ومما ينخرط في هذا السلك أن بعض الملوك عزل وزيرًا له اسمه الياقوت فحلف الملك ليستوزن أول من يلقى فخرج فلقي رجلًا أعرابيًا فاستوزره فإذا هو من أعقل الناس وأنجبهم فلما رأى الوزير الأول ذلك كتب إلى الملك:
أحكم النسج كل من حاك لكن ... نسج داود ليس كالعنكبوت
ألقني في لظى فإن غيرتني ... فتيقن أن لست بالياقوت
يشير إلى أن الياقوت المعروف لا يفسد بالنار.
فأجاب الآخر:
نسج داود ما حمى صاحب الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت
وفراخ السَّمَنْد في لهب النا ... ر أزالت فضيلة الياقوت
أشار إلى السمندل وهو دويبة في ناحية الهند تتخذ من جلودها المناديل وتلقى في النار فلا تزداد إلاّ نضارة وحسنًا ولا تحترق، والله على كل شيء قدير، إلى غير هذا مما لا ينحصر ولو تتبعناه لطال. وأما الكنية واللقب فيعتبران بوجهين: الأول نفس إطلاق الكنية واللقب وهما في هذا مختلفان، فإن الكنية الكثير فيها إذا لم تكن اسمًا أن يراد بها التعظيم وينبغي أن يعلم أن الناس باعتبارها ثلاثة أصناف: صنف لا يكنى لحقارته، وهو معلوم من أن الحقارة أمر إضافي، فرب حقير يكون له من يراه بعين التعظيم فيكنيه، والمقصود أن التحقير من حيث هو حقير لا يكنى إلاّ هزءًا أو تلميحًا، وصنف لا ينبغي أن يكنى لاستغنائه عنها وترفعه عن مقتضاها، ومن ثم لا يكنى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم أرفع من ذلك حتى إنهم أشرفت رفعتهم على أسمائهم فشرفت، فإذا ذكروا بها كانت أرفع من الكنى في حق غيرهم، وللملوك وسائر أكابر الناس نصيب من هذا المعنى، وصنف متوسط بين هذين، وهو الذي يكنى تعظيمًا، ثم إن كان التعظيم مطلوبًا ككنية أهل العلم والدين ومن يحسن شرعًا تعظيمه فحسن، وكذا اكتناء المرء بنفسه إن كان تحدثًا بالنعمة أو تبركًا بالكنية باعتبار من صدرت عنه أو نحو ذلك من المقاصد الجميلة فحسن، وإلاّ فمن الشهوات النفسانية، فما كان تكبرًا أو تعظيمًا لمن لا يجوز تعظيمه بغير ضرورة ونحو ذلك فحرام، وإلاّ فمباح، وليس من هذا الباب ما يقصده به مجرد الإخبار فقط كقولك جاء أبي أو أبو فلان هذا أي والده، ولا يقصد به معناه على وجه التفاؤل مثلًا نحو أبي الخير وأم السعد.
وأما اللقب فيقصد به كل من المدح والذم وغير ذلك، والحكم كالذي قبله.
الوجه الثاني النظر إلى مدلولهما الأصلي، وهما في ذلك كما مرّ في الاسم بل ذلك هنا أولى، لأن الأصل فيه أوضح، ولبعضهم في ذلك:
أتيت أبا المحاسن كي أراهُ ... بشوق كاد يجذبني إليه
فلما أن أتيت رأيت فسردًا ... ولم أرَ من بنيهِ ابنًا لديه
يريد أن لفظه ينبئ عن كون المحاسن لازمة له لزوم الأولاد لأبيهم، ثم إنها لم يجدها عنده، وكذا يقال في أبي المكارم وأبي الفضل وأبي البخت وجمال الدين وشمس الأئمة، والأصل في جميع هذا أن المستحسن في العقول وإن لم يكن لازمًا خلافًا لمن زعم ذلك أن يطابق الاسم أي مدلوله الأصلي حتى يصير الاسم كأنه وصف مشتق لموصوف بمعناه، فإن لم يكن كذلك فإن التسمية خطأ، وكأن الاسم لا مسمى له، ومن هذا جاءت العادة بتخير الاسم عند التسمية وكذا عند الملاقاة كقصة البريد السابقة، أما التخير عند التسمية فلفائدتين: إحداهما التلذذ بسماعه وتجمل المسمى بذلك، الثانية التفاؤل بأن يصدق معناه، وذلك على حساب ما يريده، وللناس أغراض تختلف، وقد قيل لبعض العرب: لم تسمون عبيدكم نافعًا ومرزوقًا وأولادكم حربًا ومرة فقال: إنا نسمي أولادنا لأعدائنا ونسمي عبيدنا لأنفسنا أي فلا فرق بين فائدة النفع وفائدة الدفع وحلاوتهما، بل الدفع أهم.
وكان وادي السباع في بلاد العرب وفيه قال قائلهم:
مررت على وادي السباع ولا أرى ... كوادي السباع حين تبصر واديا
أشد به ركبًا أتوهُ تَئيّةً ... وأخوف إلاّ وما وقى الله ساريا
قيل: سبب تسميته أن امرأة من العرب كانت نزلته ولها عدة أولاد فوجدها رجل يومًا وحدها فهم بها فقامت تصيح بأولادها وتقول: يل ليث، يا نمر، يا أسد، يا كذا، وهي أسماؤهم، فأقبلوا إليها يشتدون، فانطلق الرجل وهو يقول: هذا وادي السباع.
1 / 4