وأخفقت المظاهرة، واحتلت قوة إنجليزية ثغر الإسكندرية، سلمها للإنجليز دون قتال حاكمها العثماني المستقل بها عن محمد علي، وعلى الرغم من أن تعليمات الحكومة الإنجليزية لقائدها في الإسكندرية كانت تقضي بألا يحاول التوغل فيما وراءها، وبألا يتدخل فيما كان يجري بين الأحزاب المختلفة في مصر، فإن القنصل الإنجليزي - وكان يود أن يكون احتلال الإسكندرية ممهدا لاستقرار إنجلترة نهائيا في المناطق الساحلية المصرية - أقنع القائد بأن تموين الإسكندرية بما يلزم أهلها من الماء والغذاء يستلزم احتلال رشيد وإنشاء مواصلات محمية بين الثغرين؛ فحاول القائد ذلك مرتين ومني بهزيمتين قبيحتين على يد ألبانيي رشيد وأهلها، ثم على يد القوات التي أرسلها محمد علي من القاهرة.
واستقر القائد في الإسكندرية إلى أن أمرته حكومته بالانسحاب منها بعد أن زالت البواعث التي دعت إلى احتلالها بتغير الموقف في أوروبا تغيرا تاما؛ فخرجت الروسيا من الحرب ضد فرنسا، ولم تكتف بذلك بل قامت بين نابليون والإسكندر معاهدة تحالف؛ هي معاهدة تلست المشهورة، ولم تعد هناك أسباب تحمل الإنجليز على الضغط على الدولة العثمانية إرضاء للروسيا، فسعت إنجلترة لتسوية علاقاتها بالدولة العثمانية؛ وقررت أن تعمل على المحافظة على كيانها.
أما إذا تحقق ما ذاع من أن الإمبراطور والقيصر قد اتفقا على تقسيم الدولة العثمانية؛ فإن إنجلترة في تلك الحالة تؤيد الحكومة الشرعية العثمانية في أي مكان تقوم فيه إذا اضطرت لمغادرة العاصمة، وتنشئ من جهة أخرى علاقات تأييد ومعاونة مع الولاة العثمانيين في ألبانيا وفي مصر مثلا لدفع الفرنسيين أو الروسيين عن ولاياتهم، وقد سارت الحكومة الإنجليزية إلى حد ما على هذه الخطة في السنوات التالية لعقد معاهدة تلست فزاد اتصالها المباشر بمحمد علي وخصوصا في أمر العلاقات التجارية، وفي أمر تطبيق قوانين الحرب البحرية وما إلى ذلك، ولكنها حذرت أن تزيد على ذلك وذلك؛ لأن الشرط الأساسي لاتخاذ سياسة الاعتراف بكيان خاص للوحدات العثمانية لم يتحقق؛ فإن معاهدة تلست لم يتبعها تقسيم الدولة العثمانية بل - على العكس - تبعها شيء من التوازن مكن الدولة العثمانية من التماسك واجتياز فترة الاضطراب النابليوني بسلام.
وذلك أن التحالف الروسي الفرنسي لم يكن في نظر الإسكندر ونابليون مقدمة لمشروعات سياسية مبهمة كتقسيم العالم بين العاهلين وما إلى ذلك، بل كان على العكس وسيلة تحقيق أهداف عظيمة حقا، ولكنها محددة تماما، فمن جهة نابليون: حرمان إنجلترة من حليفتها الأوروبية الكبرى وإغلاق ما ينفذ منه الإنجليز إلى القارة، وإقامة الروسيا رقيبا على النمسا؛ لكي يفرغ لإتمام إخضاع وتنظيم غربي أوروبا ووسطها. وثمن هذه الخدمات الروسية؟ أحب طبعا أن يكون الثمن زهيدا ما استطاع، وأن يكون «كلاما» أكثر منه حقائق، ولكن كان لا بد من أن يدفع شيئا ما، وأقصى ما فعل أن ترك للروسيين إمارتي البغدان والأفلاخ وأن أشار على الدولة العثمانية - برفق فهمته تماما - أن تسلم للروسيا بملكها.
ومن جهة الإسكندر: وضع حد لمشروعات نابليون في بولونيا وفي العالم العثماني، وثمن هذه الخدمات: الاكتفاء مؤقتا بملك الولايتين الدانوبيتين والتسليم لفرنسا بمنطقة نفوذ وقواعد في الجزائر اليونانية وعلى الساحل الألباني، وراقب الحليفان أحدهما الآخر إلى أن حان وقت إسدال الستار على هذا الفصل الممتع من تاريخ الرجلين، وأغار نابليون على الروسيا في سنة 1812 وكانت بداية النهاية.
أتاح هذا كله نوعا من التوازن - كما قدمنا - وهيأ لمحمد علي أول اختباراته للسياسة الكبرى، وقد عرفها في طور خاص من التاريخ الأوروبي لا يمثل حياتها الطبيعية أو العادية أصدق تمثيل، فكأنه رآها بعين الرجل يرى الآلات في مصنع من المصانع تدور دورانا جنونيا والصناع يلهثون لحفظ سرعة الدوران على حالتها، أو كأنه رآها بعين الميكروسكوب يكبر أجزاءها ويظهر كل ما دق من معالمها، وقد تأثر محمد علي بنظرته الأولى تلك طول حياته وانتفع بها وخسر.
انتفع بها لأنه فهم سر الحركة وأنها تستطيع أن تغير كل شيء؛ هذه خريطة أوروبا، الظاهر أن نابليون يستطيع أن يفعل بها ما يشاء، هذه عروش قديمة تزول كأن لم تغن بالأمس، وهذه الإمبراطورية النابليونية نفسها زالت بعد حين، وانتفع أيضا لأن في مدى تلك السنوات الضيق يتجمع الشيء الكثير من القواعد الأساسية في تشكيل العلاقات السياسية الكبرى: التفوق البحري الإنجليزي، موقع الروسيا ومواردها، تسخير قوى الإنتاج وتنظيمها وتنسيقها لخدمة غايات معنوية، بهرته الحركة تماما، وصادف ذلك هوى في نفس مشرئبة طموحة.
وخسر لأنه لم ير أن السكون هو أيضا لازم لتلك الحياة السياسية الكبرى وأنه أيضا عامل فعال وأن في الحياة السياسية الكبرى ما يدفع نحو منع التغيير ونحو محاسبة من يسببه.
ومهما يكن فإن وسائل محمد علي في السنوات الأولى لم تتح أكثر من فرص التطلع من نافذته المصرية، حقيقة أن النظر ينفذ من النافذة المصرية لآفاق بعيدة جدا، ولكن الوسائل إذ ذاك لا تسمح بأكثر من استطلاعها، وكان مما لا بد منه في أول الأمر أن يجمع تلك الوسائل في يده على الأقل وأن يقيم بناء الحكومة الجديدة على أساس جديد. •••
وكانت فكرته فيما يجب أن تكون عليه حكومة مصر واضحة له تمام الوضوح، أن مصر لا بد أن تتولى أمورها سلطة عامة واحدة؛ فإن تجزئة السلطان وتشتيته السائدين قبل أيامه أديا إلى انعدام فكرة الحكومة انعداما يكاد يكون تاما، فنتج عن ذلك تكوين العصابات الخاصة المسلحة، ونتج عن ذلك إهمال العمال المرافق العامة إهمالا ذريعا، ونتج عن ذلك أن كل من يستطيع وضع يده على أموال عامة يفعل ذلك دون تردد، بل نتج نوع من التفكير يعتبر أن الحكومة ما هي إلا مشاركة ومقاسمة في «الأرزاق» وإن شئت قل: نهبا، وليس توضيح ذلك بعسير. ومرجعنا في وصف هذا التشتيت والتجزئة رسالة حسين أفندي في ترتيب الديار المصرية، ومرجعنا في وصف عقلية المشاركة والمقاسمة الجبرتي.
Bog aan la aqoon