Min Wara Minzar
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Noocyada
وبينما كان يتحدث إلى النجار وهو يصلح تلك الأدوات الزراعية، إذ دخل عليه رجل فسلم وقال: يا عم محمد ... علمت أنك تبيع فجلك المزروع في جهة كيت فجئت لأشتريه ... وتفكر النجار الشيخ قليلا وقال: كم تدفع ثمنا له؟ فقال الرجل: ستة جنيهات، فنظر إليه النجار وقال: انتظر قليلا، وطلب النجار إلي أحد المارة أن يرسل فاطمة بائعة الفجل، فلما حضرت قال لها: هذا الرجل يشتري الفجل بستة جنيهات وقد بعته لك، فما رأيك هل تبيعينه إياه؟ لقد صرت صاحبته وليس لي فيه شيء، وإن لم أقبض منك ثمنه بعد. فقالت المرأة: بعته إياه، وتناول النجار الجنيهات الستة، فأخذ منها أربعة هي ما اتفق مع المرأة عليه ثمنا لفجله، ودفع لها جنيهين ...
وازداد في قلبي قدر هذا النجار الشيخ، وظللت لحظة أقلب نظري في محياه الأبلج السمح، وهو منكب على أدوات الزراع يصلحها في نشاط وهمة؛ وانصرفت وأنا أدير في رأسي قصة القمح وقصة الفجل، أو قصة الشيخ الذي تعلم ويأكل الربا أضعافا مضاعفة، وقصة النجار الذي لم يعرف غير أدوات نجارته، ويتصدق بعمله على الزراع في رمضان، ويأبى أن يكون وقد أربى على السبعين كلا على إنسان.
شرف!
مشى العمدة في جلبابه النظيف المهندم وعلى رأسه طربوشه الطويل الأقتم، وفي يده عصاه الغليظة المحلاة بالذهب، ومن خلفه بعض وجوه القرية وبعض خفرائها، وإنه ليحرص أبدا أن يسير ومن ورائه عدد من الناس ليوقع الرهبة في نفوس من يمر بهم من أهل قريته، وما يلمح أحد من أهل القرية هذه «الزفة» إلا نهض محييا يتكلف أكثر ما يستطيع من التأدب والخشوع، فإن كان من ذوي المكانة جرؤ على أن يضيف إلى عبارات تحيته: «تفضل يا حضرة العمدة ... شرفنا يا سعادة البك.» وقنع من حضرة العمدة ردا على تحيته وعلى دعوته بإشارة خفيفة من يده علامة على الرضاء لا تكاد ترى، أو بتمتمة خافتة على شفتيه لا تكاد تسمع؛ وإن كان من عامة الناس فما يستطيع إلا أن ينهض خاشعا إذا أبصر العمدة من بعد، ثم يظل في خشوعه لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا يرفع رأسه حتى يمر به العمدة، فيرفع يده إلى رأسه في ضراعة، ويرد في اهتمام تلحظه في نغمته، تحية الإسلام التي يلقيها إليه أحد من في ساقة هذا الركب في صوت خافت، فما يجوز أن يلقي السلام إلى أحد غير العمدة، ثم يجلس بعد أن يمر به الركب كله؛ وفي خياله شارب العمدة وعبوس وجهه وطربوشه الأقتم الطويل، وعصاه المذهبة الغليظة، وحسبه جرأة أنه استطاع أن ينظر إلى ذلك الشارب المهيب، وإن كان ذلك بعد أن يمر به العمدة أو يكاد، فيلمح طرفي شاربيه وهو ينظر إليه من وراء ظهره.
لم يبق على أذان المغرب إلا ساعة أو بعضها، ويرى الناس وكأنهم سكارى مما فعل بأبدانهم وأرواحهم الحر والصيام، وامتداد النهار وشدة الغلاء، وطول انقطاع ماء الري حتى هلكت الذرة الوليدة أو كادت، وتفتحت بعض لوزات القطن المحترق قبل أوانها ووقفت سوقه فلا تنمو.
ووقف العمدة وركبه عند أول السكة الزراعية في مفرق الطرق بين قريته وقريتنا وبعض القرى المجاورة، وهو مكان به عدد من الدكاكين وكثير من الناس، وما إن وقع بصره على رجل من أهل قريته حتى ناداه في عنف، فخف المسكين إليه وهو يتمتم في صوت سمعه بعض الناس: «يا نهار إسود ... يا خرابي.» ويحاول أن يبلع ما أبقى الصيام والقيظ في فمه من ريق فلا يجد شيئا، ووقف المسكين بين يدي حضرة العمدة، فهل رأيت العصفور الهزيل بين يدي صقر جارح ؟ وراح العمدة ينهره في صوت كالرعد أكبر ظني أن المسكين لم يسمعه من فرط رعبه ... يا كيت وكيت يا ابن كيت وكيت ... من هاتيك الألفاظ التي تجري بها ألسنة العمد وأصحاب السلطان في القرى، وأمسك العمدة هذا المسكين بإحدى يديه وصفعه بالأخرى مرتين على وجهه المصفار في عنف وغلظة، فما تركه حتى سقط المسكين على الأرض يعفره التراب، فركله العمدة كما يفعل بكلب حقير.
ولم أدر سببا لهذا الضرب، غير أني أحسست بالدم يصعد حارا قويا إلى وجهي، وطاف برأسي في مثل لمحة الطرف طائف مما نلوكه نحن المتعلمين من ألفاظ الحرية والديمقراطية والدستور، ومجلس الأمن وأضرابها مما نخادع به أنفسنا، وهممت أن أنقض على هذا الصقر، وأبعثها حربا بين الأسرتين والقريتين، حتى ولو كان المضروب من أكبر المجرمين، وما كدت أسمع ممن حولي أنه من المساكين المسالمين، حتى انتفضت انتفاضة المحموم، وخطوت أوقد نار الحرب علي أطفئ بها نار غضبي!
ونهض المسكين يبكي ويئن ويضع يديه على وجهه مكررا قوله: «أمري إلى الله ... أمري إلى الله.» وكأنما عز هذا على أحد حاشية العمدة فنهره قائلا: «اخرس يا حمار ... بوس يد العمدة وقل له: ضربك شرف يا سعادة البك، وبذلك يصفح عنك.»
وسبقني إلى حيث يقف العمدة وحاشيته شاب يلبس جلبابا أبيض، ويضع طربوشا فوق رأسه، علمت أنه أخو المضروب، فالتفت إلى ذلك المتكلم الأخير قائلا: «بل اخرس أنت يا سافل.» ومرق مروق السهم إلى العمدة، فوقف يعترض طريقه في جرأة قائلا: لماذا تضرب أخي يا حضرة العمدة؟» ... وأخذت العمدة أول الأمر ربكة من هذه الجرأة التي لم ير مثلها قط في سنوات حكمه الثلاثين، ولكنه نظر إلى هذا المطربش في استهزاء، كما ينظر المرء إلى مجنون لا يحاسب على قوله أو فعله، وأخذ هذا المطربش يقول في عبارة فصيحة: «ما هذا الجبروت؟ إلام الظلم؟ الناس سواسية كأسنان المشط ... نحن في عهد الدستور ... قضية الحرية تعرض على مجلس الأمن ... يا ناس كفى ظلما واستعبادا لخلق الله ... فيم هذا الضرب وهذا الجبروت!»
وتقدم المضروب بدوره، فازداد الناس عجبا إذ سمعوه يتوثب أمام العمدة قائلا: «إيه الجبروت ده ... دا ظلم ... دا جبروت!» ودفعهما أعوان العمدة من طريقه، ومضى العمدة وهو يلعن الدستور والحرية، ويسخر في صوت مسموع من هذه البدع التي أفسدت الناس، ويكظم غيظه من هذا المعلم الإلزامي الثائر الذي غضب لضرب أخيه، والذي يفسد هو ونظراؤه القرى!
Bog aan la aqoon