Masar Bilowgii Qarniga Sagaalaad
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Noocyada
ولكن «مسيت» الذي يلوح أنه أدرك الآن عجزه تماما عن فعل شيء جدي في صالح البكوات، لم يلبث أن أجاب على رسالة أمين من «مسينا» في 8 يناير سنة 1808 يبدي له أسفه؛ لأن السفير الإنجليزي في القسطنطينية لا يقدر على تسوية الخلافات القائمة بين بريطانيا العظمى والباب العالي، وأن يفعل شيئا في صالح المماليك، ولا جدال في أن فشل السفير في هذا الأمر الأخير إنما مرده إلى الظروف الراهنة، ووعد «مسيت» بإبلاغ ما جاء في رسالة أمين؛ استجابة لرغبته إلى حكومته التي لا شك في أنها سوف تنتهز أول فرصة مناسبة لتعمل على ما فيه فائدة البكوات، وتمنى لأمين عودة آمنة إلى مصر، ورجاه في ختام رسالته أن يذكره إلى أصدقائه المماليك.
وبعد أسبوع بعث «مسيت» من «مسينا» في 16 يناير سنة 1808 بترجمة رسالة أمين الألفي إلى «كاسلريه»، وصورة من رده عليه، وكان أمين عندئذ في طريقه إلى طرابلس.
وبذلك أسدل الستار على نشاط «مسيت» من هذه الناحية، ولم يعد «مسيت» إلى مصر إلا في أواسط سنة 1811، فبقي حتى عام 1815 يمثل مصالح دولته، ولكنه كان وقتئذ مريضا مقعدا يحمل على كرسي متحرك، على أنه حين عودة «مسيت» إلى مصر ثانية، كان غريمه الأكبر محمد علي قد قضى على المماليك منذ مارس 1811 في مذبحة القلعة المعروفة، واستطاع في السنوات التالية لجلاء الإنجليز عن الإسكندرية أن يوطد دعائم باشويته، ومع هذا، فما كان يتسنى للباشا فعل ذلك، أو حتى البقاء في باشويته لو أن الفشل لم يلحق بحملة «فريزر»، وبقي الإنجليز في الإسكندرية. (7) أسباب فشل حملة «فريزر»
ولقد كان «مسيت » مسئولا لحد كبير عن فشل هذه الحملة؛ للأسباب العديدة التي ذكرناها في سياق الكلام عن هزيمتي الإنجليز في رشيد والحماد، وعن علاقات هؤلاء بالبكوات المماليك، ولأنه كان أكبر داعية لمشروع احتلال البريطانيين للإسكندرية، بل ولاحتلال البلاد بأسرها، ولم يفد تسلم محمد علي لأزمة الحكم في مصر شيئا في تغيير نظرته إلى الأمور، فظل مصمما على رأيه وتزايد نشاطه في الترويج لاحتلال الإسكندرية وسائر بلاد القطر، على اعتبار أن طرد محمد علي والأرنئود من الحكم واسترجاع المماليك لسلطانهم ونفوذهم القديمين، قد صار الآن لا غنى عنه لصون المصالح البريطانية في مصر ودعمها، ولقد شاهدنا كيف كان «مسيت» إلى جانب هذا كله مسئولا عن جعل «فريزر» يزج بقواته المعينة لاحتلال الإسكندرية فحسب في مغامرات عسكرية عادت بالوبال على الحملة، وذلك عندما راح «مسيت» يصر على أن احتلال رشيد والرحمانية ضروري لتموين الإسكندرية، ولتمكين البريطانيين من الاحتفاظ بها.
على أن الأخطاء العديدة التي ارتكبها «مسيت»، والتي سببت فشل الحملة وكانت من العوامل الهامة - وإن لم تكن بطريق مباشرة - في جعل الحكومة الإنجليزية تقرر الجلاء عن الإسكندرية في الظروف التي شرحناها جميعها، لا يجب أن تطغى على حقيقة أخرى هي أن «مسيت» لم يكن وحده الذي اعتقد بأنه من المتعذر الاحتفاظ بالإسكندرية من غير الاستيلاء على رشيد والرحمانية، فقد كانت هذه الفكرة ذاتها فكرة قديمة أخذ بها العسكريون من أيام حملة البريطانيين الأولى على مصر، فرددها «هتشنسون» الذي كتب وقتذاك إلى «الجين» في 25 يناير سنة 1801، أنه لا يمكن الاحتفاظ بالإسكندرية إلا إذا عدت مأمونة كل وسائل الاتصال بينها وبين الجهات الزراعية التي بجوارها، وذلك عن طريق السيطرة على مصبات النيل، ثم رددها «دراموند» من بعده، فظل هذا يؤكد منذ عام 1803 بأن امتلاك رشيد ضروري لتموين الجيش الذي يعهد إليه باحتلال الإسكندرية، ثم إن «مسيت» نفسه كان قد كتب إلى «وندهام» منذ 14 أغسطس 1806، أن الإسكندرية تعتمد في غذائها وتموينها على رشيد، فهذا جميعه ينهض دليلا على وجود نوع من إجماع الرأي في هذه الناحية، ولقد كان هذا الرأي الذي أخذ به «مسيت» ضمن من أخذوا به مبعث الخطأ الأساسي الذي قرر مصير هذه الحملة من الناحية العسكرية خصوصا.
فلا جدال في أن التفكير الذي اقترن بإخراج حملة «فريزر» إلى حيز الوجود، كان تفكيرا خاطئا من أساسه، سواء من ناحية التناقض الذي ظهر بين تحديد الغرض الذي تعين لهذه الحملة تحقيقه، وبين وضع هذا الغرض نفسه موضع التنفيذ، وعلى نحو ما اعتقد «مسيت» على وجه الخصوص أنه الطريقة المثلى، بل والتي يتسنى بها وحدها تحقيقه، ولقد كان «مسيت» الرجل الذي نصت التعليمات المعطاة إلى «فريزر» على وجوب استشارته والعمل بنصائحه، بوصفه خبيرا ذا دراية بالشئون المحلية؛ وعلى ذلك فإنه بينما لم يدر في خلد حكومة جرنفيل عندما أصدرت تعليماتها بشأن هذه الحملة في نوفمبر 1806، أن احتلال الإسكندرية ومناصرة الأحزاب الموالية لإنجلترة في مصر (أي المماليك)، أن تحقيق هذين الغرضين سوف يقتضي توسيع نطاق العمليات العسكرية لاحتلال رشيد أو الرحمانية، أو غيرهما من المواقع في داخل البلاد، كان «مسيت» الذي وجب على قائد الحملة الإنصات لما يبديه من آراء لها قيمتها - يفسر أغراض حكومته على غير الوجه الذي قصدته هذه منها، ولا يدور في خلده هو الآخر أنه قد غاب عن حكومته أن احتلال الإسكندرية يتطلب الاستيلاء على رشيد والرحمانية، على نحو ما نادى به العسكريون، وكذلك السياسيون من سنوات عدة سابقة.
وعلى ذلك، فإنه بينما تألفت الحملة من قوات محدودة، تكفي في نظر الحكومة لتنفيذ التعليمات التي أصدرتها، ولم يكن في مقدورها - علاوة على ذلك - إعداد قوات أكبر من تلك التي بعثت بها لاحتلال الإسكندرية؛ وذلك لحاجتها الملحة إلى وجود جيش قوي بصقلية، فقد وجدت حملة «فريزر» بعد الاستيلاء على الإسكندرية أنها إنما تواجه في واقع الأمر واجب القيام بعمليات عسكرية أوسع نطاقا مما كانت تفترضه الحكومة التي سيرتها على هذه البلاد، فكان هذا التناقض بين وجهتي النظر من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى فشل الحملة.
أضف إلى هذا أن الفكرة التي قام عليها إرسال هذه الحملة إلى مصر، من حيث منع الفرنسيين من النزول إلى مصر والحيلولة دون غزوهم لها، لم تكن في حد ذاتها فكرة صائبة، ولم يكن مبعثها سوى ذلك الفزع التقليدي الذي استبد بالعسكريين والسياسيين البريطانيين على السواء من ناحية الفرنسيين ورغبتهم في امتلاك هذه البلاد مرة ثانية، فمع أن نابليون كان مشغولا بحروبه ومشاريع فتوحاته الواسعة في القارة الأوروبية، وكان لدى الإنجليز من القوات البحرية والقواعد الاستراتيجية الهامة في البحر الأبيض، لا سيما في صقلية ومالطة، ما يحول دون سبق الفرنسيين في احتلال مصر إذا تهيئوا لفعل ذلك، فقد آثرت الحكومة الإنجليزية احتجاز قسم من جيشها في الإسكندرية على استخدام هذه القوات في ميادين أخرى أكثر اتصالا من الناحية العسكرية بمطالب الحرب الدائرة.
ثم إن مهاجمة الأتراك في أملاكهم البعيدة عن مقر السلطنة، كان وسيلة خاطئة لتخويفهم، وردعهم عن الانحياز إلى جانب أعداء إنجلترة وحليفتها روسيا، أو حملهم على الوقوف موقف الحياد في الحرب بين هاتين الدولتين وبين فرنسا، فلم يكن منتظرا أن يستقدم الأتراك لنجدتهم قوات من مصر، وهذه يغزو الأعداء أرضها، ولا كان من المنتظر أن يبعث الأتراك بنجدات إليها ينتزعونها من جيوشهم المشتبكة في قتال مرير مع الروس، فلا يتسنى للبريطانيين في الحالة الأولى إحراز أي تفوق عددي على الأقل على جيش محمد علي في مصر، ولا يجب أن يتوقع الروس حدوث نقص في قوات الأتراك الواقفة لقتالهم، وقد زاد من خطل هذا الرأي أن العامل الحاسم في تشكيل سياسة الأتراك إنما كان مرتبطا بمدى ما يلحق بأي الفريقين: إنجلترة وروسيا من جانب، وفرنسا من جانب آخر من هزائم، أو يحرزه من انتصار، وقد شاهدنا كيف أن «سباستياني» ظل صاحب النفوذ الأول في القسطنطينية، ولم يفزع الأتراك غزو الإنجليز واستيلاؤهم على الإسكندرية، وكانت الإجراءات التي اتخذوها من حيث الاهتمام بالدفاع عن مصر، إجراءات عادية لا تتجاوز إصدار الأوامر للباشوات القريبين من مصر لإرسال النجدات إليها، واستحثاث محمد علي وأهل البلاد على الدفاع عنها.
ولقد كان مما يصح اتخاذه مبررا لإرسال حملة «فريزر»، أن يكون الغرض منها التمهيد لاستيلاء البريطانيين على مصر، والاحتفاظ بها لأنفسهم في النهاية، ولكن الخطة التي أملت على الحكومة الإنجليزية فكرة إرسال هذه الحملة، كانت في صميمها جزءا ثانويا من مشروع أوسع نطاقا، أرادت به في زعمها التأثير على مجرى الحوادث في الميدان الأوروبي، فكان من المفروغ منه ومنذ البداية، أن يرتهن تقرير مصير هذه الحملة بما قد يجد من تطورات في الموقف الأوروبي من الناحيتين العسكرية والسياسية؛ ولذلك كان خطأ كبير أن تفصل الحكومة الإنجليزية قوة من خمسة آلاف جندي في أواخر عام 1806 من جيش صقلية، للقيام بدور الحامية التي لا تعدو مهمتها في حساب الحكومة الإنجليزية مجرد حراسة هذه البلاد من غزو محتمل.
Bog aan la aqoon