكم على الاحتلال الفرنسي، ولا بد إذن من الفصل بين أمرين مختلفين تماما: الحكم الفرنسي كما كان، والحكم الفرنسي كما يمكن أن يكون لو خلص مما انتابه من ظروف الحرب والفتن، واتسع له الزمن ليجري على أسس الاستعمار الحديث.
ولا يمكن الشك في أن الفرنسيين لو خلص لهم ملك مصر لحكموها كما ينتظر من حكومة جمهورية قائمة على قواعد الثورة الفرنسية، أتيح لها - في عصر بدأ فيه الانقلاب الاقتصادي الكبير - أن تحكم قطرا زراعيا خصبا ذا مركز جغرافي فذ، كوادي النيل، وأمة عربية إسلامية ذات تاريخ مفعم بعبر الدهر كالأمة المصرية، لو خلص لهم حكم مصر لبذلوا جهدا كبيرا في تنمية الموارد بتنظيم الرى وضبط النيل، وقد كتب بونابرت في مذكراته فصلا رائعا عن ضبط النيل بإنشاء قناطر على فرعيه عند رأس الدلتا، ولو دامت مدتهم لعملوا كل ما يستطيعون للاستفادة من مركز مصر الجغرافي، ولوصلوا بين البحرين الأحمر والمتوسط.
واستعمار مصر كان لا بد له أن يؤدي إلى اتساع النفوذ الفرنسي إلى ساحلي البحر الأحمر وإلى ما وراء سيناء من ناحية فلسطين والشام، وأن يؤدي أيضا إلى التقدم نحو منابع النيل، وجعل مصر المدخل والمخرج لتلك الأرجاء الأفريقية الواسعة وحل اللغز الجغرافي القديم: أين ينبع النيل؟ وقد سجل التاريخ تحقيق الكثير من هذا على يد محمد علي وخلفائه؛ مما يدل على أن الكثير من خطط الحكومات إنما هي مما يمليه الواقع الجغرافي ويكرره التاريخ في أدواره المتباينة.
ولو دام الاحتلال الفرنسي لسلك نحو المصريين مسلكا يكون من أثره تحسين كثير من أحوالهم، ثم يعمد بعد هذا التحسين إلى إبطال النمو، أو إلى إبطاله في بعض النواحي وتوجيهه في الاتجاه الذي يريد، ولم يكن بد من اهتمام الفرنسيين بهذا التحسين الأبتر بحكم الإنسانية المشتركة وبحكم منفعتهم: يقاوم الأوبئة بإنشاء المستشفيات وما تستلزمه من مدارس الطب والمحاجر الصحية؛ حفظا للقوى العاملة في الإنتاج الزراعي الذي يغذي الخزانة العامة ويمون التجارة، ومنعا لانتقال المرض إلى الفرنسيين، يصلح الأداة الحكومية وينوع الإدارات صيانة للأمن وضبطا للأموال العامة.
ويستلزم هذا إصلاح نظام الضرائب والجباية، ويتبعه إلغاء الالتزام واستقرار ملكية الزارع للأرض، يفتح الأبواب لرءوس الأموال الفرنسية ولنظم التجارة والمعاملات الغربية، ويؤدي هذا لتنظيم القضاء على أسس غربية ولدخول القوانين الغربية، ويعنى بإعداد طائفة من أبناء البلاد تسد حاجة الإدارة من صغار الموظفين.
ولو دام الاحتلال الفرنسي لاعتمد بعض الاعتماد في الدفاع عن البلاد على جيش وطني من أبنائها.
ولو دام الاحتلال الفرنسي لاحتاط أشد الحيطة في كل ما له علاقة بالدين من المسائل الاجتماعية وموضوعات البحث العلمي، فالحاكم الغربي يحب أن تكون قواعد الإنتاج المادي غربية صرفة؛ لأن هذه القواعد تزيد الإنتاج والزيادة مما يهمه، ولكنه يكره من المحكومية الشرقيين الانقلاب الاجتماعي والبحث العلمي الحر، وذلك لأسباب: منها حرصه على أن لا يظهر للعامة في مظهر الهادم للعادات المشجع على التحرر من قواعد الدين، ومنها ظنه أن تلك الانقلابات لا بد وأن تؤدي في النهاية إلى الرغبة في الاستقلال، ومنها الميل إلى المحافظة على المظاهر الشرقية من قبيل الاحتفاظ باللطائف والتحف.
أما عن نظام الحكم فالمنتظر من الاحتلال الفرنسي - لو أن أيامه دامت - أن يبقي حكم القرى على ما عرفته مصر في عصورها المختلفة في أيدي العمد والمشايخ، وأن يعهد لفرنسيين في إدارة الأقاليم، وأن تسود المركزية الشديدة، وأن يبقي الفرنسيون الدواوين التي أنشأها فعلا بونابرت، ولم يرم بها إلى خلق النظام البرلماني - كما توهم البعض - فبونابرت لم يكن ممن يعجبون به أو يرتضيه لفرنسا، دع عنك مصر، بل رمى بها إلى إنشاء وسائل تمكنه من الاتصال بأعيان المصريين وتفهم ما يجري في أنفسهم وتفهيمهم حقيقة مشروعاته ونواياه حتى لا يبقى مجال لدس الدسائس وسوء الفهم.
هذا بعض ما نتصوره عن تطور الحكم الفرنسي في مصر لو استقام للفرنسيين أمرها، وليس هذا التصور مما لا يقوم على أساس من الواقع؛ فأكثره مستمد مما كتبه بونابرت وغيره عن نواياهم، ومما شرعوا في تحقيقه فعلا، ومما رأيناه من طرق الحكم الفرنسي في غير مصر من الأقطار الإسلامية، وليس هذا التصور مما يخلو من الفائدة التاريخية، فمن النافع حقا أن نضع في كفتي الموازنة معالجة الحاكم الفرنسي لمسائل مصر الداخلية والخارجية، ومعالجة الحاكم العثماني المسلم محمد علي لنفس المسائل.
ولكن الزمن لم يتسع للفرنسيين لتحقيق ما كانوا يأملون، ووجد القواد الثلاثة الذين تعاقبوا على حكم مصر - بونابرت وكليبر ومينو - أنفسهم مضطرين لتوجيه كل جهدهم للتغلب على الأخطار الداخلية والخارجية المحدقة بجيشهم وحكمهم، ولم يكن ما قام به أولهم بونابرت وثالثهم مينو من التجارب الإدراية الأداة الحقيقية لحكم البلاد، ولم تتغير - في أيامهم كلها - طرق الجباية ولا الضرائب ولا العمال، بل ظلت كما كانت قبل قدومهم.
ولذلك لم تكن الأعوام الثلاثة التي قضاها الفرنسيون في حكم مصر عهدا سعيدا لسكانها، حقيقة أن المصريين اعتادوا - قبل قدومهم - الانقلابات والاضطراب: اعتادها أهل الريف في بعض المناطق وأهل الحواضر، وعرفها - بصفة خاصة - أهل القاهرة، وكانت الانقلابات التي عرفوها مما يصحبه الشيء الكثير من اختلال الأمن وضروب العنف والتعسف وإعادة الطلب عليهم فيما أدوه من الضرائب والمغارم.
إلا أن هذه الانقلابات كلها كانت على نمط واحد، لا يأتي واحد منها بجديد ولا يصطدم بمألوف لديهم: فمثلا يتغلب علي بك الكبير على خصومه ويحكم البلاد كما حكمها خصومه، ثم يتغلب عليه أبو الذهب ويحكم كما حكم علي، وهكذا دواليك، ولم يكن للمصريين من نصيب في هذه الانقلابات إلا عمال الإدارة المالية من الأقباط ورؤساء العصابات العربية والشيوخ من العلماء. فالفريق الأول - بحكم اضطرار الأمراء جميعا لاستخدامه - يعمل للمنتصرين كما عمل للمنهزمين، ورؤساء العربان بسبب قوتهم الحربية قد يرجحون كفة طائفة من الأمراء على كفة خصومها، والشيوخ العلماء - بحكم تصدرهم ونفوذهم في الناس وتحلي بعضهم بصفات الفضل والاعتدال - يلجأ إليهم الناس للوساطة في رفع الحيف إذا ضاقوا به ذرعا، وقد يحتكم إليهم المتخاصمون من الأمراء، وكان تدخل الشيوخ عادة لرفع الضيم وإحلال الوئام محل الخصام أو للتخفيف من عنف الانقلابات.
أما الحكم الفرنسي فكان انقلابا من نوع لم يعرفه المصريون؛ إذ لما زال حكم مراد وإبراهيم حل محلهما بونابرت ولم يكن مسلما ولا عثمانيا، كذلك ترك الباشا العثماني مصر عند قدوم الفرنسيين، وزال بغيابه مظهر التبعية للسلطان خليفة المسلمين وسمع المصريون عن تبعية بلادهم لدولة غربية فرنجية، سمي لهم نظامها السياسي بأسماء شتى لا تدلهم تجاربهم على معانيها ... فنشر عليهم منشور «من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية»، وأرخت لهم الحوادث بشهور غربية من سنة تبدأ «من انتشار الجمهور الفرنساوي.»
وكانت للفرنسيين طرقهم في مخالطة النساء، وكانت هذه الطرق مما كرهته الخاصة كرها شديدا، وأدى انتشار العسكر في أنحاء المدن والأقاليم، وتشتت شمل أسرات الأمراء وانطلاق جواريهم عقب تركهم القاهرة إلى ضروب غير مألوفة من الفساد والرذيلة، وفي أيام الاحتلال الفرنسي حرر غير المسلمين من وطنيين وأجانب أنفسهم من قيود مختلفة كان المسلمون - إذ ذاك - يعدونها شروطا من شروط بقاء الإسلام، وهذا التحرر كان مما يقتضيه حكم غربي جمهوري شعاره المساواة والحرية الدينية، هذا إلى حاجة الاحتلال الفرنسي لغير المسلمين: لأموالهم ودرايتهم بأحوال البلاد ونظمها وعادات أهلها ولإمكان الوثوق بهم بفضل اتفاق المنافع.
ولم يكن للحكم الفرنسي، في مدته القصيرة، وفي ظروف الحرب والفتن الملابسة له من المآثر ما يحمل الخاصة والعامة من أهل مصر على الإغضاء عما صحبه من الانقلاب الاجتماعي، فقد كان حكما عسكريا شديدا عنيفا، ولم يكن الإصلاح الذي فكر فيه الفرنسيون، وما استحدثوه من الدواوين وغيرها، والبحث العلمي الذي شرعوا في إقامة قواعده؛ مما يجتذب إليهم المحكومين إلا بعد زمان طويل؛ ذلك لأن النظم الحكومية التي اعتادها المصريون وغيرهم إذ ذاك كانت ترمي لأغراض ثلاثة أساسية: جمع الأموال المفروضة، والأيدي العاملة اللازمة لصيانة الأعمال العامة، واستتباب الأمن، وفيما عدا هذه الأمور الثلاثة لا تتدخل الحكومة في أحوال الرعية؛ بل تدع كل ما يتعلق من هذه الأحوال بأغراضها تنظمه الجماعات أو لا تنظمه كما جرت به العادات.
وإذا شئنا إجمال وصف ما اختص به نظام الحكم القائم قبل الاحتلال الفرنسي قلنا: إنه يمتاز بقلة التدخل الحكومي - كما نفهمه الآن - وبالعنف والتعسف، ويجب ألا يحملنا ما نراه من جنوح الحكام لهذا العنف والتعسف إلى تصور نظم الحكم على غير ما صورناها من ترك الرعية وشأنها في كل ما يتعلق بأغراض الحكومة الأساسية.
ويجب كذلك ألا يحملنا ما نسمع عنه من الظلم على الظن بأنه لم تكن أمام المحكومين وسائل مختلفة لتجنبه أو لتخفيفه، فإن ارتباك الإدارة الذي نجم عن الانقلابات المتتابعة وسوء ذمة العمال وفوضى السجلات، وما إلى ذلك؛ فتح للرعية أبواب الخلاص من الفرض شرعية وغير شرعية.
فلا ينبغي إذن أن ننتظر أن يرحب المصريون في سنة 1798 بالتدخل الحكومي وبما يصحبه من النظم الدقيقة، ولا أن يعدوها - كما نعدها الآن - ضمانا لحقوقهم ، فكرهوا ضبط الدفاتر واعتبروه اشتطاطا في الطلب، ولم يروا فيما اتخذته الحكومة من الوسائل لمنع الأمراض إلا استبدادا لا يطاق، وفضولا لا يفهم.
كره المصريون الحكم الفرنسي وقاوموه؛ ثار أهل القاهرة ثورتين عنيفتين، وقام الفلاحون في الريف كلما أتيحت لهم فرصة، وقد ذكرنا من الأسباب ما يكفي لتفسير هذا الكره دون أن نلجأ إلى تعليله بانتحال تعبيرات من استعمال أيامنا، والتاريخ الصحيح لا يجد في الفتن الشعبية بالقاهرة والأقاليم إلا باعثا إيجابيا واحدا، هو: العودة لما ألفه الناس. إن مصر أكرم على بنيها من أن يلتمسوا سندا لحقوقها في «الدفاتر القديمة». •••
وابتهج أهل مصر لما أخرج العثمانيون والإنجليز الجيوش الفرنسية من بلادهم، وسمى الجبرتي مؤلفه في حوادث الاحتلال الفرنسي وما سبقه: «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس»، بل وسجل اعتقاده: «وإذا تأمل العاقل في هذه القضية يرى فيها أعظم الاعتبارات والكرامة لدين الإسلام، حيث سخر الطائفة الذين هم أعداء للملة هذه لدفع تلك الطائفة، ومساعدة المسلمين عليهم، وذلك مصداق الحديث الشريف وقوله
صلى الله عليه وسلم : «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»، فسبحان القادر الفعال!»
ولكن عيني «الرجل الفاجر» انفتحتا واسعتين صوب مصر وما يجري في مصر، فلن يكون الأمر بعد 1798 ما كان قبلها.
الفصل الثالث
تسلم مصر من الفرنسيين ممثلا الدولة الصدر الأعظم يوسف ضيا والقبطان باشا حسين، وسلطان الزمان - على حد تعبير الوقت - سليم الثالث، وهو السلطان الذي بدأ خطة الإصلاح التي سار عليها خلفاؤه سلاطين القرن التاسع عشر: محمود وعبد المجيد وعبد العزيز وعبد الحميد، ومحور الإصلاح عندهم إنشاء قوة عسكرية برية بحرية نظامية، مدربة على نمط الجيوش الأوروبية، وهذه القوة يستخدمونها في غرضين: في دفع الاعتداء الخارجي، وفي استرداد حقوق السلطان من مغتصبيها؛ أي في إقامة الحكومة المركزية المطلقة.
وها هي مصر شاءت العناية الإلهية أن تعود لصاحبها بعد أن قام الفرنسيون بعمل نافع؛ زحزحوا الأمراء وشردوهم، وانتزعوا ما كان في أيديهم، وفتكوا بالكثير منهم، أفيعقل بعد ذلك ألا يكمل الوزيران العثمانيان ما بدأه بونابرت بإقصاء الأمراء البارزين عن مصر؟ وبذلك يخلص للسلطان ملك مصر، وتكون قصتها بعد ذلك قصة غيرها من الولايات التي خلص ملكها للسلطان في القرن التاسع عشر إلى أن يأتي اليوم الموعود: يوم انحلال الملك العثماني.
وكاد تنفيذ تلك الخطة أن يتم لولا تدخل السلطات العسكرية الإنجليزية - ولم يكن الجيش الإنجليزي قد غادر مصر بعد - وقد تدخلت تلك السلطات وأرغمت ممثل السلطان على إطلاق سراح الأمراء؛ وكان تدخلها لأسباب: أحدها؛ الاشمئزاز من عنصري المكيدة والغدر اللذين قام عليهما القبض على الأمراء. وثانيها: الاعتقاد الراسخ بأن القوات العسكرية العثمانية سواء منها الآتية من الولايات الآسيوية أو الآتية من الولايات الأوروبية لا تصلح لشيء ما، بل إن عدمها خير من وجودها؛ فما هي إلا شراذم من النهابيين الهمج، وأن الدفاع عن مصر إذا ما حاول بونابرت إعادة الكرة عليها يقتضي إعادة الأمراء - وقد أعجب القواد الإنجليز مظهرهم وفروسيتهم - إلى ما كانوا عليه.
وثالثها: وعد سبق أن أعطاه القائد الإنجليزي في أثناء الأعمال الحربية ضد الجيش الفرنسي للأمراء بأن انضمامهم للحليفتين إنجلترة والدولة لن يضيرهم في شيء، بل على العكس يضمن لهم حقوقهم بعد الانتهاء من الحرب، وقد توهم الإنجليز - إذ ذاك - أن نظام الأمراء وقواتهم الخاصة عنصر أصيل في الحكومة المصرية، وما دروا أنه ليس من جوهرها في شيء، وأنه يكفي جدا لاجتثاثه من جذوره قطع التجارة في الرقيق الأبيض، وأن كل مشكلة الأمراء في مصر لم تكن البحث عن اتخاذهم أساسا لنظام حكومي مصري جديد - كما توهم الإنجليز - بل تنحصر في تدبير أمر أشخاص بالذات مدى أعمارهم الطبيعية، وهذا التدبير لا يستلزم أكثر من توفير العيش الهنيء لمن يريده من الأمراء - وأكثرهم لا يطلب القوة ولا يجمع الأتباع إلا لذلك - وفتح وظائف الجندية والإدارة لمن يريدها من تابعيهم، والضرب على أيدي من يأبى الاستقرار منهم.
ولو خلص الأمر لمحمد علي في السنوات الأولى من حكمه لتم حل المشكلة على هذا الوجه، ولكن جرى كل شيء على عكس ذلك تماما؛ فبينما رجال الدولة يدركون حقيقة مركز الأمراء فيعملون على منع إرسال الغلمان لأسواق الرقيق في القاهرة؛ نراهم في نفس الوقت يتعجلون حل المشكلة دفعة واحدة بالقبض على الأمراء لإقصائهم عن مصر، ولما أخفقوا في ذلك؛ لتدخل السلطات الإنجليزية عجزت القوات العسكرية العثمانية الباقية في مصر عن إخضاعهم، فكانت الحوادث الممهدة لبلوغ محمد علي باشوية مصر.
قدم محمد علي لمصر مع القوة العثمانية التي جمعت في تركية أوروبا، وقد اصطلح على تسميتها بالقوة الألبانية؛ لأن أكثر رجالها كان منهم، وخدم محمد علي في تلك القوة العثمانية الأوروبية وترقى سريعا في رتبها العسكرية، ولكنه لم يكن منها ولا فيها في أكثر من ذلك؛ فلا هو ألباني ولا ارتباط وثيق بيننا وبينهم، بل كان الارتباط الوثيق - قبل تولية محمد علي وبعد توليته إلى أن تلاشى أمر القوة الألبانية تماما - بين الألبانين وزعمائمم الطبيعيين من رجال العشائر الألبانية ورؤساء العصابات في بلادهم، أمثال: طاهر باشا وحسن باشا وصالح قوج ومن إليهم، وكان محمد علي وحيدا فريدا في أوانه، لم يصطنعه أمير ولا وزير، بل ولا سلطان، ولم يقدمه سفير أو قنصل، بل ولا إمبراطور، ولم يكن مخلوق حزب أو أداة جماعة:
نفس عصام سودت عصاما
وعودته الكر والإقداما
وصيرته ملكا هماما
لم يدبر حوادث ارتقائه، ولم يرتب فصولها ترتيب المؤلف القطع المسرحية، ولم يداهن ولم يتظاهر بما ليس في نفسه ولا من طبعه، ولكنهم هم الذين يتجهون إليه، هم الذين يرون فيه رجل الموقف، ولكنهم أيضا إذا حدثتهم أنفسهم بأن يتخذوا منه وسيلة لغايات في أنفسهم، فسرعان ما تنكشف لهم الحقيقة وأن ما حدثتهم به أنفسهم من استخدام مواهبه لأغراضهم كان وهما؛ فقد قبل محمد علي إجماع الناس أو شبه إجماعهم عليه وتولى أمر الباشوية على مشقاتها وميزاتها، وذاق حلو السلطة ومرها ولكن على أن يسير فيها على نهج من وضعه هو، على أن يحمل كل مسئولياتها، على أن لا تزيحه عنها قوة بشرية: «ها هنا ثبتت قدمي، وها هنا سأبقى!»
كان أول ولاة مصر بعد جلاء الفرنسيين محمد خسرو باشا، وأصله من مماليك القبطان باشا، وكان هذا أول عهده بالمناصب، لم يصب بعد الشهرة التي اكتسبها في خدمة الدولة، ولم يفهم بعد من فن التنظيم العسكري أكثر من جمع «أنفار» من أخلاط الناس ووضع أبدانهم في ثياب «مقمطة» تشبها بالجيش الفرنسي، ومن فن الإدارة إلا قطع الرءوس وما إليه من قواعد «البوليتيقا».
ولم يقو خسرو على إعادة تنظيم شئون الإدارة المالية بعد الاضطراب والاختلال والحروب، كما أنه لم يقو على إخضاع الأمراء وقد وضعوا أيديهم على الصعيد بعد أن أطلق الإنجليز سراحهم، وعذره في ذلك العجز أن ما تحت إمرته من القوات العثمانية - آسيوية أو أوروبية - لا تملك فرسانا يستطيعون مقابلة الأمراء مقابلة الند للند؛ فملك الأمراء الصعيد وتطرق نفوذهم للدلتا؛ وأدى هذا إلى نقصان موارد خسرو المالية نقصانا كبيرا كما أدى إلى اختلال تموين أهل القاهرة، وكان من جراء ذلك أن اختل دفع مرتبات الجنود؛ فهاجوا وأنزلوا خسرو عن كرسيه، ولكنه استطاع أن يهرب وأن يستقر في دمياط مترقبا فرصة الرجوع، وتولى طاهر باشا كبير الألبانيين «قائمقامية» مصر انتظارا لقرار الدولة.
وطاهر هذا أصله من قطاع الطريق في بلاده، وصفه الجبرتي بأنه كان أسمر اللون، نحيف البدن، أسود اللحية، قليل الكلام بالتركي فضلا عن العربي ويغلب عليه لغة الأرنئوديه، وفيه هوس وانسلاب وميل للمسلوبين والمجاذيب والدراويش.
ولم تطل مدته أكثر من ستة وعشرين يوما؛ فقد وثب عليه رجلان من الإنكشارية وقطعا رأسه؛ انتقاما مما جرى لخسرو واحتجاجا على محاباته أبناء جنسه في أمر دفع المرتبات المتأخرة، إلا أن طاهر هذا أدرك في مدته القصيرة - على الرغم من هوسه وانسلابه - أن لا بد للألبانيين من حلفاء إذا أرادوا الاحتفاظ بثمرة ثورتهم على خسرو؛ فكاتب الأمراء في الصعيد وأعلن استعداده لفتح أبواب العاصمة لهم ومقاسمتهم مغانم الحكم، وقد قبل الأمراء المحالفة ودخلوا القاهرة قبل أن يتمكن رجال خسرو من استرداد الباشوية له أو لعثماني آخر من نوعه.
وفي أثناء مدة هذا التحالف بين الأمراء الألبانيين، اكتفى هؤلاء بجمع كل ما يستطيعون اغتصابه من الأموال العامة والخاصة، وتركوا للأولين أبهة السلطة ونكدها، وسرت نشوتها إلى رأس كبيرهم عثمان البرديسي فتوهم عودة العصر الذهبي وصفاء الأيام، فتحرك ضد خسرو في دمياط وحاصرها وعاد به أسيرا للقلعة، ثم لما عينت الدولة واليا جديدا على مصر، هو علي باشا الجزايرلي أو الطرابلسي - رجل قبيح السيرة، من رجال المغرب العثماني، صديق قديم للأمراء - استدرجه البرديسي نحو القاهرة وقتله في الطريق، ثم كانت عودة الألفي - زميله ومنافسه في الرياسة - من إنجلترة، وكان قد سافر إليها عند خروج الجيش الإنجليزي أملا في وساطة الحكومة الإنجليزية لدى الدولة لترضى عن الأمراء، وبدلا من الاتحاد به قرر الغدر بأخيه، ونجا الألفي من الكمين الذي أرصده له البرديسي بشق الأنفس، وأضاف إلى هذا كله الضغط الشديد على أهل القاهرة فقيرهم وغنيهم لأجل المال؛ ولما لم يبق له صديق تحرك الألبانيون ضده وأخرجوا الأمراء ورجالهم من القاهرة إخراجا شنيعا.
وقد نبهنا إلى أننا عندما نقول: «الألبانيون» لا يستدعي هذا «محمد علي» بالمرة، فهم - كما قدمنا - لهم كيانهم ولهم رياستهم الخاصة بهم، والواقع أنه في كل هذه الحوادث يقف وحده، لا وقفة المتفرج أو غير المهتم، على العكس، له مكانته، وله آراؤه، إنما نعني أنه منفصل عن الجميع ظاهرا وباطنا، لا يحرك جماعة ولا تحركه جماعة، وكان رأيه عند إخراج الأمراء من القاهرة إعادة الوالي الشرعي خسرو ورد الأمور إلى نصابها، ولكن الألبانيين أبوا ذلك، وأخيرا أقاموا حاكم الإسكندرية من قبل الباب العالي خورشيد قائمقاما إلى أن تقضي حكومة الدولة في الأمر.
وكانت صعوبات خورشيد هي بالضبط صعوبات سابقيه، وحلوله هي بالضبط حلول سابقيه. صعوباته: اكتساح الأمراء الصعيد، وعجز رجاله عن إخضاعهم، ونقصان الموارد باستيلاء الأمراء على الصعيد، وعبث الجنود وتمردهم واعتداؤهم على الأرواح والأموال، أما حلوله: فالتجريدات السخيفة، والمفاوضات الكيدية والدس والضغط على الرعية لأجل المال، والاستعانة بأشقياء من أكراد أعالي سوريا يدعون «الدلاة» أو «الدلاتية»، كانوا شر من رأى أهل مصر، وإذا قلنا ذلك أمكننا تصور حقيقتهم.
وقد أحس خورشيد بارتفاع شأن محمد علي واتجاه الأنظار إليه فنال له من الباب العالي ولاية جدة، وقبل محمد علي الأمر جريا على ما سار عليه، إلا أن الكوارث المتوالية أخرجت أهل القاهرة عن حد الاحتمال فالتفوا حول شيوخهم وأعيانهم وبخاصة نقيب الأشراف السيد عمر مكرم وانضموا إلى طوائف من الجند وطالبوا بوضع حد لسوء الحال. ثم انتهى الرؤساء إلى مطالبة الباشا باعتزال منصبه، ولما رفض حاصروه في القلعة وترامى الفريقان بالقنابل، وقد اعتبر السيد عمر مكرم وأصحابه الباشا معزولا بإرادة قادة الرأي.
وفي يوم الاثنين 13 من صفر سنة 1220 / 13 مايو سنة 1805 توجهت الجموع «وذهبوا إلى محمد علي، وقالوا له: إنا لا نريد هذا الباشا حاكما علينا ولا بد من عزله من الولاية، فقال: ومن تريدونه يكون واليا؟ قالوا له: لا نرضى إلا بك وتكون واليا علينا بشروطنا لما نتوسمه فيك من العدالة والخير؛ فامتنع أولا ثم رضى، وأحضروا له كركا وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر والشيخ الشرقاوي فألبساه إياه، وذلك وقت العصر، ونادوا بذلك في تلك الليلة في المدينة»، وكان هذا على الرغم من معارضة فريق الألبانيين الذين «يغرضون لصالح أغا قوج وعمر أغا»، وفي ربيع الثاني سنة 1220/يولية سنة 1805 «وصل مرسوم الدولة ومضمونه الخطاب لمحمد علي باشا والي جدة سابقا ووالي مصر حالا من ابتداء عشرين من ربيع الأول حيث رضي بذلك العلماء والرعية، وأن أحمد باشا خورشيد معزول عن مصر وأن يتوجه إلى الإسكندرية بالإعزاز والإكرام حتى يأتيه الأمر بالتوجه إلى بعض الولايات.»
وهكذا بلغ محمد علي باشوية مصر، ولا جديد في هذه القصة؛ فإن مقدماتها ووقائعها تكاد تكون سنوية في تاريخ مصر منذ الفتح العثماني، والجديد تماما هو أن الذي تولى الباشوية كان محمد علي ولم يكن غيره، هذا وحده هو وجه الأهمية في الأمر كله؛ فقد أدرك محمد علي منذ أيامه الأولى في مصر أنه لم يتول أمر باشوية عثمانية عادية، بل جلس على عرش مملكة عظيمة كل ما حوله فيها يشهد بما كان لملوكها وسلاطينها ، وأن عناية الله سلمته حكم أمة واحدة يدر نيلها وأرضها الفيض العميم، وأن الميدان خليق بالأبطال.
كما أدرك بالفكر الثاقب الذي وهبه الله أن لا بد لحكم مصر من انتهاج مناهج جديدة وأن طرق الباشوات والأمراء وإنفاقهم العمر في جمع المال وبعثرته، وتوطيدهم أقدامهم بصلم الآذان وخزم الأنوف، وقطع الرءوس، لم تؤد إلا إلى الخراب الشامل؛ فهدته مواهبه لسياسة من نوع آخر، يحقق بها رجاء الناس فيه؛ فيصون أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، ويرتقي بهم درجات إلى ما لم يكونوا يعهدون.
وكانت الساعة أيضا حقيقة بالبطولة: فقد فتحت الحوادث أعين السياسة الأوروبية لمصر ولغيرها من البلاد الإسلامية، ألم يسبق توليته نزول الفرنسيين بمصر؟ ألم يكن إجلاؤهم عنها إلا بشق الأنفس وبفضل معاونة دولة أوروبية أخرى؟ ألم تتداع القوة الإسلامية في الهند نحو الانهيار النهائي؟ ألا يحس كل عثماني بضغط الدول الأوروبية على السلطنة العثمانية وتوغل الروسيين في اتجاه فارس والإمارات الإسلامية الآسيوية؟ فالأمر إذن لا يحتمل التأجيل، وإعزاز مصر والإسلام يتطلب: العمل السريع، الإصلاح الشامل، القوة التي تصون الكرامة؛ قوة الحديد والمال والعلم.
الفصل الرابع
جاشت في صدر محمد علي هذه المعاني ومثيلاتها من أول الأمر، وجال بصره في الميدان حوله فوجده ممتلئا بأنقاض الماضي، فكان لا بد له من شق طريقه بينها وحولها قبل أن يستطيع أن يزيح الأنقاض ويمهد الأرض للبناء.
وقد ورث محمد علي فيما ورث عن الماضي القريب والبعيد أن تكون مصر مما يهم بعض الدول امتلاكه ومما يهم البعض منع ذلك الامتلاك وقد خفي ذلك الوضع المؤلم الجارح للكرامة في السنوات الواقعة بين جلاء الفرنسيين عن مصر وولاية محمد علي أمرها (أي بين 1801 و1805)؛ ففي تلك السنوات كانت وقائع الكفاح بين فرنسا - وقد قبض الجنرال بونابرت على أزمة حكمها - وحلف أوروبي قوي يرمي إلى نقض ما أبرمه بونابرت في داخل فرنسا وخارجها، وانصرف جهد بونابرت كله إلى إفساد خطة أعدائه وتوطيد نظامه الجديد.
وقد نجح في ذلك نجاحا كبيرا؛ فتوج عمله الداخلي بإعلان الإمبراطورية، وهزم النمسا والروسيا هزائم مضعضعة، وربط فتوح فرنسا بشخصه عن طريق أقاربه، ولكن النجاح لم يكن تاما والتسوية لم تكن نهائية؛ فإنجلترة لم يتغلب عليها بعد (وما بقيت إنجلترة قائمة فلا سيادة لأحد على أوروبا)، وضرباته الحربية لأعدائه في القارة كانت مضعضعة ولكنها لم تكن قاتلة، ولم يظهر بعد أن أواصر الرحم بين الحاكمين أقوى على ربط الفتوح بفرنسا من اتفاق المصالح والعواطف بين المحكومين، وكان من شأن انهماك كل من فرنسا وأعدائها - فيما وصفنا - أن انعدم التأثير الأوروبي انعداما يكاد يكون تاما في الحوادث التي جرت في مصر فيما بين 1801-1805 والتي انتهت - كما رأينا - ببلوغ محمد علي ولاية الأمر.
ولا صحة لما اختلقوه من بحث القنصل الفرنسي عن رجل جدير بعطف الحكومة الفرنسية واهتدائه إلى محمد علي وكتابته لحكومته بهذا «الترشيح» وتأييد فرنسا لذلك لدى الباب العالي، لم يحدث شيء من هذا قطعا، ولم يتجاوز هم القنصل الفرنسي حماية نفسه ومواطنيه في الاضطراب السائد في القاهرة، وقد ضعف النفوذ الفرنسي في القسطنطينية في تلك السنوات لدرجة أن حكومة الباب العالي رفضت الاعتراف بنابليون إمبراطورا على الفرنسيين، وكان ذلك تحت إملاء الروسيا، وانسحب السفير الفرنسي وانقطعت العلاقات بين الدولتين زمنا، ولكن انتصار نابليون في أوسترلتز قرب نهاية سنة 1805، وتمزيقه التأليب الأوروبي بإخراج النمسا من الحرب؛ غير الموقف للدولة العثمانية ولمصر تغييرا كبيرا وواجه محمد علي بعد 1805 نتائج ذلك التغيير.
فقد اتخذ نابليون ابتداء من سنة 1806 من الميدان العثماني الفسيح عنصرا هاما في خططه السياسية والحربية وعمل على ما سماه: «إحياء ما لأراضي السلطان من أهمية حربية وسياسية»، وسعى إلى بث روح التحمس في السلطان وحكومته ضد الروسيا، وأن يقنع السلطان بربط مصيره بالإمبراطورية الفرنسية لإحياء مجد الدولة، وقد قبلت الدولة أن «تتحمس» ولكن بقدر وحساب؛ بالقدر الذي يدفع عنها الضغط الروسي دون أن يربطها بالتنظيم النابليوني الأوروبي ربطا محكما أو نهائيا.
ورأت الحكومة البريطانية - بإزاء ذلك - أن تضغط هي أيضا على الدولة العثمانية لتعاونها على التخلص من النفوذ الفرنسي والبقاء داخل نطاق النفوذ الروسي ، واختارت إنجلترة القيام «بمظاهرة بحرية» أمام العاصمة يتلوها احتلال عسكري لثغر الإسكندرية إن أخفقت المظاهرة في حمل الدولة العثمانية على إبعاد السفير الفرنسي وقطع علاقاتها بفرنسا، وكانت حجة الإنجليز أن رفض قطع العلاقات معناه الخضوع العثماني لفرنسا، وتكون إنجلترة إذن في حل من أن تستولي على ما يهمها من أرض السلطان حذر وقوع الكل في أيدي الفرنسيين.
وأخفقت المظاهرة، واحتلت قوة إنجليزية ثغر الإسكندرية، سلمها للإنجليز دون قتال حاكمها العثماني المستقل بها عن محمد علي، وعلى الرغم من أن تعليمات الحكومة الإنجليزية لقائدها في الإسكندرية كانت تقضي بألا يحاول التوغل فيما وراءها، وبألا يتدخل فيما كان يجري بين الأحزاب المختلفة في مصر، فإن القنصل الإنجليزي - وكان يود أن يكون احتلال الإسكندرية ممهدا لاستقرار إنجلترة نهائيا في المناطق الساحلية المصرية - أقنع القائد بأن تموين الإسكندرية بما يلزم أهلها من الماء والغذاء يستلزم احتلال رشيد وإنشاء مواصلات محمية بين الثغرين؛ فحاول القائد ذلك مرتين ومني بهزيمتين قبيحتين على يد ألبانيي رشيد وأهلها، ثم على يد القوات التي أرسلها محمد علي من القاهرة.
واستقر القائد في الإسكندرية إلى أن أمرته حكومته بالانسحاب منها بعد أن زالت البواعث التي دعت إلى احتلالها بتغير الموقف في أوروبا تغيرا تاما؛ فخرجت الروسيا من الحرب ضد فرنسا، ولم تكتف بذلك بل قامت بين نابليون والإسكندر معاهدة تحالف؛ هي معاهدة تلست المشهورة، ولم تعد هناك أسباب تحمل الإنجليز على الضغط على الدولة العثمانية إرضاء للروسيا، فسعت إنجلترة لتسوية علاقاتها بالدولة العثمانية؛ وقررت أن تعمل على المحافظة على كيانها.
أما إذا تحقق ما ذاع من أن الإمبراطور والقيصر قد اتفقا على تقسيم الدولة العثمانية؛ فإن إنجلترة في تلك الحالة تؤيد الحكومة الشرعية العثمانية في أي مكان تقوم فيه إذا اضطرت لمغادرة العاصمة، وتنشئ من جهة أخرى علاقات تأييد ومعاونة مع الولاة العثمانيين في ألبانيا وفي مصر مثلا لدفع الفرنسيين أو الروسيين عن ولاياتهم، وقد سارت الحكومة الإنجليزية إلى حد ما على هذه الخطة في السنوات التالية لعقد معاهدة تلست فزاد اتصالها المباشر بمحمد علي وخصوصا في أمر العلاقات التجارية، وفي أمر تطبيق قوانين الحرب البحرية وما إلى ذلك، ولكنها حذرت أن تزيد على ذلك وذلك؛ لأن الشرط الأساسي لاتخاذ سياسة الاعتراف بكيان خاص للوحدات العثمانية لم يتحقق؛ فإن معاهدة تلست لم يتبعها تقسيم الدولة العثمانية بل - على العكس - تبعها شيء من التوازن مكن الدولة العثمانية من التماسك واجتياز فترة الاضطراب النابليوني بسلام.
وذلك أن التحالف الروسي الفرنسي لم يكن في نظر الإسكندر ونابليون مقدمة لمشروعات سياسية مبهمة كتقسيم العالم بين العاهلين وما إلى ذلك، بل كان على العكس وسيلة تحقيق أهداف عظيمة حقا، ولكنها محددة تماما، فمن جهة نابليون: حرمان إنجلترة من حليفتها الأوروبية الكبرى وإغلاق ما ينفذ منه الإنجليز إلى القارة، وإقامة الروسيا رقيبا على النمسا؛ لكي يفرغ لإتمام إخضاع وتنظيم غربي أوروبا ووسطها. وثمن هذه الخدمات الروسية؟ أحب طبعا أن يكون الثمن زهيدا ما استطاع، وأن يكون «كلاما» أكثر منه حقائق، ولكن كان لا بد من أن يدفع شيئا ما، وأقصى ما فعل أن ترك للروسيين إمارتي البغدان والأفلاخ وأن أشار على الدولة العثمانية - برفق فهمته تماما - أن تسلم للروسيا بملكها.
ومن جهة الإسكندر: وضع حد لمشروعات نابليون في بولونيا وفي العالم العثماني، وثمن هذه الخدمات: الاكتفاء مؤقتا بملك الولايتين الدانوبيتين والتسليم لفرنسا بمنطقة نفوذ وقواعد في الجزائر اليونانية وعلى الساحل الألباني، وراقب الحليفان أحدهما الآخر إلى أن حان وقت إسدال الستار على هذا الفصل الممتع من تاريخ الرجلين، وأغار نابليون على الروسيا في سنة 1812 وكانت بداية النهاية.
أتاح هذا كله نوعا من التوازن - كما قدمنا - وهيأ لمحمد علي أول اختباراته للسياسة الكبرى، وقد عرفها في طور خاص من التاريخ الأوروبي لا يمثل حياتها الطبيعية أو العادية أصدق تمثيل، فكأنه رآها بعين الرجل يرى الآلات في مصنع من المصانع تدور دورانا جنونيا والصناع يلهثون لحفظ سرعة الدوران على حالتها، أو كأنه رآها بعين الميكروسكوب يكبر أجزاءها ويظهر كل ما دق من معالمها، وقد تأثر محمد علي بنظرته الأولى تلك طول حياته وانتفع بها وخسر.
انتفع بها لأنه فهم سر الحركة وأنها تستطيع أن تغير كل شيء؛ هذه خريطة أوروبا، الظاهر أن نابليون يستطيع أن يفعل بها ما يشاء، هذه عروش قديمة تزول كأن لم تغن بالأمس، وهذه الإمبراطورية النابليونية نفسها زالت بعد حين، وانتفع أيضا لأن في مدى تلك السنوات الضيق يتجمع الشيء الكثير من القواعد الأساسية في تشكيل العلاقات السياسية الكبرى: التفوق البحري الإنجليزي، موقع الروسيا ومواردها، تسخير قوى الإنتاج وتنظيمها وتنسيقها لخدمة غايات معنوية، بهرته الحركة تماما، وصادف ذلك هوى في نفس مشرئبة طموحة.
وخسر لأنه لم ير أن السكون هو أيضا لازم لتلك الحياة السياسية الكبرى وأنه أيضا عامل فعال وأن في الحياة السياسية الكبرى ما يدفع نحو منع التغيير ونحو محاسبة من يسببه.
ومهما يكن فإن وسائل محمد علي في السنوات الأولى لم تتح أكثر من فرص التطلع من نافذته المصرية، حقيقة أن النظر ينفذ من النافذة المصرية لآفاق بعيدة جدا، ولكن الوسائل إذ ذاك لا تسمح بأكثر من استطلاعها، وكان مما لا بد منه في أول الأمر أن يجمع تلك الوسائل في يده على الأقل وأن يقيم بناء الحكومة الجديدة على أساس جديد. •••
وكانت فكرته فيما يجب أن تكون عليه حكومة مصر واضحة له تمام الوضوح، أن مصر لا بد أن تتولى أمورها سلطة عامة واحدة؛ فإن تجزئة السلطان وتشتيته السائدين قبل أيامه أديا إلى انعدام فكرة الحكومة انعداما يكاد يكون تاما، فنتج عن ذلك تكوين العصابات الخاصة المسلحة، ونتج عن ذلك إهمال العمال المرافق العامة إهمالا ذريعا، ونتج عن ذلك أن كل من يستطيع وضع يده على أموال عامة يفعل ذلك دون تردد، بل نتج نوع من التفكير يعتبر أن الحكومة ما هي إلا مشاركة ومقاسمة في «الأرزاق» وإن شئت قل: نهبا، وليس توضيح ذلك بعسير. ومرجعنا في وصف هذا التشتيت والتجزئة رسالة حسين أفندي في ترتيب الديار المصرية، ومرجعنا في وصف عقلية المشاركة والمقاسمة الجبرتي.
المثل الأول: «سئل حسين أفندي : من أين كان إيراد الباشا وعوائده؟ فأجابه المذكور: إن حضرة السلطان سليم رتب للباشا إيرادا وعوائد معلومة على أصناف البهار في كل فرق بين أربعمائة فضة وعوائد على الأمراء والصناجق وقت تلبيسهم وعلى كشاف الولايات وقت توليتهم، وعلى الجمارك مثل ديوان إسكندرية ورشيد ودمياط وبولاق ومصر القديمة، وعوائد على أمين البحرين وأمين الخردة وعلى الضربخانة وعلى أرباب المناصب، وجعل له حلوان بلاد الأموات، وربط عليها أموالا أميرية في كل سنة تدفع إلى ديوان السلطان وقدرها خمسمائة وستة وخمسون كيسا مصريا. وأضاف إلى هذا أن الباشا يؤدي ميريا نظير عوائده في مال البهار في كل فرق بن أربعمائة فضة وفي نظير الحلوان ... إلخ.»
اخترنا هذا المثل؛ لأنه يمثل فكرة الحكومة ونظامها في أمر عادي مألوف لنا تماما، أمر مرتب الوظيفة، عندنا أمره بسيط للموظف مرتب محدد يتسلمه في مواعيد محددة وينتهي الأمر عند ذلك، أما عندهم فالأمر معقد كل التعقيد ... هاك - في مثلنا الحاضر - باشا مصر وكيل السلطان فيها وهو رأس الإدارة كلها، لمرتبه مصادر متعددة: عوائد على البن، وعوائد على الأمراء والصناجق وقت تلبيسهم كسوة مناصبهم، وكذلك على الكشاف عند تعيينهم في الأقاليم وكذلك على الجمارك وعلى بعض أصحاب المناصب وعلى دار الضرب وعندما يموت أحد الملتزمين فيصبح التزامه «بلد أموات» يتقاضى باشا مصر لنفسه رسما خاصا على نقل الالتزام لورثة المتوفى، وهذا هو الحلوان، ثم يأتي بعد ذلك الأمر الأغرب وهو أن الباشا لا يأخذ فحسب ... بل يؤدي من جانبه للخزانة «ميريا» أو - كما يسمونه كشوفية - يؤدي مالا نظير تمتعه بالعوائد السابقة الذكر.
معنى ذلك أن باشا مصر بدلا من أن ينصرف لإدارة شئون مصر يصرف وقته في التحصيل لنفسه والمساومة والمحاسبة والتخادع والتحايل والتناهب مع «المستحقين الآخرين» في البن والخردة والحلوانات وما إليها. ثم الباشا إيراده يزيد وينقص لظروف؛ منها ما هو فوق استطاعته ومنها ما يستطيع أن يوجده. خذ حلوان بلاد الأموات مثلا؛ قد يفشو وباء فيكثر الموت بين الملتزمين وتكثر بلاد الأموات ويكثر الحلوان، وقد لا يحدث شيء منه فتطول أعمارهم وينكمش دخل الباشا السيئ الحظ، وكذلك أمر العوائد على تعيين الكشاف ألا يستتبع هذا أن الباشا لا يكره - على الأقل - إخلاء وظائف الكشاف وملئها في فترات لا تطول كثيرا؟! وهكذا.
وسئل حسين أفندي عن القاضي وخدمته، فأجاب ببيان اختصاصه وأن تحت يده قضاة نوابا عنه، ولهم عوائد على الناس بحسب الوقائع والبيع والشراء وأن القاضي له عوائد على نوابه في كل شهر، وهكذا.
وقس على ذلك سائر الموظفين العموميين كبارا وصغارا.
المثل الثاني:
ونقصد به توضيح ناحية أخرى من التشتيت؛ نعرف أن القاعدة العمومية عندنا اليوم أن الحكومة لا تربط وجها معينا من المصروفات بوجه معين من الإيرادات، أما عندهم فالعكس هو السائد - كما ترى فيما يلي:
سئل حسين أفندي عن مال الكوركجي الذي هو مضاف بالمال ما معناه: «فأجابه: إن مال الكوركجي كان يقبض من البلاد خارجا عن الميري، ويصرف في أجرة المراكب وغيره ولنقل التراب من مصر ويرمى في البحر المالح، وكان قدر مبلغه في كل سنة نحوا من ثمانية وعشرين كيسا مصريا، واستمر ذلك الحال مدة سنين وهم ينقلون التراب من القاهرة وكانت نظيفة، ولم يكن فيها من الوخم شيء، ومن بعد ذلك حصل تراخ وكسل وعدم التفات من الحكام، فصاروا يأكلون ذلك القدر في كل سنة ولم يصرفوه، فبلغ ذلك إلى السلطان وحضر منه أمر إلى وكيله بإضافة ذلك المبلغ على خزينته التي بقيت له في ذلك الوقت من الميري بعد المصاريف التي رتبها.»
وشرح ذلك أن مال الكركشي (من كلمة كورك التركية، وهي آلة الجرف) ضريبة فرضت على الملتزمين وخصصت للإنفاق على إزالة الأتربة وما إليها من القاهرة، وعلى مرور الزمن بطل إنفاق هذا المال فيما خصص له وأضيف إلى خزينة السلطان (والخزينة أو الخزنة - في اصطلاحهم - هي مجموع المال الذي يبقى بعد أداء جميع المصروفات ويرسل للقسطنطينية)، وبقوا يجمعون مال الكركشي من الناس وإن كان قد بطل إنفاقه فيما فرض من أجله، وهذا هو السر في تراكم وتكون الكيمان التي كانت تحيط بالقاهرة واستمرت يؤذي غبارها وما ينبعث من رائحتها أهل المدينة إلى أن أزالتها حكومة محمد علي.
المثل الثالث:
ونقصد به توضيح ناحية أخرى من التشتيت والخلط، القاعدة عندنا أن مهمة الجنود الجندية، أما عندهم فالجندية ربما كانت أقل ما شغل جنود الأوجاقات (الفرق) العثمانية، ولنخير وصف أوجاقين منها: سئل حسين أفندي عن أوجاق جاوشان وخدمتهم وأنفارهم؛ فأجاب: إنهم من أرباب الديوان العمومي، ومنهم كتخدا جاوشان وأمين الشون ومحتسب واختيارية، وخدمتهم أن يحضروا في كل ديوان لتحصيل الأموال الأميرية، وكتخدا جاوشان عوائده على طرف حكام الولايات وعلى حلوان بلاد الأموات على كل كيس مصري ألف فضة، وله عوائد على جانب الموجبات، وعوائد على طرف الباشا، وعليه ميري يدفعه إلى ديوان السلطان في كل سنة وأمين الشون عوائده على غلال الميري، وعليه ميري يدفعه إلى ديوان السلطان، والمحتسب عوائده على المسببين الذين لم يضبطوا الميزان، وعليه ميري يدفعه إلى ديوان السلطان ... إلخ.
من هذا نفهم أن أهم ما شغل فرقة جاوشان كان تحصيل الأموال الأميرية عينا ونقدا، وأن حسبة القاهرة كانت من اختصاصه أيضا، وعلينا أن نلاحظ أيضا ما لاحظناه من قبل عن موارد إيراد كبار رجال الأوجاق وتنوعها وتعددها، فها هو كتخذا جاوشان شريك آخر للباشا في حلوان بلاد الأموات، وها هو المحتسب رزقة مما يفرضه على المطففين، وهكذا.
وسئل حسين أفندي عن أوجاق الإنكشارية وخدمته، فأجاب: «إن الأوجاق المذكور أوجاق السلطان، منهم الأغا حاكم مصر وسيفه مطلوق، ومنهم كتخدا الوقت وهو المتكلم بمصر، ومنهم سردار الحج والخزنة والكواخي الاختيارية والجوربجية واليولداشات وهم مقيمون بالقلعة وهم تحت طلب السلطان وعوائدهم مال الدواوين بعد الميري ومنهم الأوضباشية وعوائدهم على الخمامير، وعوائد الأوجاق المذكور على طرف الميري من أصل موجبات العساكر وله أيضا عوائد على الباشا وعوائد على الملاحة والسلاخانة ... إلخ»، ومنه نفهم أن بعض كبار أصحاب المناصب الإدارية كالكتخدا (وهو يلي الباشا) ينتمون لهذا الأوجاق كما نفهم أيضا أن الكثير من شئون الأمن في القاهرة ومدن الريف في أيدي رجال الأوجاق، ونلاحظ أيضا تنوع موارد الإيراد فمن رسوم الجمارك «الدواوين» إلى الرسوم على الخمامير والملاحات.
ننتقل من هذه الصورة إلى صورة أخرى تتصل بها وتوضح «العقلية» التي تمت في تلك البيئة.
ولم يكن بد من أن يكون أول ما عمل محمد علي لتجميع عناصر السلطان وجزئياته بعضها إلى بعض وإقامة السلطة العامة التي لا بد لها من أن تكون في يدها كل الموارد حتى تستطيع أن تقوم بواجبات السلطة العامة، كان لا بد من أن يكون أول ما عمل لتحقيق ذلك متسما بمظهر الاعتداء على الحقوق المكتسبة، بمظهر الطمع في أيدي الناس، بمظهر «المخرب» للبيوت العامرة، القاطع لأرزاق العباد، كان لا بد من أن يتسم العمل في أوله بهذه المظاهر، ولكنه كان في حقيقته غير ذلك، كان وسيلة الخروج من الفوضى والفقر والضعف إلى النظام واليسر والقوة.
وإذا شئنا أن نجمل وصف مراحل إنشاء السلطة العامة مستخدمين لغة ذلك العصر قلنا: إن المراحل الأولى كانت مراحل الضبط والكشف والتحقيق والتصفية وبخاصة في أمور الالتزامات وإلغاء ما لا يستند منها إلى سند شرعي أو تحول إلى منفعة أشخاص أو هيئات. وفي تلك المراحل الأولى أعيد منح بعض الالتزامات بشروط أصلح لولي الأمر، أما المراحل الثانية فكان فيها الانتقال من الالتزام إلى الحجز، ثم يأتي بعد ذلك الدور الباهر دور تحويل الحجر إلى وسيلة قوية للإنتاج الجديد، للثورة الاقتصادية المصرية، ونقتصر في موضعنا الحالي على وصف المراحل الأولى مرجئين دور الإنتاج والخلق لموضع آخر أولى به.
وكان دور الضبط والكشف والتحقيق عنيفا شاقا مؤلما، هو إجراء قاس، ولكن لا بد منه، كان قاسيا؛ لأنه أصاب «ذوي البيوت والمساتير من الناس»، ولكن كان لا بد منه؛ لأن الفساد القديم أدى إلى فقر الجميع حكاما ومحكومين، وإلى وجود نوع من الحكومة لا تملك مالا يمكنها من أن تنشئ قوة حربية مطيعة نافعة أو تطهر ترعة أو تصون جسرا.
خذ مثلا «الرزق»، وأصلها أراض مرصدة على البر والصدقة ولأهل المساجد والأسبلة والمكاتب والخيرات ، وتؤدي ضرائب قليلة جدا، ما الذي وجد محمد علي عند الفحص؟ وجد أن تلك الرزق الإحباسية قد زادت مساحتها لدرجة أضعفت إيرادات الخزانة إضعافا، بينا كما وجد أن إنفاق غلتها فيما رصدت له كاد ينعدم تماما، بل وضع الناس أيديهم عليها واستغلوها لمنفعتهم تماما، ولننقل في هذا عن الجبرتي؛ فهو المتألم جد التألم من خطة قطع أرزاق الناس، قال: «إن الواضعين أيديهم لا يدفعون لجهاتها ولا لمستحقيها إلا ما هو مرتب ومقرر من الزمن الأول السابق، وهو شيء قليل، وليتهم لو دفعوه ... بل يضن ويبخل بدفع القدر اليسير لجهة وقفه ويكسر السنة على السنة ...
والذي يكون تحت يده شيء من أطيان هذا الأوقاف وورثها من بعده ذريته فزرعوها وتقاسموها معتقدين ملكيتها تلقوها بالإرث من مورثهم ولا يرون لأحد سواهم فيها حقا ولا يهون عليهم دفع شيء لأربابه ولو قل إلا قهرا، وبالجملة ما أصاب الناس إلا ما كسبت أيديهم ولا جنوا إلا ثمرات أعمالهم، وكان معظم إدارات دوائر عظماء النواحي وتوسعاتهم ومضايفهم من هذه الأرزاق التي كانت تحت أيديهم بغير استحقاق، إلى أن سلط الله عليهم من استحوذ على جميع ذلك وسلب منهم ما كانوا فيه من النعمة، وتشتتوا في النواحي وتغربوا عن أوطانهم وخربت ديارهم وذهبت سيادتهم»،
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا .
وأضاف إلى ذلك واقعة لها دلالتها، قال: «وفي بعض الأرزاق من مات أربابه وخربت جهاته ونسي أمره وبقي تحت يد من هو تحت يده من غير شيء أصلا، وقد أخبرني بنحو ذلك شمس الدين بن حمودة، من مشايخ برما بالمنوفية، عندما أحضر إلى مصر في وقت هذا النظام أنه كان في حوزهم ألف فدان لا علم للملتزم ولا غيره بها، وذلك خلاف ما بأيديهم من الرزق التي يزرعونها بالمال اليسير وخلاف المرصد على مساجد بلادهم التي لم يبق لها أثر، وكذلك الأسبلة وغيرها وأطيانهم تحت أيديهم من غير شيء، وخلاف فلاحتهم الظاهرة بالمال القليل لمصارف الحج؛ لأنها كانت من جملة البلاد الموقوفة على مهمات أمير الحج وقد انتسخ ذلك كله.»
لنترك هذا ولننتقل لمفاسد ملتزمي الأرض ومشايخ القرى والجباة والأقباط، وننقل في هذا أيضا عن الجبرتي المتألم من طريقة محمد علي كل التألم: «كان الفلاحون مع الملتزمين أذل من العبد المشترى فربما أن العبد يهرب من سيده إذا كلفه فوق طاقته أو أهانه بالضرب، وأما الفلاح فلا يمكنه ... وكان من طرائفهم أنه إذا آن وقت الحصاد والتخضير طلب الملتزم أو قائمقامه الفلاحين، فمن تخلف لعذر أحضره الغفير أو المشد وسحبه من شنبه وأشبعه سبا وشتما وضربا، وهو المسمى عندهم بالعونة والسخرة ... وهذا خلاف ما يلقونه من الإذلال والتحكم من مشايخهم والشاهد والنصراني الصراف وهو العمدة والعهدة، خصوصا عند قبض المال فيغالطهم ويناكرهم وهم له أطوع من أستاذهم وأمره نافذ فيهم فيأمر القائمقام بحبس من شاء أو ضربه؛ محتجا عليهم ببواق لا يدفعها، وإذا غلق أحدهم ما عليه من المال الذي وجب عليه في قائمة المصروف وطلب من المعلم ورده وهي ورقة الغلاق وعده ولوقت آخر حتى يحرر حسابه، فلا يقدر الفلاح على مراددته خوفا منه، فإذا سأله من بعد ذلك قال: له بقي عليك حبتان من فدان أو خروبتان أو نحو ذلك ولا يعطيه الغلاق حتى يستوفي منه قدر المال أو يصانعه بالهدية والرشوة.
وغير ذلك أمور وأحكام خارجة عن إدراك البهيمية فضلا عن البشرية، كالشكاوى ونحوها؛ وذلك كما إذا تشاجر أحدهم مع آخر على أمر جزئي بادر أحدهم بالحضور إلى الملتزم وتمثل بين يديه قائلا: أشكو إليك فلانا بمائة ريال، فبمجرد قوله ذلك يأمر بكتابة ورقة إلى قائمقام أو المشايخ بإحضار ذلك الرجل المشتكى واستخلاص القدر الذي ذكره الشاكي قليلا أو كثيرا أو حبسه وضربه حتى يدفع ذلك القدر ...»
وأضاف الجبرتي إلى ذلك ملاحظة لا ندهش لها: أن ذلك الفساد أنزل الفلاحين من تفكير الآدميين إلى تفكير آخر فأصبحوا - كما قال - «إذا التزم بهم ذو رحمة ازدروه في أعينهم واستهانوا به وبخدمه، وماطلوه في الخراج، وسموه بأسماء النساء ، وتمنوا زوال التزامه بهم وولاية غيره من الجبارين الذين لا يخافون ربهم ولا يرحمونهم؛ لينالوا بذلك أغراضهم بوصول الأذى لبعضهم. وكذلك أشياخهم إذا لم يكن الملتزم ظالما لا يتمكنون هم أيضا من ظلم فلاحيهم؛ لأنهم لم يحصل لهم رواج إلا بطلب الملتزم الزيادة والمغارم، فيأخذون لأنفسهم في ضمنها ما أحبوا، وربما وزعوا خراج أطيانهم وزراعاتهم على الفلاحين» ثم ختم كلامه: «وقد انخرم هذا الترتيب بما حدث في هذه الدولة من قياس الأراضي والفدن.»
ولننتقل إلى ناحية أخرى من نواحي خطة الكشف والضبط والتحقيق، وفي هذا ننقل أيضا عن الجبرتي الناقم على طريقة محمد علي، قال: «إن ديوان المكس ببولاق الذي يعبرون عنه بالكمرك لم يزل يتزايد فيه المتزايدون حتى أوصلوه إلى ألف وخمسمائة كيس في السنة وكان في زمن المصريين، أي في زمن الأمراء، يؤدي من يلتزمه ثلاثين كيسا مع محاباة الكثير من الناس والعفو عن كثير من البضائع لمن ينسب إلى الأمراء وأصحاب الوجاهة من أهل العلم وغيرهم، فلا يتعرضون له ولو تحامى في بعض أتباعهم ولو بالكذب ويعاملون غيرهم بالرفق مع التجاوز الكثير ولا ينبشون المتاع ولا رباط الشيء المحزوم بل على الصندوق أو المحزوم قدر يسير معلوم، فلما ارتفع أمره إلى هذه المقادير صاروا لا يعنون من شيء مطلقا ولا يسامحون أحدا ولو كان عظيما من العلماء أو من غيرهم، وكان من عادة التجارة إذا بعثوا إلى شركائهم محزونا من الأقمشة الرخيصة مثل العاتكي والنابلسي جعلوا بداخل طيها أشياء من الأقمشة الغالية في الثمن مثل المقصبات الحلبي والكشميري والهندي، ونحو ذلك، فتندرج معها في قلة الكمرك وفي هذا الأوان يحلون رباط المحزوم ويفتحون الصناديق وينبشون المتاع ويهتكون ستره ... إلخ.» •••
وقد آن وضع حد لهذا العبث كله واشتد محمد علي في خطة الضبط والكشف والتحقيق بقدر حاجته الشديدة للموارد المالية؛ لمواجهة طلبات الجند الألباني المستمرة المتزايدة ولشراء تأييد رجال الدولة له وإبقائه في منصبه ولتنفيذ خطته لحل مشكلة الأمراء، وكانت تقوم على جملم على الاستقرار في القاهرة والجيزة في عيش هنيء، وكان من وسائله لزيادة الموارد بعض الاحتكارات الصناعية والقيام بعمليات تجارية في نطاق واسع.
أما الاحتكارات الصناعية فأمرها في أول الأمر مالي صرف، وهي في هذا لا تخرج عن الاحتكارات التي عرفتها مصر في كل أدوار تاريخها تقريبا، ولكنها ستنقلب على يد محمد علي لأمر آخر لم تعرفه مصر قبله - ستنقلب أساسا لنهضة صناعية وسياسية اقتصادية جديدة تماما - وأما العمليات التجارية فترجع إلى أن السنوات 1809 و1810 و1811 كانت سنوات قحط في بلاد البحر المتوسط، ولما كان للإنجليز جيوش في شبه جزيرة أيبريا ومالطة وصقلية والجزائر اليونانية؛ فقد اتجهوا نحو مصر لتموين الجيوش وأهل تلك البلاد، ووجدوا أن محمد علي يملك مقادير كبيرة من الحبوب؛ وذلك أن ضرائب الصعيد كانت تجبى غلالا، وأنه وحده يستطيع أن يجمع بالشراء مقادير كبيرة من المنتجين وأنه على استعداد لأن يبيعها بالثمن الملائم، فتمت الصفقات.
ووجه الأهمية في هذا الموضوع ما ظهر لمحمد علي من فوائد توسيع نطاق التجارة الخارجية بعد أن تضاءل شأنها في الاقتصاد المصري كل التضاؤل، فقرر أن يتخذ من هذا قاعدة أخرى لسياسته الاقتصادية.
والوجه الثاني لأهمية هذا الأمر هو تولي ولي الأمر بنفسه شئون التجارة الخارجية، وهو في نظرنا ثانوي بالنسبة للوجه الأول اقتضته ظروف خاصة؛ أهمها أن مصر إذ ذاك - بما في ذلك البيوت التجارية الأوروبية في مصر - لم تملك شيئا من أدوات تمويل وتنظيم تجارة خارجية واسعة النطاق، ولا يرجع ذلك بالمرة لميل غريزي أو مكتسب في نفس محمد علي للتجارة وما إليها، بل يرجع لضرورات الموقف التي دامت تقريبا طول مدته.
وقد مكنته هذه الموارد من مواجهة موقفه الصعب إلا أنها زادت في وحدته وانعزاله، ينظر حوله في تلك الأيام فلا يجد من يستطيع إشراكه معه في أمانيه ومشروعاته، فضلاء العلماء من زمن قديم يميلون للابتعاد عن مسائل الحياة العامة، وهم بعد آسفون على انهيار عالم نشئوا فيه، المنصف منهم يعرف عيوب ذلك العالم القديم كل المعرفة ولكنه لا يعرف بعد ما هو سائر إليه، فإن قلت له: لم لا تتقدم وتساهم في البناء الجديد، أجاب: وهل هذا من شأني، إني رجل علم ودين وللدنيا رجالها.
يمثل ذلك الجبرتي أصدق تمثيل؛ الرجل أمين ودقيق الفهم ومنصف، يعترف حتى للفرنسيين بمحاسنهم ولكنه حزين وناقم؛ حزين على زوال ما ألف، وناقم على ارتفاع أناس وانخفاض آخرين، يؤلمه خمول الفضلاء وتقدم من لا خلاق لهم، ولكن - نسأل - ماذا فعل؟ وماذا حاول، وهو أول من سجل حتى على إخوانه العلماء نواحي الضعف فيهم وفي عصرهم؟ ألا يستطيع أن يرى - وهو الطلعة المهتم بما يجري حوله - أن محمد علي حقيقة جمع في يديه كل شيء ولكنه أيضا أخذ يضطلع بكل شيء، بضبط الأمن والأعمال العامة والصناعة والتجارة والتعليم؟ نعم، رآه تماما فكتب عندما أتم محمد على إصلاح السد الأعظم الممتد من الإسكندرية، وقد كان اتسع أمره وتخرب من مدة سنين وزحف منه البحر المالح وأتلف أراضي كثيرة وخربت منه قرى ومزارع وتعطلت بسببه الطرق والمسالك وعجزت الدولة في أمره ولم يزل يتزايد في التهور وزحف المياه المالحة على الأراضي حتى وصلت إلى خليج الأشرفية التي يمتلئ منها صهاريج الإسكندرية، عندما أتم محمد علي إصلاح ما عجزت عنه الدول السابقة حتى تممه؛ كتب الجبرتي: «وكان له - أي لمحمد علي - مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان، فلو وفقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه.»
شيء من العدالة! هي في نظره عدم مس الحقوق المكتسبة على ما قامت عليه من غصب وتبديد وإسفاف وعبث رأينا شيئا منه في كلام الجبرتي نفسه، ولكن شاء الجبرتي أن يزداد انعزالا وأن يقف موقف الآسف الحزين نافثا مرارة فؤاده في قلمه، وابتلي في آخر أيامه بفقد ابنه قتيلا، فبكاه حتى فقد بصره ومات تاركا صغارا كفلهم صديقه حسن العطار ونالوا شيئا من نعمة محمد علي.
وحديث هذا الرجل الفاضل غير حديث الكثير من أقرانه وزملائه من أهل العلم، إن خلافهم مع محمد علي غير خلافه، وإن ابتعاد محمد علي عنهم غير ابتعاده عن أمثال الجبرتي، إنهم لم يكرهوا عمل التحقيق والفحص والضبط الذي قام به لذاته، إنما كرهوا أن يكون ذلك معهم أو - على الأقل - توهموا أن العمل ما هو إلا تكرار لاغتصابات الماضي لا بأس به إن شاركوا فيه، فلما اكتشفوا أنه ليس مقدمة مقاسمة جديدة بل هو بناء السلطة العامة تتولى الجمع لتتولى الإنفاق على المصالح العامة؛ نفروا واحتجوا، فلم يأبه محمد علي لنفورهم واحتجاجهم علما منه بما وراء ذلك النفور وذلك الاحتجاج، وسهل عليه فض الإجماع بشيء من الإخافة هنا وهناك وبشيء من فضلات الأرزاق هنا وهناك.
قال الجبرتي يصف تلك الحالة: «إن محمد علي عندما فرض فرضه المختلفة جعل ذلك عاما على جميع الالتزامات والحصص التي بأيدي جميع الناس حتى أكابر العسكر وأصاغرهم ما عدا البلاد والحصص التي للمشايخ خارجة عن ذلك ولا يؤخذ منها نصف ألفاظ ولا ثلثه ولا ربعه، وكذلك من ينتسب إليهم أو يحتمي فيهم»، وماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أنهم «أخذوا يأخذون الجعلات والهدايا من أصحابها ومن فلاحيهم تحت حمايتها ونظير صيانتها واغتروا بذلك واعتقدوا دوامه وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين بدون القيمة»، أرأيت النتيجة؟
وبعد ... أيلام محمد علي على إلغاء ذلك الإعفاء الذي أسيء استعماله؟ أنلومه أن لم ير فيهم إلا «رجال أعمال» لا رجال علم؟ وهذا الجبرتي يقول: «إنهم هجروا مذاكرة المسائل ومدارسة العلم إلا بمقدار حفظ الناموس مع ترك العمل بالكلية، وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الأقدمين، واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان، وأجروا الحبس والتعزير والضرب بالفلقة والكرابيج، واستخدموا كتبة الأقباط وقطاع الجرائم في الإرساليات للبلاد، وقدروا حق طرق لأتباعهم، وصارت لهم استعجالات وتحذيرات وإنذارات عن تأخر المطلوب مع عدم سماع شكاوى الفلاحين ومخاصمتهم القديمة مع بعضهم بموجبات التحاسد والكراهية المجبولة والمركوزة في طباعهم الخبيثة، وانقلب الوضع فيهم بضده، وصار ديدنهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميري والفائض والمضاف والرماية والمراسلات والمرافقات والتشكي والتناجي مع الأقباط ...» إلى آخر ما قال.
أناس هذه حالهم لا يعطفون على الملك الجديد ولا يفهمونه، وكان لا بد من أن يمضي زمن قبل أن يكون محمد علي جيلا آخر، وأن يظهر أمثال رفاعة يفهمون النظام الجديد ويعملون في ظله ويسبكون قواعده وطرائقه وأهدافه في القالب النظري الفلسفي. •••
تغلب محمد علي على أصحاب الحقوق المكتسبة، ولكن التغلب التام على العشائر الألبانية وزعمائها لم يكن ميسورا بلا قوة حربية نظامية تحت أمره، ولا يستطاع خلق مثل هذه القوة في يوم وليلة، فاستخدم لكبح جماح العشائر الألبانية وزعمائها كل ما أوتي من سحر الشخصية ومن مقدرة على دفع بعض الأغاوات بالبعض الآخر وكل ما بيده من موارد المال، ولم ينجح في ذلك إلا نجاحا محدودا، فاستمر الألبانيون في نهبهم وتمردهم وتقاتلهم وفتنهم.
وأسوأ من ذلك أن زعماءهم هم الذين دبروا الغدر بالأمراء المصريين فلطخوا يديه - وهو الرجل الذي يمقت المذابح ويستنكر الوحشية والقوة في كل مظاهرها - بدمائهم في مذبحة القلعة في سنة 1811، ولما كان محمد علي أكبر من أن يحمل غيره مسئولية عمل تم بموافقته فقد التزم السكوت ولم يشر إلى أصل الغدر وحقيقته، إن ذلك الغدر كان الشرط الأساسي لقبول الزعماء الألبانيين السفر لمحاربة الوهابيين في بلاد العرب، فقد كانوا على وجلهم القديم من الأمراء، وكانوا لا يستطيعون الابتعاد عن القاهرة وقد أسسوا فيها البيوت واقتنوا ما اقتنوه تاركين منهوباتهم وحريمهم تحت رحمة الأمراء، ولما كانوا أعجز عن محاربة الأمراء في الميدان فقد ارتئوا الغدر والمكيدة - وهما عنصران أساسيان في نوع حربهم - وألزموا محمد علي بالموافقة، ونقول: إنه لو كان نصيب محمد علي في هذه الواقعة نصيب الآمر المنظم لما تم التنفيذ بالدقة التي تم بها.
إن عدم إفشاء سر المكيدة وحده - مع اشتراك عدد كبير في التدبير - يدل على أن المنظمين كانوا ينفذون تدبيرهم هم، وأن نصيب محمد علي لم يكن إلا الإذعان لما يأباه طبعه ويخالف ما جرى عليه حتى 1811 في حل مشكلة الأمراء.
انتهت بهذا الفصل الدموي السنوات الأولى من حكومة محمد علي، وهي سنوات كفاح وعنف وهدم وتبديل وتعديل، وهي سنوات لم يحبها هو وفي بعض وقائعها لا نحبها له.
وعندما زاره - فيما بعد - الأمير بكلر مسكاو ولاحظ أن وقائع تاريخه الأولى ليست معروفة تماما قال له محمد علي: «أنا لا أحب تلك الفترة من حياتي، إن تاريخي الحقيقي يبدأ عندما فككت قيودي وأخذت أوقظ هذه الأمة من سبات الدهور.»
الفصل الخامس
اختلفت المشكلات التي واجهت أعلام الإسلام، سواء أكانوا من رجال الفكر أو من رجال العمل، باختلاف عصورهم وبيئاتهم، باختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، كما اختلفت المشكلات أيضا باختلافها في الخطورة أو في التعقيد، في كونها إسلامية عمومية أو إسلامية خصوصية، وكانت المشكلة التي واجهها محمد علي من أعظم ما واجه أي علم من هؤلاء الأعلام؛ تطلبت منه البت في أمور خطيرة: على أي القواعد يقيم مجتمعه، أعلى القواعد القديمة التقليدية أم على القواعد التي يشير تقدم المجتمع الغربي وقوته باتخاذها؟ وبأي مقياس يقيس عند الاختيار بين الأمرين؟ أبمجرد المنفعة البحتة؟ أو بملاحظة القرب أو البعد عن التفكير الإسلامي الجديد أو القديم؟ إنا نعلم أن الحلال بين والحرام بين، قاعدة عملية جيدة، ولكنها لا تحل كل مشكلة التمييز بين أنواع الحلال، كما أن المشكلة تطلبت منه أن يبت في تحديد خطته نحو مكان أهل الذمة في مجتمعه هذا وفي تحديد علاقته بالمعاهدين.
وأخيرا: كان لا بد من أن يصل إلى البت في أمر آخر: أي مكان يشغل في العالم العثماني؟
ولنبدأ بحثنا من آخر ما وصلنا إليه، ولنثبت ما نراه فيه بلا لبس: إن محمد علي بدأ وعاش وانتهى عثمانيا مسلما وإن مهمته - كما حددها من أول الأمر إلى آخره - كانت إحياء القوة العثمانية في ثوب جديد، وهو في موقفه هذا شبيه كل الشبه بصلاح الدين وأمثاله من الأعلام الذين حاولوا أن يحيوا قسما أو عالما من الأقسام أو العوالم التي تتكون منها دار الإسلام، ولكنه يختلف عنه وعنهم في أمر مهم؛ هم قاموا بالإحياء أو حاولوه لغرض غير غرضه، كان غرضهم مواصلة الجهاد ضد دار الحرب، أما هو فقد تلاشت عنده فكرة دار الحرب هذه، ورمى إلى أن يجد مكانا لعالمه العثماني الحي في الدنيا الجديدة التي خلقها الانقلاب الاقتصادي، فوصل بين أجزائها وصيرها وحدة حقيقية على الرغم من المنافسات القومية.
لقد مرت علاقات محمد علي بالحكومة المركزية في العالم العثماني في أدوار متباينة ولا يهمنا الآن بيان تلك الأدوار، ولكن يهمنا الآن أن نقول: إن تباين أدوارها لا يضعف شيئا مما ذهبنا إليه من سعيه المتواصل لأن يحيي بيديه القوة العثمانية، ولم يهتم في دور ما من أدوار حياته بما يجب أن يكون عليه مركزه الرسمي، أيكون سلطان الدولة أو وصيا أو قيما أو وكيلا؟ لا؟ لم يهتم إلا بشيء واحد؛ أيستطيع أن يقوم بعمله أو لا يستطيع؟ ولم يطالب إلا بشيء واحد: أن يتمكن من تحقيق غرضه دون اهتمام بالألقاب والمظاهر.
وللمصري أن يسأل: وما قدر مصر في تفكيره وغاياته؟ والجواب على ذلك: أن قدرها في عينه عظيم عظم المشروع كله، هي القلب من الجسم الحي الذي يروم أن يرى، وأبناؤها أعوانه في البناء الكبير، نالت من حبه ونالوا من حبه القدر الأكبر وواصل العمل آناء الليل وأطراف النهار في تفهم حاجاتها وتلبية نداء تاريخها ومقتضيات موقعها، ولكنه رفض أن يتخذ منها عالما صغيرا ضيقا محدود الآفاق ضعيف الآمال، كما رفض أن يكون معول الهدم في العالم العثماني حتى ولو كان الهدم اسمه الاستقلال والباعث المحرك له اسمه العصبية القومية. وكان خير من يعلم أن انفصام الوحدة العثمانية معناه تشتت قوتها وأجزائها ووقوع الأجزاء جزءا جزءا في حكم الدول الغربية، وكان التعصب بكل أشكاله أكره الأشياء إليه.
وقد حدد محمد علي ميدان عمله بالعالم العثماني ولم يلق نظرة إلى ما وراء ذلك العالم من دار الإسلام إلا في حدود العاطفة وما يقتضيه وقوع الحرمين في نطاق حكمه من تيسير أداء فريضة الحج وإدرار الخير على فقراء المسلمين، وأمره في هذا أمر أعلام الإسلام كلهم منذ القرن الأول تقريبا، قبلوا الواقع وعملوا في حدوده، ومن يدري ما كان يحدث لو امتد الزمن لمحمد علي لتحقيق إحياء العالم العثماني على الوجه الذي تصوره؟ إننا نستطيع أن نوقن على الأقل بأن ذلك العقل المتوقد والنفس التي تأبى إلا الكرامة كان لا بد لها عندئذ من تدبير الوسائل لخدمة الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لا على أساس وحدة الملك - فقد أصبح مستحيلا - ولكن على الأساس الذي أجاد الأستاذ الشيخ عبده في إجماله: «أن يكون سلطانهم جميعا القرآن ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه، يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع؛ فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه»، هذا قول الحق فيما ذاع عن مشروعات إحياء الخلافة وما يتصل بها، نجمله الآن لنعود إليه تفصيلا في موضع التفصيل.
أما الحديث في وسائل إحياء العالم العثماني فهو في حيز آخر؛ حيز المتجسم البارز الواضح المعالم، أجملنا تصوير هذه الوسائل عندما قلنا: إنها اصطناع قوة الحديد والعلم والمال، يتخذ منها ما ينشئ به قاعدة الارتكاز - كما نسمع في هذه الأيام - في مصر وما يتصل بها من المناطق المكملة أو اللازمة لحياتها أو المناطق المجاورة، ومن هذه القاعدة يكون التأثير فيما ليس تحت يده من أراضي العالم العثماني، كما يكون التأثير في خطط الحكومة السلطانية المركزية نحو الإصلاح والتقدم، نحو العزة والاستقلال، نحو المساهمة والمشاركة في حوادث العالم وحركاته بالأخذ والعطاء والتبادل، ويتيح بذلك لأمم العالم العثماني أساسا لاتحادهم فيه، ويجعل من ذلك العالم مجتمعا يستطيع أن يحيا فيه العربي والتركي واليوناني والصقلبي حياة العمل والكرامة وأن يجد فيه المسلم وغير المسلم النطاق الذي لا يمنع اختلاف الدين من العمل فيه والتعاون فيه لمنفعة الجميع.
وبعد، فما الذي دفع الرجل نحو تلك الغايات التي أضنى في كسبها بدنه وعقله؟ وثكل في سبيلها ابنين في مقتبل الشباب والكثير ممن كانوا في حكم أبنائه؟ قال رفاعة «مفلسف» النهضة المحمدية العلوية:
كان محمد علي سليم القلب، صادق اللهجة، أمينا في تصرفه، حكيما في أعماله، كريما إلى الغاية ، حريصا على عمار البلاد، وفيا في معاشرته، حريصا على ود عشيرته وجنوده ورعيته، متحببا إليهم، وإن كان في بعض المواطن سريع الغضب، فقد كان قريب الرضا، حليف الحلم، صفوحا عن الجاني، مقداما على اقتحام الأهوال، صبورا على الشدائد، شديد الحرص على شرف ناموسه، قوي الفطنة، سريع الإدراك، يجول فكره في الأمور البعيدة، بصيرا في الحساب الهوائي العقلي، عجيب البديهة، غريب الروية، تعلم القراءة والكتابة في أقرب وقت وعمره خمس وأربعون سنة إذ ذاك؛ جبرا لما فاته في زمن الصغر وتداركا لما يزيد في مجده في زمن الكبر، فرغب في مطالعة التواريخ ولا سيما تواريخ الفاتحين كتاريخ إسكندر وبطرس ونابليون، مع المواظبة على الاطلاع على الكازيتات (الصحف) الإفرنجية.
وكان صاحب فراسة؛ إذا تكلم أحد أمامه بلغة أجنبية فهم من النظر إلى حركته وإشارته مقصده، يستشير العقلاء والعلماء في جل أموره، وكان نشيطا يحب الحركة ويكره الكسل والبطالة، قليل النوم، سريع اليقظة، يستيقظ غالبا عند الفجر يسمع بنفسه العرضحالات التي تعرض له يوميا عند الصباح ويعطي عنها جوابا ثم يذهب لمناظرة العمارات الأميرية التي كان مغرما بها.
وكان متدينا إلى حد الاعتدال بدون حمية عصبية ولا تشديد، فكان يغتفر لأهل الملل والدول في بلاده التمسك بعقائدهم وعوائدهم مما أباحته الشريعة المطهرة، وهو أول من أعطى للعيسويين الداخلين في الخدمات الأميرية لمنافعهم الاقتضائية مزايا المراتب المدنية، وكان يؤثر الفعل على القول، بمعنى أنه إذا أراد ترتيب لائحة فيها منفعة للأمة شرع فيها بقصد التجريب وأجراها شيئا فشيئا على طريق الإصلاح والتهذيب، فإذا سلكت في الرعية وصارت قابلة لعوامل المفعلولية كساها ثوب الترتيب والانتظام وأخرجها من القوة إلى الفعل في ضمن قانون الأصول والأحكام؛ لما أنه كان يقال: أحسن المقال ما صدق بحسن الفعال.
وكان مولعا ببناء العمائر وإنشاء الأغراس وتمهيد الطرق وإصلاح المزارع وإتقان الصنائع والأعمال، يرغب في توسيع دائرة التجارة ويستميل عقول الأهالي ليجذبهم إلى ما فيه كسب البراعة والمهارة ... كالملتقط لليتيم المفارق أبويه لينقذه من التهلكة ... وما حصل له في الاستيلاء على مصر من التسخير والتيسير يدل على حسن النية وصفاء الطوية، فكأنما أرشده إلى بلوغ هذه المنزلة مصداق حديث: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»؛ فكان دأبه في العناية بشئون تقديم مصر الإخلاص وحسن النية، فأعماله صارت على ذلك مبنية، وقد خلصت نيته فهبت صوبه نسمات القبول وأصاب بشرف النفس وعلو الهمة وإخلاص العمل وإدراك المأمول.
ولنستخرج من كلام رفاعة هذه الأصول، ربما كان أساس صفاته جميعا ما عبر عنه رفاعة بقوله: «شدة الحرص على شرف ناموسه»، فهي الصفة التي أبت له إلا المجد والترفع عن الدنايا والانصراف إلى عظائم الأمور، وجعلته وفيا صفوحا صادق اللهجة أمينا، كما جعلته مقداما صبورا محبا للحركة كارها للكسل والبطالة، أما أظهر صفاته العقلية فما عبر عنه في قوله: «قوة الفطنة وسرعة الإدراك.»
كره محمد علي الإسراف والتبديد والإهمال كرها بلغ منه أن اعتبرها بمثابة الكفر بنعمة الله.
قال في منشور له من تلك المنشورات الممتعة التي يعبر بها عن كل ما يجول في نفسه: «إن نيلنا لوطن عديم النظير كهذا هو من النعم الجسيمة، وعدم القيام بالسعي والاجتهاد في عمارتها يكون عين الكفران بالنعمة، وهذا ما لا تقبله شيم جبلتي وتأبى نفسي أن أكون شريكا لكم في ذلك»، ولعلك قد لحظت إطلاق الوصف «الخيري أو الخيرية» على الكثير من منشآته، فقد رام بها الخير بمعنى أوسع جرى به الاستعمال، ويكاد يرتفع في نظره بناء القنطرة أو صيانة الجسر من «الأعمال العامة» أو «الأشغال» إلى مرتبة العبادة والاعتراف بأنعم الخالق - عز وجل - وندرك بهذا سر ما لاحظه رفاعة من «أن منافع مصر العمومية قد تمكنت كل التمكن في الذات المحمدية العلوية وتسلطنت على قلبه وأخذت بمجامع لبه»، وأنه عمل تماما بما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم : «من لم يحمل هم المسلمين فليس منهم.»
وقد اهتم - في ذلك العصر - سلاطين الدولة العثمانية بدولتهم: سليم ومحمود وعبد المجيد، ولكن على أي أساس؟ أعلى الأساس المحمدي العلوي اصطناع قوة الحديد والمال والعلم؟ لم يحاولوا إلا اصطناع قوة الحديد : إنشاء القوة العسكرية المدربة على النمط الأوروبي وإقامة الحكم المطلق بسحق عوامل الانفصال، أما تنمية الموارد فسبيلها خطة منح الماليين الأجانب هذا الامتياز وذلك، باستغلال منجم أو إدارة مرفأ أو سكة حديدية أو بريد، وهذه أغلال يغل بها السلاطين أيديهم وأيدي رعاياهم.
وبالجملة لم يجد السلاطين حلا لمشكلة دولتهم الأساسية، وهي - كما قدمنا - تحويلها إلى مجتمع تتضافر فيه الأمم على تحقيق غايات مشتركة وتتعاون - حرة مختارة راغبة - على البأساء والنعماء، وهذا يفسر موقف السلاطين من خطة محمد علي: استغلال الرجل ما أمكن والكيد له ما أمكن ثم المحاولة الصريحة لسحقه، ولم يتم لهم سحقه، ولكن تم لهم إفساد مشروعه، وسارت الدولة نحو ما قدره لها محمد علي: الانحلال التام، وتفرقت كلمة هذا العالم العثماني إلى ما نراه اليوم.
وفي جزيرة العرب - في ذلك العصر - وفي أنحاء أخرى منعزلة من دار الإسلام كانت حركات أخرى إسلامية لها شأنها وخطرها، كالوهابية وما انبعث عنها من الجداول التي انسابت في أقطار قديمة وأقطار جديدة من دار الإسلام. وكانت غايتها الكبرى إحياء الحياة السلفية، والغاية لها قدرها، وكل مجتمع جدير بهذا الاسم لا يستغني عما يدفعه نحو السلف كما أنه لا يستطيع أن يبقى إذا اعتبر نفسه في حرب دائمة ضد حاضره وضد مستقبله، وقد احترم محمد علي، بل واستخدم، الجماعات الدينية التي أخذت تتكون وتنشط في وقت بعث الوهابية في نشر الإسلام وتهذيب حياة الشعب وترقيتها في الأقطار السودانية. ولكن الوهابية وخططها في عصره كانت مما لا يحتمل، وما جرى من نهب مزارات الشيعة بالعراق والروضة النبوية بالمدينة والاعتداء على الآمنين في الجزيرة وفي العراق والشام وفي البحار العربية؛ مما لا يمكن التجاوز عنه، فلا مناص من الحرب.
وإن شئت مثالا يوضح لك ذلك «الضيق» الذي لا يطاق - وبخاصة إذا كان يحمل سيفا - تجده فيما صرح به الشيخ محمد رشيد رضا في المنار من استنكار الاحتفال بذكرى محمد علي المئوية في المساجد مبينا «سيئات محمد علي وأكبرها قتاله للوهابية وقضاؤه على ذلك الإصلاح !»
وأوروبا أيضا اهتمت بالإسلام والمسلمين عموما وبالعالم العثماني خصوصا، اهتمت به وبهم بداعي اشتباك المصالح الحسية والمعنوية التي أملت أحيانا سياسة الاستحواذ وأحيانا سياسة الابتعاد، وليست مظاهر الاهتمام الأوروبي مما يمكن إجماله في الصيغة الواحدة، وإنما هي مما يزداد وضوحا عند دراستها مقترنة بالوقائع في موضع التفصيل، ولكن يصح أن نقف في موضعنا الحاضر عند مسألة مهمة من مسائلها، وهي الآتية: هل اتسع الفكر الأوروبي في ذلك العصر للبحث عن أسس يصح أن يقوم عليها تعاون حقيقي جدير بهذا الاسم بين دار الإسلام وأوروبا؟ إن من المسلمين إذ ذاك من خطا هذه الخطوة ورآه أمرا ممكنا لازما، فهل خطاها أحد في أوروبا إذ ذاك؟
إنا لا ندخل في عناصر المسألة سعي بعض العلماء وغير العلماء من الأوروبيين لفهم الإسلام والمسلمين؛ من أجل تيسير مهمة الحاكم الأوروبي في القطر الإسلامي، أو إمداد وزارات الخارجية بالحقائق النزيهة وما إلى ذلك، ولا ندخل فيها سعي أصحاب الدعوات إلى مذاهب اجتماعية تستند إلى التطور الاجتماعي الأوروبي وتروم أن تجد في دار الإسلام ميدانا لانتشارها. بل ولا ندخل فيها ما تلوح عليه مسحة عدم الاتصال بمنفعة أوروبية أو فكرة أوروبية بحتة؛ كاشتغال بعض الأوروبيين بمسائل الخلافة، أو إنشاء وحدات داخل نطاق دار الإسلام تقوم على قواعد من وحدة اللغة أو الجوار أو الثقافة، أو ما شابه، أو إحياء فنون أو عادات إسلامية تقليدية.
إننا نخرج هذه الحركات من تحديدنا المسألة، لا لأننا لا نرى ما فيها من حسن النية، ولا لأننا لا نعتد بأهميتها، ولا لأننا لا نعتقد أن في بعضها ما يوجد وجها للتعاون بين المسلمين وغير المسلمين؛ إنما نخرجها لسبب واحد: لأنها جميعا تندرج تحت باب المنفعة الأوروبية بمعناها الشامل، وقد أرجأنا بحث المنافع الأوروبية بأنواعها ونتائجها إلى موضع التفصيل، ومسألتنا تقوم على الاعتراف بالإسلام لذاته وكما هو وقبوله كما هو في تنظيم عالمي، وجوابنا على ذلك: أن أوروبا في عصر محمد علي لم تكن مستعدة لذلك. وإن نظرتها وخططها نحو الإسلام والمسلمين كلها مما يقوم على قاعدة المصالح الأوروبية المختلفة، ويرجع ذلك لسببين: يرجع أولا؛ لاعتقاد الأوروبيين إذ ذاك أن رسالة الإسلام قد قضيت، وألا رجاء للمسلمين إلا بأن يأخذوا عن المجتمع الأوروبي فكرة «الحركة» والتخلي عن فكرة المحافظة والسكون، كما يرجع ثانيا: لأن فكرة التنظيم العالمي كانت إذ ذاك لم تنتقل إلى حيز المباحث السياسية العملية.
الفصل السادس
وقد قبل محمد على الأخذ بفكرة «الحركة» لا على أن رسالة الإسلام قد قضيت، بل تحقيقا لقانون قديم من قوانين تطور الأمة الإسلامية، وهو وجوب بعث حافز من دعوة أو عصبية يخرج الأمة من طور سكون إلى طور حركة، وقد يكون مصدر الحافز داخليا وقد يكون خارجيا، ولكن أثره دائما أشبه ما يكون بأثر الخميرة في العجينة تكسبها سرا من أسرار الحركة.
وقد عبر هو نفسه عن الأخذ بفكرة الحركة، وعن كونها تتم على يد صفوة القوم يقودون ولا يقادون يعرفون وجهتهم ويتجهون نحو الوجهة؛ أحسن تعبير، قال في خطبة له في آخر أيامه: «إن الذي أذكره من أحوال العالم لا بد من أن يكون معلوما لديكم إجمالا، وذلك أن أهل الملل الموصوفين بالقدرة والقوة لم يكونوا في الأصل من أصحاب الاقتدار واليسار الذي هم عليه الآن، بل كان كل منهم جاريا على طراز قديم، ثم ظهر فيهم بعد ذلك ذوات من أصحاب الانتباه فأخذوا يجهدونهم بوسائل حتى إنهم بسبب ما أثمر من سعيهم واجتهادهم في حقهم علموا قيمة محبة الوطن فكان ذلك سببا في تقدمه.»
وعلى هذا فما يعمل له من اصطناع قوة الحديد والعلم والمال لتأسيس ما سميناه «قاعدة الارتكاز» في العالم العثماني له شروط: أولها؛ الاستعداد لقبول ما يلائم المصلحة من مناهج الغير، ويتأتى ذلك بالمخالطة على نحو ما والاستعداد - داخل حدود طبعا - لدفع ثمن تلك المخالطة «فالغير» لا يخدم حبا في سواد العيون فقط. وثانيها: العمل على خلق «الصفوة» بمختلف وسائل التربية والتكوين. وثالثها: ابتكار «أدوات التثبيت» أو اتخاذ كل ما يمكن اتخاذه لجعل المستحدثات جزءا لا يتجزأ من كيان المجتمع معاونة لفعل الزمن.
و«المخالطة» شرط أساسي للنقل عن الغير، عدها رفاعة «مفلسف النهضة» من أكبر ما أقدم عليه محمد علي، قال: فلو لم يكن للمرحوم محمد علي من المحاسن إلا تجديد المخالطات المصرية مع الدول الأجنبية بعد أن ضعفت الأمة المصرية بانقطاعها المدد المديدة والسنين العديدة؛ لكفاه ذلك؛ فقد أذهب عنها داء الوحشة والانفراد وآنسها بوصال أبناء الممالك الأخرى والبلاد لنشر المنافع العلمية واكتساب السبق في ميدان «التقدمية»، وأكسبت المخالطة وضعا جديدا للجاليات الأجنبية ورثته مصر فيما ورثت عن عصر محمد علي.
سكن الأوروبيون مصر قبل عصر محمد علي لأغراض محدودة وفي ظل نظم معينة، وكانت بيوتهم التجارية قبل ذلك العصر مهمتها الأصلية الوكالة عن الشركات والهيئات الأوروبية المختلفة المرخص لها وحدها من جانب الدول الكبرى بالتصدير إلى مصر والاستيراد منها، وقد خضعت إقامة هؤلاء الأوروبيين لمجموعتين من النظم، أما المجموعة الأولى: فتشتمل على اللوائح المختلفة التي أصدرتها الشركات والهيئات المحتكرة للتجارة الشرقية، وتتناول هذه اللوائح تنظيم شئون المعيشة والعمل لمن رخصت لهم من الأوربيين بسكنى مصر وتمثيلها فيها تنظيما مفصلا، وعهد إلى القناصل - وهم لسنوات عديدة من حكم محمد علي تجار تحت إشراف الشركات والهيئات المحتكرة - تنفيذ تلك اللوائح.
أما المجموعة الثانية: فتتكون من منطوق العهود الصادرة من السلطان، المتخذة شكل معاهدات بين حكومة الدولة والدول الأوروبية الخاصة بالامتيازات التي منحها السلطان لرعايا تلك الدول عندما ينزلون أرضه ويتاجرون مع رعاياه. ومما طرأ عليها فعلا في اتجاهي التعطيل الكلي أو الجزئي أو التنفيذ في الأيام السابقة لعهد محمد علي (وكان التعطيل هو الأغلب).
وكلتا المجموعتين أصابهما تعديل جوهري في أيام محمد علي، فالمجموعة الأولى هدمتها الثورة الفرنسية والانقلاب الاقتصادي الكبير؛ فقد ترتب على الانقلابين إلغاء الشركات والهيئات المحتكرة للتجارة الشرقية (وأهمها شركة الليفانت الإنجليزية وغرفة مرسيليا التجارية) وجعل تلك التجارة حرة للأفراد يشتغلون بها ويسكنون مصر وغيرها من أقطار الدولة العثمانية بلا قيود سوى ما تصدره الحكومات من جانبها أو بالاتفاق مع السلطات العثمانية لأغراض الأمن العام في أوروبا وفي مصر.
وترتب على ذلك أن اكتسب قناصل الدول الكبرى على الأخص صفة الممثلين الرسميين لحكوماتهم وحرم عليهم مزاولة التجارة، وفتحت بذلك الأبواب للتشجيع على الهجرة لمصر والاستيطان بها وكسب الرزق واستثمار الأموال بها، وصار للجاليات الأجنبية في حياة مصر وأهلها شأن جديد تماما.
أما المجموعة الأخرى من النظم فأمرها غير أمر الأولى، لم تمتد يد لنصوصها بالحذف أو الإضافة أو التعديل، ولكنها أصبحت تطبق في ظروف تختلف تماما عما وضعت له، فقد وضعت في ظروف لا تعرف فيها هجرة الألوف من الأجانب لمصر، ولا يعرف فيها الاستيطان الدائم وطلب الرزق من كل الوجوه، ولا يعرف فيها قدوم المهندس والطبيب والصحفي والمعلم للعمل الحر أو في خدمة الحكومة المصرية، ولا يعرف فيها «اللاجئ السياسي» أو صاحب الدعوة لمذهب سان سيمون وما إليه، ولا يعرف صاحب الحانوت الصغير أو الكبير أو المصنع الصغير أو الكبير ولا المصارف ولا «الأعمال» الكبرى، ولا يعرف فيها انتشار الأجانب في ريف مصر وحواضرها ولا الأجنبي الذي يفلح الأرض أو يقتني العزب أو العمارات، ولا تعرف فيها المطبعة أو المدرسة أو الملجأ أو المستشفى الأجنبي.
بهذا كله أصبح للجاليات شأن في حياة مصر لم تعرفه قبل محمد علي، وقد أدرك محمد علي ما في هذه المخالطة من نفع لخططه في اصطناع الحديد والمال والعلم، بل أدرك أنها ضرورية كل الضرورة، واعتقد أن سطوته الشخصية تغني عن وضع اتفاقات دولية جديدة، تنطبق على الظروف الجديدة وتقي أمته وخلفاءه الأضرار البالغة التي نجمت عن تطبيق معاهدات القرن السادس عشر في ظروف القرن التاسع عشر.
كما أن نظام الاحتكار الذي سار عليه طول مدة حكمه تقريبا كان قيدا شديدا للنشاط الأجنبي في مصر، إلا أن عصره شهد البوادر الدالة على المستقبل، وقد قاومها بسطوته الشخصية، مثلا عندما اعتدى قنصل سردينيا (مملكة بيدمنت: نواة الوحدة الإيطالية) على أرسلان أغا أمين جمرك بولاق كتب محمد علي: «إن أرسلان أغا صبر وتحمل هذا الأحمق ضرب القنصل وعدم مقابلته بالمثل في محل الواقعة، فأوجب ذلك اضطراب ضميري، وحيث إني قد نبهت أكيدا على القنصل الجنرال بعزل المذكور وإبعاده عن مصر فإذا استعلم من الديوان عن أشغال تتعلق بالميري قبل مخابرة القنصل الجنرال فلا يلتفت إلى ما يرد منه، وإنه لا تعطى إليه أية إجابة من الديوان، وأن ينبه على المعاون الأول بالقبض على الياساقجي خارج منزل القنصلاتو وإحضاره إلى الديوان وضربه خمسمائة نبوت أدبا له على ما وقع منه في ديوان جمرك بولاق، وإفهامه أن الغرض من إعطاء الياسقجية للقناصل هو لصيانتها والمحافظة عليها وليس لمساعدتهم في فعل أعمال مغايرة كهذه، وإن أمكن إيجاد من يليق لأمانة جمرك بولاق بدل أرسلان أغا فيرفع عن وظيفته جزاء على عدم محافظته على شرف وناموس الحكومة لقبوله الضرب وعدم مقابلة القنصل المذكور بالمثل.»
وإنا نحمد لمحمد علي أنه لم يفكر في تقييد حرية أفراد شعبه في الانتفاع أو عدم الانتفاع من تلك المخالطة الأوروبية، وامتنع عنهم بسماحته بذلك اللون الممقوت من ألوان الاستبداد الذي يأبى إلا أن يصب حياة الأمة الروحية في القالب الذي تشاؤه الدولة لها، وبقى المصريون إلى يومنا أحرارا يتجهون نحو ما يرتضون لأنفسهم من شتى المثل العليا، كما بقى الباب مفتوحا يلجه من يريد العمل على خلق ثقافة غنية بتباين أصولها وتنوع عناصرها.
ذلك لأنه أحب لشعبه ما أحب لنفسه، فكما أنه لا يرفض النظر في شيء ما لمجرد أجنبيته، وكما أنه دءوب على التعلم، شغوف بالاستعلام من كل من يعلم شيئا ما، كذلك أحب أن يكون شعبه عموما و«الصفوة» التي عمل على تكوينها خصوصا. «تلك الصفوة» هي «الأرستقراطية المتكلمة بالتركية» من أصحاب المناصب الحربية والإدارية والفنية، وهي من خلق محمد علي، عرفنا تحديده لمهمتها في مشروعه، وعلينا الآن أن نلم بأشياء أخرى عنها، كونها محمد علي من شتى العناصر، فمن رجالها من جمعهم أحداثا من المماليك والأحرار من أبناء العالم العثماني ومن مصر وأقاليمها السودانية أو من سبي المورة أو اللاجئين منها، كفلهم محمد علي منذ نعومة أظفارهم ورباهم وعلمهم في مدارسه في مصر وبعث منهم من بعث إلى أوروبا، كما أن من هذه الأرستقراطية من لحقوا بها كبارا، تعلقوا به وتعلق بهم وأئتمنهم على أعز ما لديه: قيادة أمته سواء السبيل.
وعلى ذلك فلم تكن تلك الصفوة تركية لحما ودما، بل كان لسانها التركية إما طبعا وإما اكتسابا، وانطبع أعضاؤها على تباين الأصول بالطابع العثماني - أو، كما عرفناه، العثمانلي - في آداب السلوك وتنظيم المنزل وما إليه من طرق المعيشة، وذلك أن محمد علي فتح مصر للغة الترك وآدابهم مفنونهم وعاداتهم، وانتشرت التركية في مصر انتشارا جديدا تبعا لأنها لغة ولي الأمر ولغة الحكومة ولغة «الصفوة» من القوم، إلا أن تأثير ذلك في الثقافة المصرية كان ضئيلا؛ فلم تتأثر العربية بالنماذج التركية تأثرا يعتد به، اللهم إلا في «الرسائل».
واستمر الكتاب على اتصالهم القديم بالنماذج العربية الأصيلة، ولما ابتدءوا التطلع إلى غيرها من المناهل اتجه نظرهم إلى باريس لا إلى القسطنطينية، ولم يكن رجال الصفوة أيضا كلهم من المسلمين، فمنهم من كان قبطيا أو من نصارى السوريين والأرمن، إلا أنهم كانوا جميعا يتفقون في شيء واحد، في أن محمد علي بالنسبة لهم جميعا هو «ولي النعم»، تعهدهم بالتعليم وقلدهم مناصب الدولة وأنعم عليهم بالأرزاق السخية من مال وأرض وشرفهم ورفع قدرهم بين الناس، بل وكان يختار لهم من بنات القصر وجواريه زوجات نشأن في ظل الحشمة والكمال والعز، لا غرو إذن أنه وحده «ولي النعم».
استفسر يوما السياسي الفرنسي بوالكمت من بوغوص بك الأرمني المشهور عن صحته فأجابه: «إنني بخير لأن ولي النعم بخير»، إن صحته لا يمكن أن تكون إلا بخير ما دامت صحة سيده جيدة، ولكن محمد علي وضع علاقته بهم لا على أساس السيد والمسود بل على أساس آخر: علاقة الأب بأبنائه، وما أجمل تعبيره هو عن ذلك، جمع مرة مأموري الحكومة للمباحثة في شئون الدولة، وكان ذلك في سنة 1263، في السنوات الأخيرة من حكمه، ولما أتموا عملهم دعاهم للطعام، وجمعهم بعد ذلك بأيام وخطب فيهم خطبة يصح أن نعتبرها «عهده السياسي» - ولنا لها عودة - جاء فيها:
فلتعلموا أني قد ناهزت سن الثمانين ولست في تمني شيء لنفسي، بل كان تركي للنوم والراحة وبذلي لاجتهادي ليلا ونهارا إنما هو من أجل سعادتكم وإصلاح حالكم، وحيث إني قد ربيتكم جميعا من صغر سنكم وعلمتكم القراءة والكتابة في المكاتب وأوصلتكم إلى ما أنتم فيه من الدرجات وقبلتكم أولادا لي وصرت لكم أبا بحق؛ وجب أنكم لا تمتنعون من قبولي أبا لكم، بل تقبلونني.
يرجو لهم ومنهم كل ما يرجوه الأب لأبنائه ومن أبنائه، ويأخذهم باللين أحيانا وبالغلظة أحيانا كما يأخذ الأب أبناءه باللين وبالغلظة، وكان عندما يحسن أحد رجاله يبتهج لهذا الإحسان ابتهاج الأب لإحسان ابنه لا ابتهاج الرئيس لإحسان المرءوس فحسب، كما كان عندما يقصر أحدهم يقع هذا التقصير في نفسه وقع تألم الأب وأساه لقصور ابنه عن أمله، ولنسمع تعبيره عما ينتظره منهم: «إنه لترادف تقلبات الأحوال وتنوع تيار صعوباتها وشدائدها من زمن بعيد بعكس وجهة آمالي، وكلما أتأمل لها بإمعان النظر، ولما يحصل من وخامة عواقبها بالنسبة لجسامة تلك الخطوب كنت أتجلد بعزم ونيات خيرية لمقابلة شدائد تلك الصعوبات، ومضت علي الأوقات العديدة وأنا متحمل المشاق تاركا للراحة.
وبديهي أنه لا يتأتي لشخص بمفرده مصادمة تلك الخطوب وإذلالها، بل يحتاج لأعوان ومساعدين ذوي عزيمة حتى ينجح في نياته وأعماله، وإنه من الأمور المسلمة أن أصحاب الفتوحات وواضعي القوانين في الأعصر الماضية مع ما كان لديهم من الثروة كانت الشدائد تلجئهم إلى أعوان لبث قوانينهم وتوطيد دعائمهم حالة كونهم محفوفين بنفوذ الكلمة، ومما لا ارتياب فيه أنكم لو اتحدتم كشخص واحد وبذلتم الهمم بساعد الجد وتعودتم على ترك الراحة وأبرزتم الغيرة بالنشاط وتحمل المشاق بالتجلد لبث العدل وتشييد العمران للأعقاب والأخلاف ليكون سببا للفوز والنجاح ونيل السعادة.»
وماذا يحدث عند التقصير؟ قال: «ولتعلموا أنكم إذا لم تحولوا من خصالكم القديمة من الآن فصاعدا، ولم ترجعوا من طرق المداراة والمماشاة، ولم تقولوا الحق في كل شيء، ولم تجتهدوا في طريق الاستواء، ولم تسلكوا سبيل الصواب لصيانة ذات المصلحة؛ فلا بد لي من أن أغتاظ منكم جميعا. وإذا كنت موقنا بتقدم هذا الوطن العزيز على أي صورة كانت وملتزما فريضته علي صرت مجبورا على قهر كل من لم يسلك هذا الطريق المستقيم اضطرارا مع حرقه كبدي وسيل الدموع من عيني، فالذي أرجوه من الخالق - سبحانه وتعالى - أن يجعل نصيحتي هذه مؤثرة في قلوبكم؛ حتى أشاهد منكم حسن الحركة آنا فآنا، وأعاين ما تستحقونه من الخير، وتقر عيناي بامتياز كل منكم حسب أقصى أملي.»
فلم يكن محمد علي في علاقاته برجاله الحاكم المطلق، بل كان الأب الخير الحازم، يسعى لأن يجعل منهم رجالا يستطيعون فهم مقاصده ومعاونته على تحقيق آماله، وهذه أوامره الحكومية قل أن تجد لها شبيها في أوامر الحكومات، فكانت في جمعها للنصح والترغيب والترهيب وضرب الأمثال والإشارة إلى أن منفعة الرعية أو مجد الوطن متوقف على ما نيط بعمال الحكومة أداؤه؛ صورة صادقة لشخصية هذا العاهل الكريم. وهذه أيضا طريقته الإدارية، جعل لكل شأن من الشئون العامة ديوانا وكان لا يتخذ قرارا في مسألة ما إلا بعد أن يستمع لآراء المجلس المختص بها؛ ذلك لأنه لم يكن حاكما فحسب، بل كان طوال مدته مربيا ومكونا للرجال، وأن مجالس الإدارة لم تكن في نظره هيئات إدارية فحسب، بل كان لها غرض آخر هو تكوين الصفوة من الرجال، وتشجيعهم على التفكير المستقل.
وقد بدأ محمد علي بتأليف هذه الأرستقراطية طورا جديدا من أطوار تنظيم الحكومة الإسلامية، بدأت تلك الحكومة - كما نعرف - باستعانة ولي الأمر برفقائه من صحابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم دخلت في طور إنشاء الدواوين وظهور طائفة الكتاب، يتلوه طور التوحيد بين الرياسات المختلفة وبين خدمة ولي الأمر الشخصية، وتأكدت هذه الصفة في الدول التركية بصفة خاصة.
ثم جاءت الدول العثمانية ونما فيها نظام دقيق مفصل لتكوين الأداة التي استخدمها السلطان لحكم رعاياه، أو بعبارة أصح: لقيادة الرعية. فكان رجال الحرب والحكم في تلك الدولة عبيد السلطان، اشتراهم بماله أو سباهم في حروبه وغزواته أو جمعهم قسرا من أبناء الذميين، وفرض عليهم جميعا أنواعا من التدريب والإعداد، كل منهم بحسب ما يؤهله له استعداده العقلي والبدني. وحاول أن يضع كلا منهم فيما يصلح له، كما حاول أن يحيط كلا منهم - طول حياته - بما اخترع من القيود؛ ليبقى كل منهم في نوع الحياة ونوع العمل الذي رسم السلطان.
وقد شبهه أستاذنا أرنولد توينبي بالكلاب التي يدقق الراعي - كل التدقيق - في اختيارها وإعدادها وتناسلها وهي (...) الأيمن في قيادة القطيع، في حفظه من التردي في المهالك وفي منع الضواري عنه، وبالجملة في منع القطيع من الشرود عن جادة الطاعة والانقياد. والمطلعون على تاريخ النظم العثمانية يعرفون كيف خرج «الكلاب» على راعيهم وأبوا - على توالي الزمن - إلا أن يملوا هم شروطهم وأن يعيشوا عيشتهم على النحو الذي يرضيهم، فكان فساد الحكومة العثمانية، وكان بحث السلاطين ابتداء من القرن الثامن عشر عن أسس جديدة لتنظيم الحكومة العثمانية.
أخذ محمد علي عن النظم العثمانية الأولى ضرورة خلق الصفوة الفعالة، كما أخذ عنها أيضا ضرورة ربطها بولي الأمر بأقوى الروابط، ولكن الشبه يقف عند هذين الحدين، فالصفوة المحمدية العلوية لا تتكون إلا لحد محدود من المماليك والعتقاء والسبي، وحتى هذا كان في أوائل عهده فقط، وفيما بعد جرى محمد علي على طريقة الاختيار - أو الفرز، في اصطلاح ذلك الوقت - من بين تلاميذ معاهده الدراسية.
أما عن الروابط بين الأرستقراطية وولي الأمر فقد رأينا كيف وضعها محمد علي على أساس علاقة المحبة والتضامن في اكتساب المجد وفعل الخير والإصلاح المعمر، وكان أمله أن يبقى هذا بعد موته بين أبنائه وأبناء رجاله، وعلى هذا الأمل بنى عهده السياسي، واكتفى - في أمر الناحية التنظيمية بمعناها الضيق - بما سنه من لوائح تنظيم الإدارة متعلقا بواجبات الرؤساء والمرءوسين وما إليها - ونظر إليهم - كما رأينا - نظرة تغاير نظرة السلطان إلى أعوانه - أو بعبارة أصح إلى أداته - فلم يعتبرهم مجرد آلات للتنفيذ، بل أشركهم في وضع الخطة وفي تنفيذها على اعتبار أن الخطة خطتهم وأن النجاح أو الفشل مما يهمهم مباشرة.
قال في الخطبة التي سبق أن أشرنا إليها واعتبرناها عهده السياسي: «المحاشاة والموافقة في الأمور المضرة بالمصلحة والأصول الموضوعة من أعظم الجرائم، فيجب الاجتناب عن ذلك حتى إذا كنت آمرا أحدكم شفاها أو تحريرا بقولي له: أجر المادة الفلانية بهذه الصورة وحصل منه اعتراض علي وذكرني وأفادني شفاها أو تحريرا بأن المادة المذكورة مضرة فهذا يكون منه عين ممنونيتي الزائدة، وقد أثبت لكم مرارا كسب محظوظيتي من الإخطارات الواقعة حتى الآن التي يترتب عليها ممنونيتي في أعلى درجة وها أنا مرخص لكم في ذلك الرخصة التامة، المرة بعد المرة.»
ولم تتكون الأرستقراطية المحمدية العلوية - كما كان الحال في الهيئات الحاكمة الإسلامية القديمة - من رجال السيف ورجال القلم فقط بل هي أرستقراطية الفنيين، وذلك بحكم ما أخذته الدولة المحمدية العلوية على نفسها من الشئون التي لم تر الدولة الإسلامية - أو الدولة الأوروبية حتى عصر الانقلاب الاقتصادي الكبير - أنها من شأنها، وبحكم القاعدة التي أخذت تسود في القرن التاسع عشر وقضت بوجوب إسناد تلك الشئون الجديدة إلى فنيين قد أعدوا إعدادا خاصا لمواجهة التطورات الجديدة وتعقيداتها، وهذا فن القيادة العسكرية مثلا، كان حتى ذلك العهد يكفي للإعداد له حسن الاستعداد الطبيعي وإتقان ركوب الخيل واللعب بالسيف، فقد أصبح فنا معقدا، يقتضي من أصحابه دراسات علمية نظرية تقوم عليها أخرى تطبيقية بالإضافة إلى ما كان يقتضيه من التدريب الجسماني والخلقي. وقس على ذلك ما اقتضته دائما خطة محمد علي الشاملة من اصطناع قوة الحديد والمال والعلم.
وإذ قد أصبح «للفنية» هذا الشأن في تكوين رجال الصفوة، فلم يبق محل لاشتراط الإسلام فيهم. والواقع أن استخدام محمد علي لغير المسلمين يختلف تماما عما جرى من استخدام الكثير من الحكام المسلمين القدماء لهم، فظروف هؤلاء الحكام لا تقتضيه، بل تقتضي ألا يكون، والدواعي التي دعتهم إليه حقيقية بالاستنكار، ما هي تلك الدواعي؟ سلطان يشتط في جمع المال فيسلط على رعاياه «من لا يخشى الله ولا يرحمهم» من أهل الذمة ثم يجزيه في النهاية جزاء سنمار، أو سلطان يخشى اغتيال أقرب الناس إليه من أهله فلا يركن إلا إلى طبيب نصراني وهلم جرا.
فما جرى من استخدام أهل الذمة إذ ذاك كان في الواقع مما بعثه فساد المجتمع وأدى إليه، والأمر على عكس ذلك تماما في دولة محمد علي ومجتمعه، من شئون الدولة ما هو فني صرف لا معنى لأن تشترط في من يقوم به سوى الكفاية الفنية، واشتراط غيرها من الشروط تضييق وضيق لا يتفقان مع مصلحة المسلمين ولا تستسيغهما نفسه السمحة، ولا ترفعه عن هذا اللون من التعصب، ولم يكن محمد علي بالرجل الذي يسترد باليسرى ما يعطيه باليمنى، فكان إذا أحسن غير المسلم الخدمة وأخلص لولي النعم وخدمة مصر أحسن إليه محمد علي جزاء إحسانه وأعطاه كل حقه حيا وميتا، علم أن محافظ الإسكندرية لم يقم بواجبه في الاحتفال بتشييع جنازة بوغوص بك، مدير الأمور الخارجية والتجارية الأمين فساءه ذلك وكتب إليه موبخا «لعدم إرسال العساكر وخلافه: ولا أدري ما الداعي لذلك ولا يخفى عليكم الخدم المبرورة التي أداها بوغوص بك في نحو 41 سنة» ونبه عليه بتدارك ما فاته.
وإذا كان هذا شأنه في تقدير الكفاية - على الرغم من اختلاف الدين - أفيعقل أن تتأثر خططه بالتعصب لجنس على جنس؟ كان أرجح حلما من أن يعتد بما ليس في الواقع من اجتهاد أو فضل أي إنسان، كأن يكون مولده في الموطن الفلاني لا في غيره، ومثل هذا التعصب يؤدي إلى حرمان العمل ممن يصلحون له، وهذا إسراف، والرجل يمقته، وهذا التعصب أيضا مما يصرف الناس عن الجد ويصرفهم إلى السفاسف، ويثير فيما بينهم البغضاء والحزازات والوقت وقت الجد وفي خدمة الوطن متسع للجميع، فلا تعصب على المصريين ولا إيثار لغيرهم عليهم، وأبواب «الأرستقراطية» مفتوحة لهم - وولجوا إليها فعلا - وما ذاع عن حرمانهم من مناصب القيادة في الجيش والأسطول لمصريتهم وهم يحتاج أمره إلى تبديد، لم يعرف جيش من جيوش العالم في ذلك الوقت حتى جيوش الثورة الفرنسية - على عكس ما يتوهم الناس - شيوع خطة الترقية من تحت السلاح إلى رتب القيادة ولا تعرفها جيوش وقتنا الحاضر إلا في حدود ضيقة جدا نسبيا، وهذا على الرغم من شيوع التعليم والاستنارة في جيوش المعسكرين.
والحال أن ضباط الجيوش الأوروبية في وقت محمد علي وفي وقتنا الحاضر ينتمون للطبقة الوسطى أو لطبقة الأشراف، من شباب الطبقتين - كما هو الحال في مصرنا الآن - من يختار العسكرية ويلحق بمعاهدها اختارها ليعد لوظائف القيادة، وهذا صحيح على الأمم التي اختارت سياسة الجندية الإجبارية لتكوين قوتها العسكرية؛ كفرنسا مثلا، وعلى الأمم التي اختارت سياسة التطوع لتأليف قواتها الحربية كإنجلترة في معظم أدوار تاريخها العسكري. إذا تحققنا ذلك وعرفنا أن ذوي اليسار الكبير أو الصغير من أهل مصر، الذين يصح أن نقابلهم بالطبقة الوسطى في الأمم الأوروبية، لم يقبلوا بعد في عهد محمد علي على اختيار العسكرية لأبنائهم لابتعادهم عنها قرونا عديدة.
كما أننا إذا تحققنا أن جيوش العالم كلها لا تعرف الترقية من تحت السلاح أساسا لتكوين الضباط؛ إذا تحققنا هذا كله أدركنا لم خلت وظائف القيادة في الجيش المصري في عهده من المصريين - وأن لا أساس لم زعموه من تعصبه للترك عليهم - بل إن كبار رجال العسكرية الأوروبيين كثيرا ما عبروا له ولإبراهيم عن رأيهم بأن أضعف ما في جيشه ضباطه غير المصريين، وشاركهم في هذا الرأي مؤرخ الجيش المصري الجنرال فيجان المشهور، ونسب ضعف الضباط إلى عدم إقبال أبناء الطبقة الوسطى في مصر إذ ذاك على احتراف العسكرية، وهذا النفور مما لا يمكن علاجه بالإجبار.
أما التعصب الضيق فلا ظل له، نقرأ في أمر من أوامره، أصدره إلى محافظ دمياط «بأنه علم بالاحتفالات التي قوبل بها الآي حسين بك من الأهالي والقناصل وبما تفوه به علي أغا ناظر السلخانة، وقوله في محفل الاستقبال: صار الفلاحون العمي عساكر! مهما كانوا لا يكونون مثل عساكرنا الترك. وعليه فاضربوه 100 نبوت على أليته وينفى وإن عاد يصلب»، هذا ما حدث لعلي أغا عندما أخذته النعرة القومية، وعندما تحرج الأمر بين مصر والدول العظمى، وتحمس الناس في حاضرتيها - القاهرة والإسكندرية - لدفع العدوان عن وطنهم وألفوا «حرسا وطنيا» أسند محمد علي لرؤسائهم - وهم من أبناء البلد - رتبا عسكرية نظامية؛ فالرجل لا يتردد في إعطاء من يقبل على العسكرية أو غيرها حقه كاملا. •••
وكيف يغمط محمد علي للمصريين حقا أو يطوي لهم فضلا وقد عز عليه أن يرى العقول المصرية تضيع هباء، كما عز عليه أن يرى الموارد المصرية يبددها الجهل والفوضى، فعول على أن ينقذ لمصر تلك الثروة العقلية التي لا تعدلها ثروة. «ابتكر حسين جلبي عجوة - من أهل رشيد - بفكره صورة دائرة، وهي التي يدقون بها الأرز، وعمل لها مثالا من الصفيح، تدور بأسهل طريقة بحيث إن الآلة المعتادة إذا كانت تدور بأربعة أثوار فيدير هذه ثوران، وقدم ذلك المثال للباشا فأعجبه وأنعم عليه بدراهم»، ثم استمر الجبرتي في روايته، قال: «ولما رأى الباشا هذه النكتة من حسين جلبي قال: إن في أولاد مصر نجابة وقابلية للمعارف، فأمر ببناء مكتب بحوش السراية ورتب فيه جملة من أولاد البلد ومماليك الباشا، وجعل عليهم حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي يقرر لهم قواعد الحساب»، أي أن إنشاء المدارس بدأ لما رآه محمد علي من نجابة المصريين وقابليتهم للمعارف.
ولم يكن العلم غريبا عن مصر؛ فقد كان طلبه فريضة على المسلمين.
وكان لعلماء الأزهر - كما قال رفاعة - «اليد البيضاء في إتقان الأحكام الشرعية العملية والاعتقادية، وما يجب من العلوم الآلية كعلوم العربية الاثني عشر وكالمنطق والوضع وآداب البحث والمقولات وعلم الأصول المعتبر، ولمثل هذا فليعمل العاملون»، وقد أثمرت أعمالهم في ذلك العصر وما سبقه بقليل ثمرتين عظيمتين: «تاج العروس» و«تاريخ الجبرتي».
ولكن من الباحثين من يرى أن الحملة الفرنسية أثرت أثرا سيئا في الحركة العلمية، لا لأن الفرنسيين عارضوها أو مسوها بأذى، ولكن لما أحدثه قدومهم وخروجهم من الاضطراب الفكري، والثابت على كل حال أن النصف الأول من القرن التاسع عشر قل - أو انعدم - فيه التصنيف المبتكر في علوم اللغة والدين، ولكن فرق بين هذا وبين ما زعمه المستشرق الطبيب «برون» من أن علماء القاهرة في زمنه - منتصف القرن التاسع عشر - لا يعرفون حتى أسماء أمهات الكتب العربية، وإن كانوا يظنون أنهم يعرفون كل شيء، وأن ليس فيهم عشرة يستطيعون استخدام معجم لغوي، وليس من شك في أن علماء ذلك الزمان ضيقوا على أنفسهم دائرة المعرفة.
علم بذلك رفاعة وقرر وجوب «معرفة سائر المعارف البشرية المدنية التي لها مدخل في تقدم الوطنية ... لا سيما وأن هذه العلوم الحكمية العملية التي يظهر الآن أنها أجنبية هي علوم إسلامية نقلها الأجانب إلى لغاتهم من الكتب العربية»، ثم أضاف إلى هذا «أن من اطلع على سند شيخ الجامع الأزهر الشيخ أحمد الدمنهوري - ولم يكن العهد به إذ ذاك بعيدا، فقد أدركه الجبرتي وكانت وفاته في عام 1192 هجرية - رأى أنه قد أحاط من دوائر هذه العلوم بكثير»، وهذا رفاعة نفسه نعلم كيف اصطفاه الشيخ حسن العطار، وكيف رسم له خطة الدرس في أوروبا، وقد تحدث رفاعة في رسالة للعلامة الفرنسي جومير بعد عودته من فرنسا عن حسن استقبال العلماء له، وعن قراءة شيخ الإسلام لرسالته في وصف رحلته، وعن عزم الشيخ علي رجاء الوالي أن يطبع الرسالة ليحبب للمسلمين التغرب في طلب العلم من أجل منفعة مواطنيهم.
الحق أن من علماء ذلك الزمان من أوجس خيفة من ذلك الاتصال بعلم الغرب؛ لا استنكارا لذلك العلم في حد ذاته ولكن إشفاقا مما يؤدي إليه الاتصال من النتائج الوخيمة، فاتخذوا خطة سلبية وسمها من درسها من الأوروبيين باسم «الخطة الوهابية».
وقد روى مؤرخ الحرب الصليبية «ميشو» في رسائله من مصر في سنة 1831م حديثه مع عالم من من هذا الطراز وهو مفتي المنصورة، قال المفتي: «إن مثل الشرقيين في محاكاتهم الغربيين والنقل عنهم مثل الرجل الكفيف الذي ارتطم في وهدة يدعو المارة إلى مده بقبس من النار، وماذا ينفعه القبس؟ أنتم معشر الغربيين تتهمون الشرقيين بأنهم جامدون وأنهم دائما حيث كانوا، ولكنكم أنتم لا تعرفون متى وأين تقفون، وبذلك تذهبون إلى أبعد مما تقصدون، وعندي أن مجاوزة الهدف أسوأ من العجز عن بلوغه، هذه مثلا نظرياتكم السياسية الجديدة، هل نفعت عامتكم حقا؟ أنشرت النور حقا؟ لا، لم تؤد - فيما سمعت - إلا إلى الثوران والاضطراب، فما أشبه مدينتكم بتلك الوسائل المتخمرة التي تحطم الإناء الذي نصبها فيه.»
وهذا المستشرق «لين» يصور لنا سوء ظن العامة بمن عاشر الأوروبيين من المسلمين، قال: «كنت جالسا يوما عند أحد باعة الكتب فأتى رجل يطلب نسخة من رحلة رفاعة، فسأل أحد الحاضرين عما في هذا الكتاب، فتطوع رجل لإجابته بطريقة تهكمية تبين رأي العامة فيه، قال ذلك المتطوع: أنا أقص عليك نبأ هذه الرحلة بالحق، إنها تحتوي على وصف سفر رفاعة من الإسكندرية لمرسيليا وعلى ما جرى له في أثناء هذا السفر عندما سكر وعربد، عند ذلك أمر الربان بشد وثاقه إلى صاري السفينة وجلده، ثم نزل بلاد الإفرنج حيث طاب له لحم الخنزير ومعاشرة النساء الإفرنجيات، ثم بعد أن ارتكب من الموبقات كل ما يعد له مقعده من النار عاد إلى مصر.»
تلك الحالة التي تصورها هذه الأحاديث هي ما حدا ببعض الباحثين الأوروبيين - في ذلك الزمان - إلى الاعتقاد بأن أول واجب على الحاكم المصلح في البلاد الشرقية هو أن يهدم البناء القديم؛ فلا خير فيه لأهله، وأن ينبذ تلك العلوم والمعارف التي طلبوها مئات السنين دون أن يحققوا بها لأنفسهم أو للإنسانية نفعا، ثم ينشئ بعد ذلك معاهد جديدة تعلم فيها العلوم الأوروبية باللغات الأوروبية، قال بذلك قائلون منهم في المغرب الإسلامي، وقد دخل في حكم الفرنسيين وفي الهند البريطانية، وليس أوضح في بيان هذه المشكلة الإسلامية الكبرى مما جرى في الهند سنة 1835.
اشتد الخلاف في تلك السنة بين أعضاء لجنة التعليم على ماذا تكون عليه خطتها، أتستمر الحكومة على ما جرت عليه حتى ذلك الوقت من الإنفاق على المعاهد القديمة التي تدرس فيها معارف الوثنيين بالسنسكريتيه ومعارف المسلمين بالعربية والفارسية، أم تعدل عن ذلك وتخصص المال لإنشاء معاهد جديدة تدرس فيها العلوم الأوروبية باللغة الإنجليزية؟ انقسم الأعضاء إلى فريقين: فريق انتصر للسياسة القديمة وعرف أصحابه باسم المستشرقين أو أنصار الثقافة الشرقية، وفريق انتصر للسياسة الجديدة وعرف أصحابه باسم أنصار الثقافة الغربية، وتولى زعامة الفريق الثاني الكاتب المشهور «ماكولي» وكان إذ ذاك في الهند يعمل في جمع القوانين، وقد فوضت إليه الحكومة رياسة لجنة التعليم وأعد للدفاع عن قضيته مذكرة مشهورة، اعترف فيها ماكولي بجهله اللغات الهندية واللغتين العربية والفارسية، ولكنه استعاض عن ذلك بأن قرأ كل ما تيسرت له قراءته مما نقل من آداب تلك اللغات إلى اللغات الأوروبية، وتحدث في أمرها مع أهل العلم بها من الأوروبيين، وقال: إنه لم يجد من المستشرقين من ينكر أن ما يحمله رف واحد من الكتب الأوروبية يساوي كل آداب الهنود والعرب، وحتى دواوين الشعر التي هي أفضل ما في تلك الآداب هي دون الشعر الأوروبي في نظره، ثم إذا انتقل الباحث إلى التصانيف التي تتعلق بجمع الحقائق واستخلاص النواميس الكونية فإنه لا يستطيع إلا إيثار التصانيف الغربية من هذا النوع، مثل هذا يقال عن كتب التاريخ والأخلاق والطبيعة وغيرها.
ثم تساءل: أما والأمر كذلك، أيجوز لنا أن نفضل على تعليم العلم الصحيح باللغة الإنجليزية تعليم لغات لا تؤدي إلى علم خليق بهذا الاسم؟ أيجوز لنا ألا نعلم العلم الصحيح والفلسفة الصحيحة والتاريخ الصحيح وأن نشجع من أموال الدولة طلب نوع من الطب يستحي بيطار إنجليزي أن ينسب إليه، ونوع من الفلك يثير قهقهة البنات في مدرسة إنجليزية ريفية، ونوع من التاريخ هو عبارة عما جرى لملوك طول قامة الواحد منهم ثلاثون قدما وعمر الواحد منهم يزيد على ثلاثين ألف سنة، ونوع من الجغرافيا تتكون من وصف بحار من العسل أو من الزبدة؟ وكيف يحق للمشرفين على حكم الهنود من الإنجليز أن يفعلوا هذا والتاريخ كفيل بهدايتهم السبيل السوي؟
فهذه الأمم الأوروبية نفسها في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر أدركت أو أدرك زعماؤها أن لغاتها الوطنية لا تفتح لها خزائن العلوم والآداب، بل إنها لن تدرك بغيتها إلا بدراسة ما خلفه اليونان والرومان باليونانية واللاتينية، فأقبلوا على تلك الدراسات القديمة، وكانت ثمرة هذا الإقبال النهضة الأوروبية المشهورة. وهذه الروسيا في القرن السابع عشر، أحس ملكها العظيم «بطرس الأكبر» بما هي عليه من التأخر فعمل على إنهاض أمته عن طريق إنشاء أرستقراطية مستنيرة متحضرة بحضارة الغرب، لا عن طريق تشجيع رعيته على الاستمرار في خزعبلاتها وصرف العمر في تقرير مسائل من نوع «هل خلق الله العالم يوم 13 سبتمبر أم لا.»
وقد رد المستشرقون على «ماكولي» بحجج يزينها رجحان العقل وبعد النظر واتساع أفق التفكير، فأشاروا إلى تأصل الحضارة والثقافة في أرض الهنود، وإلى أن علومهم وآدابهم ليست السخافات التي صورها «ماكولي» ثم قرروا أن البريطانيين قد قطعوا على أنفسهم عهدا باحترام عادات الهنود ونظمهم الاجتماعية، فكيف يجوزون لأنفسهم أن يهدموا ما تعهدوا باحترامه، وبينوا أن إحياء العربية والسنسكريتيه هو بالضبط مقابل لإحياء اللاتينية واليونانية في تاريخ الثقافة الأوروبية، وختموا كلامهم بالحجة الدامغة، وهي: أن لا خير لأمة في إبعادها عن الجو الروحي الذي نمت فيه نفسها، وأن نظم التربية والتعليم إن لم تقم قواعدها على ثقافة القوم بقيت أمرا سطحيا، لا نفع فيه ولا دوام له.
هذه أوجه تلك المشكلة العامة، أوضحنا شيئا من عموميتها واختلاف الآراء فيها، فكيف واجهها محمد علي؟ اتخذ بين المستشرقين والمستغربين خطة وسطا، يدلك على ذلك أن «ماكولي» استشهد بما علمه محمد علي في مصر لتأييد ما ذهب إليه من ضرورة تعليم العلوم الحديثة، كما أن خصوم «ماكولي» من أنصار الثقافة الشرقية استشهدوا أيضا بمحمد علي لتأييد ما ذهبوا إليه من ضرورة وصل حاضر الأمة بغابرها، فقالوا - وكان حقا قولهم: إن مصلح مصر يعلم العلوم الحديثة، ولكنه يعلمها باللغة العربية وإن التعليم الذي صح أن يوصف بأنه التعليم القومي وهو التعليم المنتشر في قرى مصر وحواضرها قد أبقاه محمد علي على أوضاعه المألوفة .
أي أن محمد علي واجه مشكلة الثقافة عموما ومسائل التربية والتعليم خصوصا بروح الاعتدال وتغليب المنفعة على النظريات، فتجنب الإملاء على الناس كما تجنب الفصل بين نظم ونظم، فلم يخلق «ثنائية» في معهد التعليم بل تمت تلك الثنائية في أيام الجيلين الحاضر والسابق من المصريين، وبرضاء أبناء الجيلين الحاضر والسابق تماما فكان الانقسام إلى معسكري القديم والجديد، ولم تعرف أيام محمد علي «الشهادة» مفتاحا وحيدا لولوج معهد ما، كما أنها لم تعرف إلا ثقافة عربية إسلامية في كل مكان، أضاف إليها إعدادا فنيا في أمكنة معينة.
وأثبت محمد علي أمرا أساسيا آخر، هو: أن التربية والتعليم شأن من شئون الدولة، تتكفل به مهما كلفها، وأن زمان ترك شئون التعليم للأفراد والطوائف تقوم به أو تهمله قد انقضى، ولكنه ترك للأفراد وللطوائف قدرا عظيما من الحرية، هو أثمن ما خلفه في سياسته التعليمية. •••
تلك السياسة التعليمية كانت - فضلا عما ترمى إليه من نشر الاستنارة العامة - أداة مهمة من أدوات خلق الفنيين من رجال الأرستقراطية المحمدية العلوية، وتلك الأرستقراطية قد ألممنا بمهمتها في نظر محمد علي، ونصيبها في اصطناع قوة الحديد والعلم والمال.
والمال - بأعم معانيه - ينال بتنمية الموارد للإنتاج، وقد رأينا فيما سبق كيف رفع محمد علي تنمية الموارد واستغلال المرافق إلى مرتبة عرفان نعمة الله - سبحانه وتعالى - وحمده عليها، ينمى الموارد؛ لأنه لا يستطيع أن يحتمل رؤية الخراب أو الصائر إلى الخراب، وينميها لأنه يريد أن يعلم وأن ينشئ جيوشا وأساطيل ليحيي عالما راكدا ليوقظ أمما من سبات الدهور، ولا يطلب شيئا لنفسه، فذوقه ذوق البساطة الأنيقة، تملأ العيون هيبته بإشعاع من خلقه وخلقه متلائما مع اختفاء الجواهر والألوان، تلك هيئته في ركوبه وفي منزله، يفيض على من حوله من سحر الحديث وأدب المجلس ما بهر القريب والغريب وفعل في النفوس ما لا تفعل أبهة الحراس والحاشية والهيئات المبهرجة والسيوف المنتضاة، قال مرة لزائر أجنبي: انظر ماذا ترى حولي من هيئة الباشوات؟ لم يبق منها الكثير: بعض القواسين، أصحاب العصي المفضضة وبعض الدواوين، ولكن نقش خاتمي كان دائما: «محمد علي».
فطلب المال للعمران (أو كما كانوا يقولون إذا ذاك للعمارية)، ولقوة المال ويهمنا - جريا على خطتنا - أن نضع سياسته الاقتصادية موضعها الصحيح في التطور الإسلامي.
حدد الأستاذ ماسينيون المثل الأعلى الإسلامي في أمور الاقتصاد على الوجه الآتي قال: «إن الإسلام له ميزة إقامة مساهمة الأفراد في موارد بيت مال الأمة على قاعدة المساواة وإنه يكره التبادل الطليق من كل قيد، واكتناز المال للأعمال المصرفية البحتة، واقتراض الدولة للمال، وفرض المكوس على السلع اللازمة للحياة، وهو - من الجهة الأخرى - يؤيد حقوق الأب والزوج وحق الملكية وتنمية المال للتجارة، فيقف في الواقع موقفا وسطا بين الرأسمالية والشيوعية.»
ولا ينبغي أن نفهم الجزء الأخير من قول الأستاذ على وجه التحديد الحرفي أو الضيق، فإن مراد الأستاذ أن يقول: إن المثل الأعلى الإسلامي يؤكد الناحية الاجتماعية أو مصلحة الأمة في حكمه على نواحي الجهود الفردية الاقتصادية، ولا يرجع ذلك إلى بقية بقت عن اعتبار المال عرضا زائلا، وأن الباقيات الصالحات خير عند الله وأبقى فحسب بل يرجع أيضا إلى توكيد مصلحة الجماعة، ومن ثم كان استنكار فرض المكوس على لوازم المعيشة، ومن ثم المحاولات العديدة لتحديد السعر العادل والأجر العادل في المعاملات، هذا من ناحية.
وأما من الناحية الأخرى فالموقف الإسلامي يشبه الرأسمالية في طور من أطوارها من حيث عدم قيام الدولة بالمشروعات الاقتصادية وتركها الحرية (المحدودة طبعا بحدود ضرورة المراقبة وحماية المصالح العامة) للجماعات والأفراد، فليس للدولة الإسلامية - كما كانت - خطة تنمية الموارد وزيادة الإنتاج على ما نألفه الآن، إلا من حيث التدخل في أوقات الأزمات أو المجاعات لحفظ الأرواح أو التدخل لصيانة موارد الخزانة بصيانة المنشآت العامة وقطع دابر الفتن والبغي أو ما تقتضيه مصالح التجارة الخارجية من المفاوضات والاتفاقات مع الدول الأجنبية أو ما يلجئ إليه إسراف أصحاب السلطان وجشعهم من اتخاذ الحيل والألاعيب لملء الخزانة (بالمعنى الحرفي) كأنواع المصادرات والتلاعب بالسكة ودخول السوق للمتاجرة، وما إلى هذا كله.
وشئون الزراعة وما يتصل بها لها مقام خاص في الاقتصاد الإسلامي في بعض أقطار الإسلام كمصر والعراق والهند، فالزراعة يتوقف عليها قوت الرعية، والأموال المفروضة على الأرض الزراعية مربوطة عليها عطاءات الأجناد، سواء أكانوا أحرارا كما في صدر الإسلام أم عبيدا أو في حكم العبيد كما هو الحال فيما بعد، فاكتسبت الزراعة وأرض الزراعة وأهل الزراعة؛ وضعا خاصا جامدا في الاقتصاد الإسلامي، أخرج الزراعة وأرض الزراعة من نطاق التجارب والتبادل الحر، وأخرج أهلها من نطاق التمتع بالأهلية الكاملة وأدخلهم في نطاق الأدوات البشرية، قصرت الزراعة بصفة أساسية على إنتاج ما يلزم لغذاء الأهليين وملبسهم وامتنع التفكير فيما عدا ذلك (كالإنتاج الزراعي للتصدير للخارج مثلا) حذر نقصان الضروريات، وامتنع التداول الحر في الأرضين حذر نقصان الغلة وتأثر أرزاق الأجناد بذلك، وخضع الفلاحون لنظام مقيد لحريتهم، معطل لشخصيتهم خضوع الجندي للقانون العسكري، فأمر الفلاح وأمر الجندي سواء في نظر المصلحة العامة.
لهذه الأسباب جمدت الزراعة على الحالة التي اطمأن المجتمع بالخبرة والواقع إلى أنها الحالة الملائمة لظروف التربة والمناخ وما إليهما من عوامل الإنتاج الزراعي، وانعدم التداول الحر في الأرضين ونشأ التزام الأموال المفروضة على الأرض الزراعية، وتولى الملتزمون تنفيذ قانون الفلاحة، والباحثون في تاريخ الاقتصاد الزراعي المصري يغفلون عادة عن الوجه الصحيح لتحديد موضوعهم، فيدور كلامهم عادة على محاولات لا تجدي للبحث عن نظريات للملكية مختلطا بأحكام مستخرجة من التاريخ الأوروبي أو من القانون المدني النابليوني، وهذه الأشياء وأشباهها لا تتصل بالموضوع فهو - كما رأينا - أعم من نظريات الملكية ومن طرق جمع الضرائب ومن تاريخ حاصلات زراعية بعينها، وهو - كما رأينا - نظام خاص لا يستند إلى تشريع إسلامي بعينه، بل تكون وتجمد ليلائم ظروف البيئة الطبيعية والاجتماعية - وهو في الجملة - نظام واجبات «لا نظام حقوق».
تحطيم هذا النظام الذي خلقته أجيال عديدة جدا من الحياة المصرية تم على يد محمد علي، وسهل عليه التحطيم لأن القوة التي وجد من أجلها النظام والتي كانت تقف دائما دون مسه كانت قد تلاشت في وقت محمد علي، ذلك أن الأصل - كما شرحنا - ربط أرزاق الأجناد على الأموال الأميرية المفروضة على الأطيان، ولما ضعف أمر الأجناد في العهد السابق للفتح الفرنسي تطرق الضعف والاختلال للنظام الزراعي كله، فاختل أمر الضرائب، ووضع كل من يستطيع يده على ما يستطيع من الأرضين أو من الحقوق الأميرية، وخرجت مساحات واسعة من نطاق الضرائب لتكون رزقا إحباسية وهكذا. حقيقة بقي من النظام: جمود الزراعة على ما هي عليه، منع التداول الحر في الأرض، وقانون الفلاحين، ولكن كان قد زال عنه حماته الطبيعيون: الأجناد.
وأول ما مسه محمد علي كان في مرحلة الفحص والتحقيق عن الحقوق الأميرية، وبخاصة في شأن الأموال الأميرية، وكشف له التحقيق عن ضرورة وضع حد لتشتيت السلطان، فقرر إلغاء نظام التزام الأموال على الأرض مع بعض التعويض للملتزمين عن خسارة حقوق مكتسبة، وأدى ذلك إلى عودة الأرضين لولي الأمر وإتالة المباشر بالفلاحين، ثبتهم فيما كان في أيديهم وزادهم على توالي الزمن حقوقا في أراضيهم، وإن بقوا طوال مدته على خضوعهم القديم لقانون الفلاحة، وتصرف في مساحات واسعة بالإنعام على رجال أرستقراطيته وأفراد بيته بشروط مختلفة أيضا أهمها شرط الإصلاح والاستغلال.
واستطاع محمد علي بذلك أن يشرف على تنفيذ السياسة الزراعية الجديدة التي رسمها، والتي كانت ترمي إلى عدم الاكتفاء بإنتاج ما يحتاج إليه السوق المحلي فقط، بل ترمي أيضا إلى إنتاج حاصلات للتصدير، وبخاصة القطن المصري الجديد.
أما التداول الحر في الأرضين فلم يتم في عهده؛ لما سنشرحه بعد قليل، ولكن تغيرت طريقة النظر إلى الأرض تغيرا تاما عما كانت عليه الحالة، وكانت الممهدات للنتائج التي ظهرت فيما بعد وأخصها نزول الأرض في سوق البيع والشراء وشتى أنواع المعاملات والاستغلال.
والظاهر من كل هذا أن محمد علي أحدث ثورة أو انقلابا في نظام عتيد، وهذا صحيح لحد ما، ولكنه ليس بالصحيح في أمر أساسي يشترك فيه التنظيم الجديد والنظام القديم؛ فكلاهما يقوم على قاعدة واحدة وإن اختلفت وسائلها لبلوغ الهدف، هذه القاعدة لا تزال في عهد محمد علي كما كانت في النظام القديم: إن شئون الزراعة لها من المقام في الاقتصاد القومي ما يجعلها على حدة، وإن خطورة تلك الشئون لمما يستدعي هيمنة خاصة من جانب الدولة عليها.
حقيقة بطل في عهد محمد علي ربط أرزاق الأجناد بها، ولكن لا تزال هناك من الأسباب القوية ما يحمل على الاحتفاظ بالسيطرة التامة عليها؛ فهي لا تزال - كما كانت قديما - مصدر القوت اللازم للحياة، وهي - كما كانت قديما - مصدر أهم موارده من حيث الضرائب، وزاد على هذا في أيامه أنها أصبحت أهم مصدر لتغذية التجارة الخارجية، وزاد على هذا أيضا اعتقاده بأن الاستمرار في سياسة التحسين والإصلاح يقتضي بقاء الهيمنة في يده ولو إلى حين، وهذا يقتضي بقاء قيود الفلاحة على أهلها.
وقد قام محمد علي في - سبيل تنمية الثروة الزراعية - بصيانة منشآت الري والصرف وتجديدها، ولم يكتف بهذا بل أحدث الانقلاب الكبير المعروف في نظام الري المصري، ومجمل تاريخ هذا الانقلاب ينحصر في تدبير حل لمسألتين: الأولى؛ زيادة الإنتاج الزراعي، الثانية: ضرورة تدبير ماء لري القطن - على الأخص - في غير زمن الفيضان، ولمنع الماء من أن يفيض على حقول القطن في زمن الفيضان. فالمسألة إذن هي ضبط النيل - كما نقول الآن - على وجه جديد، وكان حله الأول حفر الترع الطويلة العريضة العميقة؛ يجري فيها الماء معظم أيام السنة، وترتب على ذلك الحاجة الشديدة إلى تطهير مستمر شاق.
وقد وصف لنا المهندس لينان دي بلفون في تاريخه للأعمال العامة في عهد محمد علي ما استلزمه هذا التطهير من جهد وما قاساه الفلاحون من الشدة في أدائه، واتجه التفكير إلى تخفيف هذا العناء ببناء قناطر الدلتا، ولم يتم بناؤها في عهد محمد علي، وحتى عندما تم بناؤها لم تكن في حالة تسمح لها بأداء عملها على الوجه المقدر لها، ولجأ الخديو إسماعيل لاستخدام الآلات الرافعة، وعلى كل حال فقد بدأ محمد علي سياسة الري الدائم التي سارت عليها مصر منذ تلك الأيام.
وأمر الاحتكارات الصناعية يشبه أمر السياسة الزراعية؛ في كونها ابتدأت من أجل زيادة موارد الخزانة، ثم تحولت إلى خطة عمرانية جريئة لإدخال الصناعة الكبرى بمصر، وهاك مثالا من الاحتكار الصناعي في أول مراحله - كما جاء في الجبرتي، قال: «وفي أواخر سنة 1232 حجر وضبط جميع أنواع الحياكة، وكل ما يصنع بالمكوك، وما ينسخ على نول أو نحوه من جميع الأصناف، من إبريسم وحرير أو كتان، إلى الخيش والحصير في سائر الإقليم المصري.
وانتظمت لهذا الباب دواوين ورتبوا لذلك كتابا ومباشرين بالنواحي والبلدان فيحصون ما يكون موجودا على الأنوال بالناحية من القماش والأكسية الصوفية المعروفة بالزعابيط والدفافي ويكتبون عدده على ذمة الصانع، حتى إذا تم نسجه دفعوا لصاحبه ثمنه بالفرض الذي يفرضونه وإن أرادها صاحبها أخذها من الموكلين بالثمن الذي يقدرونه بعد الختم عليها من طرفيها بعلامة الميري، فإن ظهر عند شخص شيء من غير علامة الميري أخذ منه وعوقب وغرم، ويطوف الموكلون بمباشرة الأنوال على النساء اللاتي يغزلن الكتان فيشترون ذلك بالثمن المفروض ويسلمونه للنساجين ثم تجمع أصناف الأقمشة في أماكن للبيع بالثمن الزائد ...» إلى آخره.
ثم حدث بعد هذا العدول عن هذا وأشباهه والشروع في تشييد المنشآت الصناعية الكبرى المجهزة بالآلات الجديدة، والتي بفضلها تمكن محمد علي من كسوة جيشه وتسليحه وبناء أسطول ضخم في الإسكندرية، فعل هذا في وقت قيام أصحاب مذهب «مانشستر» البريطانيين الداعين إلى ضرورة تخصص كل إقليم بما يصلح له بحكم الطبيعة، فلا ينبغي للإقليم الزراعي بطبيعته أن يحاول أن يكون صناعيا وهلم جرا، وكانوا قوما يكرهون تولي الدولة القيام بأي مشروع صناعي، كما تحمسوا أشد التحمس للتبادل التجاري الطليق، فلا عجب أن كره من زار منهم مصر (مثل: كوبدن المشهور أو الدكتور بورنج) سياسة محمد علي الصناعية، بل وبينوا له أن الأولى به أن يصرف جهده في تنمية ما تصلح له مصر (كزراعة القطن مثلا)، كما أن شراء المصنوعات المتقنة من أوروبا يكلفه أقل من صنع مثيلاتها في بلاده، وأظهروا نواحي الضعف في إدارة المصانع وانتقدوا توجيه الأيدي العاملة من الحقول للمدن.
والواقع أن كل هذا واضح لمحمد علي وضوحه لزواره الأجانب، والرد عليه ليس عسيرا؛ فإن هناك اعتبارات تتعلق بسلامة الوطن يهون بجانبها حساب الربح والخسارة، وهناك مصلحة قومية في تنويع الإنتاج وفي تكوين الصناع الماهرين، تقتضي تنمية الصناعة مهما كلف ذلك، هذا من حيث الاعتبارات القومية العامة، أما من حيث هذه المنشآت الصناعية بالذات فقد ثبت أنها لم تصرف الأيدي العاملة عن الحقول، حقيقة كانت أزمة الأيدي اللازمة في الريف مستمرة طول عهده، ولكن ذلك لا يرجع للصناعة الجديدة وإنما يرجع للتجنيد، أما تولي الدولة المشروعات الصناعية فتفسيره أنه - في ظروف مصر إذ ذاك - إن لم تقم بها الدولة فلا يقوم بها أحد.
والصناعة الكبرى لم تخفق في مصر - كما يتوهم الكثيرون - إن الذي حدث كان عدول محمد علي عن الاستمرار في منشآته الصناعية بعد إنقاص جيشه ومحو أسطوله.
ولكن الصناعة الكبرى الحرة ظلت على شيء من الحياة، والجذوة التي أشعلها لم تخمد، بل ظلت في انتظار من يشعلها من جديد.
وكان في تدبير محمد علي أن يضيف الإنتاج الصناعي إلى الإنتاج الزراعي؛ لتنمية مادة التجارة المصرية الخارجية، وقد أدرك إدراكا عجيبا أن موقع بلاده فريد في نوعه، ووجوب استغلال ذلك الموقع كل الاستغلال، ولنسمع تعبيره عن هذه الحقيقة في وثيقة من وثائق حكمه: «إنه بالنسبة لموقعها الجغرافي إقليم ومرسى لأهالي بلاد المسكونة البالغ نفوسها 600 مليون تقريبا.»
أما وهذا شأن التجارة الخارجية؛ فكان مما لا بد منه أن تتولاها الحكومة، وأن يوليها العناية الكبيرة والإشراف الدقيق، كان لا بد من ذلك في زمان انعدمت فيه الأدوات اللازمة للمعاملات التجارية الكبرى، فأين المصارف التي تمول التاجر، بل أين الأموال اللازمة لهذا التمويل، وأين أدوات النقل والتأمين، بل وأين أدوات تحديد الأسعار متصلة بمثيلاتها في الأقطار الأخرى، فلا غنى إذن في ذلك الطور من نمو مصر عن مباشرة ولي الأمر شئون التجارة الكبرى وخاصة أنه استطاع بتلك المباشرة أن يوجه الاستيراد نحو حاجاته الأساسية.
أتريد مثالا لطريقة محمد علي وأهداف محمد علي؟ عندما صدر «القطفة» الأولى من القطن الجديد إلى لانكشير كان ذلك بواسطة بيت بريجز المستقر في مصر وإنجلترة، وقد كلف بيت بريجز أن يخصم على ثمن بيع القطن نفقات تعليم الشبان المصريين بإنجلترة واسكتلندة وإصلاح سفينة حربية له في إنجلترة، ألا ترى الجمع بين الحديد والعلم، ألا ترى أن الوسيلة المال؟ هذا شأن التجارة الخارجية يغذيها الإنتاج الزراعي الجديد وقس على ذلك معاملاته مع مرسيليا وتريستا ومع بمباي وامتدادها للأقطار الأفريقية والجزيرة العربية وأقاليم العالم العثماني.
وقد فهم التجارة الخارجية على وجهها الصحيح، أنها تقوم على تبادل المنافع، ولكنه كان حريصا على أن يحدد هو وجه انتفاعه منها، لا أن يحدد له، أو قل: إنه كان حريصا على أن ينفع وأن ينتفع ولكن لا على أن يستغل، وقد فهم أيضا العناصر السياسية في نمو العلاقات التجارية، فأدرك أنها طريق من طرق استرداد الشرق احترامه لنفسه وثقته في نفسه، واحترام النفس والثقة في النفس مظهر تلك «المحافظة على شرف الناموس» التي ذكرها رفاعة ضمن صفات محمد علي، والتي قلنا: إنها جماع خلقه.
تحيي التجارة الخارجية - محوطة بشروطه وضماناته - قيمة العالم العثماني، وهذا الإحياء يكسبه وسائل الأخذ والعطاء، يمكنه من أن يساوم مساومة القوي السخي، وأن ينال نظير ما يعطي وكان لا يهاب الأخذ والعطاء، ولا يخشى نمو العلاقات وتوكيدها، ولا يختفي وراء كثبان صحاري مصر حذر عواقب الاتصال والمخالطة، فعل الضعفاء، بل يعامل ويخالط - مرفوع الرأس - وبيده ما يحافظ به على شرف ناموسه تمام المحافظة؛ ففي يده قوة الحديد. •••
ولم تكن القوة في نظره إلا وسيلة لا غاية، لم تكن إلا آلة العيش الكريم، فقد كان بطبعه كارها لسفك الدماء، مؤثرا للاعتدال، لا يضع سيفه حيث يكفيه سوطه، ولا سوطه حيث يكفيه لسانه (كما قيل عن علم آخر من أعلام الإسلام)، قال رفاعة - مفلسف النهضة: «وقد كان السلف لا يعملون شيئا إلا أن تتقدمه النية الخالصة، ومع ذلك فقد نص العلماء أن من حج بنية التجارة كان له ثواب بقدر قصده للحج، فكذلك الفاتح لمملكة إذا نوى إصلاح حالها وتربية أهلها وتهذيب أخلاقهم وإسعادهم وتنعيم بالهم وتحسين أحوالهم برفع الظلم عنهم، كما يقضي به حسن الظن في حق المرحوم محمد علي، وكما هو الواقع فهو مثاب قطعا، ولو داخله قصد منفعة دنيوية مما لا يفارق الملوك من حب المحمدة في غالب الأحيان.»
ثم مضى رفاعة في عرض سريع لحروبه، وانتهى به إلى الملاحظة الدقيقة، وهي أن تلك الحروب «لم تكن من محض العبث، ولا من ذميم تعدي الحدود؛ إذ كان جل مقصوده تنبيه أعضاء ملة عظيمة، تحسبهم أيقاظا وهم رقود»، لم يعبث بالقوة ولم يله بالحرب وبالعسكرية، بل الأمر كله جد وكله أعباء.
فقد حل محمد علي مشكلة تكوين القوة العسكرية على الوجه الذي أوجدته الديمقراطية الفرنسية وليدة الثورة الفرنسية؛ أي التجنيد العام، وسوى بذلك أمرا استعصى على الحكومة الإسلامية منذ صدور الإسلام، فمن استخدام لأهل المناطق الجدباء إلى جمع العبيد بيضا وسودا، حاولت الحكومة الإسلامية هذا الحل أو ذاك، وكان سر اضطرابها وتزعزع كرسيها ونفاد مواردها، وجال فكر محمد علي في المشكلة واهتدى إلى اقتباس الحل الفرنسي، واستخدم للتدريب ضباطا أوروبيين وأنشأ معاهد الدراسات العسكرية، ولكن ذلك الجيش المصري الأول لم يكن - كمثيله الفرنسي - وليد الفكرة الديمقراطية القائمة على المشاركة التامة في الحقوق والواجبات.
بل أضاف محمد علي عبء الجندية على الأعباء الأخرى التي حملها الفلاح المصري، ولكننا لا نستطيع أن نقول: إن جيلنا نحن قد جعلها بعد خدمة قومية عامة، فلنكن في نقدنا حذرين! ولعل حمل الفلاحين المصريين وحدهم أعباء الجندية واستحقاقهم وحدهم شرف المباهاة بالانتصارات الإبراهيمية كانا باعثين على اتجاه التفكير السياسي المصري في أطواره التالية لعصر محمد علي نحو تقرير المساواة في الحقوق.
ولما كان نطاق السياسة المحمدية العلوية العالم العثماني كله؛ فقد ظهرت له أهمية القوة البحرية أجلى ظهور، عرف ضرورتها، سواء أكان ذلك للحماية أم للعمل السياسي، فبذل أموالا جمة لشراء السفن وتسليحها وجمع رجال البحر القدامى، وإعداد الجدد، ولما تحطم ذلك الأسطول الأول في خليج نافارينو استقر رأيه توا على بناء أسطول جديد في دار الصناعة بالإسكندرية، كان له نصيبه في حروبه مع حكومة السلطنة.
وخط بحرية محمد علي غير خط الجيش، تلك اختفت بعد حوادث سنة 1840، ونستطيع أن نتصور كيف حز هذا في نفسه، وقد شهد بعينيه في ساعات الفجر والضحى والزوال وفي أيام الحر والقر؛ كتل الخشب والحديد ولفات الحبال والقماش تتحول في أيدي صناعه المصريين غلايين وفرقاطات، وكان يوم إنزال السفينة في البحر كاملة العدد والعدة من أيامه المشهودة.
والجيش بقي، إلى أن صدر دكريتو من مادة واحدة في سنة 1882 والمادة هي: إلغاء الجيش المصري. •••
رأي أصحاب الاشتراكي سان سيمون في محمد علي مصطنع الحديد والمال والعلم، محقق الحلم الذي حلموه، فاتحة العصر الذهبي الذي رجوه، أشادوا بالرجل الذي جمع في يد واحدة السيف والآلة، واتخذ منهما معا أداة واحدة، الذي خلق من آلات القتال وآلات الإنتاج نظاما واحدا منسجما، قال رئيسهم انفانتان: «في أوروبا القوة السياسية تكافح القوة الصناعية، أما في مصر فلا كفاح، ففيها منع امتزاج القوتين عن المجتمع الفتن والاضطراب، يسيطر ولي أمرها على الزراعة والصناعة والتجارة والعلوم والفنون والجيش والبحرية، وبهذا يستطيع أن يكبح جماح عناصر الجمود أو الرجعية وأن يطلق العنان للقوى المنتجة»، هذا رأي، وهذا الفيلسوف بنتام يبدي إعجابه بالحاكم المسلم الذي حرر نفسه من خزعبلات الماضي وأوهامه، ويشير عليه «بتطعيم» نظمه بشيء من «البنتامية»: في نظم الحكم وفي طرق تدريب ولي العهد، بذلك يكتسب لمنشآته قوة على مغالبة الأيام.
وليس محمد علي بالرجل الذي لا يعرف للفلسفة حقها أو للفلاسفة قدرهم، على قلة ممارسته لبضاعتهم، والواقع أنه أقام على المعنويات أكثر مما أقام على الحسيات (شأن الرجال العمليين)، وأن دوافعه وحوافزه كانت كلها أخلاقية: الكرامة، الجد، الرفعة، العمران، إيقاظ الهمم، إلا أن تعبيره هو عن عمله أصدق وأبسط من تعبير أنفانتان، قال في حديث مع بوالكمت:
لقد وضعت يدي على كل شيء، ولكن لكي أجعل كل شيء مثمرا.
والمسألة مسألة إنتاج، وإذا لم أقم به أنا ، فمن يقوم به غيري ؟ أين الذي كان يقدم الأموال اللازمة ويشير بالخطط التي تتبع والمزروعات التي تزرع؟ أين الذي كان يستطيع أن يأخذ الناس (ولو على الرغم عنهم) بطلب العلوم والمعارف التي ترتب عليها تفوق أوروبا؟ أتعتقد أن أحدا في هذه المملكة خطر له أن يجلب القطن والحرير والتوت؟ لا أحد، كان لا بد لي أن أقود هذه البلاد قيادة الأطفال، وإن تركها لنفسها يسلمها للفوضى التي أخرجتها منها.
وقد نوه المنوهون بتمكن محمد علي من القيام بكل ما قام به بدون أن يستدين، وقد كان معاصروه يتوقعون له الإفلاس المالي سنة بعد أخرى، وفي كل سنة لا يحدث ما توقعوه، تلك حقيقة تستحق التنويه، وقد نسبوها إلى أنه «كان لا يخرج القرش قبل أن يعرف أين سيضعه»، وهذا صحيح، ولكن الأمر أعمق من شئون التدبير المنزلي، لم يستدن محمد علي ولم يفلس؛ لأنه حرم نفسه ورعيته من أكثر أرباحه وأرباحهم، من الكد في الزراعة والصناعة والتجارة، فكان شأنه شأن المشتغل بعمل صناعي يضيف ربح كل سنة لرأس المال أو ينفقه في إضافات وتحسينات ولا يمسك منه إلا قدرا يسيرا، هذا هو السر، نذكره لنذكر معه محمد علي وجيل محمد علي من الفلاحين المصريين بالشكر وعرفان الجميل؛ فقد شقوا لنسعد، وكدوا لنهنأ.
الفصل السابع
وحمل أيضا ذلك الجيل من الفلاحين المصريين أعباء تنفيذ المشروع الخطير: مشروع إحياء العالم العثماني، رسمه محمد علي منذ الأيام الأولى وسار في تنفيذه بخطى ثابتة متئدة، رسمه حاضر في ذهنه وإن خفى على معاصريه ومؤرخيه، وسعيه إلى تحقيقه متواصل وإن بدا أحيانا في لغة الكلام أو لغة الفعل منحرفا عنه إلى هدف آخر، ولم يكن ذلك الانحراف الظاهري إلا أسلوب السياسي الحاذق يعدل المظهر ليكسب الجوهر، أو القائد الماهر يولي وجهه وجهة أخرى في حركة التفاف توصله إلى غرضه الأصلي.
والسر في خفاء المشروع على معاصري محمد علي الأوروبيين ومؤرخيه المحدثين يرجع إلى أن القاعدة التي اتخذها محمد علي أساسا لعمله - وهي مصر - عظيمة في حد ذاتها، يصح جدا أن تكون ملكا قائما بنفسه ولنفسه، من حقه أن يملك ولكن لنفسه وبمقتضى حاجاته، وهي جزء - إذ ذاك - من كل، ولكنه جزء يستطيع ويحق له أن يكون الكل، هذا الوضع للمسألة كلها هو الوضع الأوروبي المعاصر لمحمد علي، أخذه المؤرخون المحدثون - وإن أدهشهم هذا.
وكل الفرق في الصياغة وفي إضافة حقوق الفتح والتغلب «للكل» المصري، وهي مسألة نسبية: تريد أوروبا المعاصرة أن يكون الفتح والتغلب «للكل» المصري في المجاهل الأفريقية، أو - عندما تسخو - في بعض «الباشويات» العثمانية الشرقية والغربية حينا ما، وتفضل - على كل حال - أن ينصرف «الباشا» لإسعاد رعيته البائسة، ويريد مؤرخوه أن يكون «للكل» المصري كل ما يستطيع أن يمد إليه يده، ويتفقون جميعا في أن مصر عالم قائم بنفسه.
ولم تستطع أوروبا المعاصرة أن تجعل محمد علي كما تريد، ولا نستطيع نحن أن نجعله كما نريد، فالرجل - كما كان - لم يكن جماع باشويات، بل كان رجلا عبقريا نشأ في عالم ذي موقع فذ وسمت همته لأن يعيد لذلك العالم حيويته ومكانته وسيرته، موفقا بين غابره وحاضره، ملائما بين حاجاته وحاجات الإنسانية جمعاء، ورأت أوروبا المعاصرة أن مصالحها تقتضي بقاء ذلك العالم على حاله، فكان تألبها على إفساد المشروع وفشله.
ينتمي محمد علي لطور من أطوار التفكير الإنساني لا يعرف لتنظيم الحياة السياسية إلا أساسا واحدا، هو: وحدة الحضارة، أو ما يمكننا أن نسميه: وحدة التمسك التاريخي. وهذه الوحدة لا تتنافى مع انفصال الأوطان بل ولا تتعارض مع تعلق الناس بأوطانهم الخاصة، ولا تشترط إلا عدم فناء الكل في الأجزاء، فلا يضيرها نماء جزء لإحياء الكل، وهذا النوع من التنظيم لا يستلزم حتما وحدة الحكومة فيكتفي أحيانا بغير الحكومة من النظم العامة، وقد تكون دينية أو ثقافية أو قانونية، وهكذا.
وفي ظل هذا النوع من التنظيم السياسي تتنوع طرق زعمائه تبعا لظروف أزمنتهم؛ فمنهم من يحاول منع قيام الوحدة السياسية؛ حرصا منه على استقلال جزئه، ومنهم من يحاول تقوية الجزء ليؤثر به أو يسير بواسطته في السلطة العامة السياسية عند وجودها، كما أن منهم من قد يهدم تلك السلطة العامة أو ينقلها لنفسه، هذا من حيث العلاقات الداخلية في الوحدة، أما عن العلاقات الخارجية فوجهة نظر الزعماء إليها تتنوع هي الأخرى بحكم ظروف الأحوال، منهم من يتأثر بفكرة المحافظة على نوع الحضارة فيتجه عمله للجهاد، ومنهم من يتأثر بفكرة بسط سلطان الحضارة بالاستعمار، كما أن منهم من يحاول - في ظلال السلم - تنمية العلاقات الاقتصادية والثقافية، وما إلى ذلك.
هذا مثل العالم الذي نما فيه محمد علي وغيره من أعلام الإسلام، اخترنا منهم صلاح الدين لتقريب فكرتنا عن محمد علي، وقد لاحظنا عند ذاك أنه اتخذ من مصر قاعدة لإحياء دار الإسلام للحرب، وفرقنا بينه وبين محمد علي لذلك، والآن نعرض مثلا آخر، نختاره من عالم آخر: العالم اليوناني بعد موت الإسكندر، والعلم الذي سندرسه يتفق مع محمد علي في أن القاعدة التي عمل منها كانت مصر.
قال مؤرخ مصر البطليموسية الرومانية الأستاذ بييرجوجيه في تحليله لسياسة بطليموس الأول: «لكي يخلق من مصر ملكا غنيا قويا عمل بطليموس على أن يضم إليها مكملاتها الطبيعية، برقة في غربيها وسوريا (وعلى الأخص أجزاؤها الجنوبية) شرقيها؛ ذلك لأن مصر كانت تستورد من سوريا ما تحتاج إليه من الأخشاب والمعادن، كما أنه عمل على أن يهيمن على الطرق التجارية التي كانت تنتهي عند الإسكندرية أو مراسي البحر الأحمر، كطريق النيل الآتي من قلب القارة الأفريقية ومسالك الصحراء التي تنتهي عند مراسي البحر الأحمر ... وهذه المراسي كانت تصل إليها أيضا حاصلات بلاد العرب وسواحل أفريقية والشرق الأقصى، وكطرق البحر المتوسط بصفة خاصة، وقد ترتب على ذلك أنه سعى لربط مملكته بالجزائر القريبة: كريد وقبرص ورودس وجزائر بحر الأرخبيل، وذلك بواسطة التحالف والصداقة أو السيطرة والحماية، كما ترتب على ذلك أيضا محاولته بسط نفوذه في مدن الساحل الفينيقي والأناضولي؛ إذ كانت تلك المدن نهايات الطرق الآسيوية الكبرى الآتية من بلاد الحرير والتوابل. ويتضح من هذا كله أن تلك السياسة تتنافى مع بقاء وحدة الإمبراطورية المقدونية سياسيا، وتعمل دائما على منع عودة تلك الوحدة بمحاربة كل من يسعى لإقامة دولة الإسكندر من جديد»، وآثر البطالسة وحدة من نوع آخر، وحدة الثقافة، فكانت جامعة الإسكندرية.
هذا إلى أن الفواصل بين البطالسة وأهل مصر ألزمت الملوك بتأكيد المظاهر الفرعونية في ملكهم المنفصل عن العالم اليوناني، كما أن ذلك العالم لم يشهد بعد انتشار قوة الجمهورية الرومانية في البحر المتوسط، فلم تكن الحاجة إلى العمل لتوحيده سياسيا ظاهرة ظهور الحاجة لبقائه مشتتا، وفي الأمرين يختلف موقف محمد علي عن موقف بطليموس؛ يختلف أولا: في أن محمد علي ورعيته ينتميان إلى عالم واحد، ويختلف ثانيا: في أن العالم العثماني متصل بأوروبا من جهة وبالأقطار الأخرى من دار الإسلام من جهات أخرى، فكانت السلامة في الوحدة لا في التجزئة، وكانت القوة والرفاهية في إدارة عقل واحد لملك متنوع الموارد، متنوع السكان، يملك أقصر الطرق بين الشرق والغرب.
وإنا بهذا التصور للخطة المحمدية العلوية؛ نذلل كل الصعوبات التي تعترضنا في فهم أعماله ونستغني عن «اختراع» تفسيرات لها، فلا نحتاج عندما نتكلم على شرح حملته على بلاد العرب أو إخماده الثورة اليونانية أو فتوحه في السودان إلى أن نقول: إنه لم يستطع عصيان أمر السلطان إذ ذاك فلم يسعه إلا الرضوخ، أو أنه أحب أن يتخلص من هذه الجماعة أو تلك من العسكر، أو أحب أن يجد ذهبا ... هذا كله - وأمثاله - موضعه تاريخ «الدايات والبايات والباشويات والزعامات» لا تاريخ محمد علي.
فهو يقضي على البغاة أو الثائرين؛ لأنه يعمل على إحياء العالم العثماني، ولأن الإحياء خطته هو، والعمل عمله هو، ولا نحتاج عندما نتكلم على حروبه مع حكومة السلطنة إلى البحث فيما وعد السلطان ولم ينجز، أو إلى الفصل فيما بينه وبين والي عكا من خصام، بل نرتفع بالبحث إلى مرتبة أرقى فنقول: أتعذر على محمد علي أم لم يتعذر المضي في عمله بلا إرغام لحكومة السلطنة على التسليم له بحرية العمل؟ وهكذا نتصور الأمر. •••
في فترة توازن القوى التالية لمعاهدة تلست، وفي سواحل وأراضي البحار العربية التي كانت تكون الحدود المبهمة للعالم العثماني؛ كانت أعمال محمد علي الأولى لإحياء القوة العثمانية، وكانت الدولة منذ أن عجزت عن إقصاء البرتغاليين ومن جاء بعدهم من رجال البحر والتجارة الأوروبيين عن البحار العربية، ومنذ أن تخلت عن سواحل اليمن في منتصف القرن السابع عشر قد تركت - فيما عدا الاهتمام الذي لا غنى لها عنه بالحجاز - شئون البحار العربية ومناطقها لأهلها وللاستعمار الأوروبي، فنمت أنواع مختلفة من السلطان العربي في مناطق الخليج الفارسي، وسواحل بلاد العرب الجنوبية وسواحل البحر الأحمر والمحيط الهندي في أفريقية وآسيا، وانعزلت تلك الشياخات والإمارات والسلطنات عن الحياة العثمانية العامة السياسية والاقتصادية، واضطرت إلى تدبير معاشها والاحتفاظ بكيانها بالعمل في التجارة البعيدة والقريبة وفي مناطق الاستعمار العربي، على الساحل الأفريقي أو في الجزائر والسواحل الهندية وما وراءها، كما سعت إلى إنشاء صلات نظامية بالأمم الأوروبية صاحبة المستعمرات والوكالات التجارية في تلك المناطق.
وكان لحكومة السلطنة نوع مبهم من حقوق السيادة، تباشرها وتتولاها من عدة قواعد: القاعدة الأولى؛ ولاية جدة، وتلحق بها الدولة عادة ولاية الحبش (والطريف أن بعض المطلعين على وثائق ذلك العهد «يصححون» لقب إبراهيم باشا والي الحبش إلى والي الجيش) والمفهوم أن ولاية الحبش تمتد امتدادا لا يمكن تحديده على ما نعرفه الآن بسواحل السودان وإريترية والصومال الفرنسي، أما مقدار امتدادها للأراضي الداخلية فلا تحديد له، وينبغي أن نلاحظ هنا أن وصل فتوح محمد علي السودانية بمناطق النفوذ العثماني على البحر الأحمر أضبط تاريخيا وأدق من وصل تلك الفتوح - كما يفعل المحدثون - بالفكرة النيلية البحتة، وكانت ولاية جدة أيضا إحدى قواعد العمل في الحجاز، قلنا العمل؛ لأن الدولة لم تستطع أن تمنع قيام نوع من الحكم الثنائي في مكة يتركب من حكم بيوت من الأشراف والنفوذ العثماني.
أما القاعدة الثانية للسياسة العربية: فباشوية مصر، ففي تلك الباشوية الأرزاق والخيرات التي رصدها السلاطين على الحرمين، ومن تلك الباشوية أيضا تجهيز التجريدات الكبيرة أو الصغيرة التي تضطر السلطنة من وقت لآخر لإرسالها للحجاز لضبط أحواله، وباشوية مصر أيضا كانت النافذة التي أطل منها الباب العالي على البحر الأحمر، وراقب منها حركات الأوروبيين أو ما هموا به من الحركات. والقاعدة الثالثة: باشوية دمشق، ومهمتها مهمة القاهرة، لحد ما؛ فهي أيضا مركز تجميع لأرزاق أهل الحرمين، وهي أيضا قاعدة تجريدات عثمانية لضبط الأمن، ولكنها ليست مركزا للعمل ذي الصبغة السياسية.
أما القاعدة الرابعة: فكانت باشوية بغداد، لا تقل شأنا عن القاهرة إن لم تفقها؛ ففي نطاقها الخليج الفارسي وطريق الفرات إلى حلب والبحر المتوسط، ومن مهماتها الأساسية مراقبة ما يجري في نجد (وما يخرج من نجد)، وفي أرضها مزارات الشيعة، وهي النافذة التي أطل منها الباب العالي على العالم الإيراني وما وراءه، وراقب منها حركات الإيرانيين والأوروبيين أو ما هموا به من الحركات.
من هذه القواعد الأربع عملت الحكومة العثمانية على ألا تكون تلك البحار العربية شريانا من شرايين الحركة التجارية، بل على أن تكون «بركا» آسنة، شأن حكومات الضعف تخشى أبدا سياسة الحركة، وكانت الدولة قد حصلت في القرن الثامن عشر على درجة من السكون أو الركود في تلك المناطق قرت بها عين السلطان، ولكن حدث ما عكر الصفو ونبه السلطان إلى تلك المناطق المتعبة، فها هم الأوروبيون قد تركت الدولة لهم تلك البحار يتاجرون فيها، وينشئون الوكالات على سواحلها ويحاربون أو يسالمون شيوخ العرب وأمراءهم، ورخصت لهم بنقل بريدهم وما خف من متاجرهم من البصرة إلى حلب والإسكندرية، ولم تطلب منهم إلا أن لا يتعدوا جدة شمالا، فهل قنعوا بذلك؟ لم يقنعوا بذلك؛ شأن الأوروبيين، لا يستريحون ولا يريحون، بل حدثت لهم محاولات ومساع لفتح طريق آخر للسويس ثم القاهرة ثم الإسكندرية، وهذا سيئ في حد ذاته، وأسوأ منه دخول هؤلاء الأوروبيين في مفاوضات ومساومات مع العصاة في القاهرة «الأمراء».
وليت المحاولات كانت من جانب دولة أوروبية واحدة أو حتى من جهة أوروبية متحدة؛ فيستطيع الباب العالي أن يعرف أين هو، ولكنه وجد منافسة أوروبية قوية حول استعمال الطريق بين الإنجليز والفرنسيين والهولنديين بل والنمسويين، كأن هؤلاء قد أدركوا - على آخر الزمان - أنهم ورثة جمهورية البندقية! وأشق من هذا أن الإنجليز أنفسهم أو الفرنسيين أنفسهم؛ انقسموا فيما بينهم واختلفت آراؤهم فيما يجب أن يكون الأمر عليه بحكم المصالح الخاصة لكل فريق، فمن الإنجليز من كره الفتح المطلق لطريق البحر الأحمر ومصر وآثروا عليه الطريق الطويل، طريق المحيط، هذا رأي «شركة الهند الشرقية» سلطانة الهند البريطانية، وصاحبة الاحتكار في التجارة الهندية، وكل ما ترجوه الشركة طريقا لبريدها وموظفيها أقصر وأسلم من طريق الخليج الفارسي والفرات وبخاصة بعد ازدياد الاضطراب في باشوية بغداد وفي بحارها، وعملت على فتح البحر الأحمر ومصر لذلك الغرض المحدود، ولم يرض هذا جماعة الناقمين على الاحتكارات الهندية من الإنجليز، فعملوا بالاتفاق مع الأمراء على فتح الطريق المصري كاملا لكل شيء.
وتود الحكومة البريطانية - فهي أيضا حكومة محافظة وسكون يسرها سكون السلطان - أن لو بقى كل شيء على حاله، ولكنها لا تستطيع أن تترك مشروعات رعاياها دون رعاية، إن فعلت ذلك تغلب عليهم منافسوهم من الفرنسيين، هذا والشركة نفسها يرضيها العمل على نيل الترخيص بنقل البريد في الأرض المصرية، فلم يسع الحكومة إلا التدخل رسميا؛ لتأييد ذلك على الأقل، ودارت الحوادث في الأعوام الأخيرة من القرن الثامن عشر على هذا النحو من الاضطراب والتصديع لرجال الدولة، تسوءهم تلك البوادر، وقد أثبتت التجربة أن لها دائما ما بعدها، وحرص السلطان على أن يحذر الشريف في مكة والأمراء في القاهرة من عواقب التورط مع الأوروبيين، وقال لهم بصريح العبارة: تذكروا الهند وما جرى فيها؛ نزلها الأوروبيون، تجارا ثم انقلبوا لها سادة، وأنذرهم بنتائج اقتراب غير المسلمين من ساحل الحجاز.
ثم نزل بونابرت في مصر واحتلها، وتحالفت الحكومة العثمانية مع الروسيا وإنجلترة لإجلاء بونابرت ورجاله عن مصر، وتقدمت السفن الحربية البريطانية نحو السويس، وقدم قسم من الجيش البريطاني الهندي للبحر الأحمر للاشتراك في الحرب ضد الفرنسيين في مصر، ونزلت حامية إنجليزية هندية في جزيرة بريم في مضيق باب المندب للسيطرة على مدخل البحر الأحمر، أدى هؤلاء الإنجليز والهنود جميعا واجبهم ورجعوا لقواعدهم، ولكن هل زالت بذلك ذكرى ما حدث؟ ذكرى ما يستطيع هذا الطريق أن يؤديه، ذكرى وجوب المراقبة والاستعداد.
وعلاج الباب العالي لذلك الاضطراب في البحار العربية الصبر والمطاولة وفرصة الانقسام فيما بين الأوروبيين، ولكن جد في البر اضطراب آخر من نوع آخر، تطلب أكثر من الصبر وطول البال، ذلكم كان الانفجار الوهابي؛ لم تستطع حكومة السلطنة أن تغمض عينها عن تلك الحركة وآثارها كما كانت تفعل بإزاء حركات القبائل وما جرى على نمطها، فالدعوة الوهابية والإغارات الوهابية في جميع الاتجاهات في البر وعلى البحر، والسيطرة الوهابية على الحرمين، كل هذا كان شيئا جديدا لا يمكن تركه يجري مجراه، ولا تستطيع الدولة بصفتها حكومة نظامية إلا أن تقمعه، فأصدرت أوامرها لأصحاب القواعد في دمشق وبغداد والقاهرة للقيام به، وتقاعس أو عجز صاحبا بغداد ودمشق، وتولاه صاحب القاهرة ابتداء من سنة 1811م.
لم يتقاعس صاحب القاهرة ولم يعجز؛ وقد انفتح أمامه ميدان فسيح الأرجاء خليق ببذل الهمة وبالنظرة النافذة وبالأمل الواسع، فالبحار العربية وسواحلها أجزاء أساسية من العالم العثماني، أهملها السلاطين إهمالا معيبا، وهي شرايين الحياة بين الشرق والغرب، تصلبت ولا بد من أن يجري فيها الدم من جديد، وخلف تلك السواحل في أفريقية أجزاء من دار الإسلام، مشتتة فاترة الحياة، لا بد من وصلها بعضها ببعض وبالعالم العثماني ومن جعل ذلك العالم وحدة حية، انفتحت أمام محمد علي هذه الآفاق منذ سنواته الأولى في مصر، شهد بعينيه في القاهرة الجنود الهنود القادمين عن طريق البحر الأحمر والقصير والسويس لطرد الفرنسيين من مصر، وتحدث إلى رجال أوروبيين وعرب حضروا عهد الأمراء واشتركوا في محاولات القرن الثامن عشر لإحياء الطريق المصري لأوروبا، ولهم بالتجارة الهندية والعربية صلات، وفي الواقع سعى محمد علي في تلك السنوات الأولى ليوجد صلات بينه وبين السلطات البريطانية في الهند.
ولكن الواجب الأول كان تأمين الحجاز ورد القوة الوهابية لموطنها الأصلي، وعهد لابنه طوسون قيادة تجريدة من الأخلاط الذين كانوا يكونون جيشه في ذلك العهد، وأبدى محمد علي من الهمة في الاستعداد والتموين وأدوات النقل وتنظيم «المخابرات» ما أدهش معاصريه، وحدث لطوسون ورجاله ما يمكننا أن نتوقعه لشاب لا يملك خبرة عسكرية ما على رأس شراذم الألبانيين والدلاة ومن على شاكلتهم، واضطر محمد علي للسفر لبلاد الحجاز بنفسه، وقد قضى فيها وقتا طويلا تم فيه استخلاص الحرمين، وهذه الأشهر التي قضاها في بلاد العرب أكسبته علما وثيقا بمختلف الشئون العربية في الحجاز وغير الحجاز: شئون الحكم، علاقات الإمارات والقبائل، مدن السواحل، مصالح الأوروبيين، ومكة المكرمة - نعم المركز للدراسة والاستطلاع.
وبعد عودته من الحجاز واستقرار الأحوال في القاهرة - بعد أن اضطربت بعض الشيء في أثناء غيابه - انتقل للمرحلة الثانية من خطته العربية، وكانت المهمة فيها إزالة السلطان السياسي والحربي للوهابية بالاستيلاء على نجد، وتولى هذه المهمة ابنه الأكبر إبراهيم؛ وقام بها قياما فيه كل الدلالة على ما سيقوم به في المستقبل، كتب القنصل الإنجليزي هنري صولت في رسالة من القاهرة في أوائل 1817: «لقد دلت معاملة إبراهيم للقبائل البدوية على امتلاكه ثلاث ميزات تبشر بالفوز في النهاية: حزم في معاملة أعدائه، سخاء في البذل، وفاء بالعهد»، وفاز إبراهيم - كما توقع له صولت - ودخل الدرعية قاعدة السلطان الوهابي.
تلت هذا الانتصار سنوات استقرار واستعداد في مناطق النفوذ المصري من الجزيرة العربية، وقف التقدم فيها نحو الشرق إلى الخليج الفارسي ونحو الجنوب إلى اليمن أمران: أولهما؛ انتظار تأليف قوات عسكرية نظامية (وهذا كان مما يعمل فيه إذ ذاك)، وأما الثاني: فاستخدامه قواته غير النظامية في فتوح أخرى أوحت بها - كما قدمنا - سياسة البحر الأحمر؛ إذ هي ألصق بها، فقصد للفتوح في المناطق الممتدة خلف ما عرفناه باسم ولاية الحبش أو مايعرفه المحدثون باسم فتوح السودان.
يعرفها المحدثون بهذا الاسم؛ لأنهم ينظرون إليها في ضوء ما يزيد على مائة سنة للتطور المصري السوداني، أما نحن فنحاول أن ننظر إليها بعين ذلك العصر، ولا نستطيع أن نغفل اتجاه تلك الإمارات العربية في السودان، إذ ذاك نحو البحر الأحمر، والجزيرة العربية عموما، ومكة المكرمة خصوصا: مصدر حياتها الروحية، وسوقها للحاجات الحسية، فوصل فتوح السودان بنمو الخطة المحمدية العلوية في الجزيرة العربية وبحارها أدق وأضبط تاريخيا من وصلها بأية فكرة عامة أخرى نحاول أن ننسبها لتلك الأيام، بل إن الدارس المتعمق لخطط الخديو إسماعيل فيما بعد لا يسعه إلا أن يرى عظم شأن البحر الأحمر وخليج عدن في إمبراطوريته الأفريقية: في نواحي التقدم الاقتصادي، والمواصلات ما بين مصر والمناطق الداخلية، وسلامة تلك الإمبراطورية ووحدتها.
وقد يعترض علينا بأن محمد علي اختار لتجريدته الأولى طريق النيل على وعورته، والرد على هذا الاعتراض وجيز: اختار محمد علي السير من أسوان جنوبا؛ لأن التجريدة كانت مهمتها الأولى (من حيث الزمن) تشتيت ملك بقايا الأمراء المصريين في حلفا ودنقلة نهائيا وتأمين حدود مصر الجنوبية تماما، أتمت التجريدة هذه المهمة ثم أوغلت في فتح الإمارات العربية في الشرق والغرب، وفيما بين النهرين، وكان على رأسها ابناه إسماعيل وإبراهيم وصهره الدفتردار، ولم تطل إقامة إبراهيم في السودان؛ ألزمه المرض بالعودة لوطنه، وها هنا أيضا أبناء محمد علي في الطليعة دائما.
عاد إبراهيم ولكن إسماعيل لم يعد؛ فقد راح ضحية اجتهاده في الوفاء بحاجات الجريدة الملحة للمال والرجال، وكتب أبوه للدفتردار: «إنه علم من إفادته فقد ولده إسماعيل باشا، وهذا قضاء مبرم لا حيلة فيه خلاف الصبر، ثم السعي بالتبصر والتدبر في أمور المصالح.»
ونود لو اتسع أفق المؤرخ (من أي أمة كان) عند كتابته تاريخ الاتصال ما بين مصر والسودان الذي أنشأه محمد علي على اتساع الآفاق التي فتحها الفتح المصري؛ نود ألا ينحصر الأمر في أن ما أتى بعد كان خيرا مما فات قبل، أليس المعقول أن يكون الأمر كذلك؟ أليس المعقول أن الإدارة التي تملك السكك الحديدية والسفن البخارية، والتلغراف والتلفون، وطب المناطق الحارة، والأخصائيين في الدراسات الاجتماعية والعلمية النظرية والتطبيقية، والمهندسين، والمعلمين، وغيرهم من الفنيين والجنود النظاميين؛ لديها أدوات ووسائل لم تملكها إدارة ما في كل أنحاء المعمورة في سنة 1820؟
وإن كانت هناك حاجة لموازنات ومقارنات ألا يقتضي الإنصاف أن تكون الموازنة بين إدارات سنة 1820 بعضها ببعض، وبين حظ فلاحي مصر والسودان وصناع مصر والسودان في تلك السنة وحظ أمثالهم في الوقت نفسه في سهول الروسيا والمجر وألمانيا، بل وفي غربي أوروبا أيضا وفي مدن إنجلترة الصناعية الجديدة، وبين تجارة الرق وأحوال الرقيق في العالم العثماني وبين تجارة الرق وأحوال الرقيق في نفس الوقت في الجمهوريات والمستعمرات الأمريكية السكسونية واللاتينية، وفي المستعمرات الأوروبية في أفريقية وفي آسيا وفي الأقيانوسية؟ لا نخشى شيئا من الموازنة والمقارنة، ولكننا نود أن نرتفع عنها وأن ندعو للارتفاع عنها، ذلك لا لأننا نتجنب الحقائق التي نكرهها؛ بل لأننا نحب أن نضع كل حقيقة مما نحب ومما نكره موضعها الجدير بها فلا تختل المقاييس ولا تضطرب النسب بين الأشياء، ومن أجل ذلك نود لو قل الكلام في مقدار ما أفاده محمد علي من فتوحه السودانية، ومقدار الذهب والعبيد وريش النعام والعاج وارتقى إلى الأشياء الجوهرية.
أول تلك الأشياء أن محمد علي الحاكم المسلم بعث جيشا من المسلمين للفتح في بلاد إسلامية تجاورها بلاد الزنوج الوثنيين وبلاد الحبش، ومنهم مسلمون ومنهم نصارى أو يهود، ومثل هذا الفتح ليس امتلاكا ولا استعمارا؛ فالمسلمون لا يملكون رقاب المسلمين، فالفتح هنا ضم جزء من دار الإسلام إلى الأمة الإسلامية لإحياء ذلك الجزء بإشراكه في الحياة الإسلامية الكبرى، ولنزد تحديد ذلك بيانا (ولننقل في هذا عن رجل نقلنا عنه في مواضع أخرى: رفاعة، وقد سكن السودان منفيا في أيام عباس الأول)، لاحظ رفاعة على الأهلين «قبولهم للتمدن الحقيقي؛ لدقة أذهانهم؛ فإن أكثرهم قبائل عربية»، كما لاحظ «أن اشتغالهم بما ألفوه من العلوم الشرعية شغل رغبة واجتهاد، ولهم مآثر عظيمة في حسن التعلم والتعليم؛ حتى إن البلدة إذا كان بها عالم شهير يرحل إليه من البلاد المجاورة من طلبة العلم العدد الكثير والجم الغفير فيعينه أهل بلدته على ذلك بتوزيع المجاورين على البيوت بحسب الاستطاعة؛ فكل إنسان من الأهالي يحتضن الواحد أو الاثنين فيقومون بشئونهم مدة التعلم والتعليم.»
وعرف رفاعة سيدة تسمى «السيدة أمونة، تقرأ القرآن الشريف ومؤسسة مكتبين أحدهما: للغلمان، والثاني: للبنات كل منهما لقراءة القرآن وحفظ المتون تنفق على المكتبين من كسبها بزراعة القطن وحلجه وغزله وتشغيله، ولا ترضى أن يشوبه شيء من مال زوجها، وبجانب المكتبين خلوات لمن يختلي من العباد والزهاد الحاضرين من أقصى البلاد لأداء فريضة الحج الشريف، ومنزلها كالتكية للفقراء وأبناء السبيل والقاصدين بيت الله الحرام وأمثال ذلك كثير هناك»، ثم قال: إن تلك البلاد «لم تخل قراها عن نوع التقدم في الحضارة، مع مساعدة الوارد والمتردد إليها في هذه الأيام لقصد الزيارة أو التجارة؛ فإنها أقرب للتمدن من أقاليم أفريقية بكثير وجميع أهلها - ما عدا بعض سكان الجبال - لسانهم عربي فصيح؛ حيث إن جلهم من نسل العرب المنتجعة القبائل قديما، يحفظون أحسابهم وأنسابهم وفيهم كمال الاستعداد وذكاء الفطنة، وإنما يحتاجون في حصول المطلوب إلى اطمئنان النفوس وتأليف القلوب من حكام أرباب صداقة وعفاف وعدل وإنصاف ...»
فلا نستطيع أن نزعم إذن أن الحكم المحمدي العلوي في السودان نقل قوما من الظلمات إلى النور، ولكنه أدى إلى ما لا يقل أهمية عن ذلك؛ خلق من إمارات وقبائل متفرقة وطنا إسلاميا جديدا، وهيأ لهذا الوطن مستقبلا ووجودا بين مناطق الأحباش والقبائل البدائية ومناطق الزحف الأوروبي الذي كان قد أخذ في الاقتراب نحو قلب القارة من الأطراف الساحلية، ثم ربط هذا الوطن الجديد بالعالم العثماني الأكبر وبحياة الإنسانية الحاضرة، وكانت مصر الصلة في ذلك الربط، هذا ما قدم محمد علي وهذا ما قدمت مصر - صنع الله له ولها جزاء ما قدما. •••
عمل محمد علي في الأقطار العربية في الجزيرة وفي السودان طليقا من كل قيد؛ لا دخل لحكومة السلطان في خططه ومشروعاته إلا بقدر بذل ألقاب التشريف وسيوفه وجواهره وحلله وتنميق عبارات الإطراء والحمد له ولابنه إبراهيم، ولا دخل أيضا للسياسة الأوروبية فيها إلا بقدر الانتباه إلى أن دور السكون والركود في الأقطار العربية قد انتهى ، وأنها قد أخذت تضطرب بحياة جديدة، واكتفت السياسة الإنجليزية إذ ذاك بهذا التنبه، ثم أضافت إليه تنبيها بالابتعاد عن بلاد الحبش.
ثم قام اليونان بثورتهم، وتحركت جيوش السلطنة وأساطيلها وجيوش محمد علي وأساطيله لقمع تلك الثورة، وبدأ بذلك فصل جديد في سياسة محمد علي؛ فصل يمكنه من أن يتبين أمرين أساسيين، الأول: مدى إمكان التعاون بينه وبين حكومة السلطنة في إحياء القوة العثمانية، الثاني: موقف الدول الأوروبية منه ومن حكومة السلطنة، ولم تكف حوادث الثورة اليونانية وحدها لجلاء الأمرين وإنارة الطريق أمام محمد علي وأمام السلطنة والدول الأوروبية، بل احتاج ذلك أيضا لمفاوضاته مع فرنسا بشأن إخضاع داي الجزائر، ويشغل هذا الفصل - فصل التبين - السنوات من 1824 إلى 1830 تقريبا، وسنبحث حوادثه من هذه الوجهة. •••
في أبريل سنة 1821 انتهز يونان المورة فرصة عصيان علي باشا والي يانينا لإعلان استقلالهم، وأكدوا عزمهم وكشفوا عن خططهم بإبادة الحاميات الإسلامية المنبثة في أنحاء بلادهم، وبالفتك بكل من فيها من المسلمين غير الجنود شيوخا ونساء وأطفالا وامتدت الثورة للجزائر اليونانية، وانضم رجالها وسفنهم لتأييد الحركة، وأصبح بذلك لدى الحكومة الوطنية اليونانية أداة قوية جدا لمنع السلطان من استخدام المواصلات البحرية لنقل جيوشه لبلاد اليونان، وفي البحر أيضا أكد اليونان عزمهم وكشفوا عن خططهم، فسلطوا سفنهم ومحرقاتهم على تجارة العدو وتجارة الصديق على حد سواء.
قابلت حكومة السلطنة خطط الثائرين بمثلها، وأجابت على ذبح غير المحاربين بمثلة أو بأحسن - أو بأسوأ - منه، ولم يغن هذا عن السلطنة شيئا ولم يرد لها ولاياتها المفقودة، فاستنجدت بمحمد علي، وقبل أن ينجد السلطان في إخضاع جزيرة كريد أولا ثم في إخضاع بلاد اليونان كلها ثانيا، قبل أن يتولى ذلك؛ لأن محيي العالم العثماني لا يستطيع أن يتجاوز عن حركات العصيان في أقطاره وعما صحبها من ذبح الأبرياء ومن تعطيل التجارة في حوض البحر المتوسط الشرقي، ولأن ذلك المحيي أراد أن يثبت لأهل العالم العثماني ولأوروبا قدرته، ولأنه أيضا يتمكن بذلك من أن يتبين مدى إمكان نجاح توجيه تشترك فيه القاهرة والقسطنطينية للخطط الحربية والسياسية، ولأنه أخيرا يستطيع أن يزيد في تقوية قاعدته (مصر) بوضع جزيرة كريد تحت إدارته المباشرة.
ولم يخش عندما قبل أي اصطدام بأوروبا؛ فإن الدول إذ ذاك لما عرفت أن اتخاذ أية خطوة إيجابية لتسوية ما بين السلطان واليونان يكشف عن انقسامها، ويفتح الباب لما لا تحمد عقباه؛ آثرت السلامة في إعلان حياد رسمي، وتركت حرية العمل لمن يريد من رعاياها شفاء غليل من المسلمين، أو رد جميل اليونان الأقدمين لأبنائهم الثائرين، أو رفع صوت الحرية عاليا في ركن من أوروبا عل صداه يتجاوب في أركانها الأخرى.
أخضع محمد علي جزيرة كريد وما اقترب منها من الجزائر الصغرى بوسيلتي اللين في موضعه والشدة في موضعها، ثم وجه الحملة الكبرى بقيادة ابنه إبراهيم: جيشه المصري الجديد وأسطوله الأول، وهدف الحملة الأول (وهذه خطة وضعها محمد علي بنفسه) تطهير الجزائر، وتنظيف الجيوب والأوكار المنبثة فيها لتأمين المواصلات البحرية، ثم محاولة النزول في أرض المورة بعد ذلك، ولكنه سرعان ما اكتشف أمرا له دلالته؛ اكتشف أن الحكومة العثمانية فصلت عن القيادة العامة للقوات البرية والبحرية (قيادة إبراهيم) قيادة أسطولها، ولم تكتف بهذا الإجراء المعرقل الضار فاختارت لرياسة أسطولها عدوا شخصيا لمحمد علي هو محمد خسرو باشا صديقنا القديم في مستهل القرن التاسع عشر.
وليت خسرو كان قد أثبت مقدرة في حرب البحر تبرر تعيينه، أو استطاع أن ينزع من صدور رجاله الرعب الذي كان يملأها من المحرقات اليونانية، فكانت خططه كلها تدور على تجنب اللقاء، ولم يتجنب اللقاء بأعدائه اليونان فحسب بل بأصدقائه المصريين أيضا بدعوى الإصلاح والتجديد والاحتفال بانتصار صغير جدا ناله على الأسطول اليوناني، فترك خسرو البحر لإبراهيم، وأنزل هذا عسكره في كريد مترقبا فرصة نقله لبلاد المورة وتجول في تلك البحار، وكانت لأسطوله منازلات مع الأسطول اليوناني خرج منها سالما، ولنذكر أنه ينازل برجال - لم يطل عهدهم لا بحرب البحر فحسب بل بسفر البحر أيضا - رجالا ركوب البحار وتجارة البحار والتلصص في البحار في دمهم آلاف السنين ، ثم انتهز فرصة تمرد رجال البحرية اليونانية على حكومتهم لتأخرها في دفع مرتباتهم ونقل جيوشه لبلاد المورة، وهنا أيضا أول عهد الجيش الجديد بالحرب الجدية، وسار إبراهيم من نصر إلى آخر إلى أن أتم اكتساح بلاد المورة وانتقل منها إلى الأقطار اليونانية الأخرى شماليها.
واتهمه الأوروبيون بأنه عمل على استئصال الأمة اليونانية وتطهير أرضها قضا وقضيضا لينزل بها عربا أو سودانا مسلمين، وقد دفع المؤرخون الأوروبيون المحدثون هذه التهمة عنه وبينوا أنها فرية لا أصل لها، وشرحوا أن في مثل حرب المورة؛ أي في الحرب ضد ثورة قومية؛ يصعب على القائد - أو يستحيل عليه - أن يفرق في عملياته الحربية بين أعدائه المحاربين من الجنود وأعدائه المحاربين من غير الجنود، كما أن سلامة عسكره قد تقتضي تخريب القرى والحقول، وشرحوا أيضا ما أدت إليه طبيعة تلك الحرب من أن الأسر لا يسري على الجنود فقط بل يمتد إلى نسائهم وصغارهم، ثم بينوا ما بذله محمد علي - من الجهد والمال - لجمع من بيع بمصر من سبي المورة وتحريره ورده إلى بلاده، وأشادوا بحسن معاملته لليونان المقيمين بمصر، وتركه لهم حرية كاملة لكسب رزقهم، بل وللعمل لأغراض ثورتهم أحيانا، وذلك في أوقات تقدمت فيها السفن اليونانية نحو الإسكندرية للاستيلاء على السفن التجارية الخارجة منها أو الداخلة إليها، بل ولمحاولة إحراق ما في مينائها من السفن التجارية والحربية، كما أشادوا باستطاعته بث الهدوء والطمأنينة في أهل كريد مسلميهم ونصاراهم، وباستطاعته اجتذاب بحريين من اليونان غير قليلين للعمل في أسطوله!
ولما ظهر للأوروبيين أن لهيب الحرية اليونانية سوف ينطفئ في بحر من الدم؛ تحركت الدول للعمل الإيجابي الذي حاولت تجنبه زمنا، وآن لها أن تفعل شيئا فقد أصبح اعتداء البحرية اليونانية على التجارة أمرا لا يكفي الاحتجاج عليه لدى السلطان ولي الأمر الرسمي ولدى اليونان أصحاب الأمر الفعلي في البحار، ثم حدث أن توفى الإسكندر قيصر الروسيا وكان حريصا على ألا ينفصل عن الدول الأخرى من أجل اليونان وتولى بعده أخوه نيقولا وكان رجلا من طراز آخر، لا يتردد في تنفيذ ما يراه إما بالاتفاق مع أوروبا - إن أمكن - وإما وحده إذا لم يكن من ذلك مناص، فقامت مفاوضات انتهت باتفاق يولية 1827 بين الروسيا وإنجلترة وفرنسا، مؤداه السعي لإقناع الفريقين المتحاربين بوقف القتال، وإذا لم ينجح المسعى تستخدم الدول الثلاث ما تشير به ظروف الحال من الوسائل لمنع استمرار الحرب، ومن هذه الوسائل إعلان الحصار البحري للسواحل اليونانية بواسطة أسطول أوروبي مشترك.
وقد رفض السلطان رفضا تاما أن يقبل أي تدخل أوروبي فيما اعتبره شأنا داخليا عثمانيا صرفا، بل وأقسم ودموعه تسيل على خديه ليقتلن كل يوناني في مملكته، وإذا لم يصد هذا الأوروبيين، ليقتلن الأرمن وغيرهم من رعاياه، بل ليخلطن دماء الفرنجة بدماء الرعايا من أهل الذمة، والظاهر أن محمودا لم يتوقع بقاء الجبهة الأوروبية دون تصدع، والثابت أن الحكومة النمسوية - وكانت غير راضية عن سياسة اتفاق يولية - شجعت محمودا على رفض التدخل الأوروبي، وعملت من جانبها على الحض على الإسراع في سحق الثورة قبل أن يتحول التدخل الأوروبي إلى حقيقة.
وسحق الثورة أو عدم سحقها قد خرج من يد السلطان وانتقل إلى يد محمد علي، صاحب الجيوش والأساطيل، فاتجه السعي نحوه، خطر ذلك للإنجليز أولا، وأدركوا أن انسحاب محمد علي من الميدان يبطل القتال توا.
وتحدث إليه قنصلهم في مصر بتعليمات من السفير في القسطنطينة معرضا بأن الأولى به أن يقنع بباشوية سورية لإبراهيم بدلا من تبديد جنوده وأمواله في مشروع تكرهه أوروبا، ورد عليه محمد علي رافعا الحديث من مستوى الباشويات إلى مستوى سياسة الممالك، ومن النطاق الضيق: نطاق الجلاء من المورة إلى النطاق الفسيح العالمي الذي يسع مصالح إنجلترة ومصالحه، وختم كلامه بالإشارة إلى أنه سوف يؤجل رحيل النجدات البرية والبحرية التي طلبها إبراهيم لتصفية الثورة نهائيا حتى يعرف مبلغ استعداد الحكومة الإنجليزية للعمل معه، ثم حضر بعد ذلك رسول نمسوي لسعي آخر، لدعوة محمد علي للإسراع في سحق، الثورة وحذره من أن الإنجليز لا غرض لهم إلا استغلاله في هذه المسألة اليونانية بالذات وكفى، ومضت الأيام، وعمل محمد علي في فترة الانتظار على أن يرغم حكومة السلطنة على عزل خسرو وجعل مقاليد القيادة بحذافيرها في يد ابنه، وتم له ذلك.
وأخيرا لما طال الانتظار أمر بالرحيل، فسافر الأسطول في 6 أغسطس، وبعد يومين من سفره وصل ضابط إنجليزي موفدا من قبل حكومته، وأبلغ هذا الضابط محمد علي - متجنبا التهديد - ضرورة الجلاء عن بلاد اليونان؛ لأن الدول قد أجمعت كلمتها على فض الموضوع، وأنها سوف ترسل للبحار اليونانية قوات كفيلة بتحقيق ذلك، هذا رد إنجلترة على نطاق التعاون الواسع وسع العالم، وهذا درس آخر يتلقاه محمد علي من حوادث تلك الثورة اليونانية الكاشفة عن الخفايا المنيرة لمعالم الطريق، وأخذ يعمل على تجنب كارثة الاصطدام بالقوات الأوروبية في اليونان وبحارها مستخدما كل ما يستطيع استخدامه لدى رجال السلطنة من حجج الإقناع والتحذير والإنذار، ولكن بدون جدوى: وهذا درس ثان من دروس حوادث تلك الثورة في إمكان توجيه سياسة واحدة للعالم العثماني من القاهرة والقسطنطينية، وحدث ما كان يخشاه: صمم قواد الحلفاء على وقف القتال وأرغموا الأساطيل المصرية والتركية على البقاء داخل خليج نافارينو ثم انتهزوا فرصة اصطدام بين رجال البحر لتحطيم تلك الأساطيل التي حاربت إلى أن انتهت، لم ترفع سفينة منها علما أبيض، ولم يغادرها رجل واحد من رجالها، وأعلنت الروسيا الحرب على الدولة العثمانية ودخلت جيوشها الولايات العثمانية؛ وأنزلت فرنسا تجريدة فرنسية على ساحل المورة، فلم يبق لمحمد علي من سبب للبقاء فيها فأمر إبراهيم بالانسحاب والعودة.
ومضت الثورة اليونانية بعبرها، وبان لمحمد علي أن حكومة السلطنة تفهم العمل معه على وجه استغلاله إلى أقصى حدود الاستغلال، وليتها تحسن ذلك، فهو لا يكره إطاعة حكومة عليا رشيدة تعمل على بلوغ أهداف العزة والكرامة والرفاهية، ولكن ماذا أثبت السلطان ورجاله في أزمة نافارينو وفيما قبلها وبعدها؟ أثبت السلطان - كما قال محمد علي - أنه يتشبث تشبث الخنزير، وأثبت رجاله أنهم أبلد من الحمير، وبان له أيضا أن أوروبا على اختلاف الأهواء قد تتحد ، وبان له ثالثا أنه لكي يساوم ينبغي أن يكون بيديه ما يساوم به وعليه، فلم يكفه الاستعداد للجلاء عن المورة للمساومة، وبان له أخيرا أن إنجلترة لا تتحمس كثيرا في الأحوال السياسية العادية لإخراج المباحثات السياسية من نطاق المسائل المحددة إلى نطاق المبادئ السياسية العامة، وكان شعارها: ليكف كل يوم شره. •••
وأما المفاوضات بين فرنسا ومحمد علي في أمر إخضاع داي الجزائر فحديثها طريف، تختلط فيه الأوهام بالحقائق اختلاطا عجيبا، ولم يكن فيه من رجل فصل بين الحقائق والأحلام سوى محمد علي.
وأصل الموضوع فساد العلاقة بين حسين داي الجزائر والقنصل الفرنسي، واحتد الداي يوما ما وضرب وجه القنصل بمذبته، فانسحب القنصل ورفض الداي إعطاء الترضية المطلوبة وحاصرت القوات البحرية الفرنسية بلاده، وهاج الرأي العام في فرنسا مطالبا باتخاذ ما ينبغي اتخاذه لغسل الإهانة ... إلى آخره، وحكومة فرنسا إذ ذاك حكومة شارل العاشر، بينها وبين الأمة حساب آخر على مسائل أخرى لا تتعلق بحسين ولا بمذبته، بل تتعلق بأصول السلطان: أهو بتفويض من الله لا شأن لأحد به - كما يزعم شارل - أم بإرادة الأمة كما تزعم الأمة، فالأعصاب متوترة، والقلوب متنافرة، ولا بأس في صرف الخواطر عن المسائل الدستورية إلى طلب المجد، لا نقصد طلب المجد الرخيص عن طريق تأديب حسين، بل طلب مجد براق لامع عن طريق محو ما فرض الحلفاء المتألبون ضد إمبراطورية نابليون على فرنسا في سنتي 1814 و1815 وأن الحكومة التي تستطيع نيل ذلك تزيل عن تاج شارل العاشر وصمة ما فتئ خصوم بيته منذ 1815 يكررونها، وصمة اقتران عودة البيت المالك للعرش بهزيمة فرنسا، ومما يزيد الأمر جاذبية أنه لن يكلف الأمة تضحية ما؛ فهو يقوم على العقل وحده ولا دخل للقوة فيه إلا من بعيد.
افترض بولينياك وزير خارجية الملك شارل العاشر أن الروسيا والنمسا سوف تقتسمان فيما بينهما الولايات العثمانية في أوروبا - وهذه دائما نقطة البدء في مثل هذه المشروعات - ولا بد من أن تعوض فرنسا عن ذلك لحفظ التوازن؛ وليكن التعويض ضم الأراضي البلجيكية حتى حدي الماز والرين - وكانت تلك الأراضي إذ ذاك في مملكة الأراضي المنخفضة وعلى عرشها الملك وليم الهولندي - هنا تحتج بروسيا: فلتعط الأراضي السكسونية وما بقى من مملكة الأراضي المنخفضة، وهنا لا بد من تدبير شيء ما للملك وليم، فليعط عرش القسطنطينية وشيئا من الأراضي التركية الأوروبية، بعد ذلك لا بد من الفصل في أمر مستعمرات الهولنديين في الشرق، هذه تعرض على الإنجليز، وهم أحرار في القبول أو الرفض. أما طريقة التنفيذ فأمرها هين؛ تتفق الروسيا وفرنسا أولا على المشروع ثم تجردان جيوشهما، فلا يسع النمسويين والبروسيين إلا الإذعان والاقتناع، أما إنجلترة فلتفعل ما تشاء، إن أرادت أن تنتفع فلها المستعمرات الهولندية وإن أرادت غير ذلك فهي حرة.
إن الاشتغال بهذه السياسة العالية علوا كبيرا يقتضي من بولينياك ألا ينصرف إلى تأديب الداي حسين وأن يبقي الجيوش الفرنسية والأساطيل الفرنسية متجمعة مستعدة لما هو أهم، ولكن لا بد من تأديب الداي، فليؤدبه محمد علي «على حساب» فرنسا.
والظاهر أن هذا كان من بنات أفكار قنصل فرنسا في مصر، الإيطالي الأصل دروفتي، وملك المشروع عليه قلبه ولسانه، ولكننا لا ندري أشغله عن الإتجار في الآثار المصرية فقد كان من أكبر تجارها، وعرض الأمر على حكومته وعلى محمد علي، بل وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ أبلغ حكومته موافقة محمد علي على المشروع بشرط. والواقع أن محمد علي لم يوافق ولم يرفض بل أصغى إلى كل ما قيل ولم يقفل الباب؛ شأن الرجل العاقل، ولا بد أن دهشته كانت كبيرة لما عرف أن الملك شارل العاشر قد أقر فكرة استخدام قوات محمد علي لإخضاع الداي؛ بناء على ما عرضه عليه وزيره بولينياك بدون علم زملائه في الحكومة، وأنه أمر سفيره في القسطنطينية بنيل موافقة الباب العالي على اشتراك محمد علي - كأن الباب العالي يمكن استئذانه في مثل هذا الأمر - كما أمر قنصله في مصر، القنصل ميمو - وقد حل محل دروفتي - أن يبلغ محمد علي استعداد فرنسا لإعطائه 10 مليونات من الفرنكات ومعاونة الأسطول الفرنسي إذا قام بالأمر بدون إبطاء.
اندهش محمد علي وحق له أن يندهش لهذا الخلط كله؛ اندهش لفتح الموضوع في القسطنطينية، واندهش من منع فرنسا في عرضها الشيء الوحيد في نظره الذي أعطى الموضوع أية قيمة «أربع سفن حربية كبيرة يضمها لأسطوله» ودارت المفاوضات من جديد وانتهت إلى عرض مبلغ 20 مليون فرنك على محمد علي ومبلغ 8 ملايين لبناء السفن الأربع في فرنسا له.
وكانت الحكومة الإنجليزية تعلم بكل هذا في وقته، علمته من تقارير قنصلها بالقاهرة، فإن دروفتي لم يطق إلا أن يتحدث فيه مع زميله الإنجليزي، وعلمته من صور للوثائق الأصلية الفرنسية أهدتها إياها الحكومة النمسوية، وعلمته أخيرا من الباب العالي نفسه وقد أسرع لإفساد المشروع بإبلاغه للإنجليز، فاعترضت عليه لدى الحكومة الفرنسية ولدى محمد علي، وكتب وزير الخارجية للسفير الإنجليزي بالقسطنطينية: «سواء وافقت الحكومة العثمانية المشروع أو لم توافق فإن الحكومة الإنجليزية لا يسعها إلا أن تهتم بتغيير خطير يحدث في الولايات الأفريقية تحت النفوذ الفرنسي وبواسطة وسائل فرنسية ومن أجل مصالح فرنسية، فيما يصح لنا أن نفترض.»
وكتب للقنصل الإنجليزي بالقاهرة ليبلغ محمد علي «اعتراض الحكومة الإنجليزية على أخذه على عاتقه تنفيذ هذا المشروع تحت الرعاية الفرنسية»، وعلى القنصل أيضا أن يؤكد لمحمد علي الصداقة التي أملت هذه النصيحة، ولما أبلغه القنصل الرسالة أجاب محمد علي بأن الاعتراض لا لزوم له، وشرح له موقفه في الأمر كله، وكان مشروع بولينياك الكبير في تلك الأثناء قد انتهى إلى لا شيء، فلم تؤد المفاوضات الأساسية مع الروسيا إلى نتيجة ما، كما أن بروسيا أعلنت أنها يستحيل عليها أن توافق على امتداد فرنسا لحد الرين الأيسر، وانصرف الوزير إلى تصفية أمر الداي مستغنيا عن محمد علي كما كان محمد علي مستغنيا عن المشروع كله.
ولكن الفصل لم يخل من فائدة: زادت السياسة الإنجليزية له وضوحا، انجلى له مقتها لسياسة الحركة وإيثارها بقاء كل شيء على حاله وتأجيل التغيير فيه ما أمكن التأجيل، فهم ذلك فعدل، وما ألبقه أسلوب الحديث ! إنجلترة تريد المحافظة، تريد بقاء السلطنة ، تعمل على أن تقيها غوائل الزمن وأن تدفع عنها شر المطامع الروسية، ومن تستطيع أن تجد ليتولى ذلك سوى محمد علي، قال للقنصل الإنجليزي عندما قدم ليحدثه في موضوع الداي: ألا ترى استحالة المحافظة على الدولة العثمانية، قد ترقع هنا وقد ترقع هناك ولكن بلا جدوى، وماذا تتوقع لحكومة فقدت ثقة شعبها بها؟ ومن إضاعة الوقت أن تنتظر منها أن تحول دون التقدم الروسي، وفي منع تقدم الروسيين مصلحة إنجليزية كبرى، وليست هناك وسيلة لتقوية السلطنة سوى تأييدي أنا، أنا الذي يستطيع أن يضع تحت طلب السلطان مائة وخمسة وعشرين ألف جندي على أهبة الاستعداد لصد الروسيين تحت أسوار القسطنطينية وفي إيران ... إن الدولة قد انتهت وعلى إنجلترة أن تؤلف قوة أخرى لمواجهة الروسيا، وأين تجد هذه القوة إلا في وفي ابني من بعدي؟
ثم أفاض في شرح موارده وأن الحكومة الإنجليزية تنقص من قدرها، وختم حديثه بأنه أينما اتجه يجد إنجلترة أمامه، وهذا الحديث أيضا لا يخرج إنجلترة عن مقت سياسة الحركة، لم تتعهد بشيء ما، لم تقيد حرية العمل، لم تسابق الحوادث «ليكف كل يوم شره»، ومحمد علي أيضا من جانبه لم يتعهد بشيء ولم يقيد حريته في شيء. •••
وقد تكونت لديه في خلال السنوات العشر التي عرضنا حوادثها وعبرها اعتبارات أساسية، يسترشد بها في وضع خططه وتنفيذها في السنوات العشر الأخرى التي بدأت بسنة 1830، قل وثوقه بإمكان وضع سياسة مشتركة بين القاهرة والقسطنطينية، وزاد إيمانه بأن محمودا ورجاله يسيرون قدما نحو الهاوية، وتأكد من أن نجاح اليونان في نيل استقلالهم ستتلوه حركات وثورات في الولايات الأوروبية من العالم العثماني، وأن العطف الأوروبي على هذه الحركات سيكون عاملا هاما في نجاحها، ورأى أن فرنسا قد أخذت في توسيع دائرة الفتح في الجزائر، فانتقل العمل من تأديب الداي حسين إلى فتح منظم لتلك النيابة العثمانية الهامة، ومن يدري أين يقف الفتح؟ كما رأى أن الروسيا توطد نفوذها وتملي إرادتها على الباب العالي، ولا يتردد القيصر نقولا لحظة في اتخاذ ما يراه كفيلا بإعلاء كلمته في القسطنطينية، الحرب إن كان لا بد منها، الوعد بوضع السلطان في كنفه وفي ظله الظليل إن كان هذا أجدى، وفي حالتي الحرب والسلم - على حد سواء - يتقدم النفوذ الروسي فيما بين البحرين الأسود والقزويني في اتجاه إيران والخليج الفارسي بالإضافة إلى توغله في أواسط آسيا نحو أفغانستان والهند، أما والأمور كذلك ماذا يصنع محمد علي؟
يشير عليه الإنجليز ويشير عليه الفرنسيون ألا يكون هو الفاتح للأزمات الشرقية، ويشير عليه الأول - بصفة خاصة - أن يقبع في داره، وأن يوجه مواهبه التي لا شك فيها في تنمية الموارد ورفع لواء العدل والإنسانية وحسن الإدارة وإسعاد شعبه، أن يتجنب الحركة، وأن يخلد للسكون، وحسن جدا أن تلزم إنجلترة خطة المحافظة، وحسن جدا أن تفعل ذلك عندما يكون بين يديك كل ما تريد، فهل ينطبق ذلك الوصف على محمد علي؟ لم يكن لديه كل ما يلزمه، بل لم يكن لديه ما يلزمه لسلامة بلاده وإنقاذ عمله، كانت تملأه الحسرة ويتقطع فؤاده أسى كلما تقدمت به السن وكلما خطر أمام عينيه شبح الزوال! زوال ماذا؟ زوال دور الصناعة والأساطيل والمصانع والمدارس والمعاهد والترع والجسور والقناطر، وزوال كل ما أنشأه هو وشعبه بعرق الجبين بل بعرق الدم، أيستطيع أن يسمح بانتقال هذا التراث لباشا من بشاوات السلطنة يبدده ويخربه كعادة الباشوات، لا بد من الضمانات ضد الزوال، لا بد من الحركة.
هذه الضمانات حسية ومعنوية؛ توطيد النفوذ المعنوي في العالم العثماني، ولدى الحكومات الأوروبية بالاستمرار في سياسته العمرانية، ونشر سلطانه المباشر في أقطار أخرى من العالم العثماني يقيه ملكها شر حكومة السلطنة وخبث طويتها نحوه ونحو عمله، ويعطيه ملكها الموقع الآمن والموارد التي يستطيع بها أن يكون على حال من القوة والاستعداد تمنع عنه أطماع الطامعين، ويخرج بذلك أقواما من عبث الحكام وفسادهم، ومن ركود الفقر والفوضى إلى حركة اليسر والنظام، لا بد له من أن يتخذ هذه الضمانات سريعا إن أراد أيضا أن يسبق اتجاه الدول الأوروبية نحو تلك الأقطار.
ما هي تلك الأقطار؟ الولايات الشامية الأربع: حلب وطرابلس ودمشق وصيدا وبعض المناطق الساحلية في الجزيرة العربية على البحر الأحمر والخليج الفارسي، هذا أكيد، والعراق والمناطق فيما بين الشام والأناضول هذا مما يترك للظروف، والأقطار - كما ترى - هي في الجملة مما يكون - على حد تعبير محمد علي - عربستان أو ما نسميه دار العروبة، فهل تصور لها كيانا سياسيا، أو ما نسميه وحدة عربية؟ سؤال كبير، إن أجبنا عنه سلبا عدونا الصواب ونسبنا إليه قلة إدراك لعناصر وروابط بارزة؛ لغة واحدة وثقافة واحدة، ودين واحد ومصالح مشتركة، وبالنسبة لحياة العالم الاقتصادية كتلة واحدة. وإن أجبنا عنه إيجابا عدونا الصواب أيضا بعض الشيء ونسبنا لعصر سابق ما هو - على وجه التحقيق - من خلق العصور اللواحق، وأخفينا إخفاء لا يبرره الواقع عناصر وعوامل تدفع نحو التفرقة؛ اختلافات جغرافية واجتماعية، اختلافات في طرق التفكير وفي مستوى المعيشة، اختلافات مذهبية طائفية، صعوبات المواصلات، ضعف وسائل الاتصال العقلي والحسي، وهكذا.
وقد لا نعدو الصواب إن قلنا: إن محمد علي أدرك الفكرة في عمومها، وأنها مما يمكن التشييد عليه في حالة الانفصال عن السلطنة، وهذا ما لم يقرره بعد، بل ترك تقريره تبعا لظروف الحال، إن حتمت تلك الظروف تقسيم العالم العثماني أمكنه نقض ما حدث في القرن السادس عشر وبناء العالم العربي من جديد، ولكنه لم يكن قد يئس بعد من مستقبل الوحدة العثمانية وإن كان قد يئس من مستقبل السلطنة، فلنقتصر إذن على الباعث الأول الدافع لاتخاذ العمل الإيجابي، باعث الاستيلاء على الضمانات.
دخل الجيش المصري بقيادة إبراهيم أراضي ولاية صيدا - وقاعدتها عكا - ومهمته الصغرى وضع حد لخطة «وخز الإبر» على طريقة الباشوات التي سار عليها عبد الله الجزار صاحب تلك الولاية، ومهمته الكبرى الاستيلاء على الباشويات الأربع، كان ذلك في سنة 1831 وتقدم الجيش والأسطول نحو عكا وحاصراها حصارا طويلا، وقاوم عبد الله ببسالة وقوة قلب، وفي مايو اقتحم إبراهيم الأسوار ودخل المدينة واستولى على دمشق في يونيه بدون مقاومة، ومنها تقدم شمالا وهاجم الجيش العثماني عند حمص - مفاجأة - وهزمه بعد واقعة قصيرة، واحتل حلب بعد ذلك بقليل، ثم هزم جيشا عثمانيا ثانيا في بيلان. أمام محمد علي إحدى خطتين؛ إما التقدم لتهديد السلطان في قاعدة ملكه وحمله على التسليم بما يريد، أو التريث وانتظار تسوية تقرها الدول الأوروبية.
نصح إبراهيم بالخطة الأولى وبالانفصال، واقترح أن تضرب السكة باسم أبيه، وأن يدعى له على المنابر، ورد عليه أبوه أنه بلغ ما بلغه بالاعتدال وأنه ليس بحاجة لألقاب التشريف، وذكر ابنه بأن هناك دولا أقوى من السلطنة وأنه لا بد من نيل موافقتها إذا أراد تسوية مستقرة، وأن تقدم إبراهيم نحو القسطنطينية لا بد وأن يلزم الدول بالتدخل، وقد سبق ذلك في المسألة اليونانية، أما الخطة الثانية، فضررها أنها تتيح للسلطنة فرصة الإفاقة من غشيتها فتجمع جيوشها لحماية العاصمة، عرف ذلك محمد علي ولكنه يعرف أيضا أنه يستطيع أن يتغلب على تلك الجيوش كما تغلب على أخواتها من قبل، وهذا ما حدث.
ابتدأت السياسة الأوروبية تتحرك وابتدأت السلطنة مفاوضات وهمية مع محمد علي لكسب الوقت، ولما ظنت أنها قد استعدت تحركت، وحدث ما توقعه محمد علي، فإن إبراهيم هزم الصدر الأعظم رشيد محمد هزيمة ساحقة عند قونية في ديسمبر 1832 وانفتح طريق القسطنطينية، وتقدم إبراهيم ولكنه عندما بلغ كوتاهية أمره أبوه بالوقوف، وكان الداعي لذلك تدخل الروسيا في الأمر، عرض القيصر على السلطنة مساعدتها بقواته البرية والبحرية، وطلب إلى محمد علي الكف عن القتال.
وكف إبراهيم عن التقدم، واستنجد السلطان بإنجلترة قبل أن يقبل ما عرضه عليه القيصر، طلب منها أن تعينه بأسطولها، ورفضت الحكومة الإنجليزية المعاونة المادية؛ لحاجتها إذ ذاك لكل قواتها بسبب مشكلة الحركة الاستقلالية البلجيكية، وسعت هي وفرنسا لحمل محمد علي والسلطان على تصفية ما بينهما آملتين أنهما بذلك يجعلان العرض الروسي لا لزوم له، أعلنت كل من فرنسا وإنجلترة تمسكها بسياسة المحافظة على الدولة العثمانية، «ولكن - كما قال بالمرستون وزير الخارجية لوكيله في القاهرة - لما كان من غير المستطاع إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، فالحل الوحيد في هذه الظروف أن تعهد حكومة السلطنة حكم ولايات الشام إلى محمد علي بشرط أن يؤدي الجزية عنها وأن يعين السلطان حربيا إذا اقتضى الحال ذلك، وبهذا الحل تصان مصالح السلطنة ولا تنقص مواردها المالية والعسكرية»، وسلم السلطان في النهاية بهذا الحل مضيفا على الولايات الأربع جزيرة كريد ومنطقة أضنه.
سلم السلطان بهذا، ولكنه نفث في الاتفاق وجو الاتفاق سما، فعقد مع القيصر معاهدة انكيار اسكله سي (يولية 1833) في ظاهرها معاهدة تحالف وفي جوهرها معاهدة حماية، كرهتها فرنسا وإنجلترة، وكرهت إنجلترة معها محمد علي، واعتبرت أن حركته التي لا تبطل وطموحه الذي لا حد له حملا السلطان على أن يضع نفسه في هذا الموضع المذل، ثم رتبت على ذلك النتيجة الظالمة: يجب أن أنافس الروسيا في حماية السلطان بكل سبيل، ويجب أن أقف في وجه محمد علي في كل مكان، يجب أن أعاديه بحيث يعرف السلطان أني أنا - لا الروسيا - الصديقة الصدوقة.
وقفت له في اليمن، ثم وضعت يدها على عدن، وهددته ألا يقترب من الفرات ومن الخليج الفارسي، وتصدى قناصلها للحكومة المصرية في سوريا؛ يعرقلون عملها ويسفهون عمالها ويبذرون بذور الشقاق والاستياء في بلاد علم الله قلة حاجتها للشقاق والكراهية، وكانت القنصليات الإنجليزية في الشام والسفارة الإنجليزية في القسطنطينية قواعد تلك الحملة العدائية، وإذا ما شذ قنصل عن ترداد النغمة التي تحبها وزارة الخارجية كان نصيبه العزل كما حدث لقنصل القاهرة كامبل عندما حاول أن يكون أمينا لخدمة بلاده بقول الحق.
وحاولت الحكومة الإنجليزية أن تهدم قوة محمد علي من الأساس بحمل الباب العالي على إلغاء الاحتكارات التجارية في معاهدة تجارية كرهها التجار الإنجليز في مصر - وهم أعرف بمصالحهم - ولم يروا فيها إلا عملا سياسيا مستترا بثوب تجاري، وهذا كله بأسلوب خلا من كل ما اصطلح عليه الناس في الغرب والشرق من أدب التعبير وحسن الخطاب، موجه إلى عصامي عرف الناس جميعا قدره، وقدره خصومه كما قدره أصدقاؤه ، رجل قد يحارب وقد يعادي ولكنه رجل لا يهان، ويأتي المؤرخ ددويل وينكر - بعد كل ما أورد - على من قال من المؤرخين المصريين، بأن الحكومة الإنجليزية حاربت عظمة مصر في عهد محمد علي، قولهم.
قابل محمد علي البذاءة بالتغاضي عنها؛ فهي لم تجر أبدا على لسانه، وقابل العداوات الصغيرة بالترفع عنها؛ فهمته أسمى من العداوات الصغيرة، وفي أسوأ الأوقات عندما تحرجت الأحوال واستخدمت الدول قوة السلاح ضده حافظ على مصالح رعاياها أدق محافظة، فلم يمسس لهم بريدا ولا مالا ولا شخصا، بل وذهب مرة في المجاملة إلى حد أن وضع تحت تصرف القنصل الإنجليزي باخرة من بواخره لتحمل إلى مالطة نبأ انتصار عسكري إنجليزي في الشرق كان يهم الحكومة الإنجليزية سرعة إرساله!
وعندما قطعت الدول علاقاتها به وانسحب القناصل من مصر، أتدري ما حدث؟ رفض التجار وغيرهم من الإنجليز أن يتبعوا قنصلهم ويغادروا مصر، فالحرب حرب اللورد بالمرستون، وبعثت إليه غرفة التجارة البريطانية ببنغالة في الهند برسالة تحيي فيها المثل الذي رسمه للأمم المسيحية في ضبط النفس المطمئن، وفي سنة 1842 ضرب التجار الإنجليز ميدالية ذهبية نقشوا عليها رسمه وسجلوا عليها حمايته النبيلة للمصالح الإنجليزية.
ومضى محمد علي في السنوات التالية لتسوية سنة 1833 في سبيل الجد، حاول أن يصنع في الولايات الشامية ما صنعه في مصر؛ أن يقيم سلطة عامة واحدة شعارها السماحة، وشغلها إحياء الموات، ودرعها الجيش الوطني، تصرف الناس عما درجوا عليه من تناهب الأموال العامة وترك الخراب يطغى رويدا رويدا على ما هو عامر، وكره لحمل السلاح في خدمة السلطان وإن كانوا يحملونه لشفاء الأحقاد الطائفية والشخصية، ولو خلص له الأمر في الولايات الشامية لتغلب على تلك الصعوبات تغلبه على مثيلاتها في مصر، ولكن الأمر لم يخلص له؛ تصدى له القناصل وترحموا على زمان سهل رغيد كانت لهم فيه مساهمة فيما سميناه حكومة التناهب، وتصدى له كل أصحاب «الحقوق» المكتسبة من أنصار زمان المذابح، وخلف الجميع السفارة الإنجليزية في القسطنطينية «والمابين الهمايوني» والسلطان عينه لا تنام، وقلبه دائم الخفقان، مستعد لأن يفعل كل شيء وأن ينزل لأي حضيض وأن يبذل أي تضحية لشفاء ما في نفسه، فأخذ يجيش الجيوش ويعد العدة؛ واستقدم فون ملكته البروسي ونفرا من أبناء جنسه لتدريب الجيش واستخدم ضابطا من الإنجليز في الأسطول.
وكان لا بد لمحمد علي من أن يكون أيضا مستعدا، حذرت الدول محمودا ومحمد علي من عواقب التمادي فيما هما فيه، وإن اختلفت لغة الخطاب في الحالتين، اختلفت لدرجة أن محمودا فهم من الثنايا «أن استمر فيما أنت فيه وأن الهزيمة نفسها لن تضيرك»، وقال القنصل كامبل في هذا الأمر كلاما معقولا، قال: إن الإنصاف يقتضي ألا يرغم محمد علي على نزع سلاحه دون أن تضمن له الدول الاحتفاظ بما في يديه، وتعمل عملا جديا على أن تحمل السلطان على نزع سلاحه هو أيضا.
وقبل محمد علي تلك الضمانة؛ فقد ضاق في تلك السنوات ذرعا بثقل أعباء التسليح والجزية مع التقدم نحو الشيخوخة دون أن يصل إلى نظام ثابت مستقر للمستقبل، فهم في سنة 1838 بإعلان الانفصال مهما كانت نتائجه، ثم غلب عليه اعتداله الطبيعي فتريث، وأخيرا عبر الجيش العثماني الفرات في إبريل سنة 1839 وطلبت الروسيا من إبراهيم أن ينسحب إلى دمشق واعدة بمخاطبة السلطان في الارتداد عن حدود الشام، فأجاب محمد علي بأنه على استعداد للانسحاب إذا عاد الجيش العثماني إلى ما وراء الفرات، وضمنت له الدول عدم اعتداء السلطان عليه وحق وراثة مصر لأبنائه من بعده، إن فعلت ذلك قبل تخفيض جيشه في الشام وتسوية نهائية مع السلطنة، ولما مل الانتظار، وسئم دسائس حافظ باشا - قائد الجيش العثماني - بين أهل الشام أمر إبراهيم بالهجوم، فهاجم إبراهيم معسكر حافظ باشا في نزيب «نصيبين» وحطم الجيش العثماني (يونيه من 1839)، وحدث بعد هذا بقليل موت السلطان وتسليم الأسطول العثماني لمحمد علي على يد قائده الأعلى، وقد خشى انهيار السلطنة نهائيا فسلم الأسطول إلى من ينبغي أن يكون رجلها.
حل محل محمود ابنه عبد المجيد، وبدأ بالدخول في مفاوضات مع محمد علي، وسارت المحادثات نحو الاتفاق على قاعدة الوراثة في ملك كل ما في يده، ولكن الدول الخمس قدمت مذكرة مشتركة تنص فيها على وجوب عدم اتخاذ قرار فيما بين السلطنة ومحمد علي إلا بموافقتها (يولية 1839)، هذا الاشتراك مما رحبت به الدول فقد اعتبرته إحلالا للهيمنة الدولية على الشئون الشرقية محل الهيمنة الروسية، فهو تتويج لما بذلته إنجلترة من جهود في السنوات الأخيرة ضد محمد علي، ولكن شذت فرنسا وخرجت عن الجادة - وليتها لم تشترك في مذكرة يولية من أول الأمر - وعملت من ناحيتها على حث السلطنة ومحمد علي على تسوية الخلاف فيما بينهما، الأمر الذي قتلته المذكرة المشتركة، ولما أحس بالمرستون بذلك ضرب ضربته؛ فعقد المعاهدة الرباعية المشهورة من إنجلترة والروسيا والنمسا وبروسيا (15 يولية 1840).
وتنص المعاهدة على منح محمد علي باشوية مصر وراثية في بيته، ومنحه جنوبي الشام مدة حياته، ثم تدرجت في نقص المنح إلى حد استرداد كل شيء منه بقوة السلاح إذا لم يذعن في الأوقات المحددة.
وقابلت فرنسا المعاهدة التي عقدت بالرغم عنها بعاصفة من الاحتجاج، لم يأبه لها بالمرستون كثيرا لاعتقاده الصحيح أن ملك فرنسا لوي فيليب لن يوافق على إعلان الحرب إذا جد الجد، واعتقد رئيس وزرائه تيير أن إجماع أوروبا لن يطول فنصح لمحمد علي بألا يذعن، ولكن لا يهاجم، بل يقف موقف الدفاع، وبئست النصيحة، كان الأولى بمحمد علي إما أن يقبل عرض الدول الأول «مصر وراثية وجنوبي الشام مدة حياته» أو يتخذ خطة الهجوم، قبل تأهب الدول للعمل المشترك، على قاعدة السلطنة: القسطنطينية.
لو فعل ذلك لأصبح في موقف لا تسهل زحزحته عنه، فهو بهذا يفتح باب المسألة الشرقية على مصراعيه، وهذا الفتح التام يصدع أي جبهة أوروبية مهما بلغ من اتحادها، أما خطة المقاومة السلبية فكانت فيها بذور الهزيمة، والنقد سهل من بعيد، وأجمل منه أن نبعث على البعد بتحية إعجاب وعطف للشيخ الذي صمد للمحنة مرفوع الرأس يستعد للوقفة الأخيرة؛ فأخذ يستدعي جنوده من الجزيرة العربية، ويؤلف فرقا جديدة وينشئ معسكرا دفاعيا في دمنهور، ويشجع على تأليف الحرس الوطني .
وأدرك رجال السياسة أن قد آن وضع حد لما هم فيه من استخدام القوة المجردة الغشوم، أدركوا أن خصمهم وراءه قوة تؤيده من الرأي الأوروبي المستنير؛ لذلك - وعلى الرغم من انهيار الدفاع المصري عن الشام، رحب رجال السياسة بالاتفاق الذي عقده الضابط البحري ناييير - دون تفويض له من حكومته بذلك - مع محمد علي في نوفمبر من سنة 1840، وبموجبه تعهد محمد علي بإخلاء الشام وإعادة الأسطول العثماني نظير منحه حكومة مصر بصفة وراثية، وعلى أساس هذا الاتفاق صدرت في سنة 1841 الفرمانات السلطانية المحددة لمركز مصر.
بدأ بتلك الفرمانات عهد الخديوية المصرية، ولكن الخديوية لم تتخذ شكلها في التأريخ إلا بعد موت محمد علي، ذهبت فتوحه واختفى أسطوله وانكمش جيشه ولكنه لا يزال مهيب الجانب، عالي الصيت، يتألق من جبينه جلال المشيب ونور المجد، فمنع عن مصر في السنوات التي بقيت له النزول إلى ما قدره لها أصحاب تسوية سنة 1841، إلى مرتبة النيابات العثمانية الراكدة ومناطق المشروعات الاستغلالية الأوروبية.
ولئن أخفق محمد علي في تحقيق مشروعه الخطير: إحياء القوة العثمانية؛ فقد نجح في وضع قواعد الدولة المصرية على أساس مكين.
الفصل الثامن
قضى محمد علي على تشتيت السلطان وتجزئته وأقام الدولة الجديدة، يخضع لها الجميع، وتتكفل بواجبات الدولة في العصر الحديث، شعارها - بل وروحها - السماحة، لا لأنها تجردت من الصفة الدينية، أو قصرت دائرة عملها على حد المصالح الدنيوية أو قامت على نوع من الفصل فيما بين الدين وبين السياسة؛ بل كان ذلك لاعتبارها أن الحياة الاجتماعية في العصر الحديث قد تطورت تطورا يسمح عمليا بقبول فكرة التعاون لتحقيق أغراض سياسية واجتماعية بين أناس يختلفون دينا ولكن تربطهم روابط إسلامية في حقيقتها، وبقيت القيم التي يعتد بها في تشكيل سلوك الأفراد وعمل الحكومة قيما إسلامية.
وقضى محمد علي على فكرة المشاركة والمقاسمة في الأموال العامة وتناهبها، وأقام مكانها العمل على إحياء الموات، فوقف الخراب عند حد، ثم ارتد أمام تقدم العمران، واستلزم هذا في أوله تقييد حرية الفرد، فإن محمد علي رفض الفكرة القائلة بأن الإنسان يستطيع أن يفعل ما يشاء بما تملكه يمينه، وأكد واجب ولي الأمر في توجيه الجهود الفردية نحو غايات اجتماعية، فخرج في ذلك عن الحد الذي رسمه بعض مفكري عصره عندما قصروا واجب الحكومة على مهمة المراقبة والحماية عند الاقتضاء فحسب، وقد عرفنا أن الاعتبارات العملية السائدة بررت موقفه تمام التبرير، وأدركنا أن خططه كان من شأنها في النهاية، وعلى الرغم مما اتخذته من حيطة أن تؤدي إلى فك القيود، وإزالة العقبات من طريق التبادل الحر والجهود الفردية الطليقة.
وقد اقتصر تقييد حرية الفرد لمصلحة الجماعة على الدائرة الاقتصادية ولم يتجاوزها إلى دائرة الحياة الروحية في أية ناحية من نواحيها، فتركها ولي الأمر طليقة من كل القيود، لا سلكان فيها إلا للضمير وللدين، أليست هذه أنفس أنواع الحرية؟ بل أليست هي الحرية؟
وقضى على العصابات المسلحة، وأقام مكانها الجيش الوطني، وكانت فكرته أن الفرد لا ينبغي له أن يحمل سلاحا إلا بإذن السلطان ولأغراض السلطان، وتخلصت الجماعة بذلك من الاضطراب والفتن والحرب الداخلية، وأصبحت أمة تملك أداة العيش الكريم.
أما أدوات السلطان، فالإدارات الحكومية الكبرى والصغرى المعروفة، أما قانونه الأساسي فدستور غير مكتوب، يتركب من مبادئ قديمة ومن مبادئ جديدة، ويستمد وحدته من إرادة محمد علي، تسري هذه الإرادة في العمال، كبيرهم وصغيرهم على يد الصفوة من الرجال التي عمل على خلقها وإحكام أمرها طول أيامه، ولكن ماذا يكون الحال بعد موته؟ اكتسب لأبنائه حق وراثة ملكه، حقيقة كان هذا أقل مما كان يرجو ولكنه احتفظ لهم بما يستطعيون في ظروف أكثر مواتية أن يبنوا عليه، وكان أمله أن يسير أبناؤه على النهج الذي نهج وأن تعاونهم الصفوة التي خلق، وهذا عهده السياسي ولنضعه في عبارته، قال مخاطبا رجال الحكومة: «سيحصل لكم من عائلتي كما حصل لكم مني من جهة الالتفات وترفيع الدرجات لكم ما دامت الحياة، وكلما شاهدوا أطواركم وأحوالكم جارية على ما سبق بيانه من الكيفيات علموا قيمتكم وقتا فوقتا، وأخذوا يقولون: إنهم خدموا في زمان آبائنا وأجدادنا هكذا، وسلكوا مسلك الحق والاستقامة حتى كان منهم أنهم إذا رأوا أمرا غير لائق يخالفونهم في إجراءاته رعاية لأصول الحق، وهذا برهان ساطع على خدمتهم في أيامنا بهذا الشكل، وما فعلوا ذلك إلا لأملهم الخدمة والاستقامة في أيامنا ويعرفون درجتكم وقيمتكم ويكثرون شرفكم طبيعة كواجب اللازم والملزوم.»
أيفترض محمد علي في عهده هذا أن خلفاءه سينسجون على منواله، وأنهم سيجدون من صفوتهم ما وجده من صفوته؛ من عرفان الجميل، والأمانة، وتوافق الميول والأهداف، فهل هذا مما يمكن البناء عليه؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال ينبغي ألا يفوتنا تقرير حقيقة، هي: أن القوانين الأساسية المكتوبة لا يكفي لبقائها ولا يكفي لحيوتها - والحيوية تفضل مجرد البقاء - كونها مكتوبة، فقد تبقى وقد لا تبقى، وقد تكون حية وقد لا تكون حية، والمهم أن تستند إلى قوى معنوية وحسية، فعلام استند قانون محمد علي غير المكتوب؟ استند إلى انتشار أفكاره العمرانية في العقول، وإلى أن تلك الأفكار قد تحولت من برنامج رجل واحد إلى برنامج وطني، واستند أيضا إلى أن معاني العزة والكرامة والشرف قد اتسعت لتفيد عزة الوطن، وكرامة الوطن وشرف الوطن. تلك هي القوى المعنوية والحسية، وقد أصبحت حقائق، وهي نعم الأساس لأي دستور.
ذلكم محمد علي، وعمل محمد علي.
قال مرة لصديقه الدكتور بورنج الإنجليزي: «لا تعجب إذا رأيتني أحيانا عجولا قليل الصبر، فقد كنت في حياتي كلها موفقا ميمون النقيبة، لا بد أني ولدت والطالع سعيد والنجم مبتسم، ثم لم تفارقني بعد سعادة الطالع وابتسامة النجم»، فهو شخصية مشرقة؛ مشرقة في حالتي الرضا والغضب، في العمل في المصالح الكبرى وفي شئون كل يوم، وهو شخصية إنسانية لا تتكلف ما ليس من سجيتها، دقيقة الحس مرهفته، تتجلى في المآثر الكبرى وفي المجاملات الصغرى.
كتب لابنه سعيد أن يقتدي بأستاذه فارس أفندي وأن يتطبع بأخلاقه؛ لاتصافه بحسنها، ثم نبه على ابنه ألا يتناول الطعام معه؛ لأن فارس أفندي كان يستنكر بدعة استعمال الشوكة والسكين، فينبغي على ابنه أن يتجنب ما يؤلم شعور الأستاذ، أرأيت رقة المجاملة؟
ولما تقدمت السن بحبيب أفندي مدير الديوان الخديوي اضطر محمد علي لإعفائه من الخدمة وأسند عمله لحفيده عباس، وكتب للأمير عباس: «ولكون الأفندي المومى إليه من أعز أصدقائي المحبوبين فلا ينبغي التوجه للديوان ورفعه منه وتوجهه لمنزله على ملأ العالم، بل اللازم هو إرسال الأمر داخل مظروف إليه بمنزله ليلا أو المخابرة معه»، وكتب لحبيب أفندي نفسه ما يأتي: «إنه في علمك ممنونيتي لجهتك بالنسبة لخدماتك التي أديتها بكل صدق واستقامة في هذه المدة المديدة، ولا بد عندك إحساسات قلبية بذلك، إنما لمعاناة المشقات في السعي والاهتمام في سبيل تلك الخدم طرأ على جسمك فتور وهزال؛ ولذلك كان مأموري وموظفي الديوان إدارتك طرأ عليهم أمور مغايرة في شئون وظائفهم وعدم قيامهم بالواجبات، فلأجل تأليف هؤلاء على السير بالحسنى تراءى لي تعيين ذات ذي كفاءة مديرا لذلك وإن حفيدي عباس باشا شوهد فيه الكفاية لهذا المنصب؛ فقد عينته مديرا عليه بعنوان «كتخدا»، ومكافأة لك صار تقاعدك بكامل ماهيتك، وحائزا لنشانك، والحضور لطرفي في أيام التشريفات كما كنت»، أرأيت أيضا رقة المجاملة؟
كتب إلى أحد كبار الحكومة أنه علم أن حفيده عباس قتل رجلا خبازا «على أن جده سبق أن أكد عليه بعدم غدر الأهالي، وبأنه تأثر من ذلك؛ لأنه من المعلوم أن المشار إليه حفيده ووارث ملكه بعده، فإن كانت هذه أفعاله في حال شبوبيته فكيف يمكنه الحكم بالعدل عندما يتولى مسند الحكومة، ويؤكد على هذا الكبير بإيقاظه وإلقاء تلك العبارات للمشار إليه رحمة بشيخوخته وإلا فليتحققا بمحوهما وإزالتهما»، فلم تكن الأرواح رخيصة عنده.
وكتب لابنه سعيد: «واللازم عليك الائتلاف بمن لهم معرفة بالأصول الجديدة، العارفين بالحالة والوقت، والاهتمام في تعلم تلك الأصول منهم؛ حتى لا يقال إن محمد علي سيئ الخلق.»
قال محمد علي في أواخر أيامه: «ما كنت أؤمل ولا أتعشم في الوصول إلى المراكز التي وصلنا إليها اليوم، وصارت آمالي الآن آخذة في الازدياد ؛ ولذلك يسهل علي إتلاف أحد أسرتي الحاكمة على ثلاثة ملايين من النفوس في سبيل عمارة وإصلاح الوطن الذي هو أقصى مرغوبي.»
ولنختم كلامنا عند هذا، عند الأمل الذي يزداد دائما والعمل الذي لا يقف عند حد التضحية.
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون .
Bog aan la aqoon