Dhibaatooyinka Casriga ah ee Magaalooyinka
معضلات المدنية الحديثة
Noocyada
نختتم الآن البحث في معضلات المدنية الحديثة، وقد أحطنا فيه برأي مؤلفين من كبار مؤلفي هذا العصر، كلاهما على علم تام بما يكتب، وكلاهما درس الموضوع الذي تكلم فيه دراسة عميقة أدت به إلى تقرير رأي خاص.
أما دكتور ليير فرجل ينزع إلى الآراء الاشتراكية، المتطرفة بعض الأحيان، وهو كبير الاعتقاد في أن الرذائل الاجتماعية فيها نزعة فطرية تمضي بها إلى جو من التنازع والتناحر حيث تفني إحداها الأخرى، إذن فهو يعتقد أن الإنسانية ترتقي وتتقدم من الجهة الأخلاقية. ولا مشاحة في أن كل من يقرأ تاريخ تطور الفكرة في الأدب منذ بداءة العصر الوثني في أوروبا إلى عصر النهضة العلمية أو عصر الثورة الفرنسوية؛ يقضي بأن لذلك الرأي نصيبا من الصحة، وأن فيه قسطا من الصواب. غير أن القول بأن في الرذائل الاجتماعية نزعة أصيلة تمضي بها إلى الزوال بتأثير إحداها في الأخرى، فقول لم يثبته دكتور ليير ولم يثبته أحد غيره، بل وأظن تغليبا أنه ليس في مستطاع أحد أن يثبته من طريق عملي يرضي نزعة العلم في العصر الحديث. كذلك لا أتخيل أن تطور الآداب قد مضى في سبيل التدرج بخطى تجاوزت خطى التدرج التي خطاها النوع الإنساني في الناحية العضوية الصرفة، نعم إنه لحق أن الفكرة في الأدب قد تطورت، ولكن طبيعتها لم تتغير تغيرا كثيرا يعادل مقداره تطور الفكرة ذاتها. وأما دكتور فريمان فإنه إن كان يتفق ودكتور ليير في أن عصر الإنتاجية الميكانيكية لم يحب المدنية إلا بكل عوامل الفساد والانحطاط؛ إلا أنه يمضي في نظرته التشاؤمية إلى آخر ما يمكن أن يبلغ بها مفكر من مفكري العصر الحديث، فأنت في كتابه برمته لا تخرج إلا بفكرة واحدة شملت أطرافه، فكرة أن الإنسان ينحط فرديا واجتماعيا وأن أبين صور الاجتماعية الحديثة هي صورة التطفل التي قضت على كل الصفات التي خرج بها الإنسان من مهد تطوراته الأولى. أما وقد وصف كل من الكاتبين أمراض المدنية الحديثة، أما وقد شخصا داءها تشخيصا دقيقا؛ فإنهما لم يختما بحثهما إلا بعد أن وصف كلاهما دواء يراه صالحا للأخذ بيد المدنية الإنسانية من وهدتها التي تردت فيها حديثا، لهذا نمضي في تقرير الرأيين، فنخرج من ذلك بفكرة فيما يمكن أن يكون مخرجا من ظلمات العصر الحاضر.
أما دكتور ليير فلا يصف من دواء محدود الخاصيات ليبرئ به الإنسانية من سقامها بعد قيام عصر الإنتاج الميكانيكي؛ هو يكتفي بأن الإنسانية ترتقي وتتطور وأنها تتخلص شيئا فشيئا من رذائلها بطريقة سحرية لم يصفها ولم يعبر عنها تعبيرا يرضى عنه العلم ويسلم به القياس المنطقي، وهنا تقع على أول فشل تشعر به إذا أنت حاولت أن تقع فيما كتب على نتيجة عملية ما من الناحية البنائية. وكذلك الحال إذا أنت رجعت إلى دكتور فريمان، فإنه إن شارك دكتور ليير في وصف الداء وفي تشخيصه بأبلغ ما وصل إليه كاتب من كتاب العصر الحديث درسا واستعماقا في النظر؛ فإن الناحية التشييدية من كتابه، تلك الناحية التي حاول أن يصف فيها دواء للمدنية تعطاه جرعة واحدة، كانت فشلا تاما. وإذا أنت جمعت بين نجاح الكاتبين في وصف الداء وبين فشلهما في وصف الدواء، ألفيت بحق أن المدنية واقعة في مشكلات عظمى ومعضلات كبيرة، قد تذهب بها إلى الفساد والانحلال.
يعتقد دكتور فريمان أن أعظم ما ينتاب المدنية الحديثة من الحالات المضادة لطبيعة الارتقاء القبض على خناق الانتخاب الطبيعي أن ينبعث في سبيله المحتوم تأثيرا في طبائع الجماعات، ولهذا فهو يعتقد أن نصيب الطالحين اجتماعيا من البقاء وأعقاب النسل أوفى من نصيب الذين كان من الواجب أن يترك الانتخاب الطبيعي آخذا بيدهم في سبيل التكاثر والازدياد، ولهذا لا يجد الدكتور فريمان من سبيل يمضي فيه بعد ذلك إلا سبيل القول بانتقاء بقية من أصلح ما يتضمن المجتمع الحاضر من الأفراد، يؤخذون كنواة تتكاثر من حولها جماعة هي بذاتها تلك الجماعة التي تضاد في بيئتها وطرق معاشها جماعات المدنية الحديثة، هو يقترح انتقاء جمع من الرجال والنساء يستدل من حالهم على أنهم أصلح الناس للبقاء وأنسبهم لمطالب الانتخاب الطبيعي، يعزلون عن بقية المجتمع ليعيشوا في عزلتهم وانقطاعهم عيش المدنية المناسبة لمقتضيات الطبيعة، بعيدين عن استبداد الآلات، قادرين على أن يقوموا باستيفاء حاجات بعضهم بقوة سواعدهم وبمهارتهم اليدوية. على أن في هذا الاقتراح على سهولة التفكير فيه لصعاب يتعذر معها تنفيذه، فإنك إن أردت أن تجمع فئة منتقاة كهذه لتعزلها عن بقية المجتمع لما استطعت ذلك في أكثر البلدان الصناعية، يتعذر عليك ذلك في إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، بل وفي كثير غيرها من الممالك المتمدينة الواقعة تحت سلطان تلك الحالات العقيمة التي وصفها دكتور فريمان ذلك الوصف البليغ. وإذا فرضنا جدلا بأن هذه الفئة استطاعت أن تتكون في ناحية من نواحي مملكة مثل فرنسا، فكيف يمكن أن تكون بمنجاة عن تحمل تلك الأثقال التي تلقيها الحكومات على عاتق بقية رعايا الدولة؟ وما هي في الواقع إلا مسئوليات لا يمكن تحملها إلا بالركون إلى استخدام تلك الوسائل التي ينحي عليها دكتور فريمان ويحمل عليها حملته الصادقة، إنهم سيدفعون ضرائب للحكومة! ومن طبيعة النظام الاجتماعي القائم أن يمضى جزء من الخيرات التي تصرف في سبيلها الضرائب على سكان المملكة حتما، إذن فهم سوف يعملون على زيادة رفاهية الطالحين اجتماعيا، وسوف يساعدون على تمهيد السبيل لزيادة عدد العاطلين وترويج سوق النساء اللاتى فيهن استعداد طبيعي للفساد، وسوف يمدون موظفي الحكومة بجزء من مرتباتهم، وكذلك السياسيون الانتهازيون الذين لا يعيشون إلا في جو التطفل الذي أبدعه العصر الحديث. وعلى هذا تبدأ تجربة دكتور فريمان في جو استجمع كل المهيئات اللازمة لإحباطها.
جماع هذه الحالات تجعل نجاح هذا الدواء في حكم المستحيل في بلاد استحكم فيها استبداد الإنتاجية الميكانيكية، غير أني لا أرى سببا يجعلنا نشك في نجاحها في بلاد أخرى، فإن شركة من الشركات من الممكن أن تتكون على أن تختص باستغلال قطعة من الأرض في بلاد كروديسيا أو طسمانيا أو كندا الغربية أو جنوب أمريكا، ويمكن أن تعيش فيها جمعية منتقاة مستجمعة لكل ما يضمن لها البقاء تحت تأثير الحالات الطبيعية الأولى التي رغب فيها دكتور فريمان ويمضي ناصحا بها، ذلك لأن النظريات الاجتماعية يجب أن توضع موضع التنفيذ؛ لأنه في الواقع المحك الصحيح الذي يمكن أن يعرف به بمقدار ما في النظريات من حق، ومقدار ما في الفروض من صواب، وليس من شك في أن ذلك جائز، فإن الشيوعية على ما فيها من نزعات الاستبداد وعلى ما تنطوي عليه من مطامع، لم تأنف من التجريب، ولا تزال ممعنة في سبيل تجاريبها، رغم أنها لم تفلح في شيء إلا في الناحية الزراعية، وإن كان فلاحا محدودا، ذلك في حين أن جمعية دكتور فريمان سوف لا تطمع في شيء إلا في أن تعيش عيش الناس في القرون الوسطى ومن قبل أن يجتاح المدنية عصر الآلات الحديث، ففي أية من بقاع الأرض يمكن أن توجد مساحة خصيبة قوية العناصر من المستطاع أن تعيش فيها مثل هذه الجمعية، ولكن ذلك غير ميسور في كل بقاع الأرض، كلما أنه بعيد أن يوجد في البلاد الصناعية.
وبعد كل هذا فإنا لا نستطيع إلا أن نقول إن تشخيص الداء شيء غير العلاج، فإن هذين الكاتبين الكبيرين ليتفقان في تشخيصهما لداء الجمعية الحديثة، وقد نزيد على هذا أن حسن تشخيص الداء فيه نصف مهمة الطبيب، فكلاهما يتفق وصاحبه في أن الإنسان إذ مضى يتسود على قوى الطبيعة قد مضى في سبيل أنقص من ناسوتيته ومن رجولته وأوهن من صفاته الطبيعية، فأفسد من هذا بمقدار ما تغلغل هو إلى صميم الطبيعة التي يعيش في جوفها، يقولان بأن الإنسان قد نجح، ولكن في الحد من مواهبه وكفاياته، فأغفل كثيرا من الانتفاع بأوجه نشاطه الطبيعي، وبذلك أضحى أوهى تكوينا وأقل سعادة مما كان، وعلى هذا يقرران أن المدنية في خطر أن تصبح ثورة نظامية ضد الطبيعة الكونية. أما الباحث الألماني فعلى الرغم من كل هذا يعتقد أن اجتياز هذه العقبة مستطاع بأن تهذب النظامات الاجتماعية، وبالأحرى بأن تستكمل المعدات التي تؤهل الإنسان لكي يتحكم في بيئته بمحض اختياره تحكما تاما، وأن الإنسان إذا بلغ إلى هذا الحد مضى يضرب في سبيل النشوء إلى مدى قصي بعيد، فهو من المتفائلين، ولكن تفاؤله موقوف على هذا ولا على شيء غيره. أما الباحث الإنجليزي فشديد الإيمان بفساد المدنية، ولذا يلجأ إلى «اليوجنية» يستدر وحيها ليتخذ من مبادئها ما يطبقه تطبيقا عمليا تفلت به الجماعات من الأغلال المحتومة عليها إن هي مضت عاكفة على طرائقها القائمة اليوم. أما الأول فلأنه كتب قبل الحرب العظمى، فمن الجائز أن يكون قد أسرف في التفاؤل، وأما الثاني فلأنه كتب بعد وقوع الكارثة فمن الجائز أن يكون قد أسرف في التشاؤم. وسوف يظهر لنا المستقبل القريب عما إذا كانت المدنية الحديثة من المستطاع إصلاحها أم أنها سوف تلحق بما سبقها من صور المدنيات.
على أنا لا نستطيع أن نتصور كيف أن مدنية لا تسود فيها الفردية المستقلة يمكن أن تكتب لها الحياة! ولا بد من أن تنبعث في الجماعات حياة روحية جديدة تولي بها نحو مثل أعلى في حياتها الدنيا، قبل أن نقول بحق إن المدنية أفلتت من عوامل الفساد المنبثة في تضاعيفها.
برقين - 1926
النسبية
(1) من الوجهة العلمية
Bog aan la aqoon