Masar Bilowgii Qarniga Sagaalaad
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Noocyada
ومرت أيام، وانفتح بين المشايخ باب النفاق، واستمر القيل والقال، وكل حريص على حظ نفسه وزيادة شهرته وسمعته، ومظهر خلاف ما في ضميره، والسيد النقيب متمسك برأيه، والأشياخ الوصوليون يجدون في التزلف لدى الباشا والقربى منه، والباشا يبذل ما وسعه من جهد وحيلة لإقناع عمر مكرم بالصعود إلى القلعة ومقابلته حسما لهذا النزاع الذي لا طائل تحته، والذي لا معدى عن عودة مغبته على عمر مكرم نفسه.
واستمر الحال على ذلك، حتى كان يوم 14 يوليو 1809، فأوفد الباشا ديوان أفندي وعبد الله بكتاش الترجمان إلى السيد عمر، واجتمع المشايخ ببيته، وتكلموا في مسألة طلوعه إلى الباشا ومقابلته، ولكن السيد ركب رأسه، وراح يذكر المشايخ بالقسم الذي أقسموه على الاتحاد والتضافر، ولم يستطع كبح جماح غضبه، «فحلف أنه لا يطلع إليه ولا يجتمع به ولا يرى له وجها إلا إذا أبطل هذه الأحدوثات، وقال: إن جميع الناس يتهموني معه، ويزعمون أنه لا يتجرأ على شيء يفعله إلا باتفاقي معه، ويكفي ما مضى، ومهما تقادم يتزايد في الظلم والجور، وتكلم كلاما كثيرا»، ضرب الشيخ الجبرتي صفحا عن ذكره، ولكن غيره من المعاصرين يذكره، فقد هدد عمر مكرم بإحالة الأمر إلى الباب العالي إذا أصر الباشا على مظالمه، وتأليب الشعب وتحريكه للثورة عليه، وقال عمر مكرم: «وكما أصعدته إلى الحكم، فإني كفيل بإنزاله منه»، ورفض رفضا باتا الذهاب إلى محمد علي، وقد خيل إليه أنه بامتناعه عن مقابلة الباشا سوف يمتنع سائر الأشياخ عن مقابلته كذلك.
ولكن السيد النقيب أخطأ التقدير في هذه المرة أيضا؛ حيث قرر المشايخ مقابلة الباشا واختاروا لهذه المقابلة المشايخ: عبد الله الشرقاوي ومحمدا المهدي ومحمدا الدواخلي وسليمان الفيومي، واعتذر الشيخ محمد الأمير عن الذهاب لمرضه، وكانوا يريدونه معهم، فلما طلعوا إلى الباشا وتكلموا معه، وقد فهم كل منهم لغة الآخر الباطنية، ذاكروه في أمر المحدثات، فأخبرهم أنه يرفع بدعة الدمغة، وكذلك يرفع الطلب عن الأطيان الأوسية، وتقرير ربع الفائظ، وقاموا على ذلك، ثم إنهم نزلوا إلى بيت السيد عمر، وأخبروه بما حصل، ولكن هذه كانت تسوية لم ترض عمر مكرم، ولم تخضد من عزمه على الاستمرار في المعارضة والمقاومة، فسألهم: وأعجبكم ذلك؟ ثم قال إن الباشا أرسل إليه يخبره بتقرير ربع المال الفائظ، فلم يرض، وأبى إلا رفع ذلك بالكلية؛ لأنه لما طلب الباشا في العام السابق إحداث الربع قال له السيد عمر: هذه تصير سنة متبعة، فحلف أنها لا تكون بعد هذا العام، وذلك لضرورة النفقة، وإن طلبها في المستقبل يكون ملعونا مطرودا من رحمة الله، وعاهد الباشا السيد عمر وقتئذ على ذلك، وشهد المشايخ بصحة هذه الواقعة، ثم طفق عمر مكرم يفند لهم دعاوى محمد علي فقال: «وأما قوله إنه رفع الطلب عن الأوسية والرزق فلا أصل لذلك، وها هي أوراق البحيرة وجهوا لها الطلب، فقال المشايخ: إننا ذكرنا له ذلك فأنكر، وكابرناه بأوراق الطلب، فقال: إن السبب في طلب ذلك من إقليم البحيرة خاصة فإن الكشافين لما نزلوا للكشف على أراضي الري والشراقي ليقرروا عليها فرضة الأطيان حصل منهم الخيانة والتدليس، فإذا كان في أرض البلدة خمسمائة فدان ري، قالوا عليها مائة، وسموا الباقي رزقا وأوسية، فقررت ذلك عقوبة لهم في نظير تدليسهم وخيانتهم، فقال السيد عمر: وهل ذلك أمر واجب فعله؟ أليس هو مجرد جور وظلم أحدثه في العام الماضي، وهي فرضة الأطيان التي ادعى لزومها لإتمام العلوفة (مرتبات الجند) وحلف أنه لا يعود لمثلها؟ فقد عاد وزاد، وأنتم توافقونه وتسايرونه ولا تصدونه، ولا تصدعونه بكلمة، وأنا الذي صرت وحدي مخالفا وشاذا، ووجه عليهم اللوم في نقضهم العهد والأيمان، وانفض المجلس» دون الوصول إلى نتيجة.
وهكذا - كما يقول الشيخ الجبرتي - «تفرقت الآراء، وراج سوق النفاق، وتحركت حفائظ الحقد والحسد، وكثر سعي المشايخ الحاقدين على عمر مكرم وتناجيهم بالليل والنهار»، ومع ذلك لم ينقطع الباشا في أثناء هذا كله عن مراسلة السيد عمر، يطلبه للحضور إليه والاجتماع به، ويعده بإنجاز ما يشير عليه به، وظن الباشا من المحتمل أن مبعث إصرار السيد النقيب طمع في المال؛ حيث قد انتفى - في نظر الباشا - ما يدعو لتمسكه بموقفه، طالما أنه قد أوضح الأسباب التي دعته إلى تقرير الطلب على الأوسية والرزق في إقليم البحيرة، وأنقص طلب فائظ الالتزام إلى الربع ووعد برفع المظالم، والأهم من ذلك كله أن يسأل عمر مكرم النصيحة، ويريد التشاور معه ، وقد فطن الباشا - ولا شك - إلى أن مقصد النقيب كان المشاركة في الحكم بطريق هذه المشاورة، فلما لم يقنع هذا، أوفد إليه كتخداه (محمد آغا اللاظ)؛ ليترفق به، وليعرض عليه ثلاثمائة كيس عطية من الباشا تدفع إلى السيد النقيب فورا، عدا كيس يعطى له يوميا، فلم يقبل.
وكان هذا آخر سهم في جعبة محمد علي لاستمالته، فزادت الوحشة بينهما ، وتيقن الباشا أن من العبث إغفال أمره، وعدم الاحتياط منه، فلم يزل ... متعلق الخاطر بسببه ويتجسس ويتفحص عن أحواله، وعلى من يتردد عليه من كبار العسكر، وربما أغرى به بعض الكبار فراسلوه سرا، وأظهروا له كراهتهم للباشا، وأنه إن انتبذ لمفاقمته ساعدوه وقاموا بنصرته عليه، ولكن لم يخف على السيد عمر مكرم، ولم يزل مصمما وممتنعا عن الاجتماع به والامتثال إليه، ويسخط عليه، وراح المترددون على عمر مكرم ينقلون ما يبدر منه في مجالسه معهم إلى الباشا، ويحرفون بحسب الأغراض والأهواء. (5-5) نفي عمر مكرم
وتعذر دوام هذه الحال، وكان لا مناص من أن يبت الباشا في أمر عمر مكرم، سواء بتقريبه منه وإرجاعه إلى مكان الصدارة الذي كان له، أم بإقصائه وتحطيم ما تبقى له من وجاهة وصدارة تحطيما نهائيا، ومبعث الأمرين واحد، الانفراد بالسلطة، القاعدة التي بنى عليها محمد علي برنامج حكمه في سياسة شئون البلاد الداخلية، والتي اندرجت تحت برنامجه الأعلى، استقرار الأمر له في باشويته، والظفر بالحكم الوراثي في مصر.
على أن الباشا ما كان يستطيع تقريب عمر مكرم منه طالما بقي هذا مصرا على تجنبه، مصمما على معارضته، ولم يشأ الباشا أن يبطش به إلا بعد استنفاد كل ما لديه من وسائل لحمله على السير على جادته، واتضاح عجزه عن ذلك، فكان لا بد من محك أخير بين الرجلين ليصدر الباشا حكمه النهائي.
أما هذا المحك الأخير، فقد تجمعت الأسباب لتهيئته منذ وصول سلحدار يوسف ضيا باشا إلى القاهرة في 28 يونيو 1809 - أي قبل أول اجتماع للمشايخ بالأزهر بيومين اثنين فحسب - فقد حمل السلحدار - على نحو ما مر بنا - مرسوما بطلب المال المتجمع ليوسف ضيا باشا مما كان أحدثه؛ حيث كان بمصر بصفة قلم كشوفية، وقد بلغ حساب ذلك 2800 كيس، عدا ألف أضافها الباب العالي بصفة إمدادية تجهيزات السفر الحربي ضد الوهابية، فقد تقدم كيف أراد الباشا التنصل من دفع هذا المبلغ، فأعد رسالته التي راح يعتذر فيها عن عجزه المالي، ويبين الوجوه التي أنفق فيها أموالا طائلة، وكان إنفاقه لها سببا في عدم قدرته على تلبية مطالب الباب العالي.
فقد ابتدأ الباشا بأن أعد عرضحالا طلب من عمر مكرم التوقيع عليه؛ لأنه كان موجودا وقت استحداث الترتيب الذي يطالب يوسف ضيا بموجبه الآن بهذا المبلغ، ولكن عمر مكرم أبى التوقيع، ثم لم يكتف بالامتناع، بل طفق يطعن على البيانات التي تضمنها العرضحال ويعلن كذبها، وقد ذكر الباشا في عرضحاله أن الأكياس المطلوبة قد صرفت في المهمات، منها ما صرف في سد الترعة الفرعونية، ومبلغه ثمانمائة كيس، وعلى تجاريد العساكر لمحاربة الأمراء المصرية حتى دخلوا في الطاعة، كذلك مبلغا عظيما، وما صرف في عمارة القلعة والمجراة التي تنقل المياه إليها مبلغا أيضا، وكذلك في حفر الخلجان والترع، ونقص المال الميري بسبب شراقي البلاد، ونحو ذلك.
فانبرى السيد عمر يفند ذلك كله بابا بابا، قائلا: «أما ما صرفه في سد الترعة، فإن الذي جمعه وحياه من البلاد يزيد على ما صرفه أضعافا كثيرة، وأما غير ذلك فكله كذب لا أصل له، وإن وجد من يحاسبه على ما أخذه من القطر المصري من الفرض والمظالم لما وسعته الدفاتر، فلما ردوا عليه؛ أي محمد علي، وأخبروه بذلك الكلام، حنق واغتاظ في نفسه. وفرغ محمد علي من كتابة عرضحاله للدولة في 14 يوليو 1809، دون انتظار لتوقيع عمر مكرم.
Bog aan la aqoon