أما التخير عند الملاقاة والمعاملة فلفائدتين أيضًا: إحداهما التلذذ والتفاؤل، الثانية رجاء أن يكون قد طابق فوجد معناه ويكون حسن الاسم دالًا على حسن المسمى كما تقرر في الفراسة الحكمية من أن حسن الخلق دليل على حسن الخلق، وفي الحديث: " اطْلُبُوا الخَيْرَ عنْدَ حِسَانِ الوُجُوهِ " على وجه، ولم يبعث الله تعالى نبيًا إلاّ حسن الوجه حسن الاسم، وفي كلام العامّة: الاسم يدل على المسمى. ومن التفاؤل الصادق والرجاء الواقع ما وقع لعبد المطلب في تسمية نبينا ﷺ حيث سماه باسمه الشريف، وكان هذا الاسم غير معتاد عندهم، فقيل له: لمَ سميته بهذا وليس من أسماء آبائك، فقال: رجاء أن محمد في السماء والأرض، فكان ذلك، ويحتمل أن يكون كان عنده من ذلك علم ممن لقي من أهل ذلك العلم كسيف بن ذي يزن ونحوه. وقد يكون سبب تخير الاسم مشايعة من تسمى به تبركًا به أو إحياء لذكره أو رجاء الشبه به أو نحو ذلك، وفي الحديث: " وُلدَ ليَ اللَيْلَةَ وَلَدٌ فَسَمّيْتَهُ باسْمِ أبي إبْرَاهيمَ " وقيل: لما نزل قوله تعالى:) يا أُخْتَ هَارُونَ (قيل للنبي ﷺ: كيف تكون أخت هارون وبينهما دهر طويل، فقال ﷺ: " إنّهُمْ كَانُوا يُسَمّونَ بأسْمَاءِ أنْبيَائهمْ " أي هو هارون آخر سمي باسم هارون بن عمران ﵇.
واعلم أن التلذذ المذكور في هذا القسم خلاف المذكور فيما مرّ، فإنّ ذلك تلذذ بالاسم بسبب حضور معناه الأصلي كسعد وسعيد ووردة وياسمين، وهذا تلذذ بالاسم لحضور من كان تسمى به من غير التفات إلى مدلول اللفظ الأصلي، فكل من سمع اسمًا كان وقع على مسمى آخر فقد يستشعر ذلك المسمى الآخر في الاسم فيوجب له ذلك الاستشعار أمورًا، إما تعظيمًا ومنه بدل أمير المؤمنين عمر ﵁ اسم ولد كان اسمه محمد فسمع رجلًا يومًا يشتمه ويقول: فعل الله بك يا محمد وفعل، فقال: لا أرى اسم النبي ﷺ يُسَبّ بكَ، وكان بعض الرؤساء كلم خديمًا له اسمه محمد في أمر وخاطبه باسم آخر وهم أنه غضبان عليه، فدخل على الخديم من ذلك جزع عظيم حتى يبين له بعد ذلك أنه إنما كان على جنابة فلم يستطع أن ينطق بهذا الاسم الشريف وهو جنب، رحمه الله تعالى وجزاه خيرًا، وإما تلذذًا أو استئناسًا أو اشتياقًا أو نحو ذلك لكونه أليفًا أو محبوبًا.
وكان المجنون لما اشتد به حاله قام أهله فقالوا: نذهب به إلى الحجّ وزيارة البيت ففعلوا، فلما أقبلوا على مكة قالوا له: يا قيس، هذا بلد الله وهذا بيته فادع الله تعالى أن يعافيك من حب ليلى فأنشأ يقول:
ذكرتك والحجيج له ضجيج ... بمكة والقلوب لها وجيبُ
فقلت ونحن في بلد حرام ... به لله أخلصت القلوب:
أتوب إليك يا رحمان مما ... جنيت فقد تكاثرت الذنوب
فأما من هوى ليلى وحبّي ... زيارتها فإني لا أتوب
فكيف وعندها قلبي رهينًا ... أتوب إليك منها أو أُنيب
فأيسوا منه ثم سكن شيئًا ما فلما بلغوا ناحية منىً سمع إنسانًا يقول: يا ليلى، ينادي امرأة، فطار المجنون واستقبل البَرّيّة وهو يقول:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منىً ... فهيج أحزان الفؤادِ وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرًا كان في صدري
وقال الآخر:
ومَن كبدي يهفو إذا ذكر اسمه ... كهفو جناح ينفض الطل طائره
وبلغ بأولياء الله تعالى نحو هذا المعنى، وهم أحق به، يحكى عن بعضهم أنه لقي واحدًا منهم في البرية فقال له: من أين أتيت؟ فقال: هو، فقال: أين تريد؟ فقال: هو، فقال: ما تعني بقولك هو؟ فقال: هو، فقال الله تعني؟ فصاح وسقط ميتًا. وإما نفرة وكراهية لكونه بغيضًا مقيتًا، وإما غير ذلك.
تتمة
1 / 5