Min Shuquq Zalam

Naahid Hindi d. 1450 AH
54

Min Shuquq Zalam

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Noocyada

6

أخيرا وبعد مناشدات كثيرة من مراقب الزنزانة للخلاص مني خشية العدوى من مرض السل الذي أنهكني ونصائح لي من مخلصين بأنه من الأفضل أن أذهب إلى زنزانة أخرى خاصة حصريا بمرضى التدرن لإمكانية حصولي على علاج، جاء أفراد من الأمن في إحدى الليالي وأخرجوني وآخرين من زنزانات أخرى لينقلونا إلى زنزانة الحجر الصحي. وضعوا على رءوسنا منشفة ليمنع أي أحد من التعرف علينا ونحن نسير في ممر طويل فارغ نحو زنزانة الحجر الصحي.

كان الممر ذاته الذي دخلنا منه أول يوم عند وصولنا السجن، على جنبيه توجد أقسام لسجناء آخرين ذوي قضايا لها علاقة بالسياسة أو الأمن الخارجي إلا أنهم غير متهمين بقضايا الانضمام إلى تنظيم معارض. كانوا يحظون بفرصة مواجهة أهاليهم في كل شهر مرة واحدة، ولديهم حرية أوسع بكثير منا؛ بإمكانهم التمشي في الممرات وفي ساحة كبيرة بحجم ملعب كرة قدم، يتعرضون للشمس يوميا ويطبخون أكلهم بأنفسهم، وكل واحد منهم له سرير خاص أو مكان خاص، أحيانا تكون الأسرة متعددة الطوابق إلا أنه مع ذلك يبقى لكل واحد منهم مكانه الخاص، وربما في فترات اكتظاظ السجن لا يجد بعضهم مكانا ينام فيه، لكن ليس بالطريقة التي كنا نعاني منها، فهم في حال بالنسبة لنا كان يعد فردوسا ونعيما. لا يتوهمن أحد أنهم كانوا مرفهين فعلا، إنما من ضرب بالموت يرضى بالعمى.

كان التواصل معهم مستحيلا إلا أنهم كانوا يعرفون بوجودنا الإجمالي، وكانت تحاك حول أوضاعنا قصص مرعبة تزيد من خشيتهم من الالتحاق بنا؛ لذا لم يجرؤ أحد منهم على ذكرنا ولو همسا. ومع كل هذا فإن رجال الأمن عندما يريدون أن يدخلوا إلى أقسامنا يغلقون كل الزنزانات التي يعيش فيها هؤلاء السجناء الذين كنا نسميهم سجناء الأقسام المفتوحة قبال تسميتنا؛ حيث كنا نسمى بسجناء السجون المغلقة والتعبير المختصر الشائع المفتوحة والمغلقة.

إذا أراد رجال الأمن إدخال شيء إلى أقسامنا يغلق السجن كله وتمنع الحركة في الممر بالتمام بعد إخلائه بالكامل من أي فرد حتى لو كان من حرس السجن؛ إذ لم يكن يسمح لأحد بدخول أقسامنا إلا أربعة أشخاص من الأمن مصرح لهم بصفة شخصية يستبدلون في فترات متباعدة. وفي أيام مواجهة سجناء الأقسام المفتوحة كان تمنع علينا الحركة ويحظر علينا الوقوف ونجبر إما على النوم أو الجلوس، ونؤمر أثناء ذلك بلزم الصمت المطلق لمدة تتراوح بين أربع إلى ست ساعات حتى لا تظهر أي علامة تدل على وجودنا للزوار القادمين من خارج السجن. بعض الأمهات المنكوبات بفقد أبنائهن كن يأتين يبحثن عنهم ويسألن سجناء الأقسام المفتوحة لعل أحدهم يعرف مصيرهم، لكن لا يحظين بجواب؛ لأن الخوف من عقاب الأمن كان رهيبا كما هو العقاب نفسه.

عرفت فيما بعد أن والدتي فعلت ذلك أيضا وحاولت معرفة مصيري؛ ولأننا كنا مثل شجرة آدم، أي شخص يلمسها يحظى بالشقاء الأبدي. كان سجناء المفتوحة يتهربون من الإجابة في أكثر الأحيان، إلا أن صديقا لي قال لوالدتي: إني أقبع خلف هذه الأبواب بطريقة الغمز والإشارة. وفهمت هي تلك الإشارة ورجعت مستبشرة ببقائي حيا وانتظرت سنوات بعدها لتراني لأول مرة.

لكن والدة أخرى بلغت من الجرأة والتحدي الكثير حين قال لها سرا أحد السجناء: ابنك يخفى وراء هذا الباب. وانسل بعيدا عنها. وقفت أمام الباب تصيح باسم ابنها، وكان صوتها عاليا يصل لكل السجناء، وابنها فيهم عاجز عن الإجابة. وعندما سمع رجال الأمن بصراخها حاولوا إفهامها أنها متوهمة ولا يوجد أحد خلف الباب، أبت تصديقهم وعرفت مكرهم وخداعهم وأصرت على طرق الباب المصفح والنداء على ابنها السجين السياسي المخفي، وعندما أجبرها الأمن بالقوة على مغادرة السجن صاحت منادية ابنها: «عفية ابني السبع، حكومة دبابات وطيارات وجيش وشرطة كلها خايفة منك وضامتك علي، عفية ابني السبع.»

في هذا الممر الذي شهد حكايات كثيرة من قتل سجناء من التعذيب الوحشي أو سحب جثث آخرين بعد أن قضوا مرضا وجوعا، سرت تلك الليلة وأنا مغطى الرأس بمنشفة، أمشي وئيدا وصاحبي. نهرنا أحد رجال الأمن يستعجلنا المشي إلا أننا كنا نبذل قصارى ما عندنا للبقاء واقفين وألا نهوي إلى الأرض، وكان المشي بالنسبة لنا مهمة عسيرة للغاية، فقال له صاحبه ردا عليه: «اتركهم، كلها أسبوعان ثلاثة ونخلص منهم للأبد.»

كان جليا أننا في الرمق الأخير، ولم يبق لنا من رحلة هذه الدنيا إلا صبابة كأس بلغ حد الثمالة. وصلنا إلى آخر الممر حيث فتحت منه باب جانبية على غرفة واسعة خاوية من كل شيء، ومنها فتحت باب أخرى قادتنا إلى ممر صغير مظلم على جنبه الأيسر ثلاث زنزانات تكاد تكون مربعة بطول ضلع يقارب الأربعة أمتار. وعلى الجهة اليمنى خمس زنزانات صغيرة؛ ثلاث منها بعرض متر ونصف تقريبا وأكثر من مترين بقليل طولا تسمى بالمحاجر، وزنزانة أخرى كأنها مخبأ على شكل حرف «L» بالإنجليزية لا يوجد فيها أي فتحة للتهوية أو الضوء، وزنزانة أخرى بأبعاد مترين في ثلاثة أمتار. صار نصيبي أن أودع في واحدة من تلك الزنزانات الكبيرة بسبب وضعي الصحي المتدهور.

كان المكان مشبعا برائحة مرض ثقيلة ونتانة ورطوبة، ومظلما أكثر من الأقسام الأخرى التي عشت فيها، إلا أن أبواب الزنزانات مفتوحة دائما وهذا تطور كبير غير مألوف؛ إذ يمكن هنا أن يتحرك المرء بين الزنزانات ويتزاور مع الآخرين. والأكثر أهمية أن الوشاة والخونة لا وصاية لهم في هذا المكان. كان المكان يعد آمنا منهم ومن مكرهم، وهذا الجو يسمح بتداول الأحاديث السرية بحرية أكبر من الأقسام الأخرى.

Bog aan la aqoon