329

Masar Bilowgii Qarniga Sagaalaad

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Noocyada

ولقد كان نقل هذه الأقوال منسوبة إلى الباشا - على لسان محمد أفندي طبل - معناه أن الباشا يبغي التفاهم مع المشايخ وعمر مكرم، على أساس تنفيذ مبدأ المشورة الذي يطالبون به، ومحاولة ترضيتهم في مسألة مال الأوقاف مثار النزاع بينه وبينهم، وسواء كان اجتماع الثلاثة الحاقدين على عمر مكرم - محمد أفندي طبل والمهدي والدواخلي - للتآمر عليه والتمهيد لتدبير هلاكه، ويشترك معهم الباشا في هذه المؤامرة حتى يشيع التخاذل في صفوف المشايخ، أم كانت رغبة الباشا حقيقة تسوية هذا النزاع واسترضاء عمر مكرم والمشايخ؛ فقد كان من الواضح أن السيد النقيب في وسعه إنهاء أسباب الجفوة بينه وبين الباشا، ومن المحتمل كذلك الوصول إلى حل مناسب للمسألة، لو أنه استجاب لرغبة محمد علي، وتوجه مع المشايخ لمقابلته ومشافهته، ولكن قد صح عزمه على مناصبة الباشا العداء السافر، فاعتقد إذا هو أجاب طلبه، ونزل عن موقف معارضته هذه العلنية، أضاع فرصة المقاومة المجدية، ومهد للباشا السبيل لتفكيك ذلك الاتحاد والتكتل الذي أقسم المشايخ عليه وتعهدوا به.

وارتكب عمر مكرم خطأ كبيرا مبعثه - ولا شك - توهمه أن الخلافات والحزازات الماضية قد تنوسيت فعلا ما دام المشايخ قد أقسموا على نسيانها وعلى التآزر والاتحاد فيما بينهم ضد محمد علي، فكشف عن موقفه لأكبر أعدائه وخصومه، المهدي والدواخلي، وهما وإن كانا يمتنعان عن نقل ما يقوله عمر مكرم بأنفسهما إلى الباشا - وامتناعهما مشكوك فيه - فهما سوف يذيعان أقوال عمر مكرم حتى تبلغ أسماع الباشا، ذلك أن عمر مكرم لم يلبث أن أجاب على كلام محمد أفندي طبل: «أما إنكاره؛ أي محمد علي، طلب مال الرزق والأوسية فها هي أوراق من أوراق المباشرين عندي لبعض الملتزمين مشتملة على الفرضة ونصف الفائظ ومال الأوسية والرزق، وأما الذهاب إليه، فلا أذهب إليه أبدا، وإن كنتم تنقضون الأيمان والعهد الذي وقع بيننا، فالرأي لكم.»

بلغ هذا الحديث - دون شك أو ريب - محمد علي، وتبين له أن لا جدوى من تسوية النزاع وديا ليس فقط مع عمر مكرم متزعم حركة المعارضة، بل ومع سائر المشايخ المتذمرين، فعمد إلى إشاعة الفرقة والتخاذل بينهم حتى يمنع تكتلهم، وكان سهلا عليه أن يفعل ذلك، فطفق - كما قال الشيخ الجبرتي - «يجمع إليه بعض أفراد من أصحاب المظاهر ويختلي معه، ويضحك إليه، فيغتر بذلك ويرى أنه صار من المقربين، وسيكون له شأن إن وافق ونصح، فيفرغ له جراب حقده، ويرشده بقدر اجتهاده لما فيه المعاونة.»

وأوفد الباشا في نفس الليلة (4 يوليو) ديوان أفندي وعبد الله بكتاش الترجمان إلى السيد عمر مكرم، وحضر الاجتماع المهدي والدواخلي، «وطال بينهم الكلام والمعالجة في طلوعهم ومقابلتهم الباشا، ورقرق لذلك كل من المهدي والدواخلي»، وكانت هذه الرقرقة أو إظهار الميل من جانب المهدي والدواخلي لتلبية طلب الباشا، قمينة بأن تجعل السيد النقيب يعدل عن رأيه لو أنه كان حكيما، ولكنه ظل مصمما على الامتناع، وطلب المهدي والدواخلي الشيخ محمد الأمير لمصاحبتهما إلى القلعة، ولكن هذا اعتذر بأنه متوعك، وغادر الشيخان وديوان أفندي وعبد الله بكتاش السيد عمر مكرم، وطلعوا إلى القلعة، وقابلوا الباشا.

ورحب محمد علي بالشيخين، وجاء في حديثه معهما أنه يستمع دائما باحترام وتقدير لكل ما يريدون إسداءه إياه من نصح وإرشاد، أو يشاءون الاحتجاج عليه من تصرفاته، ولن يهمل في أي ظرف أو مناسبة أن يكون عمله مبعث ارتياح للمشايخ، وسوف يقبل وساطتهم ولا يرد شفاعتهم، ولكنه يأبى قطعا أن يعمد المشايخ إلى عقد الاجتماعات العامة وتحريض الأهلين على الثورة، وإثارة خواطرهم، فهو لا يريد شيئا من هذه التهيجات الشعبية، وفضلا عن ذلك فإن هذه المظاهرات التي لا نفع منها ولا طائل تحتها لن تخيفه ولن تزعجه؛ لأنه إذا قام الشعب بالثورة كما يهدد المشايخ وهم الذين سبق أن تحدث فريق منهم عن تحريكها - أثناء الحماس الذي طغى على اجتماعهم يوم كتابة عرضحالهم - فلن يجد لدي سوى السيف والانتقام.

فلم يجد الشيخان ما يجيبان به سوى نفي هذه الأقوال التي بلغت الباشا كذبا وبهتانا عن المشايخ، فقالوا إن الذين أبلغوه ذلك لم يصدقوه، وإنهم عندما عقدوا الاجتماع المذكور - اجتماع 28 يونيو - لم يكن يدور في خلدهم بتاتا أن يئول الغرض منه بالتآمر على سلطة محمد علي؛ لأن مثل هذا الخاطر لم يرد في ذهنهم ولم يكن التآمر قطعا من نواياهم، وهم لم يفعلوا - في حقيقة الأمر - سوى ما اعتادوا فعله عند شعورهم بالضيق للتدبر في وسائل تفريحه وتخفيف حدة الضنك عن الشعب المتألم، بسؤال الفرج من لدن المولى عز جلاله.

وعاود الباشا الكلام في أمر الاجتماعات، وطلب منعها، ثم سأل عن السبب الذي حدا بالمشايخ إلى عقد اجتماع أول يوليو، وطلب معرفة أسماء الذين أقسموا اليمين على الاتحاد والتعاضد، فعزا الشيخان عقد الاجتماع إلى الشعب الذي كان هياجه حافزا عليه، ولكنهما آثرا الصمت عن المطلب الثاني، وراحا بدلا من ذلك يكذبان بكل قوة أن اتحادا قد حصل ضد سلطة الباشا.

ولم يكن هذا كل ما دار في هذه المقابلة، فقد ذكر الشيخ الجبرتي ما جرى فيها، وبخاصة فيما يتعلق بكشف الشيخين لمحمد علي عن موقفهما من متزعم حركة المعارضة، عمر مكرم: «قال الباشا في كلامه: أنا لا أرد شفاعتكم ولا أقطع رجاءكم، والواجب عليكم إذا رأيتم مني انحرافا أن تنصحوني وترشدوني، ثم أخذ يلوم السيد عمر في تخلفه وتعنته (في عدم الحضور لمقابلته)، ويثني على البواقي، وراح الباشا يقول: وفي كل وقت يعاندني ويبطل أحكامي ويخوفني بقيام الجمهور ، فقال الشيخ المهدي: هو ليس إلا بنا، وإذا خلا عنا فلا يسوى بشيء، إن هو إلا صاحب حرفة أو جابي وقف، يجمع الإيراد ويصرفه على المستحقين.»

ويعلل الشيخ الجبرتي طعن الشيخ المهدي على عمر مكرم وتجريحه له، بأنه قد تبين له ولزميله - وكان هذا الأخير حاضرا بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن الشيخ عبد الله الشرقاوي - قصد الباشا؛ أي تخذيل عمر مكرم والتمهيد للإيقاع به، فوافق ذلك ما في نفوسهم من الحقد للسيد عمر، وراحا يتكلمان في حقه.

وانصرف الشيخان من هذه المقابلة وهما مذبذبان ومظهران خلاف ما هو كان في نفسيهما من الحقد وحظوظ النفس، غير مفكرين في العواقب وقصدا إلى السيد عمر، وهذا الأخير «ممتلئ بالغيظ مما حصل من الشذوذ ونقض العهد، فأخبروه بأن الباشا لم يحصل منه خلاف، وقال: أنا لا أردد شفاعتكم، ولكن نفسي لا تقبل التحكم، والواجب عليكم إذا رأيتموني فعلت شيئا مخالفا أن تنصحوني وتشفعوا، فأنا لا أردكم ولا أمتنع من قبول نصحكم، وأما ما تفعلونه من التشنيع والاجتماع بالأزهر، فهذا لا يناسب منكم، وكأنكم تخوفوني بهذا الاجتماع، وتهييج الشرور وقيام الرعية، كما كنتم تفعلون في زمان المماليك، فأنا لا أفزع من ذلك، وإن حصل من الرعية أمر فليس لهم عندي إلا السيف والانتقام، فقلنا له: هذا لا يكون، ونحن لا نحب ثوران الفتن، وإنما اجتماعنا لأجل قراءة البخاري وندعو الله يرفع الكرب، ثم قال أريد أن تخبروني عمن انتبذ لهذا الأمر، ومن ابتدأ بالخلف، فغالطناه، وأنه وعد بإبطال الدمغة وتضعيف؛ أي تقليل الفائظ إلى الربع بعد النص، وأنكر الطلب بالأوسية والرزق من إقليم البحيرة»، ولم يطلعا السيد عمر بطبيعة الحال على ما دار بينهما وبين الباشا بشأنه.

Bog aan la aqoon