198

Masar Bilowgii Qarniga Sagaalaad

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Noocyada

تمهيد

لم يكن أحد من الذين راقبوا مجيء حملة «فريزر» واستيلاءها بسهولة على الإسكندرية، يتوقع هزيمة هذه الحملة، أو على الأقل بمثل السرعة التي حدثت بها، لما كان معروفا عن قوة وحسن استعداد البريطانيين الذين انتصروا على جيش الشرق وأجلوه عن مصر، والذين كان لهم من السيطرة البحرية في البحر الأبيض ما يجعل أمرا محققا في نظر كثيرين أنهم سوف يأتون بقوة كبيرة إلى هذه البلاد، لتعزيز مراكزهم في المواقع التي يحتلونها بها، أو لتوسيع نطاق عملياتهم العسكرية بالصورة التي تمكنهم من تحقيق أغراضهم، إذا كانت هذه الاستيلاء على البلاد بأسرها، وليس الاكتفاء باحتلال الإسكندرية فحسب.

ولم يساور محمد علي أي شك في أن الإنجليز إنما كانوا يقصدون من غزوهم امتلاك البلاد على نحو ما فعل الفرنسيون الذين غزوها قبل ذلك، ينهض في نظره دليلا على ذلك اتساع نطاق عملياتهم العسكرية ومحاولاتهم المتكررة ضد رشيد، ويزيد من رسوخ هذه الفكرة في ذهنه مسعى القواد والوكلاء الإنجليز لدى البكوات المماليك لإغرائهم بالنزول من الصعيد والاتحاد معهم في الحرب ضده، ولا نتيجة لهذا الاتحاد إذا تحقق إلا طرده من الولاية، والقضاء على باشويته، أضف إلى هذا تأكيدات الوكلاء الفرنسيين له بأن الإنجليز إنما أرسلوا حملتهم إلى مصر لهذه الغاية ذاتها.

ولم يكن محمد علي يتوقع كذلك أن ينهزم الإنجليز هذه الهزيمة الساحقة في المعارك التي خاضوا غمارها ضد شراذم جنده الأرنئود أو ضد جماعات الأهلين المسلحة الذين هبوا من دمنهور أو من غيرها من البلدان والقرى المجاورة لنجدة رشيد.

ولذلك، فقد أحدث الانتصار على الإنجليز في معركتي رشيد (31 مارس)، والحماد (21 أبريل) تبدلا كبيرا في الموقف فيما يخص محمد علي من حيث إن هذا الانتصار قد أنهى مرحلة دقيقة من مراحل النضال مع العدو، خرج الباشا منها مظفرا منصورا لا في الميدان العسكري فحسب، بل وفي الميدان السياسي الداخلي كذلك، عندما نجحت مساعيه، مع الاستعانة بنشاط الوكلاء الفرنسيين في وقف حركة البكوات وإلزامهم بالحيدة، وأقبل القاهريون بكل همة ونشاط تحت توجيه وإرشاد زعمائهم على تحصين مدينتهم، وحصل الباشا بفضل تآزر هؤلاء الزعماء الشعبيين معه على حاجته من المال اللازم لتدبير شئون الدفاع ودفع مرتبات الجند، وإنجاز الاستعدادات لخروج جيش كبير لقتال الإنجليز وتشديد الحصار عليهم في الإسكندرية لطردهم منها.

ثم إنه كان لهذين الانتصارين في رشيد والحماد أثر حاسم آخر في موقف البكوات المماليك، خصوم محمد علي الداخليين، فصاروا الآن أكثر استجابة لرغبات وسطاء الباشا معهم، ولم يكن منتظرا أن ينبذ هؤلاء حيادهم، طالما حصر الإنجليز نشاطهم لسبب أو لآخر داخل أسوار الإسكندرية، وتعذر عليهم إحراز أي نصر على جند محمد علي، ونجح الباشا في إعداد جيش كبير لقتالهم، وإرغامهم على البقاء - على الأقل - بالإسكندرية، إن لم يستطع إجلاءهم عنها.

على أن محمد علي وإن كان قد استطاع تخطي العاصفة، وهي في عنفوان هياجها، فإن هذه العاصفة لم تكن قد سكنت بعد، بل ولا يزال خطر اشتدادها من جديد ماثلا ما دام الإنجليز باقين بالإسكندرية، ثم لم تلبث أن توفرت لديه الأدلة في الشهور القليلة التالية على أنهم يبغون البقاء بالإسكندرية، وأنه لا مناص من الالتحام معهم في معارك أخرى، والانتصار عليهم لطردهم منها، على أن الباشا وإن كان قد صح عزمه على قتالهم، فقد آثر من ناحية أخرى - إذا كان هذا ممكنا - محاولة تحرير الإسكندرية من احتلالهم بطريق المفاوضة، بدلا من الاشتباك معهم في معارك جديدة، قد لا يكون النصر فيها من نصيبه هو، فتتجدد كل تلك المتاعب التي ما استطاع تذليلها إلا بكل نصب ومشقة؛ ولذلك فقد صارت المفاوضة من الطرائق التي اعتمد عليها الباشا إلى جانب تهيؤه العسكري لبلوغ غايته، وكانت المفاوضة هي الطريق الذي تسنى به إنهاء النضال الدائر بينه وبين الإنجليز.

ولقد حققت عوامل عدة نجاح هذه الوسيلة السلمية لإجلاء الإنجليز عن الإسكندرية أهمها - كما أشرنا مرارا - أن الإنجليز لم يستهدفوا من مجيء حملتهم إلى الإسكندرية امتلاك البلاد بأسرها، بل قصدوا من استيلائهم عليها الوصول إلى غرضين رئيسيين هما الحيلولة دون نزول حملة فرنسية في هذه البلاد، وتخويف الباب العالي وحمله على قبول الصلح معهم ومع حلفائهم الروس، وانتزاعه من أحضان النفوذ الفرنسي، وارتبط لذلك مصير حملتهم بتقلبات الموقف في أوروبا، وكان من أثر هذه التقلبات - كما سيأتي ذكره - أن قر رأيهم على استدعاء حملة «فريزر» من مصر، وتسليم الإسكندرية سلما إلى محمد علي، فكان من المتيسر عندئذ أن ينجح طريق المفاوضة في إنهاء عملياتهم العسكرية في مصر، وبجلاء الإنجليز عن الإسكندرية يكون محمد علي قد تخطى هذه العاصفة الهوجاء بسلام ليتفرغ في السنوات القليلة التالية لدعم أركان باشويته.

على أنه عقب هزيمتي رشيد والحماد، لم يكن قد صح عزم الإنجليز نهائيا على إخلاء الإسكندرية، بل حرص «فريزر» على اتخاذ كل إجراء يكفل له القدرة على الاستمرار في احتلالها، وساعده على ذلك أن الاطمئنان أخذ يحل تدريجيا محل الفزع الذي استبد بالإنجليز بعد هزائمهم في مارس وأبريل، ووصلت النجدات من صقلية لتعزيز حامية الإسكندرية، وراح القائد الإنجليزي يبذل قصارى جهده لتنفيذ التعليمات الأساسية التي لديه وهي التي هدفت إلى التمسك بالإسكندرية. (1) الموقف بعد الحماد

الإنجليز في الإسكندرية

Bog aan la aqoon