وكان إسماعيل صديق باشا المفتش، ووزير الخديو إسماعيل وقت ولادتي، في أوج مجده وسلطانه، فسماني والدي باسمه، كما هي عادة الناس حين يسمون أبناءهم بأسماء العظماء والوزراء المشهورين، وهو اسم يجمع بين اسمي الخديو، ووزيره المعروف ...
وحدث بعد ذلك بقليل أن غضب ولي الأمر على وزيره، كما غضب هارون الرشيد على جعفر البرمكي، وعبثت به الأيام، ووقعت الواقعة، وذهب ولم يعرف إلى أين ذهب، فخشي والدي أن يكون في اسمي وقتئذ ما يشعر بولائه للوزير المنكوب، فأسرع بتحويره من «إسماعيل صديق» إلى «إسماعيل صدقي»!
ومن ذلك العهد عرفت بهذا الاسم.
والدي ... ووالدتي
نشأت في بيت مصري، بل في بيت من صميم الريف المصري، اشتغل منذ أواسط القرن التاسع عشر بالحكم وسياسة الدولة، وكان أفراده على حظ من العلم والتعليم والثروة والجاه، فكان والدي «أحمد شكري باشا» من كبار رجال الحكومة في عهد الخديو إسماعيل والخديو توفيق، وكانت والدتي «فاطمة هانم» كريمة محمد سيد أحمد باشا رئيس ديوان الأمير محمد سعيد باشا ابن الأمير محمد علي باشا الكبير.
وقد درس والدي في مدرسة القلعة، وتلقى فيها علم الإدارة الملكية «الحقوق»، ثم انتخب للسفر إلى فرنسا في أول بعثة أرسلها الأمير سعيد باشا للتخصص في العلوم السياسية، وكان عدد أعضاء هذه البعثة واحدا وعشرين تلميذا، ومن زملائه فيها محمد راتب باشا سردار الجيش المصري المشهور في عهد الخديو إسماعيل، والقائد أحمد راشد حسني باشا ويوسف النبراوي باشا.
وهو من بلدة الغريب التابعة لمركز زفتى، ولما أتم دروسه في فرنسا عاد إلى مصر سنة 1861 والتحق بخدمة الحكومة، وتقلب في وظائفها إلى أن أصبح محافظا للقاهرة، فوكيلا لوزارة الداخلية، ومن الوظائف التي تقلدها «مدير إدارة عموم السودان وملحقاته» أيام الثورة المهدية. وكانت هذه الوظيفة موجودة حتى ذلك الحين، وقد تقلد منصب مدير أسيوط، وأحيل إلى المعاش وهو وكيل للداخلية، وظل به عشر سنوات، ثم أدركته الوفاة سنة 1895.
سعيد باشا يعتقل جدي!
كان جدي محمد سيد أحمد باشا «أبو والدتي» وابن عم أبي من أصحاب المكانة والحظوة عند الأمير سعيد باشا، وكان يجيد اللغة العربية إلى جانب إجادته التركية، ويعتمد عليه سعيد باشا في تحرير رسائله الرسمية والخاصة، وكان يسكن قصرا فخما بشبرا، وعنده من الخدم والحشم الكثيرون، وأذكر أني رأيت في طفولتي بهذا القصر ثلاثين جارية سوداء، وثلاثين جارية بيضاء، عدا الطهاة والخدم الآخرين، بعضهم ممن يسمونهم المماليك وهم من أصل شركسي.
وكان الأمير سعيد باشا يؤثر جدي بالكثير من عطفه ورعايته، فأثار ذلك كوامن الحقد والحسد في نفوس بعض رجال الحاشية. وكان الأمير مع طيبة قلبه، وميله للخير ضعيف الإرادة، كثير التقلب والتردد، ينصاع إلى آراء مخالطيه، سريع التأثر بما يسمعه، سريع الغضب، قريب الرضا ... وحدث أن وشى عنده أحدهم بجدي، فغضب عليه ذات يوم، وهو لم يعرف لماذا غضب، ولكنه يعرف أنه فوجئ بالقبض عليه واعتقاله في قلعة أبي قير بلا تحقيق، فمكث معتقلا بها تسعة أشهر، حتى أشفق عليه أصدقاؤه ومريدوه، وظنوا أن الأمير لكثرة مشاغله قد نسيه في معتقله، فأوعزوا إلى نجليه الصغيرين: «أمين والد عباس سيد أحمد باشا»، ومحمود، بأن ينتظرا سمو الأمير عند خروجه من القصر، ويرتميا على قدميه ضارعين له بأن يفرج عن أبيهما.
Bog aan la aqoon