لله الأمر من قبل ومن بعد
الحقيقة والشريعة
خطر لي ذات ليلة بيت للملك الضليل امرئ القيس بن حجر فوجدته قد احتوى على مقتضى الشريعة الظاهرة والباطنة، وتضمن كل ما تحصل عن دواوين أئمة الدين وأقاويل الصوفية، فقضيت العجب من ذلك، وعلمت أن الله تعالى من باهر قدرته وعجيب حكمته يبرز الحكمة على لسان من شاء وإن لم يكن من أهلها، كما قال بعض السلف حين سمع بعض الولاة نطق بحكمة: خذوها من قلب خَرِبٍ، وتبينت إشارة قوله ﷺ: " الحِكْمَةُ ضَالّةُ المُؤْمِنِ " أي فحقه أن يتلقفها ممن وجدها عنده، وإن لم يكن مرضيًا كما يأخذ ضالته من الدنيا كذلك، وتبينت صدق قوله ﷺ: " إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً "، وقول الحكماء الأولين: أنزلت الحكمة على ثلاثة أعضاء في الجسد: على قلوب اليونان، وأيدي أهل الصين، وألسنة العرب، والبيت المذكور هو قوله:
الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل
فالشطر الأول قد احتوى على الحقيقة كلها، وهي باطن الشريعة، فإن معناه أن ما طلبته بالله فأنت منجح فيه. وهو كما قال في " الحكم العطائية ": " ما تعسر مطلب أنت طالبه بنفسك " ومعلوم أنك لست تروم ذلك إلاّ وأنت تعرف الله تعالى وأنه حق لا شريك له، وأنه هو الفاعل المدبر النافع الضار، ثم تنفي عن نفسك وعن حولها وقوتها وتدبيرها واختيارها وتبغي بربك. وهذا هو سر العبودية، وهو الكنز الذي يحوم حوله المريدون، ويعنو إليه السالكون، وهو المشار إليه في قوله ﷺ: " لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنّةِ "، وهذا هو كلية الأمر، ولا حاجة إلى التطويل. والشطر الثاني قد تضمن الشريعة كلها، وهي ان البر خير ما تحمَّله العبد وادخره، أي والفجور شر ما تحمَّله، ويدخل في البرِّ برُّ العبد مع ربه بطاعته له قولًا وفعلًا واعتقادًا، وكذا مع من أوجب الله تعالى طاعته من نبي وأمير ومالك ووالد ونحوهم، وبره مع الناس بالإحسان فعلًا وقولًا وخلقًا، وهو مجموع ما يطلب شرعًا ولا حاجة إلى التطويل.
لله الأمر من قبل ومن بعد
أبيات الحكمة والتمثيل
واعلم أن البيت قد اشتمل على مثلثين مستقلين كما رأيت، فرأيت أن أستطرد هنا من أبيات الحكمة والتمثيل نبذة صالحة يقع بها الإمتاع، ويحصل الانتفاع، فمن ذلك قول لبيد:
ألا كلُّ شَيءٍ ما خَلا اللهَ بَاطِلُ ... وكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحالَةَ زَائِلُ
واعلم أن هذا البيت مع كونه في غاية الحكمة وكونه قد شهد له الرسول ﷺ بذلك كما ورد في الحديث: " أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشّاعِرُ قَوْلَ لَبِيدٍ: ألا كلُّ شَيءٍ ما خَلا.... البيت "، يسأل عنه فيقال مثلًا في المصراع الأول: إن معرفة الله تعالى وشرعه ودينه وأنبياءه ونحو ذلك داخل فيما جعله باطلًا وليس بباطل، وفي الثاني: إن نعيم الآخرة غير زائل فيلزم انتقاض الكليتين.
والجواب عن الأول من وجهين: أحدهما أن المراد ما سوى الله تعالى وما انضاف إليه، كما وقع في الحديث: " الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُون مَا فِيهَا إلاَّ ذِكْرُ اللهِ وَمَا وَالاهُ وَعَالِمٌ أوْ مُتَعَلِّمٌ " وهذا واضح، فإن صفات الله تعالى لا تدخل في الباطل لانضيافها إلى الذات وشمول الاسم لها، فكذلك كل مُنضاف.
الثاني أن هذا كلام في الحقائق، ولا شك أن الله تعالى هو قديم واجب الوجود، فهو حق ثابت، والعالم كله محدث، فهو باطل لا ثبوت له من ذاته لكن بإثبات الله تعالى، وهذا الوجه أيضًا واضح لا شبهة فيه، والموجودات كلها متى اعتبرت إضافتها وتعلقها بالله تعالى كانت حقًا به، وهي باطلة بحسب ذاتها ومنها ما هو حق باعتبارين أعني بهذا التعلق وبإثبات الله له شرعًا كما في الوجه الأول، وهو مع ذلك باعتبار ذاته، ولا تنافي في شيء من ذلك، فافهم.
والجواب عن الثاني ثلاثة أوجه: الأول أن المراد نعيم الدنيا، لأنه هو المعروف الشاهد، لا سيما في حق هذا القائل، فإنه كان حين قوله ذلك جاهليًا، لا ذكر للآخرة عنده، فإن قيل: من لك بأنه إذ ذاك جاهليّ؟ ولعله قال هذا بعد الإسلام، قلت: قد استفاض في شأنه أنه لم يقل بعد الإسلام إلاّ بيتًا واحدًا، وهو قوله:
1 / 32