Min Wara Minzar
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Noocyada
صاحب السلطان الزائل
أقبل فسلم في صوت كأنه الهمس، وأحسست ولم أكن عرفت بعد شيئا من أمره روح المذلة في صوته؛ ومد إلى من نهض لتحيته يدا معروفة كأن بها استخزاء من أن تصافح الأيدي الممدودة إليه، ونهضت فيمن نهضوا فسلمت وأنا في حيرة من عبارات التحية تزجى إليه مشفوعة بلقب «البك».
وأخذت نعته بهذا اللقب على أنه من المزاح، فكثيرا ما رأيت بعض المازحين في القرية ينادون بهذا اللقب رجلا عندنا بلغت به الفاقة حدا جعله مضرب المثل في البؤس، وجعل لقب «البك» مضافا إليه رائع البلاغة فيما يتضمن من تهكم، وفيما يثير من ضحك باستعماله هذا الاستعمال.
ولكني لم أر للمزاح أثرا في وجوه الجالسين، بل لم أر فيها إلا التزام الجد والحرص على مظهر الاحتشام والسكون، وفهمت أن الابتسام يتقى بين الجلوس فيما يدور بينهم من حديث، وبخاصة إذا خوطب صاحبنا على أنه البك، فما تكاد تنفرج الشفاه حتى تنضم في استدراك سريع.
واتجه منظاري إلى هذا البك الجديد، وأخذت أختلس النظر إليه وكان كلما زدته نظرا، زادني دهشة ذلك اللقب، الذي يسبغ عليه في جد لا أثر للعبث فيه، وظللت أنظر إلى معطفه الذي تراكم عليه ما تراكم من آثار الزمن، وإلى جلبابه الذي لم أعرف ماذا كان لونه قبل أن يعلق به ما علق من تشويه، والذي راح يستر خروقه بأطراف ذلك المعطف الذي يعد تسميته بالمعطف، وهو على تلك الحال من قبيل تسمية صاحبه بالبك! أما طربوشه، فقد اتسق في هذا النظام اتساقا بليغا، إذ كانت أسطوانته من لون وقرصه من لون آخر، غير أن أحد جانبيه أكثر كدرة من الجانب الثاني، وإن كانت تلك الألوان جميعا بقايا حمرة زائلة.
وعرفه إلي وعرفني إليه أحد الخبثاء الذي أخذ ينظر إلى منظاري، وكأنه كان يرى فيه - كما حدثني بذلك بعد - آلة تصوير، وما كاد يذكر لي اسمه حتى ذهب اللغز من ذلك اللقب الذي لقب به، وقلت في نفسي: أهذا هو الذي سمعت من أخباره ما سمعت؟
وتزاحمت في ذهني صور ما علمت من أنبائه، وبرزت من بينها صورة كانت بين غيرها من الصور، كما يكون المارد بين الأقزام، فهذا الرجل الذي أراه أمامي، هو بعينه الذي أشعل ذات ليلة دخينة لإحدى المغنيات في بندر قريب، لا بعود من الكبريت كما يفعل عامة الناس، ولكن بإحراق رقعة من الورق تركها حتى أتت عليها النار بعد أن أشعل بلهيبها تلك الدخينة، ولم تك هاتيك الورقة بذات قيمة كبيرة، فهي من فئة الخمسة جنيهات فحسب!
واضطجع صاحب السلطان الزائل اضطجاعة فيها بقايا الكبرياء، ونظرت إلى وجهه فرأيت في سحنته خيال تعاظمه الماضي واستكباره، يحيط به خيال استخزائه الحالي ومسكنته، والحق لقد كانت نظراته مزيجا عجيبا من العظمة والمذلة والرضاء والضجر والخجل والتبجح، ثم كان وجهه الشاحب يذكرني بتلك الصورة التي كانت تعلق على الجدران لمحاربة «الكوكايين»!
ووجهت إليه بعض عبارات التحية فرد في هدوء واتزان، وهو ينظر إلي نظرات من يريد أن يستوثق من صدق تحياتي، كأنه لا يصدق أنه اليوم أهل للتكريم بعد أن هلك عنه سلطانه، على أنه ينتمي إلى أسرة معرقة لا يزال لبعض أفرادها جاه عظيم وثراء، وإن كان ثراؤها لا يبلغ اليوم في مجموعه عشر ما كان لها منه بالأمس، ولعل خيال ذلك الجاه الباقي في أسرته هو الذي يجعل الكبرياء تتغلب في وجهه أحيانا على الاستخزاء، وإن كان الاستخزاء قد بات طابعه الجديد.
وقدم إليه أحد الجلوس دخينة فتناولها في صورة عجيبة، وفي وجهه أمارات توحي بأنه يفهم من هذه التحية أنها ضرب من إعطاء المحروم، وعلى شفتيه ابتسامة تصور هذا المعنى وتبرز ما في قرارة نفسه منه، وأيد ذلك لي إسراعه بإخراج علبة الدخائن من جيبه وتقديمه دخينة إلى من سبق فقدم إليه مثلها، ثم إنه تقدم في خفة وظرف فيهما طيف أريحيته الماضية، فأشعل الدخينة لصاحبه ولكن بعود من «الكبريت».
Bog aan la aqoon