Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Noocyada
إهداء
نفثة
مقدمة لا بد منها
1 - المعتقل
2 - السجن
إهداء
نفثة
مقدمة لا بد منها
1 - المعتقل
2 - السجن
Bog aan la aqoon
من شقوق الظلام
من شقوق الظلام
قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
تأليف
ناهض الهندي
ليس مستحيلا أن تقضي في السجن عشرا من السنين، خمس عشرة، وأكثر، ذلك ممكن شريطة ألا تسود الجوهرة النائمة تحت ثديك الأيسر.
ناظم حكمت
إهداء
إلى من وقف في الظلام منتصبا وخرج إلى النور ممتدا.
إلى من استطال به الكثير ولم تستطل به الدنيا.
Bog aan la aqoon
إلى جلادي الذي كشف لي معنى الحرية والحياة.
إلى أصحاب الزنزانة الذين خلدوا شهد المعاناة.
وأيضا للذين لم يخلدوها.
إلى زوجتي، أولادي وأهلي، بالأخص والداي، الذين عانوا أكثر من غيرهم من جراء مغامراتي وتطلعاتي التي لم تصل المرفأ الأخير، بل حتى لم يلح لها إلى اليوم.
لكل هؤلاء، ولكم أبسط مائدتي.
وبكل صدق،
أدعوكم لعشائي الذي أرجو ألا يكون الأخير.
نفثة
في عتمة داكنة مثل ظلمة ليل شتاء شمالي.
حيث تغور النجوم بعيدا ولا نور.
Bog aan la aqoon
في وحدة قاسية مثل غربة ذرة غبار في بحر متلاطم.
من زمن يكاد المنادي يعلن فيه بخيلاء المنتصر انكفاء كل الوعود الإلهية مبشرا بهزيمة الطين أمام النار.
من وسط كل هذا ألمح في داخلي، بقعة مضيئة يكاد ينشق منها نور سيضيء كل هذا الليل ويرسم فجرا سرمديا.
منها سيخرج طائر عشقي للشمس، ولن تخيفني كثرة لسعات حبها التي تحيلني رمادا، ينفجر نافورة في تيه صحراء قومي؛ ليعيد خلقي من جديد.
سأجري مثل خيول برية في بيداء لا أمد لها ولا حد.
وسأنزف حبرا يروي حكاية بعيدة كل البعد عن الأنا.
لكنها ستروي حكاية ذاتين، لا وحدة بينهما إلا ذاك الأب الدارويني.
ما بعد هذه الأسطر ليست حكاية شخصية، بل سيرة زمن كاد أن يهرس شعبا، بين سندان صمت ضمير أشك في صحوته ولو بعد حين ومطرقة غريزة منفلتة من عنانها، فغدت بحال أقل ما قيل فيها، وحشية.
مقدمة لا بد منها
على الكتاب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا.
Bog aan la aqoon
كافكا
هذه الأسطر ليست رواية من الخيال، بل إنها حقيقية بكل تفاصيلها، مثلها مثل كل الحقائق، ليس هناك من أحد قادر على جمعها كلها؛ لذلك ضاع الكثير جدا مما كان يجب ذكره، وكان في نيتي أيضا سرده. إنما يلزمني القول مشددا: إن كل السرد الآتي ليس لأجل السرد فقط، ولا هو مثل حكايات العجائز التي تخرج مقترنة مع دفء المواقد في ليالي الشتاء الطويلة الباردة، ولا هو حديث عن بطولات لأفراد قضوا، ولا أبحث فيه عن إدانة لأحد.
ما مضى قد مضى لا سبيل لعودته، وما انفرط عقده لا يمكن جمعه، وما سكب امتصته الأرض إلى عالمها السفلي. إنه ببساطة ليس حديثا يروى، بل ألما يتلوى شديدا في داخلي لا أقوى على السيطرة عليه حتى بعد مرور ما يزيد على أكثر من عقدين على مغادرتي زنزانتي لآخر مرة، رغم محاولاتي الكثيرة للفرار منه، والتي باءت جميعها بالفشل لسوء الحظ.
لم أجهد نفسي في اختيار عنوان لتجربتي هذه التي قد يحلو للبعض أن يسميها رواية، وربما آخر ينعتها بالمذكرات. وإن كانت في حقيقتها ليست كذلك بالنسبة لي، وأنا أعرف من غيري بما كتبت وبما يعتمل في نفسي. هي بضعة مني لا أقدر على الفكاك عنها ولا الخلاص منها. لم أفكر باختراع عنوان لمجموعة السطور هذه، بل جاء العنوان هكذا تلقائيا مثلما جاءت التجربة نفسها بلا تحضير لازم، رغم أني كنت أتوقع حصول الاثنين. انبثق العنوان مثل دافع غريزي جبلت عليه الفطرة الإنسانية، ومثل أمامي مغلقا كل المنافذ على أي خيار آخر.
السجن، كان مكانا مظلما شديد العتمة مغلقا بإحكام شديد، إلى درجة لم تسنح لي ولا حتى فرصة واحدة لمغادرة الزنزانة العفنة برطوبتها، المظلمة بجدرانها، الرمادية الغامقة، والمزدحمة دائما بأجساد بشرية وكائنات أخرى من حشرات وهوام. لم يحدث لي ولسنوات طويلة حتى ولا لساعة واحدة أن تنفست هواء نقيا، ولا أن سطعت شمس علي طيلة سبع سنوات تقريبا، مع أني في الواقع مكثت في السجن أكثر من ذلك؛ لذا كان السجن بالفعل صندوقا مظلما لا يقوى أي كائن من الخارج على رؤية ما في داخله. وإذا كان كذلك فكيف يتسنى لي أن آخذ القارئ إليه وأطلعه عما يجري فيه، إلا عبر وسيلة بدائية وحيدة، هي استراق النظر من شقوق صغيرة في جدره الصماء. أدرك - كما تدركون - أن أشق النظر وأصعب الرؤية هو أن تشخص بصرك في صندوق مظلم تبحث فيه عما يدلك لما يحدث داخله.
إنها محاولة أشبه بعبث مجنون، لكن كان لزاما علي فعلها، ليس لأجل أحد، إنما لأجل خاطري المبرح ألما من جلد ذكريات تولد معي كل صباح. ألم يضطجع معي في الفراش ويسير إلى جنبي في الطرقات. وعندما يختفي ظلي في الفيء يبقى هو متسمرا إلى جنبي، ويعلو على كتفي وهامتي. لعلي بمحاولتي هذه أنفذ إلى سبيل للخلاص من أنينه المستدام ومن نشيجه الصامت في عويله وبكائه الصاخب بلسان أخرس. ذاكرتي المثقوبة هي الشقوق الوحيدة التي أملكها، وبوسع من هو خارج الصندوق أن يطلع من خلالها على ما في داخله. ومع ذلك أجزم أن لن يستشعر أحد أبدا برد الظلام ولا وحشته كما شعرت بهما. سوف تغيب عنه أشياء كثيرة جدا من السهل علي أن أقول: إن عددها لا يحصى، وأعجز حتى أنا الخبير بها - لأني عاصرتها - أن أسترجعها جميعا. أشياء تخفيها حلكة ظلام داكنة لا تزال تخيم على وقائع تلك الأيام في ذاك المكان المنسي.
كل ما سوف أرويه حقيقي تماما لا زيادة فيه ولا مبالغة، بل العكس هو الصحيح تماما. من الإنصاف أيضا أن أقدم اعترافا مسبقا بأني فشلت في وصف الصورة الحقيقية، بل عجزت عن ذلك تماما. هذه الصورة حاولت أن أقدمها مرارا لمستمعين أجبرتهم على الإنصات إلي، ولسوء الحظ رأيت فشلي على ملامح وجوههم في كل هذه المرات. لم تسعفني براعتي في الأحاديث المسهبة أن أجعلهم يعيشون الألم والمرارة التي عشتها، ليس فقط ما عانيته من ألم حين وقعت الوقائع، بل حتى آثارها التي تتفجر وأنا أنكأ الجروح حين أحدثهم بها لم أقو على إيصالها لهم. فكيف لي بعد هذا أن أتخيل أنهم سوف يتحسسوا ما عشته يومئذ أو أن القارئ سيفعل؟
من العسير جدا علي أن أثبت صحة قولي هذا، لكنه صحيح رغم ذلك. كل ما سوف يقرأ هنا، هو صورة بالغة في البهاتة لما جرى في عالم الحقيقة. وعزائي الوحيد أن هذا الكون لا يخلو من بعض الأذكياء ذوي النباهة العالية الذين سيدققون النظر جيدا في ثرثرتي هذه، وسوف يبذلون غاية جهدهم ليعيدوا رسم الصورة بأفضل مما فعلت. وإني على يقين أيضا أن بعضهم ممن لا أراه هذه الأيام لنكد دنياي التي أعيشها سوف يجعلها صورة ماثلة أمام عينيه أبدا حتى لا يعود أحد غيري يرسم عذاباته من جديد على الورق ويخدش به جمال الحياة. لهؤلاء أكتب، وأرجو أن يصل إليهم صوتي المبحوح من صراخ أستصرخ به غيرهم بلا جدوى؛ لأنهم وحدهم من سيحاول أن يمنع إعادة طبع قصتي هذه ثانية.
في أحد الأيام وبمناسبة عامة، التقيت صديقا كان سجينا مثلي، ولأننا نحسن الحديث عن أيام السجون أكثر من أي شيء آخر فقد أدلقنا في بئر الذكريات، وقال لي عبارة بليغة لامست شغاف قلبي، كانت تجول في داخلي خاطرة ولم أجد لها منفذا عبر الحروف والكلمات إلا حين أطلقها بعفوية وبراءة لا أتوفر عليها كما يحوزها هو.
قال صديقي ونحن نجلس على رصيف تظللنا الشمس: لشدة المعاناة التي مررت بها، تمنيت من يومها ألا يتذوق هذا العذاب أحد غيري بعدي، ولو كان جلادي نفسه. ونحن بالطبع نعرف جلادينا بأسمائهم وذواتهم، ومع ذلك لم يخطر ببالنا أن ننزل بهم العذاب الذي أنزلوه بنا.
Bog aan la aqoon
هذه المقولة الرائعة لصديقي هي عصارة ما أريده أن يحدث للقارئ، بل هي كل ما أريد من هذا الكلام. أملي وغايتي ألا يسمح القارئ بتكرار ما حصل لي على أي إنسان آخر، حتى لو كان جلادي نفسه الذي أذاقني كل هذا العذاب، ولم يزل يفعل بأقنعة جديدة. أكرر هذا المعنى كثيرا في مدونتي؛ لأنه ليس لي من شيء يستحق القول أفضل منه.
لن أكتب أسماء الأشخاص الذين التقيتهم أو سمعت بهم، ولن أتحدث عن عناوين الأماكن التي مررت بها على الأغلب إلا قليلا؛ لأني أريد أن أؤرخ لفعل (متواصل الوقوع بدرجة متفاوتة)، لا لفاعل معين لعله أصبح غبارا أو رمادا. وأجهد ألا يبدو الأمر صراعا سياسيا بين متنافسين على سلطة، لأن ذلك لم يكن هدفي ولا غايتي أبدا - لا اليوم ولا من قبل - بل هو عرض لمعاناة إنسان أراد أن يعيش كما ينبغي له أن يعيش، وهذا هو لب المشكلة وجوهر المأزق.
الجلادون، ذكر أشخاصهم وأسمائهم بالتأكيد يسبب مزيدا من الحقد والكراهية، وهذا ما أتجنبه في كل حين. أما الضحايا، فمن المؤكد أن كلماتي ليس بمقدورها أن تمنحهم الخلود، ولا تقوى على إسعاد أرواحهم مهما بالغت في كلمات الإطراء. ما ينفع حقا هو ألا تعاد هذه المشاهد المرعبة على أي أحد بعدهم مرة أخرى.
أمر أخير قد يلحظه القارئ أثناء مطالعته - ولن يمر عليه مرور الكرام - هو سرعة تبدل المشاعر بين الأسطر والصفحات؛ ولأني قررت أن أكتب مشاعري الحقيقية، لم أحفل بأي تناقض قد يؤثر على بنية النص وجماليته؛ لأني أصلا لم أفكر بكتابة رواية أطمع في نيل الثناء عليها. هذا التناقض في المشاعر وتبدلها السريع يجدر بالأطباء النفسيين والعلماء منهم أن يبحثوا فيه؛ لأنه واحد من آثار كثيرة خلفتها ظروف السجن والاعتقال الرهيبة، لا يجد السجين حتى بعد أن ينال حريته سببا للخلاص منها أو السيطرة عليها. ختاما أقتبس أبياتا لناظم حكمت أهديها لوطني من محل الغربة الذي نفيت إليه بإرادتي مكرها.
يا وطني يا وطني.
اهترأت قبعتي التي اشتريتها من دكاكينك.
تقطع حذائي الذي حمل تراب شوارعك.
آخر قميص اشتريته في «بغداد»
1
صار مقطع الأوصال منذ زمن يا وطني.
Bog aan la aqoon
لم يبق لدي منك سوى الشيب في شعري.
ما عندي منك غير خطوط من الهموم تعلو جبهتي.
يا وطني يا وطني يا وطني.
الشق الأول
المعتقل
1
في ظهيرة قائظة، عند عطلة نهاية أسبوع من صيف لاهب، وتحديدا الأسبوع الأخير من شهر آب، ومن على مقعد خلفي لسيارة إيطالية سرقت لون السماء، ولدت حكايتي.
كان شهرا ساخنا بكل ما فيه؛ طقس جهنمي وحرب مستعرة اشتد أوارها، حيث تزداد ضراوة المعارك على الحدود الشرقية بين جيش الدولتين الجارتين. وقع الهزائم العسكرية في الأسابيع الأخيرة، وفقدان مساحات واسعة من أراضي الخصم - كانت إلى وقت قريب تسيطر عليها وحدات من الجيش العراقي - قد أخذ مأخذه الكبير من معنويات النظام، وبدأ إثر ذلك حملة واسعة لتصفية كل من له أي علاقة مع المعارضة السياسية، ولو كانت هذه العلاقة المفترضة مستندة إلى شبهات وشكوك، بل حتى وإن كانت أوهاما. أي شخص يجهر برأي معارض للحرب أو يبدي قلقا لانتهاكات حقوق الإنسان التي كانت قد أصبحت أمرا شائعا حينها، بل كل فرد عراقي بات يخشى من الوقوع تحت عجلة القمع والاضطهاد الجبارة التي لو قدر لها السير فوق أي أحد، لكان أشبه بسير حادلة فوق طريق عبد بالقير للتو، لا تخلف بعدها غير صفحة سوداء لا أثر فيها ولا ندوب كما لو أن شيئا لم يكن.
عصبت عيناي بحشر كومة قطن بينها وبين زجاج نظارتي الطبية، وأنزل رأسي إلى الأسفل، وسارت بي العربة مسرعة إلى حيث لا أدري من الأمكنة، سوى عنوان طالما اخترعته مخيلتي. إنه بيت قابيل قاتل جدي الشهيد بجرم براءته، بيت سلخت فيه ما يقارب العشر سنوات من عمري، وكابدت فيه من العناء الشديد والحرمان من كل شيء، والأهم من ذلك هو الحرمان من أي عاطفة إنسانية، وقاسيت فيه من الأهوال والعذابات ما لا يمكن لي أنا شخصيا أن أتصورها، فكيف بمن سيقرأ هذه الأسطر!
إنه بيت، بل عالم مظلم مزدحم بالحوادث والانفعالات وكذلك بالناس، إلى حد أني لم أحظ ولا حتى بفرصة واحدة لأكون بمفردي مختليا بنفسي، إلا عندما كنت أكون في بيت الخلاء، وحتى هذا الموضع الفريد كنت أضطر لمشاركته في بعض الأحيان. إنه لأمر فيه من الصعوبة الكثيرة كي يتصوره أحد أو يصدق وقوعه. إنه أشبه بأسطورة اخترعتها مخيلة كاتب أفلام رعب من زخم فوضى كوابيس مرعبة تسكن رأسه ليل نهار.
Bog aan la aqoon
آخر مشهد لمحته عيناي قبل أن أحشر بين جثتي رجلي أمن قويين في تلك العربة، هو وجه شقيقي العائد للتو من نزهة قصيرة بسيارته البولندية البيضاء. رأيت علامات فزع ودهشة ارتسمت على محياه وهو يشهد السرعة الفائقة التي تم اختطافي بها. كانت تعابير وجهه تحكي إحساسه بأي معضلة وقعت فيها، ونظراته ترسل كلمات وداع ألجم الموقف لسانه عن النطق بها، كلمات وداع لمغادر لن يعود، وإن عاد فسوف يرجع بحمولة ثقيلة من الحزن والهموم لكل من يعرفه، وسيكون ذلك بعد انتظار صعب لزمن طويل وثقيل مشبع بالليالي الحزينة الطويلة.
قلدوني أساور هي مهر عرس الحرية الذي سوف أزف له، وقبلها أرجعوا المعصمين إلى ما وراء ظهري، ثم طلبوا مني أن أسير على هدى كلماتهم حين أنزلت من العربة بعد فترة وجيزة: «سر يمينا ... اذهب إلى اليسار ... اخفض رأسك.»
لا أعلم حتى اليوم هل كانت كلماتهم فعلا فيها أي موضع لنية صادقة لإرشادي إلى الطريق؟ طريق متعرج ملتو ما زلت أجهل أبعاده وتضاريسه ولم يتسن لي التعرف عليها أبدا، أم كانت بداية سخرية سأتجرع مرارتها كل السنوات المقبلة؟ نعم، كانت هي فعلا كذلك على الأرجح، كما كان هناك من بعدها ما يقارب العقد الكامل من السخرية اللاذعة. انتهى المسار بي إلى حجرة ما زلت أذكر - بل أعرف - كل تفاصيلها، وأستطيع وصفها بمنتهى الدقة، كما أني أيضا في المقابل ما زلت أجهلها بالمطلق؛ لأنها لم تكن سوى ظلام دامس ومقعد خشبي لعله كان مصطبة طويلة تتسع لآخرين، لم أجرؤ على التحقق منه فقد كنت مرعوبا ومرتبكا إلى حد كبير. لم ينقض الكثير من زمن ثقيل كانت كل لحظة فيه تسحقني بحمولتها من الخوف الشديد والقلق الكبير، حتى غطس وجهي في سيل صفعات، ثم توالت علي شلالا غزيرا. غرقت في وحلها وعلقت بي مخاوف شتى وهواجس. كان يخترق سمعي صراخ من بدأت حكايته قبلي، صوت ألم مبرح وعذاب شديد يخرج منه ليستقر في جسدي العشريني الغض. شرطي أمن يجلس بالقرب مني كان يضحك متشفيا وهو يستمع لتلك الصرخات، ويدس في روحي رعبا جديدا وهو يقول ساخرا: من ذاك المسكين الذي لم ألتق إلا صوته المعذب: «هل حان زمن الولادة أم أنها لا زالت متعسرة؟»
كان صدى صراخه وسخرية الحارس ينبعثان خوفا وارتجافا في ثيابي التي ابتلت بعرق فزع المواجهة الأولى، وما كان يعوزني لمزيد من التعرق مع قيظ آب اللاهب وطبيعة جسدي الخاصة الذي يتعرق حتى في أيام الشتاء الباردة سوى هذا الرعب.
سحبت بعد هنيئة إلى غرفة باردة بكل ما فيها، أجلست على كرسي حديدي ورفعت العصابة عن عيني لأرى قابيل منتصبا أمامي لأول مرة بزي عسكري، وقد رسمت على كتفيه نجمة يتيمة. هذه المرة هكذا رأيته وسوف أراه كل مرة بهيئة وصورة جديدة، وفي كل المرات ومهما تعددت الصور فإن له حقيقة واحدة لا تتغير، حقيقة شيطان. صور سوف تتكاثر مثل قنبلة انشطارية تأبى أن تتوقف عن التزايد والتكاثر حتى هذا اليوم. ويبدو أن لن يصرع الشيطان إلا في وقت معلوم حين نرحل عن داره إلى أرض ليس فيها غريزة.
ضحك الضابط الصغير برتبته وسنه وكل شيء فيه، ساخرا وهو يشير إلى هيئتي التي بعثرتها كفوف غليظة، ولمح بكلمات مقتضبة إلى تهمة تنتظرني. تهمة ترحل بصاحبها سريعا إلى موت شاع انتشاره بين الهامسين بحلم الحرية مثل طاعون أسود. لحظات قليلة مرت بعد بدء هذه المقابلة الأولى لأجد نفسي تحت الكرسي الذي كنت أجلس عليه، تمسك به يدا هذا الضابط الصغير، وبدأ يوزعه على جسمي النحيل بضربات متنوعة بكل ما أوتي من قوة لا يعبأ أين تقع.
في تلك اللحظة بالذات بدأت أجمع أجزائي التي فرقتها مفاجأة الوهلة الأولى وأستعيد وعيي الغائب. نفيت كل تهمة ألقاها علي، إلا أنه لم يكن معنيا بالأمر كثيرا؛ إذ ما كان كل هذا سوى ممر قصير إلى أماكن أخرى أشد رعبا وأكثر ظلاما، سوف أتنقل بينها قسرا. سوف تتغير مثل تغيير أحذية قديمة مهترئة بالية لا تصلح للانتعال، لكن أرغم على استعمالها مع اهترائها المفضوح وعدم جدواها السافر على الخوض بها في مستنقع شديد الوحولة.
قبل أن يكمل عقرب الساعة دورة واحدة كاملة لينهي الساعة الأولى على ما قدرته حينها، اقتادتني زنود شديدة جديدة، وهذه المرة غلفت عيني عصابة جلدية سوداء في طرفيها قطعة بلاستيكية لتكتم الرؤية عني بالكامل، إلى أن وصلنا إلى بناية عالية متعددة الطوابق تسلقنا أدوارها الكثيرة بمصعد كهربائي. العصابة التي كانت تحجب بصري ظلت متسمرة في مكانها هذه المرة كما هو الحديد الذي يجمع ذراعي وقيدت به إلى عمود أو شيء يشبهه، لا أدري ما هو، ولم يتسن لي أن أراه أو أن أتحسسه أبدا ولا حتى لوهلة واحدة، فقد حذرني أحدهم من الحركة أو أن أنبس ببنت شفة، وكنت فتى مطيعا، على أن حجب بصري لم يمنعني من تحديد الوقت بدقة، إنه ما بعد الساعة الرابعة عصرا. دلني على ذلك صوت مغن مشهور لا يجهله أحد، كان يلقب بالعندليب الأسمر، وكنت معجبا بصوته. كان يشدو مغنيا في فيلم الأسبوع الذي يعرض من بعد ظهر كل جمعة كالعادة الجارية حينها. كان يشدو بألم رقيق بفلسفة إيليا أبو ماضي، ويفوح عطر الوجع من تلفاز قريب، مرددا:
أين ضحكي وبكائي وأنا طفل صغير.
أين جهلي ومراحي وأنا غض غرير.
Bog aan la aqoon
أين أحلامي وكانت كيفما سرت تسير.
كلها ضاعت ولكن كيف ضاعت.
لست أدري.
انتابني وقتها شعور عميق وإحساس غريب بأن ما أسمعه هو نبوءة وليس أغنية أو شعرا. إنها نبوءة لعاصفة مدارية من ليال حزينة طويلة، سوف تلفني بعمودها الفارع في طوله كأنه يتحدى السماء، وتأخذني بعيدا إلى قلبها المظلم تائها حائرا لا أجد فيه سوى الفراغ لأتشبث به. لا، إنها ليست موجة من تشاؤم ولا هي نوبة تطير تمر على مسكين بائس قد بلغ به اليأس الزبى، ولا إنها نبات طفيلي لا جذر له نبت للتو على بركة الحزن. إنها نبوءة. هذا الشعور الغامض مثل شبح يرتدي قناعا ، آمن وصدق بالنبوءة واستقر راسخا في داخلي، وما زلت أتلمسه حتى اليوم في حناياي.
كان تصديقا مثل مكاشفة صوفي، بأن سنوات من ضياع طويل في غيبوبة جب عميق تنتظرني، بانتظار دلو ينزل علي من سيارة يسحبني ثانية إلى أرض الأخوة التي استحت من أفعالها الذئاب. لن تكون هذه النبوءة وحيدة، ولن تبقى مصادفة فريدة، بل ستظهر أكثر من واحدة تمد برأسها في عالم سريالي. عالم سريالي إنما ليس وهما ولا خيالا، بل هو الحقيقة الوحيدة التي سوف أعيشها وإن كنت لا أفهم مجراها ولا منطقها، وسيأتي الكلام عنها كل في حينه. قد لا أكون علميا أو واقعيا بنظر كثير، وحتى على خلاف طبعي في تفسير الأشياء وتعقلها، لكن لا يمكن لي أن أتجاوز هذه الوقائع الغريبة والمشاعر العجيبة فقط، لأني لا أريد أن أومن بالغيبيات أو بأحداث منتزعة من عالم الباراسايكولوجي. وجودها هو أدل دليل على حدوثها، ولأكن أكثر دقة وأقول: إنها قد حصلت مع هذه التفسيرات غير المنطقية مني وبهذه الأحاسيس الغريبة، لربما كل شيء وقع في صدفة محيرة، ومع ذلك فإنه قد وقع بالفعل، وحينما وقع آمنت به كما كنت أراه، وليس كما يجب أن أراه، ولأني عاهدت نفسي أن أكون صادقا فيما أروي وأقول، لا بد لي من الاعتراف وبغاية الصراحة: أني لا أقوى على تكذيب هذه الوقائع والمشاعر، وأعجز عن رميها بالصدفة والخرافة حتى هذا اليوم، رغم أن عقلي الرياضي يجحد التلازم بينها وبين ما جرى. الأمر بحاجة إلى ما هو أكثر من نفسي المضطربة الحائرة حينها لتفسيرها ولإصابة علتها الحقيقية، وأكثر من برودة المعادلات الرياضية التي لا تدرك سر العشوائية التي أنتجت بديع النظام.
جلست طويلا هناك إلى جوار العمود المفترض بسكون وهدوء تامين، ثم بعد تحقيق شكلي من تسجيل اسم ومعلومات أولية عن السن والوضع الاجتماعي والدراسي، قام باستجوابي عنها شخص لم أتعرف عليه. يبدو أنه لم يكن معنيا بنوع التهمة المزمع توجيهها إلي؛ لأنه كان يعمل بشكل إداري روتيني ليس إلا. أتى بعد ذلك شخص آخر اقتادني إلى أسفل البناية في المصعد الكهربائي نفسه. دخلت إلى معتقل يتكون من قاعة كبيرة وغرفتين وفسحة بين كل ذلك. بالطبع لم أر هذه الحجر حين دخولي لأول مرة؛ لأني كنت معصوب العينين، إلا أني رأيتها لاحقا. أركنت إلى حائط واتكأت عليه وصار موضع صغير مقابل باب إحدى الزنزانات محلا ليقظتي ومهجعي.
يداي سوف تستمر مقيدة للخلف ويحول بين النور وعيني تلك العصابة ذاتها، التي التصقت بها من هذا اليوم، ولأحد عشر يوما كاملة قادمة بلياليها. حتى عندما كان يقدم لي الطعام كنت أسحبه من الصحن في مشهد مدهش. كفاي مقيدتان إلى الخلف ترفعان ملعقة من حديد رخيص، وبالكاد تلامس شفتي أو تغرف شيئا من صحن الطعام، في عملية معقدة جدا لا يمكن تصورها وفق قوانين مرونة عضلات الجسم، إلا أن الحظ لم يكن سيئا تماما فقد كانت الوجبات مشبعة وجيدة الطبخ؛ طعمها ومذاقها لا بأس بهما، ولا يمكن لي أن أشكو منها، لم أقرف منها أبدا كما سأفعل بعد ذلك لدهر طويل مع الوجبات التي سوف أكره نفسي التي تعافها على تناولها مع أني في قادم الأيام سوف أتضور جوعا.
أي وجبة ستكون لذيذة المذاق تسكر الطاوي بريحها العطر، لكن رغم ذلك القحط والجوع لن أستسيغها، بينما وجبات هذا المعتقل الأول ومع أني كنت في أوائل أيامي من رحلة الخوف، ولا يخفى ما للأيام الأولى من خصائص أولها فقدان الشهية، بيد أني كنت أرى الطعام بحق لذيذا. المرة الوحيدة التي كنت أتحرر فيها من هذا المشهد الغريب، وأعني به ضم الأذرع إلى الوراء والعينين المعصوبتين كانت فقط حين يسمح لي بمراجعة الخلاء، أما ما عدا ذلك فلا. القيد والعصابة أصبحتا مفردتين ثابتتين في حياتي الجديدة.
الاستحمام كان ممنوعا، أو لنقل الحقيقة بوضوح أكثر أني لم أجرؤ على التفكير فيه فضلا عن طلبه، لم يكن معلوما عندي ما الذي يغضب الحراس الحانقين بلا سبب طيلة الوقت عما يرضيهم؛ لذا صار السكوت عندي وقتها معدنا غاليا للغاية، بل أنفس من كل المعادن والفلزات. صراعاتهم وشجاراتهم المستمرة فيما بينهم منعتني من التفكير في طلب أي شيء منهم، وحتى يفهم ترددي أكثر أذكر واحدا من أسباب شجاراتهم السخيفة التي كانت تصل إلى تبادل أقذع السباب وأفحش الشتائم. في أحد الأيام سحل أحدهم كيسا للخبز، واعترض عليه آخر رافضا أسلوب السحل؛ لأنه يريد أن يرفعه. اندلع بينهما شجار لم ينته إلا بوساطات من زملاء لهم وجهود تهدئة من آخرين، بعد أن وصل الأمر بينهم إلى حد الاشتباك بالأيدي، وامتلأ المعتقل صخبا بكل أنواع سب الآلهة والأديان. بالطبع في تلك اللحظات من الأفضل لأي معتقل أن يتحول إلى حجر صامت بلا حراك؛ لأن أي تأوه منه قد يجعله هدفا في مرمى النيران، ويتحول إلى كيس ملاكمة ينفسوا به عن غضبهم ويفضوا به اشتباكهم.
في يوم ما - وبلا سابق إنذار وبدون أي مقدمات - أغدق علي أحدهم إبريق ماء لأزيح عرقا تراكم علي من الخوف وحر الصيف وخنقة المكان المغلق الرطب لأكثر من أسبوع. لربما أزعجته عفونة ملابسي برائحة العرق المشبعة فيها في ذاك الصيف القائظ الذي ابتدأت به رحلتي. لا أدري ما الذي دفعه لهذا السخاء لربما تكون نفحة إنسانية منه، أو واجبا روتينيا عليه أن يقوم به. لم يستغرق الاستحمام سوى دقائق معدودة، لا تتجاوز حتى أصابع الكف الواحدة، كانت تكفي لإراقة الإبريق الصغير بعناية واقتصاد على كل زوايا جسمي وفي جميع الاتجاهات، بيد أني استغرقت بعدها وقتا أطول حين وقفت عاريا، حائرا بسؤال عسير الجواب، كشفته اللحظة ولم يرد بخاطري قبلها: كيف سوف أجفف قطرات الماء الملتصقة بجسدي الآن؟ طلبت منشفا من الحارس لفعل ذلك متشجعا بتسامحه وبكرمه المفترض، غير أنه رد علي بالضحك مقهقها باقتضاب، ضحكة اختلطت فيها الشفقة مع السخرية: هنا لا يوجد شيء اسمه منشفة.
Bog aan la aqoon
كان يدرك جهلي المدقع للأبجدية الجديدة، التي ما علمتني إياها أعوام المواظبة على الدروس، ولا الاستغراق في مطالعة أي حرف مسطور على قرطاس يقع بين يدي أو أمام ناظري. بعد الآن سوف تحتويني مدرسة أخرى تعلمني دروسا مقررة في منهج الصراع من أجل البقاء، دروسا سيفهمها كل بما يشاء، ستنتج مرة عريا فاجرا وتارة أخرى دثارا للأنبياء. دروس تسحق الكسالى البلداء وتسمو بغيرهم من أضدادهم فوق بعيدا إلى حيث تتوحد الأشياء بالأحلام.
كنت أسمع أصواتا عديدة لمعتقلين آخرين لا أرى أحدا منهم، وأجهل الذي يجري بينهم وعليهم. لم أكن أدري حتى أين أنا تحديدا (عرفت بعدئذ أنها مديرية أمن بغداد)، ولا أعرف شيئا عن تهمتي التي اعتقلت بسببها. وفي ضحى يوم سمعت جلبة وصخبا، أقدام حافية كثيرة تمر مسرعة مهرولة بالقرب مني، أبواب تفتح وأخرى توصد، وفحيح سلاسل يقرقع صوتها وهي ترمى على الأرض تارة وتارة أخرى تزمجر غاضبة حين تصك أسنانها على المعاصم. أعقب ذلك صمت مطبق وسكون قاتل طويل، بددهما زعيق حارس أمني بلهجة نهر وحنق وبطريقة فظة تنم عن خشونة صاحبها وقسوته: قم!
وقفت ممتثلا وشعرت بصوت مفتاح من ورائي يدور في القيد لتطلق يداي لأول مرة منذ اعتقالي، طلب مني أن أرفع العصابة عن عيني لأجد أمامي بابا مفتوحا يؤدي إلى زنزانة صغيرة خالية تماما، إلا من مجموعة بطانيات ركنت في زاوية وأخريات مفروشات على الأرضية الإسمنتية: ادخل!
أغلق الباب خلفي ورحل. شرعت أتلمس المكان مستمتعا بيدي الطليقتين مثل طفل ينتشي برؤية لعبة جديدة لأول مرة، عيوني ساهية تسرح في فضاء صغير، لكنه بعد أيام سيكون من أرحب ما سوف تراه عيناي لسنوات عديدة. كان الوقت طويلا ثقيلا مملا جدا؛ إذ كان علي أن أنتظر فقط، وماذا أنتظر؟ لا شيء. الأمر يبدو مثل حبل سائب لا نهاية له أبدا، وأصبح رأسي خاويا من الأفكار تماما، إنهم لا يتحدثون معي بأي شيء أبدا، ولا حتى يتهموني بشيء، صار الأمر كأنه لعبة عبثية قاسية. صرت أذرع الغرفة في كل الاتجاهات، أجول بنظري على الجدران، أتفحص أي شيء فيها، وأحدق طويلا في الأرض والسقف. قرأت كل أبيات الشعر والأسماء المحفورة على الجدران؛ ومنها عرفت أفكار بعضهم وتهمة آخرين ممن سكن هذه الزنزانة قبلي.
كنت أشم رائحة الموت الذي ابتلعهم، كانت كلماتهم تنم عن تحد لمستقبل مجهول تشاءموا من ملاقاته ولم يجدوا بدا من مواجهته بشجاعة بدلا من الهزيمة والانكسار. لربما هناك آخرون أحبطوا وانكسروا أو عجزوا أن يتركوا أثرا، وهذا هو حال الدنيا هي وكل ما فيها يفنى. إنما يخلد الشجعان، والمهزومون لن يتبقى منهم شيء، بل يصيرون عدما لأنهم خواء.
2
بعد أحد عشر يوما بالتمام والكمال وبدون أن أعرف منهم لماذا اعتقلوني، ولماذا لم يتحدث معي أحد طيلة هذه المدة، بدأ فصل جديد. هذا الفصل سبقته رؤيا غريبة رأيتها. فزعت من نومي هلعا في إحدى الليالي بعد أن رأيت إحدى شقيقاتي تبكي وهي تودعني؛ لأنه قد حكم علي بالسجن المؤبد لمدة عشرين عاما. عندها انتابني شعور ملأ تمام روحي بأن ما رأيته لم يكن أضغاث أحلام، بل نبوءة مستقبلية قوضت كل أحلامي باستعادة الحرية. لست أدري هل هي نوع من المصادفات أو أنها تدخل في علم الباراسيكولوجي، لست متأكدا من أي شيء، إلا من أمر واحد، إحساسي بصدقها كان تاما في شعور غريب لم أجد له تفسيرا أبدا.
بعد انقضاء هذه المدة، أعني الأحد عشر يوما، اقتادوني في نهار معصبا مكبلا إلى الخلف كالعادة إلى مركبة حديثة ذات دفع رباعي، طلبوا منا أن نخفض رءوسنا وأن نجلس راكعين، ومن أصوات الزجر الفاحش وبذيء القول المستدام على ألسن من يقتادنا، علمت أن هناك من يقاسمني الرحلة هذه المرة، وأننا نتجه للمرور بمخاض صعب جديد.
المسير في هذه العربة كان بعيدا هذه المرة، وما إن تجاوزنا بوابة كبيرة عالية بنيت حديثا شمال العاصمة العريقة التي طالما تغنى بها الشعراء وامتدحوا سحرها، إلا أنهم لم يذكروا يوما في قصائدهم هذا العالم السفلي الذي ابتدأت أخوض في بحر ظلماته؛ بحر لجي كنت أعمل بالضد منه خشية الطوفان القادم منذ وقت مبكر في مقتبل عمري، منذ أن كنت تلميذا حاولت جاهدا أن أكشف الغطاء عن خطره الداهم في كل فرصة تسنح لي سواء مع زملائي في الدراسة أو مع من كنت أتعرف إليهم. كان التحذير من كارثة أمواج خطره العالية القادمة لا محالة، يشكل هاجسا رئيسيا في كل أحاديثي الشخصية. لم أكن معنيا كثيرا بنشر فكر معين رغم انتمائي له بقدر ما كان محور عملي واهتمامي الأساسي هو رفض سياسة القمع وتكميم الأفواه وحساب الأنفاس التي كان يتبعها النظام بأسلوب قمع فاشي.
كنت أرى - وما أزال - في ذلك التيار السياسي فكرا يحمل صرخة تعبر عن ضمير الإنسانية المعذب، ويسعى لحل مشاكل هذا العالم بما يحقق من إنسانية الإنسان، إنما لسوء الحظ لم ولن يخلو أي تيار إصلاحي يرفع راية الإنسانية من جموع الانتهازيين وطلاب السلطة ومن الضعفاء وقليلي الإدراك والوعي لقيمة ما يحملونه وينتسبون إليه. وجود هؤلاء بالتأكيد يشوه جمال الأفكار في كل مرة عبر التاريخ، ويحبط نوايا الثوار ويصادر أحلامهم بعالم حر تتساوى الفرص أمام جميع أفراده. أحلام يناضل لأجلها الثوار ويقدمون في سبيلها التضحيات بلا تردد، ويسترخصون دماءهم لها ويجعلون من رقابهم جسورا تعبر الإنسانية عليها إلى شاطئ أكثر أمنا ورفاها.
Bog aan la aqoon
لم يكن انضمامي للعمل السياسي الحزبي تأثرا بالآراء السياسية أو الفلسفية إلا هامشيا، الدافع الحقيقي كان توفري على خاصية لعلها تميزني عن بعض ليس بالقليل من أقراني، وهي الحساسية الشديدة من غياب الحرية؛ حساسية لم تزل تؤرقني وهي سبب رئيس لكل مواقفي تجاه الأحداث والجهات والذوات والأفكار.
أريد أن أعيش كإنسان حر وأرفض بقوة كل ما ومن يمنعني من ذلك، ولربما أصدق ما ينطبق على سلوكي وتصرفاتي هو ما قاله مكسيم غوركي: «جئت لهذا العالم كي أحتج.» وبالفعل هذا كان سببا مزمنا لانخراطي في كل النشاطات السياسية، وأيضا كان سببا حاسما في مروري بهذه التجربة المريرة. لم أزل غير آسف على مروري بها ولا أشعر بالندم عليها بالمطلق، ولن أبالغ لو قلت: لو قدر لي أن أعود بالزمن ثانية أو صادفني موقف مماثل مستقبلا لوقفت الموقف نفسه بلا أي تردد. الفارق الوحيد سوف يكون في زيادة الخبرة التي منحتني إياها الأيام الطويلة التي عشتها لحد الآن ومع ذلك لم تقو على قطع رأسي رغم فداحة آلام التجربة الكبيرة والمريرة. خبرة بلا شك يمكنها أن تجنبني كثيرا من فخاخ رجال الأمن السياسي وأيضا سوف تعفيني من مصاحبة الخونة والضعفاء.
ما إن تجاوزنا بوابة بغداد الكبيرة حتى سمح لنا بأن نرفع رءوسنا وأزيحت كاتمات النور عن بواصرنا. تبادلنا نظرات في دهشة وحيرة معا؛ إذ لم يكن هذا اللقاء الأول بين هؤلاء المكبلين بالقيود المحشورين في هذه العربة، ولا هو القاسم المشترك الأول بين بعض منا، بل سبقه في ذلك عدة لقاءات؛ لقاءات إما كانت جلسات فكر واحد يجمع بعضنا، أو لقاءات أخرى خاصة كان يسودها جو التمرد على الأعراف والمألوف من التقاليد والعادات، جو الثورة على الأوضاع السائدة.
انطلقت أسئلة كثيرة في سرنا مثل حمم بركان هائج: لماذا نحن هنا؟! وما الذي يجري؟ كيف تمكنوا من جمعنا هكذا بدون أن يتنبه أحد لمخططهم؟ كنا نتوقع الاعتقال في يوم ما، وأعددنا لذلك خطة سهلة تحسبا لذلك اليوم الموعود، إذا ما تعرض أحد رفاقنا للاعتقال. ولتجنيب الآخرين المصير نفسه، يمنح المعتقل فرصة ثلاثة أيام بلياليها للصمود أمام المحققين الأمنيين، ريثما يجد رفاقه ملاذا آمنا للاختباء فيه أو الهروب. لكن ما يحصل الآن هو أننا وقعنا في شرك جماعي بلا أي تنبيه أو جرس إنذار.
السؤال ظل حائرا يتنقل بيننا في نظرات مشتتة نختلسها بعضنا من البعض الآخر لمئات الكيلومترات، على طوال تلك المسافة بين مدينتي المدورة عاصمة وطني التي ترعرعت فيها أنا وآبائي؛ مدينة تحتضن ألما أزليا منذ يوم نشوئها، وبين مدينة أخرى قضيت فيها بعضا من سنوات طفولتي ودراستي الجامعية، مدينة حدباء لعلها احدودبت حزنا على العاصمة المعجونة بالألم طوال الدهر.
لم يوقف تشتت الأفكار ولحاقها العبثي بسراب الإجابة، حتى تلك الوقفة القصيرة عند مطعم شعبي على قارعة طريق عام في مدينة الملوية الشهيرة سامراء. وقفة كانت تكفي لتناول وجبة غداء أتى بها نادل شاب. ما زلت حتى هذا اليوم أحفظ الدهشة التي ارتسمت على وجهه ، وكيف جمدت كل عروق وجهه في وجل وانبهار، وهو يرى ملاعق تمسكها معاصم مقيدة من خلف الظهور ترفع الرز المخلوط بالفاصوليا العراقية (يابسة)، ثم تنحني إلى هذه الملاعق أفواه تسحب ما فيها في مشهد من كوميديا سوداء.
عندما وصلنا إلى حيث كانوا يريدون لنا أن نصل من المعتقلات - وهو مديرية أمن نينوى - كان طرف الليل قد امتد وغطى كل أحياء المدينة التي تجولنا كثيرا في شوارعها وأزقتها الصغيرة، وارتدنا مقاهيها وملاهيها ومسارحها ومكتباتها يملؤنا صخب الشباب وحيوية الثوار. عندما اقتربنا من مشارف المدينة كانت عتمة الليل قد نزلت بثقلها على الشوارع، ومع عودة الخرق من جديد تضاعفت ظلمة الدنيا حلكة وزادتها اسودادا، لتغطي العيون الهائمة والنظرات التائهة التي كانت تواصل إبحارها في يم المجهول والتيه بحثا عن تفسير لما يجري.
ارتقينا سلالم كثيرة بحث كثير ونهر لا يتوقف من رجال الأمن إلى أن بلغنا فسحة في طابق علوي، رأيتها فيما بعد وكانت شاهدا للحظة كان يمكن لها أن تكون نقطة تاريخية وعلامة فارقة سوف يأتي الكلام عنها لاحقا. الردهة كانت تتوسط غرفا ضيقة كما رأيتها فيما بعد وتعرفت على جغرافيتها، أما الآن فلم أكن أدرك أبعادها ولا أين نحن بالتحديد؟ باعدوا المسافات بيننا قليلا على خلاف مشينا السابق، حيث كان يمسك أحدنا بالآخر ونحن نسير صعودا على السلم. أمرنا بالبقاء وقوفا، وفي أي حال لم يكن لنا أن نختار هيئة سواء من وقوف أو جلوس ولا حتى النوم، ليس في هذه اللحظة فقط، بل لسنوات طويلة متوالية، سيكون ذلك بمشيئة غيرنا في أغلب الأحيان وتبعا لتعليمات جائرة لا يحكمها قانون ولا نظام تتغير بحسب تغير مزاج شرطي يعاني مللا من علاقة عاطفية أو فشلا بها أو مصاعب في العمل لا يعرف حيلة لتيسيرها.
وقفنا بصمت في الردهة لدقيقة أو دقيقتين أو أكثر بقليل من وقت لا أذكر مقداره الآن، لكنه كان قصيرا جدا لم يستغرق سوى انتظامنا في الوقوف لا أكثر من ذلك. ثم فجأة تحولت أجسادنا إلى كيس ملاكمة يتلقى مهارات رجال الأمن المدربين جيدا على فنون القتال. لم يكن بإمكان أحد منا توقع الضربات القادمة إليه بقصد أو التائهة منها، ولا رؤيتها. ولم تكن أمامي من وسيلة للدفاع سوى تكوير جسمي، إلا أن ذلك لم يساعدني كثيرا ولا أوقف ترنحي بسبب زخم الضربات وقوتها. الأرض بدأت تدور بي وصارت هشة لا يمكن الوقوف عليها وتحول الترنح إلى نوبات سقوط متكرر.
كنت أحاول في كل مرة أن أعاود النهوض لكن ببطء لعل ذلك يؤخر من اندفاعهم نحوي، قبل أن أهوي تماما في مرة أخيرة منزوعا من أي قدرة أو قابلية على القيام مجددا؛ سقطت على بلاط بارد لتبدأ بتقليبي عليه أحذية صلبة رفسا برءوسها المدببة. لا أظن أن أيا من أصحابي كان وضعه أفضل مما كنت عليه، لكن لم يكن لي شغل بهم ولا كنت حتى أشعر حينها بوجودهم، اللهم إلا حين تند منهم صرخات فزع وألم. كان الأمر باختصار كل في شغل عن غيره وكل يصارع لوحده وحوشا ضارية كاسرة انفلتت من عقالها فجأة. أحسست أن الكون خلا من كل شيء حتى من صانعه، ولم يتبق فيه إلا أنا وهؤلاء القتلة، لم يكن هناك من شيء يمكن التقاطه والتشبث به، رأسي أصبح خاويا تماما كأنه قطعة فضاء خارجي لا يمكن له حتى أن يرجع الصدى.
Bog aan la aqoon
التصق جسدي تماما بالبلاط ولم أعد أملك شيئا من قوة أو قابلية، سوى التقلب عليه حين يضطرني الأمر تفاديا للركلات المتلاحقة، مضافا إلى انهيار قواي بالكامل. كان القيد الجامع قد شل يدي بالكامل؛ فقد انزلقت السلسلة إلى الآخر أثناء العراك من طرف واحد، واستحكم التصاقها بالمعصمين حتى صار ذراعاي كأنهما جزء من ظهري. لم تتوقف الحفلة السادية هنا، بل وثبت فوقي أجساد بعضها كان ثقيلا جدا وأخرى ليست كذلك مع أنها جميعا كانت تتميز برشاقة الحركة وخفتها. كانوا يقفزون بشكل متناوب فوق أي موطأ تجده أقدامهم على جسدي، لا يميزون بين وجه لي أو قفا. أكاد أجزم، رغم كل ما سوف يقرأ من هذه الأسطر ويستعظم حصوله علي، وقد لا يصدقه البعض أو يظنه مبالغة أو أمرا لا يمكن لبشر أن يتحمله. أجزم بأني كنت محظوظا جدا فكثير ممن عرفتهم في تلك الزنزانات ورأيتهم فيما بعد قد نالوا أضعاف ما نلت من الأذى والعذاب، إنما للأسف لم يرووا حكايتهم بعد.
تمر ساعات طويلة ولا تكف الأحذية عن الاصطدام بجسدي ركلا وتقليبا بين الحين والآخر. أوشكت تماما على الانهيار وبلوغ مرحلة الإغماء لولا بعض استراحات قصيرة بين فينة وأخرى. بالتأكيد لم تكن هذه الاستراحات لخاطرنا، بل لخاطر أصحاب الأحذية المدببة ليشربوا شايا ويأكلوا معه كعكا أو بسكويتا. كنت أسمع صوت جرشه تصكه أسنانهم وهو يختلط بسباب وشتائم لم تتوقف أبدا، كأنها جزء من زادهم اليومي أو هي الأوكسجين الذي يستنشقونه ليبقوا على قيد الحياة. هوسهم السادي لم يفتر حتى في هذه الفواصل القصيرة من الاستراحة كما كنت آمل وقتها بتوقفه؛ مثلا لم يعجب أحدهم أن يستمر في شرب الشاي وإكمال القدح الذي يمسكه بيده فسألني: «هل تريد شايا؟»
لم أرد عليه لأني كنت أعلم يقينا أنه لا يسألني، بل يدبر أمرا ما استهزاء بي. لم يخب حدسي ولا كذب ظني؛ فقد سكب بكل هدوء ما تبقى من شاي ساخن في قدحه على فروة رأسي. ولسوء الحظ كنت قد زرت الحلاق قريبا جدا قبل حفلة العبث هذه، ومن عادتي - كما هي حتى اليوم - أن أخفف شعر رأسي كثيرا. الشاي يقدم عادة في بلدي في قدح والسكر يكاد يملأ نصفه، لم تكن هذه العادة تعجبني أبدا من قبل ولا الآن وهو ينزل على رأسي. الشاي سوف يبرد بعد ذلك مهما كان ساخنا، لكن ماذا سوف أفعل بكمية السكر الكبيرة التي تغلغلت في فروة رأسي. بقيت أشعر بالدبق واللزوجة منها لوقت طويل جدا ثم صارت موئلا مثاليا لكثير من الهوام والحشرات التي يزخر بها المعتقل، خصوصا أن الاستحمام غدا واحدا من الأمنيات المستحيلة لزمن طويل، بل لدهور.
بعد انتظار طويل، وكم كان من انتظار مقرف؛ لأني كنت أنتظر أن يأتي اللاشيء أو الأسوأ. أنتظر مجهولا إن أتى لن يحل مشكلة، بل سوف يفاقمها ويزيدها تعقيدا وسوءا. ومع ذلك كنت أوهم نفسي أنه من المحتم علي ترقب المجهول وانتظاره؛ لأن قدومه سيضع نهاية لهذا الإرزاء والازدراء الذي غمرت به وغطست فيه عميقا نحو قاع بلا قرار. وهم شبيه بانتظار من لا يأتي أبدا رغم كل أوهام المنتظرين له، انتظار ابتدع صورته العجز حين يتملك صاحبه، ويقرف منه فيتذاكى على نفسه ويشحن ذهنه بخيالات وإبداعات من صنع أوهامه، ويبحر فيها بعيدا بلا شراع ولا دليل يتبع خطاه مصدقا واثقا أنه بها يمسك حبل نجاة ينتهي طرفه الآخر عند بر النجاة والأمان، ولا يدري أنه طرف حبل سائب يسحبه إلى عرض يم لا متناهي الأطراف من العجز والشلل والانغماس في فضاء أحلام وهمية. أبواب النجاة لن تفتح لوحدها، ولن تسير إلى أي أحد، من يرد بلوغها فعليه أن يسعى إليها ويطرقها ويفتحها عنوة إن أبت، وبالتأكيد لن يصل إلى باب الخلاص عاجز مشلول، بل يبلغها الساعون إليها ويطرق بابها السائرون نحوها وهم فقط من يفتحها.
وصل ضابط كبير (ع. ع.)، وبدأ يطلب الموجودين بالأسماء واحدا تلو الآخر. رأيته كتلة لحم ضخمة تشوبها حمرة مختلطة ببياض ترشح عنفا وتقطر قوة وتفيض قسوة. سألني بضعة أسئلة تقليدية: اسمك، عمرك، تحصيلك الدراسي، ومن أي محافظة أنت، وأسئلة أخرى لا قيمة لها نسيتها الآن، وبادرني بسؤال يستدعي الضحك والخوف معا: «هل آذاك أحد؟»
لم أعرف بماذا أجيب عن هذا السؤال، هل يجهل جوابه فعلا وهو يرى حالي المبعثر بعد معركة خاسرة آثارها ترتسم على كل شيء في وعلي؟ أم أنه يبالغ في السخرية، أم أنه يستفزني لخوض نزال جديد؟ أم هو سؤال عبثي هكذا درج على لسانه بلا تفكير؟ وأيا كان الجواب فقد كان من الأجدى، بل من اللازم والواجب علي تجاهل مثل هذه الأسئلة؛ لأن الإجابة عليها قد تحول المسار إلى سكة جديدة لا تحمد خواتيمها ولا تحسن عقباها، وأي عقبى تؤمل بعد هذا الاستقبال الحار؟!
ويبدو أنه بالفعل لم يكن معنيا بالإجابة؛ لذا لم يعلق على وجومي وإطراقي، بل أمرني هادرا بالانصراف بلهجة وعيد ببطش وتهديد بأزرى مما لقيت حتى الآن. - اذهب ارتح اليوم وغدا سنبدأ معك الكلام.
لم أفهم أي شيء من كل ما حصل رغم نشوتي الداخلية بأمر الانصراف، والتي ربما ارتسمت على محياي المبعزق. وفي طريق الانصراف ألححت على نفسي بسؤال ساذج كنت أحسبه جوهريا، أين هو الاتهام الموجه لي؟ ولماذا إذن كان تسونامي الرفس واللكم والهراوات؟ هل حقا ستكون التهمة الموجهة لي كما كنا نقول ويقال لنا كثيرا: أن النزوة المجنونة في أن تكون إنسانا هي من أكبر الجرائم وأخطر التهم في جمهوريات الخوف؟
إنهم لا يبحثون عن شيء، بل يريدون وأد الفطرة الإنسانية التي إن طلت على صخب هذا العالم ونما برعمها قليلا، استفز تجبرهم وتيقظ استكبارهم وارتجف الطغاة وعبيدهم جنونا، وطفقوا يغرفون من ظلمة بئر الموت أنواع القسوة لمحوها. لو أصاب العث الشجر وفسد الثمر فإن الزاد والقوت لا يؤخذ إلا من السليم، وبهذا النزر القليل من الثمر تواصل قافلة الوجود سيرها السرمدي، وسيذهب العث مهما كثر إلى المزابل هو وجميع الثمر الفاسد.
3
Bog aan la aqoon
على سلالم كثيرة أنزلت إلى سرداب تحت الطابق الأرضي في زنزانة انفرادية، عرضها أقل من ثلاثة أرباع المتر، وطولها يكاد يضاهي طولي ذا الأقدام الستة، كنت وأنا أفترشها متمددا تصل أطراف أصابعي إلى الباب، ورأسي يلتصق بآخر الجدار، ارتفاعها لم يكن يجدي المرور من تحته إلا بانحناءة قصيرة مني لأدخل مسكني الجديد، انخفاضها الشديد دون غيرها سببه سوء طالعي؛ إذ إنها واحدة من زنزانتين تقعان تحت سلم.
زنزانتي هذه كانت نزل الحرية الوحيد في هذا العالم المستعبد من أباطرة القوة والجشع؛ إذ كنت أختلي فيها بعيدا عنهم وأعتكف معيدا ترتيب أفكاري. فضاؤها كان مملوءا حد التخمة المفرطة بالظلمة ومعه صار الليل كسوتي وردائي. ليل لم يعد ينجلي ويهبط كما كان، بل صار مكتنفا هناك معي يأبى المغادرة، لكنه جاء لا قمر معه ولا نجوم. عيوني تتنقل في الظلمة وتأخذ من خيوطها شعاعا أبصر به الأشياء. باب الزنزانة الحديدي السميك يقيده أكثر من مزلاج وتغلقه أقفال ثقيلة من الخارج. في الجزء العلوي من الباب توجد كوة صغيرة موصدة هي الأخرى دائما إلا حين يدلف منها صحن عميق أو بالأصح إنه طشت بلاستيكي صغير مخصص للأكل رسميا، وسوف أكتشف له استعمالات أخرى لم تكن لتخطر على بالي بالمرة، ولن يمكن لأحد توقعها أبدا لأنها مفاجأة عجيبة في زمن الثورة الجميل. الزمن الجميل! كما يسميه فاقدو الذاكرة، يتبعون في ذلك مرضى القلوب ومروجي الجريمة.
صرير صرصور لا يفتر كان يمزق سكون الظلام الذي يغطيني، وبسذاجة بالغة فتشت كثيرا عن هذا الصرصور المزعج بالغ الثرثرة، متحسسا في الظلام كل زوايا الزنزانة لعلي أحظى بساعة نوم بعد هذه الرحلة الشاقة الطويلة، ومن سخونة الاستقبال العنيف الذي لقيته. في النهاية لم أجد الصرصار ولكن اكتشفت أني أبله كبير كما ظهر لي خبث الجلاد؛ إذ لم يكن هناك أصلا من صرصار. لم يكن سوى صوت لا أعرف من أين كان يطلق ولا كيف. كل ما خمنته - وصحيح كان حدسي هذه المرة - أنه موكل رسميا بأن يقض مضجعي ويسلب راحتي.
إيه، إني لأبله حقا إلى حد الضحك فعلا! كيف لي أن أتحدث عن شيء اسمه الراحة في هذا الثقب الأسود. لو قلت كلف بأن يجعلني في توتر لا يسكن لأنصفته؛ لأنه قد فعل.
التقيت فيما بعد ذلك أشخاصا آخرين صادفوا أساليب أخرى تجعلهم مستيقظين دائما مفتوحي الأعين، لا تجرؤ أجفانهم أن تسدل على بواصرهم وإن لهنيهة واحدة. روى لي أحدهم أنهم كانوا يدخلون معه في الزنزانة عقربا صغيرا، ويهددونه بالويل والثبور وأنه سيرى نجوم الظهيرة إن مسه بأذى أو قتله. فسخر كل اهتمامه لتجنب الاحتكاك به. وكان يدور حوله مثل ثور في ساقية طوال الوقت في الزنزانة، إلى أن اكتشف فيما بعد حين لم تعد قيمة لاكتشافه أنه عقرب لا يلدغ، وإن فعل فإن لدغته غير ضارة ويستعمل لإرهاق المعتقلين وتدمير أعصابهم. هذا الاكتشاف المتأخر من قبلي كان مثل اكتشاف صاحبي غير ذي نفع، بل كان مضرا؛ لأنه لم يقلل من توتري، بل أعطاه زخما أشد ودفعا أقوى، لأني صرت أراهم بعين اليقين يتلاعبون بي، وأن كل الأشياء مسخرة لهم مثل سليمان، حتى الشياطين تجثوا عند قدميه وتتملقه للفتك بأعدائه، وصرت أرى ملكهم عظيما كبيرا كأنه بحر ظلمات، لست فيه سوى ورقة ذابلة أصابها البلل.
افترشت الأرض الإسمنتية بعد أن أنهكني التعب تماما والتحفت الظلام متوسدا حذاء رياضيا كنت انتعلته. جفناي عجزا عن الإغماض قلقا، وحين كانا يسهوان عن هذا القلق لوهلة أنزلق بغفوة قصيرة، سرعان ما يذبحها طنين الصرصور ويوقظها تدارك الغفلة عن القلق.
اقتحم النهار الزنزانة من فتحة الباب العلوية وهي تنفرج ليلج منها صحن يضم حساء عدس. دقائق قليلة بعيدها فتح الباب وهذه المرة سبقت فتحه أصوات قرع رهيب لسلسلة مفاتيح ضخمة، وانتصب أمامي رجل أمن (أبو أ.) بزي عسكري وسمرة لافحة من صنع شمس صحراوية خلفت على وجهه قسوة وغلظة وجفاء. أمرني - بزجر وبقليل من كلمات فاحشة - بالخروج لقضاء حاجتي وغسل طشت الطعام، حتى تلك اللحظة لم أكن قد توصلت إلى إدراك المدى الذي بلغته القسوة، ولهذا واصلت بلاهتي وسرت الهوينى كعادتي المألوفة وعادة البشر بالمشي. إلا أن هراوة متصلبة في كفوف وحشية ترعد مزمجرة هوت علي بقسوة. بهت حينها مثل تلميذ بليد حتى صرخة الوجع لم تكن منها كلها، بل منبعها الحقيقي كان الفزع من المفاجأة، وهو أكثر بكثير من الألم من قساوتها. مفاجأة لقنتني درسا جديدا في كيفية السير الحثيث في معتقلات دولتنا الثورية.
عدت إلى زنزانتي - وطني الجديد - خائبا، فلا أنا الذي غسلت الطشت ولا أنا فعلت ما كان علي فعله من قضاء حاجتي، إلا بتساؤل أحمق جديد، هل حقا أنهم يظنون هذا الوقت القصير يكفي لأداء كل هذه الوظائف؟ علي أن أعترف الآن أني كنت حتى تلك اللحظة أحمق شديد البلاهة ومثلا قياسيا في الغباوة. كنت أسأل نفسي أسئلة تثير الضحك والشفقة لسخافتها وسذاجتها. كل شيء كان معدا ليذيقوا المعتقل السياسي به الذل ويحاولوا تحطيم شخصيته، سحقها، وإشعاره بأنه لا شيء. لم يكن الحرس يفعلون ذلك لفطنة عندهم أو لأنهم يتوفرون على قدرة في ممارسة الحرب النفسية. كانوا أغبياء جدا لا مواربة في ذلك ولا شك، إنما الطريقة التي رسمت لهم لأداء أدوارهم كانت تحقق ذلك، حتى هم أنفسهم لم يكونوا يدرون ماذا يفعلون. مثلا سلسلة المفاتيح كانت تصدر أصواتا مزعجة مهما جهد حاملها في التكتم عليها، لكن صوتها عندما يقترب كان يشبه فحيح أفعى سامة تنتصب أمامك وتحملق فيك بعيون جامدة استعدادا لافتراسك، وأنت تقف أمامها تنتظر أن تبتلعك في أحشائها مشلولا من نظراتها حتى قبل أن تلدغك ويسري سمها في جسدك.
دقيقتان ليس غير، هو الحد الأقصى لقضاء الحاجة حين يسمح بخروج المعتقل لممارستها، ويقف على منحنيات الطريق المؤدي إلى المرحاض رجال أمن بعصي غليظة يضربون بها أي سجين يمر؛ زعيقهم متواصل عليه، إن ركض في الممر أو صعد السلم القصير الموصل إلى خلاء ضيق بلا باب. وحتى إن كان داخل المرحاض يقضي حاجته لا يتوقف الزعيق والسباب، مما جعلني ويجعل أي معتقل في توتر دائم وإحساس كامل بالضياع، أضحيت مثل تائه يدور ويدور ليسقط دائخا وينهض ثانية ليعاود الدوران حول عمود التلاشي، وهكذا إلى حد لانهاية له كأنه سيزيف يدفع صخرة زيوس.
والداي كانا يفخران بي دوما بأني ذكي سريع التعلم ولم أخيب ظنهم هذه المرة أيضا، فقد هضمت الدرس حتى الثمالة، وانفجرت البراغماتية والانتهازية عندي بأبشع صورها داخلي لاستثمار الفرصة الزمنية الخاطفة لاحقا. كان قراري سريعا وجريئا أيضا؛ قرار طويت معه كل ترف العالم الخارجي في كون ميتافيزيقي لا يشبه ذاك الذي كنت أسكنه قبل أسبوعين بأي وجه. عالم ولجت فيه بغتة كالموت الذي يرحل بالأرواح إلى عالم آخر لا يمت لعالم الدنيا بشيء إلا في مسألة واحدة، إن الروح سكنت فيهما معا. أبحرت سريعا في هذا العالم السريالي الجديد وصارت خطتي بعد الأكل في الوجبات اللاحقة أن أقضي حاجتي في الصحن ذاته إن كنت مضطرا لذلك، ثم أغسله منها ومن بقايا الطعام حين يطلب مني الخروج لقضاء الحاجة في تلك الدقيقتين، وبذلك أهزم جلادي وأستغفله. كانت خطة ناجحة بالفعل وكافية لأن أغسل الطشت حين فعلت ذلك فيما بعد، بل حتى إني كنت أغسله وأنا أترنم بأغنية قديمة حفظتها من أيام المراهقة. شعرت بالزهو لقراري وقلت لهم في ضميري: سأنتصر عليكم أيها الأوباش، ولن أخيب صديقي ناظم حكمت.
Bog aan la aqoon
إنهم لا يدعوننا نغني، يا روبسون.
يا كناري، الذي له أجنحة النسر.
يا أخي الأسود ذو الأسنان اللؤلئية.
إنهم لا يدعوننا نجلجل أغانينا.
إنهم في خوف يا روبسون.
إنهم يخافون الفجر، يخافون أن يبصروا.
يخافون أن يسمعوا، يخافون أن يلمسوا.
إنهم يخافون أن يحبوا.
4
في الليل عندما تكف الشمس عن ملاحقة الوقائع وأشخاصها، تدخل العتمة بكل ثقل ظلمتها لتفتح أبوابا لأحداث رهيبة تجري في غرفة معزولة في الطبقة الثانية، لمبنى كان يدير قفاه لقاعة جميلة يجتمع فيها الكثير من الحالمين. قاعة «ابن الأثير» عند الساحل الأيمن من الموصل، كنت أرتادها مع صحبي كثيرا، نحضر فيها عروضا مسرحية وحفلات موسيقية أو غنائية، ولم يدر بخلدي يوما أني سأقابلها في بناية جياشة بكل هذا العبث المجنون.
Bog aan la aqoon
لم يتسن لي أن أتفحص ملامح هذه الحجرة الرهيبة أبدا؛ إذ حال عني ذلك عوازل غلفت عيناي كالمعتاد، لكني لمست كل ركن وزاوية فيها بآلامي وصرخاتي، وبدمائي التي صادفت جدرانها تروي لها شيئا من مشاعر متلاطمة كانت تتوزع بين ألم من عذابات تجرعتها، ومن شفقة على جلاد كان يرهق من إيقاع العقوبة بي لجرم ارتكبته بإدمان، وما زلت أفعل حتى اليوم بالزخم عينه؛ جرم شبق الحرية والإصرار على بلوغ قيم الإنسانية إن لم يكن في حدود العالم الذي أقطن فيه، فعلى الأقل في حدود نفسي. لم ولن أتنازل عن ذلك أبدا، وإن قدر لي التنازل يوما ما عنه، فالموت حينها خير لي من الحياة؛ لأني أكون قد مت فعلا.
في الليل اقتادوا أحد الرفاق إلى حيث لا أدري (وقتها لم أكن قد تعرفت بعد عليها ولا هي عرفتني)، وتبين فيما بعد أنها الغرفة العلوية المقصودة التي سوف أكون ضيفا مدمنا عليها. بعد ساعات عادوا به ثانية، كان صدى ألمه يشق كثبان الظلام، ويحفر أخدودا في صخر الضمير الإنساني المعطل. انتابتني رعشة خوف غريزي من مواجهة الألم وتزايد خوفي وهلعي، وأنا أنصت إليه وهو يطلب من السجان أن يرفع عن عينيه الخرقة التي تعصب عينيه؛ لأنه بات عاجزا عن رفعها. يا للهول! ماذا فعلوا به فأضحى لا يقوى على إزاحة عصابة يمكن حتى للطفل الرضيع أن يرفعها؟ سؤال وجهته لنفسي، لخص كل الخوف الذي انتابني وقتئذ، حينها سرت في قشعريرة أرجفتني وصرت مثل سعفة صغيرة وقعت في مجرى ريح مدارية.
ازدحمت مخيلتي بصور لم أشاهدها بعد، يكسوها ثوب واحد هو القسوة المفرطة؛ قسوة استحكم الفشل في إيجاد أي عذر لها أو تبريرها، وإن وجد أصحاب السفسطة والجدل الفارغ ذريعة في كل مرة لهذا العنف البهيمي الذي يتمثل على أيدي من يعدونه بشرا، أو ينسبونه ظلما زيفا وزورا للبشر، وهو فعل لا يليق إلا بوحوش أسطورية من صنع ساحرة شمطاء تسكن خربة مهجورة مأوى للخفافيش طيور الظلام.
جاء دوري أخيرا، صعدت سلالم متعددة، وطلب مني مرافقي من الحرس أن أحصي ثلاث عشرة درجة في كل مرة حين أرتقيها، كنت أظنه يسخر بي كالعادة، لكن عندما تعثرت في آخر درجة بعد أن أخطأت الحساب وهوت قدمي في الفراغ تبحث عن الرقم المفقود في عدد درجات السلم وبخني على ذلك بوكزة في خاصرتي.
أدخلت على الضابط «ع. ع.» وهو رجل كما به بدانة واضحة فكذلك به قسوة مثلها وأكثر. عرفت أوصافه من اللقاء الأول. هذه المرة تعرفت عليه من صوته المميز، بت أنظر إلى العالم من أذني.
بادرني بسؤال قصير وبلا مقدمات: «من مسئولك في التنظيم؟» - «مستقل ...» بلا تردد وبحسم سريع رددت له الجواب.
وقبل أن تصل كلمات جوابي إلى أذنه الصماء عن سماع هذه الأجوبة، كانت قبضة كأنها من الفولاذ ترتطم بمعدتي بعنف شمشوني، سحبني الوجع إلى الأرض وهويت سريعا مثل حجر يصدم الأرض نازلا من برج عال بسقوط حر، وتكومت عليها مثل كيس رمل بهيئة إنسان، لترفعني في الحال ذراعان كانتا تمسكان بي من الجانبين.
صاح بهم آمرا بغضب: «خذوه!»
أصعدوني سلما صغيرا، وارتكب الحديد معي خطيئة أخرى؛ إذ لم يكفه قيد المعاصم كما فعل من قبل، بل علقني هذه المرة إلى سقف غرفة متشبثا بجامعة القيد التي حبست ذراعي من الخلف، واتكأت قدماي على الفضاء وفوقها كان يقف جسدي تؤرجحه فنون التعذيب.
حلت لحظة مواجهة مع الذات عادت بي إلى بواكير قصة الإنسانية الأولى، عندما جردوني من الثياب تماما. لم يعترني الخجل كما أرادوا لي ذلك من فعلهم وقلت لنفسي مشجعا: الملابس هي ورق جنة آدم المزيفة، وأولئك الملتحفون بالكثير منها إنما يفعلون ذلك ليخفوا قبح سوءة الخطيئة التي تغمرهم، ومن كان بريئا لم تدنسه الخطايا فلا تعوزه وليس بحاجة لها.
Bog aan la aqoon
أرادوا اقتحام عفتي وحيائي وما عرفوا أنهم فجروا في براءة الإنسان قبل أن يفقد عذريته حينما نالت منه ثمار شجرة الخطيئة والرذيلة. هذه أسمال الفضيحة، لن يعيبني التجرد منها، وهل يعيب المرآة أن ترتد إلى فطرتها الأولى وأن تزاح منها الشوائب والأكدار؟ خذوها كلها لا حاجة لي بها، إنما يحتاج إلى الستر من به عيب، ومن عيوبكم كلها أنا بريء.
رشوا علي سائلا سريع الاشتعال غمرني باللهب مرات عديدة، وبين لهب حريق وآخر كانوا لا يجدون منفضة لجمر سجائرهم إلا في جسدي الأسمر السابح ألما في الفضاء، مختنقا بدخان سجائرهم وفحش أقوالهم. هراوات خشبية وأخرى حديدية كانت تترك بصماتها على أعضائي بتناوب مجنون، استحال تدريجا ثوب الألم المزمن إلى درع واق يصد موجات عنفهم. كثرة الألم أفقدتني الإحساس به.
دم حار حد اللسع كان يجري على غير ما أعتاد عليه بين أنسجة ممزقة عند الكتفين المخلوعتين بفعل التعليق. بدأت أستجمع كل قواي الكامنة في مجهول عقلي حتى ألاحق سمو الروح. الندوب والجروح بعضها سيلتئم يوما ما، وأخرى ستبقى نياشين لذكرى المواجهة محفورة أبدا في جسدي، ليفوح منها في كل حين عطر الدم الذي يصرع السيف في كل منازلة له معهن ومتى ما التقيا.
سرى خدر في كل أنحاء جسدي، قتل الألم فيه وبدأ يعطل الحواس شيئا فشيئا، كلما تصاعد زمن المواجهة سائبة النهاية، لكنها في ذاك اليوم انتهت وكانت جولة أولى سوف تتبعها جولات عديدة.
قال لي أحدهم بعد حفلة السمر هذه التي تجرعت فيها كثيرا من ساديتهم، إنه قد أرهق وعلي أن أعترف وكفى صمودا ومقاومة لأنها بلا جدوى، صدمته برد لم يتوقعه حين قلت له بكل بداهة وبلا أدنى تردد: «إني لم أنو ولا أريد أن أسبب لك تعبا.»
أشفقت عليه كثيرا لكنه قهقه ساخرا ولربما مستغربا، ظل يردد مقولتي لوهلة وهو يضحك، إنما بدا لي وهو يستعيدها أنه صدق نيتي بعمق، لكن للأسف بدا أيضا أنه لم يفهمها جيدا كما كنت أريد. كنت أتمنى له أن يفقه ما أقول، لكن أنى لمن خاض في وحل حظيرة خنازير أن يشم شذى طيبا أو عبيرا فواحا. ليس باليد من حيلة الآن، لكن ما علي إلا فعل ذلك، ولن أتوقف عن فعله لا الآن ولا من بعد، وسوف يفهم هو ونظراؤه أغنيتي في يوم ما.
5
توالت ليالي التعذيب متواصلة لأربعة أسابيع، تقطعها استراحات اضطرارية كانوا يحرصون على تمتعي بها، لمنح جسدي فرصة للتهيؤ والاستعداد لتلقي مزيد من التعذيب عندما يصبح هزيلا جدا لا يقوى على تحمله، وبالأخص ذراعي اللتين كانتا تصابان بخدر تام جراء التعليق إلى السقف.
بعد أن تهدأ قليلا بعض جراحاتي تتكرر الحكاية من جديد، ليس لمرة واحدة، بل لمرات كثيرة، وفي كل مرة كانوا يسقونني غضب غرائزهم من جوارح هائجة تنفلت تماما من عقالها كما هو حال الضواري المسعورة، كنت أسقيهم بالمقابل خمرة الصمت التي تطيح برءوسهم، وتجعلهم أكثر جنونا يتقيئون الشر المتجمد في صدورهم. أرجع إلى زنزانتي متوجعا لا تتحمل أعضائي أن يحتك أحدها بالآخر وجلدي صبغ بحمرة قانية إما من دم أو من أثر السياط بعد كل حفلة تعذيب، وهم يعودون سكارى حيارى لا يجدون حلا لمعضلتي ولا فكا لأحجيتي.
كنت أودعهم هادئا في قرارتي رغم ألم الجراح، وهم في انكسار وخيبة يزبدون ويعربدون. صخب الصمت الذي أذيقه لهم كان يقتلع الأصابع الغبية التي يدسونها في آذانهم كي يصموها عن سماع رعد الحقيقة، وهو يمزق الأسمال البالية التي يدفن بها البلهاء رءوسهم. طرق شتى حاولوها لإرغامي على البوح بأشياء لم ولن يعرفوها أبدا، حتى يومنا هذا بقيت سرا مخبوءا ما زلت أحتفظ به للساعة في صدري. صدري قبر لأسرار كثيرة حتى لمن شاركني السجن ولمن كان أقرب الناس إلي من قبل أو حتى من بعد، ولليوم لم يزل يجهل ما كنت أقوم به فعلا من مناهضة سلطة القمع البوليسية وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات قبل دخولي للسجن. القليل جدا - وربما هو شخص واحد فقط - كان يعرف مهمتي الحقيقية والدور الأساس الذي كلفت به. ومع أن كل هذا أضحى الآن بلا أهمية حقيقية إلا أني لا أجد مسوغا للبوح به، إنها خصوصية أعتز بها؛ لأن كل مهارتي وبراعتي كانت في هذا التكتم البالغ وحفظ سرية العمل. ليس من السهل أن تكشف سر التفوق بالمهنة خصوصا لمن لا يعرف قيمة ما تخبئ وتواري. العمل الثوري درة غالية وجوهرة ثمينة لا ثمن لها، وأربأ بنفسي أن أعرضه في السوق، فكيف به إذا كان سوقا للأشياء الرخيصة؟
Bog aan la aqoon
في وسيلة جديدة لإرغامي على الاعتراف هددوني بأن يجلبوا عائلتي للمعتقل، لم أبد أي اكتراث، حتى إن «م. ع.» عندما لاحظ رد فعلي وكمية اللامبالاة التي يحتويها، قال: «يا قواد، يبدو أنك لا تصدق أننا سنفعل ذلك.»
وبالفعل لم يكن ذلك مزاحا منهم ولا تهديدا فارغا، بل كانوا قولا وفعلا في هذه الأمور بلا أدنى تردد يخامرهم أو شك يساورهم. في أحد الأيام جلبوا والد أحد المعتقلين السياسيين وهو صديق شخصي لي وأيضا زميل جامعي. والده كان فلاحا بسيطا ثمانينيا في أواخر العمر، أذاقوه من الإهانة والأذى ما أجبر صاحبي على إعطائهم دليلا مزيفا، كان هذا سببا كافيا لأن يقوده هذا الدليل فيما بعد إلى حبل المشنقة ليفتدي والده المنهك من عذابات جديدة تضاف إلى آلام السنين، وعناء فلاحة أرض ضمته إليها سريعا بعد ابنه لتجفف دمعه وتمنحه أمنا وحنانا افتقدهما فوقها.
أصبحت مواجهة قسوتهم عملا روتينيا شبه يومي فيه الكثير من الملل والرتابة، وأصعب ما فيه كان الانتظار الذي طالما كرهته في كل الأحوال، أنتظرهم في حفرتي المعتمة مضمخا بالدم والجراح، محاولا أن أتصلب وأفرغ رأسي من الماضي القريب وأبعد كل صوره عني، لكن كنت أترقب بقلق وخوف تضطرب له كل أعضائي موعد زيارتهم الليلية، وعندما تضعف الأقفال أمام المفاتيح وترخي صلابتها ويتحرك الباب المصفح بصريره المفزع، كان القلق يستبد بي ويبلغ ذروته وتصير الأولوية عندي أن أخرج من دائرة الخوف هذه، ولم يكن أمامي من بد إلا استفزازهم حتى يكسروا حلقة الانتظار ويبدءوا بممارسة القسوة التي لا بد منها، تجنبا لهذا الانتظار المزعج ولما هو قادم بلا محالة، فعلام الهروب منه، ولماذا التأخير؟
سألني «ع. ع.» يوما: «هل صفيت عقلك؟»
دفعت الجواب إليه سريعا بتحد ممزوج بالسخرية: «ذهني صاف أساسا.»
رد، لم يكن يتحسبه ولا ينتظره، إنما أنا الذي كنت أنتظر رده المتوقع وأتلهف إليه للخلاص من دائرة السؤال والجواب التي كانت تستنزف قواي في الصمود أكثر من التعذيب نفسه بكثير جدا. ولو قلت إني كنت أوشك أن أسقط في لحظات الانتظار كثيرا، لكني لم أكن معرضا لهذا الاحتمال خلال حفلات التعذيب أبدا لما أوردت أحدا إلا إلى عين الحقيقة.
رده كان غضبا بهيميا، فجره كالعادة بنصب أرجوحة لجسدي من السقف وتركه يسبح في الفضاء يتكئ على الفراغ. أشياء كثيرة كانت تزور جسدي بعضها يحفر ثقوبا فيه لتعدم كثيرا من خلايا شاء حظها النحس أن تكون في جسدي على خط المواجهة الأولى خط التماس، تماس حتى مع أسلاك الكهرباء.
طالما سمعت جدلا في أيام الدراسة الثانوية بين تقليديين ومتنورين يسألون سؤالا، هل يعقل أن توماس إديسون يذهب إلى الجحيم وهو الذي خدم البشرية كلها ونفعها باكتشاف الكهرباء؟ كنت دوما إلى جانب الفريق المدافع عن إديسون في كل مرة جرى فيها هذا النقاش؛ لأن خلود الإنسان بما يقدم من خدمة للإنسانية وينفعها، لا بما يثرثره من كلام أو يرسمه من بورتريهات مزيفة للإله. بيد أني في تلك الليالي صرت أرى إديسون رجلا شريرا ارتكب خطيئة لا تغتفر بفعلته الشنعاء هذه. أي إثم قد اجترح عندما اكتشف الكهرباء؟ هل يرى الآن من جنته أو من جحيمه ما عاد يهمني أين استقر به المقام، هل يرى ما يفعل بي اكتشافه الرهيب؟ ألا يرى كيف أرتجف مصعوقا؟ وهل هو نفسه الذي علمهم أيضا أن الكهرباء يزداد شرها عندما تعلق الأسلاك في أطراف الأصابع وعند الحلمتين وأماكن حساسة أخرى لا أخدش الحياء بها كما فعل إديسون باكتشافه المقرف؟ ماذا عليك لو كتمت ذلك عنهم يا إديسون؟ وماذا كان سيحصل لو أن لي جلد سلحفاة فلا آبه لغلاظة العصي؟ أو لو أني كنت طويلا مثل عوج بن عنق؟ أو نبت لي عنق زرافة؟ كيف كانوا سيجدون سقفا ليعلقوني منه؟
أمنيات مستحيلة كثيرة أخرى، لم تكن هراء. كانت جدية للغاية آنذاك والأمر لم يكن مضحكا ولا عبثيا، بل كان بحثا عن مخرج خرافي من أزمة لا مخرج منها. كنت تماما مثل غريق تتقاذفه أمواج متلاطمة في بحر هائج ينتظر معجزة تخرجه من البحر اللجي، وأين هي هذه المعجزات؟ لقد ولى زمن المعجزات؛ لأنها صنع الجهل والأوهام، أما في الواقع فلا توجد إلا قوانين الفيزياء. إنها أحلام ولا عيب في الأحلام وإن لم تحدث لأنها ليست أوهاما، وإن بدت كذلك أحيانا. الحلم هو النهاية السعيدة لحاجة واقعية ولو لم تكن حقيقة موجودة لما اندفع إليها تفكيرنا وتاقت إليها نفوسنا.
ألسنا ما زلنا نحلم بالسعادة والحرية منذ فجر ظهور البشرية ولم يتحقق شيء منها حتى الآن؟ الأحلام منفذ الخلاص الوحيد حين توصد كل الأبواب، وإذا لم تؤد إلى الخلاص فإنها على الأقل سوف تمنع اليأس والقنوط من التمدد إذا لم تقتله بالفعل.
Bog aan la aqoon
بكل صدق يمكن أن يحتويه قلب القديسين، تمنيت حينها ألا يجلس في محلي ذاك أحد من بعدي.
6
في ليلة طال صبرهم كثيرا شعرت بقرارهم المسبق أنها سوف تكون ليلة للتأريخ، توسلت فيها بشدة للشمس أن تشرق لكنها أضاعت الاتجاهات فظلت تدور في صحراء الظلمة تائهة كتيه بني إسرائيل. تركتني معلقا في الهواء لأكثر من أربع ساعات كما خمنت ذلك فيما بعد، ينزلون بي صنوف العذاب بلا كلل ولا ملل، لم يهدءوا ولا فتروا ولا لهنيهة واحدة. صرت واثقا من إرادتهم وتصميمهم على وضع خاتمة لقضيتي هذه الليلة بأي طريقة تصل إليها أيديهم، ولو كلفهم ذلك القضاء علي وإزهاق روحي. لن أرجع وأكرر شرح وسائل التعذيب التي استعملوها معي، لكن أقول ليلتئذ أعلنت التحالف بينها واتفقت في تلك الأمسية الطويلة أن تزورني جميعها. أصبحت عاجزا حتى عن الصراخ من الألم، وفقدت الشعور بالكثير من أجزاء جسدي بما أصابها من خدر، إلا رأسي كان نشطا فعالا لأقصى ما يمكن له كما لو أنه كان يستمد طاقته من العذاب الذي عطل كل شيء غيره. واصلت الاستمرار بالتركيز الشديد والتفكير بعمق، كيف لي أن أتخلص من عصفهم القاتل في هذه الليلة التي لا فجر في آخرها؟
وأنا على هذا الحال تذكرت كراس لينين «ما العمل؟»
سألت نفسي: «ما العمل الآن؟» الأمر لا يحتاج إلى الصمود فقط، ولا الأحلام هي منقذي الأسطوري؛ لأني اقتنعت حينها أن لا أحد معني بي حتى السماء هربت من وظيفتها، لا بد من حل سحري للخروج من هذه الحفرة التي وضعت فيها، وأي حفرة هي؟ كأنها جراب محكم الشد مملوء حد الطفح بضحكات سخريتهم المدوية وثورات غضبهم العارمة.
لا أعرف بالتحديد من الذي قال: «أعطني مسرحا أعطيك شعبا مثقفا.» إنما هذا هو أوانها بالضبط، لماذا لا يكون المسرح هو المفر من هذا الكابوس المتسلسل بلا نهاية؟ هكذا كنت أحدث نفسي وأقول لجسدي: تماسك وتحمل مزيدا من العذاب، ولنجرب لعبة الفرار من الموت بادعاء الموت. سوف يكلف ذلك مزيدا من الألم، لا تخف منه، ولم الخوف؟ أولسنا غارقين فيه؟ فما الضير من سحابة أخرى تمطر على البحر، هل ستزيده بللا؟ ما عدت أصدق أن هناك جسدا يقوى على ما قويت عليه حتى الساعة من تحمل كل هذه الآلام، وإذا كان بمقدوري تجرع كل هذا، فلماذا لا أحاول تجرع المزيد منه لعل في ثمالة الكأس الخلاص؟ بدأت بتركيز كل قواي العقلية استعدادا لأداء دور المحتضر عسى أن تنجح المسرحية ويتوقف هذا العبث، وأنتهي من نزيف الوحشية. استجمعت تركيزي، رفعت الستارة وبدأ العرض.
المشهد الأول: لم أعد أستجيب للأذى الذي كانوا يلحقونه بي؛ كل همجيتهم وقسوتهم المنصبة التي كنت أواجهها بالصراخ استبدلت الرد عليها بكتمان الألم، عندما أقول كتمان الألم فإني أعنيه حرفيا؛ إذ ابتلعت الألم تماما وحفرت في داخلي أخدودا عميقا لابتلاعه كاملا بلا مضغ، كما يفتح الحوت فاهه ويبتلع أسرابا من السمك، وهناك في أحشائه تدور معركة الطحن ويسحق فريسته، يكتم هذا عن كل العالم، وهكذا فعلت. لم أعد أستجيب لأي ضربة هراوة تجلدني، ولم تعد تلسعني أي سيجارة تطفأ في أليتي وكأني فقدت الإحساس.
المشهد الثاني: أطلق أنينا خافتا، وأتوجه بآهات بنسق واحد لا يتغير، سواء شنوا غزوة على جسدي أو تركوه ينعم بسلام هدنة هم من يحدد وقتها. لم يصدقوا في البدء ما كنت أؤديه من تمثيل استنادا لخبرتهم الواسعة في التعذيب، حاولوا كثيرا استفزازي للخروج من هذا العرض المسرحي بوسائل شتى، حتى إنهم جاءوا بآلة كأنها خازوق كهربائي، لكن لم أستجب لكل إغراءات الصراخ بصوت عال. أشحت بأعصابي، بل بكل عقلي عنها خشية أن أعيش جوها وأسقط في الكمين، رحت أحاول التفكير في أشياء أخرى بعيدة جدا عما كنت فيه، أشياء أخجل الآن أن أكتبها حتى لا أتهم بالسفاهة أو الجنون، لكن هذا ما حصل، بل إني انغمست في تأملها لدرجة أنا لحد الآن لا أصدق نفسي كيف جرى كل ذلك!
تململ البعض منهم من الوضع الجديد الذي بت فيه، وارتعش آخرون خوفا من أن أكون فعلا على وشك الفراق الأبدي لهذه الدنيا، وأن أكون صرت ضحية لعصيهم بدون أمر من جهة مخولة بتصفيتي. هنا فهمت أن قرار الموت تحت التعذيب لم يكن مسموحا به بشكل جزافي، واستنتجت أنه لا يحصل إلا بأمر من الضابط الكبير المسئول عن ملف القضية. دار نقاش بينهم كنت أصغي له بتركيز شديد، حتى قال أحدهم: «أنا غير مسئول بعد الآن عما يحصل، لنبلغ السيد الضابط وهو يتخذ القرار.»
زادني هذا الحوار تصميما وعزما، وقلت في سري: هيا امض قدما في اللعبة أكثر وأكثر؛ إنها تؤتي أكلها. إذن ها هو المسرح ينتج فكرة تخرج واقعا جديدا. الهمس الدائر بينهم صار حوارا مرتفعا، ثم غدا أشبه ما يكون بالشجار، عاد علي ذلك بالراحة، ليس النفسية فقط وارتفاع المعنويات، بل براحة جسدية أيضا؛ حيث توقف الركل والضرب بالكامل. لم يستمر الخصام بينهم طويلا؛ إذ كان لا بد من مرجع يفصل فيما تنازعوا به، وجاء من يفض النزاع بكلمة فيصل منه بعد أن وصله الخبر عن طريق أحدهم.
Bog aan la aqoon
هزني بعنف عدة مرات ثم كلمني برفق، كان يناديني باسمي طالبا مني أن أكلمه بأي شيء، وأقسم لي مغلظا أنه لن يؤذيني أحد بعد الآن، فقط إن رددت عليه. إلا أني كنت موقنا على الدوام أن للمسرح دورا كبيرا وخطيرا، ولا ينبغي التنازل عن هذا العرض الكبير الذي أقوم به لأجل شخص تافه من النظارة لا يفهم ما يدور حوله. ذهبت كل محاولات استدراجي عبثا، وانتهى الأمر به إلى يأس تام من استجابتي، وأن ما يراه ليس تمثيلا، بل واقع وحقيقة ليصدر فرمانه قاطعا النزاع: «نزلوه! هذا قد انتهى.»
لم أعن جسدي على النزول من الحلقة المعقوفة المفتوحة المثبتة بسقف الغرفة رغم محاولاتهم إقناعي بذلك، أحدهم كان يطلب ذلك مني بما يشبه لهجة المتوسل. رفضي التعاون اضطرهم إلى التعاون الجماعي على رفعي إلى الأعلى وتخليص القيد الجامع من الحلقة المعقوفة في السقف. كنت أواصل الحديث مع نفسي: علي أن أستمر في أداء الدور إلى النهاية. «أنت ممثل بامتياز.» سرى في داخلي شعور نرجسي بالتباهي والإعجاب وكذلك بالفخر. بدأت ألوم نفسي كثيرا، وأسلب منها شعور الانتصار، وأقول لها لماذا لم تفعلي ذلك مبكرا؟
حتى إنه وردت حينها في بالي خاطرة؛ عندما كنت أذهب إلى المسرح، وكنت أذهب إلى هناك مرارا لم أكن أختار الجلوس إلا في مقاعد الحضور، مع أنه ثبت الآن أنه كان بالإمكان جدا أن أصعد على المنصة وأحدق في النظارة ببرود وأؤدي أفضل الأدوار. إيه قد فاتتني هذه الفرصة أيضا، واكتشافي لمواهبي جاء متأخرا. قلت لنفسي: لا تهتم كثيرا، لم يفتك الشيء الكثير؛ فالعالم كله مسرح كما يقول شكسبير.
أهبطت على الأرض ثانية بعد التحليق الطويل. أمسك بي من كل ذراع واحد من الجلادين، ويبدو أنهم قرروا إجراء اختبار سريع لكشف الكذب لم يكن في حساباتي أبدا؛ لذا لم أكن مستعدا للتملص منه بأي حيلة أو وسيلة. فجأة تركوا ذراعي وحرروني من قبضاتهم القوية التي كنت أتكئ عليها. بغت بتصرفهم الذي لم يرد على خاطري، ولكن ما صعقني أكثر من هذه المفاجأة، أني هويت إلى الأرض مثل حجر يسقط من علو، ولم أستطع النهوض ولا حتى الجلوس. «ما هذا؟ هل فعلا قدماي عاجزتان أن تحملا جسدي النحيل؟!»
تكومت بلا انتظام على البلاط البارد عاريا، أمسحه بعرقي، وألامسه بالحروق وآثار أعقاب السكائر والكدمات والجروح الموزعة بعشوائية في كل مكان من جسدي المتعب المنهك.
أية أكذوبة تلك التي كنت أحدث بها نفسي، وأي هراء هذا الذي كنت سأصدقه حينما ظننت أني نجم مسرحي، ذاك الأداء التمثيلي الرائع لم يكن إلا وهما جديدا وخيالا سخيفا، وسوف يتبين بعد قليل أن كذبتي على نفسي كانت كبيرة جدا وأكبر مما يتصوره أي أحد، علي أن أضع كل هذا الهراء الفارغ في خانة مقفلة وأنتزعه من تفكيري. استبد بي الضحك سخرية، بل عصبية، وعلت قهقهة في أرجائي وأنا أتأمل حالي وما صرت إليه. انفضت كل الأفكار عني كأن مغناطيسا هائلا سحبها، وأصبحت أجوف فارغا تماما مثل قطعة من فضاء خارجي لا يسكنه إلا أثير لا حقيقة له ولا واقع.
رفعوني مثل كومة لحم من الأرض وجرجروني في ممر قصير يقع إلى جوار غرفة التعذيب «غرفة العمليات بحسب اصطلاحهم.» بدا لي حينها أنه ممر طويل لا نهاية له، يسيرون بي فيه بسرعة لم تكن تناسب كومة اللحم المتهالكة التي صرت إليها. قفزت حينها في بالي خاطرة سخيفة فعلا، لكنها لا تناقض ميلي الدائم للمزاح حتى في أعسر المواقف وأكثرها جدية.
كم هو مضحك منظري الآن وأنا أمشي عاريا! ترى كيف سيكون رد فعل زملائي في الجامعة وبالأخص الطالبات منهم لو رأينني هكذا؟ هل هذا وقته؟! لماذا لا تتوقف عن المزاح؟ ماذا بك؟ هل جننت؟
كنت أحدث نفسي بهكذا حوارات فوضوية لا رابط بينها ولا نظام في لحظات خاطفة أسرع من الضوء. لكن بصراحة كنت أضحك في داخلي لهذا الحوار، وبدا لي أنه شيء قريب لحد الملامسة من همس الجنون أو اكتشاف متأخر لعبثية الحياة التي لم أعد أحفل بقيمتها في تلك اللحظة بالكامل. حتى إن الابتسامة غلبتني وأنا أحدث نفسي. ولحسن الحظ لم ينتبهوا إليها، وحتى لو انتبهوا لها لم يكن بإمكانهم تمييزها؛ لأن وجهي بل كياني كله بالتأكيد كان مريعا لا يساعد أحدا على تصور وجود ابتسامة فوقه، وكيف لها أن تعلو هذا الخراب العارم. الأمر الأكيد أني أصبحت فوضى شاملة تتوارد علي الأفكار وتتضارب في المشاعر وتمر فوقي الخواطر كأنها أمواج بحر هائج. سارعت لإيقاف خواطري أو لجمها قليلا؛ لأني كنت سأنفجر ضاحكا، وكان يمكن أن أضحك بهستيرية لو فلتت ضحكة واحدة مني. أقولها مرة ثانية أصبحت فوضى عارمة شاملة في المظهر والجوهر.
في هذه الأثناء واصل اثنان من رجال الأمن السير بي رواحا ومجيئا في الممر البارد، يرفعانني بين الحين والآخر عن الأرض حين أعجز عن مجاراتهم في المشي. كنت في تلك اللحظة قد قطعت علاقتي بكل محتويات العالم ولا أفكر إلا بهذه النزهة الإجبارية التي لم أفهم سرها ولا المغزى منها. بدوت بينهم وهم يسيرون مسرعين مثل طفل صغير يلهو مرحا برفع قدميه من على الأرض حين يمسك والداه ذراعيه.
Bog aan la aqoon
كنت أشعر أن الممر بارد جدا، كأنه مفروش بالصقيع مع أنه لم يكن باردا كما عرفته فيما بعد. صارت برودته زمهريرا؛ لأني كنت عاريا مجردا من أي قطعة على الإطلاق، غارقا في عرق تصبب مني بغزارة أثناء التعذيب، وأيضا لأني بلغت من الضعف منتهاه، وخارت قواي للآخر، فصار كل شيء باردا عندي وإن لم يكن في واقعه ونفس أمره كذلك، وهكذا هو العالم، ليس هناك من حقيقة واحدة فيه ثابتة. كل الأشياء فيه لها صور متعددة لا عد لها ولا حد، كل واحدة منها تناسب من يراها، صور بعدد أنفاس الخلائق.
7
لم أعرف بالضبط لماذا كانوا يسيرون بي هكذا مسرعين في الممر البارد ولفترة لم تكن قصيرة؟ هل كان جزءا من علاج طبيعي لإعادة الوعي خوفا من سقوطي في غيبوبة، وتحفيزا للجسد المتهالك للعودة إلى وضعه الطبيعي؟ لا أدري، ثم ألقوا بي إلى حائط أستند إليه وأنا معصوب العينين مشلول اليدين تماما لا أقدر حتى على تحريك إصبع واحد مع أنهما كانتا طليقتين من القيود لأول مرة في تلك الليلة الدامية. عاريا من أي خرقة ملابس تغطيني، يحيط بي صمت بارد، بعد أن تلاشت كل الأصوات التي كانت تتنافس على إصدار الصخب وإنزال العذاب. ثم تناهى لسمعي بعد برهة وقع أقدام تتقدم بخفة ولكن بسرعة لا تحدث صوتا إلا بما يشبه الهمس، جلس صاحبها أمامي مباشرة وأغلق فمي برقة وطلب مني ألا أنبس ببنت شفة وهو يطبق سبابته على شفتي. بدأ بتحريك يدي المشلولتين يثنيهما بقوة أوجعتني جدا، كدت أصرخ من شدة الألم. وبدلا من الصراخ أعلنت احتجاجي على هذا الوجع بتأوه ضعيف احتراما لطلبه الرقيق مني بالصمت، وأسكتني هذه المرة بحنان أكثر. صدقه كان يشع علي وينفذ بلا حواجز إلى كياني وأنا ألمس رحمة تنساب منه مثل النسيم تنعش روحي، وشفقة تفيض علي تسكن ألمي. قال لي: «إذا لم تتحمل هذا الألم الآن فسوف تفقد قابلية تحريك ذراعيك لما تبقى من عمرك، إني أفعل ذلك لصالحك.»
استسلمت له مصدقا ولم يكن بالإمكان إلا أن أفعل ذلك؛ فقد جاء متطوعا ليساعدني في تجاوز لحظة كانت ستغير وظيفة بعض أعضائي إلى الأبد. حينها لاح لي حنا مينا في إحدى رواياته وهو يقص علي كيف أن والده السكير الذي كان يظنه حنا مينا شرا محضا تحول إلى كتلة مشاعر إنسانية صادقة تحمل حنا الطفل المريض، وهو يركض به حافيا في البيداء هائما على وجهه باكيا يبحث عن علاج يخلص ابنه الصغير من حمى شديدة أصابته. يقول حنا مينا معقبا على تلك الحادثة: «في كل إنسان بقعة مضيئة.»
مثل وحي ظهر لي حنا مينا في هذا الغار، وقال لي: هذه هي البقعة المضيئة التي حدثتك عنها تشع عليك الآن من هذا الرجل قبالك. قم بشر بها كل من آمن بالإنسان.
مع أني لم أر وجه هذا الرجل أبدا، ولم أستطع التعرف عليه بعدها رغم بعض شكوك ساورتني في تشخيصه من صوته من بين أشخاص واجهتهم لاحقا من رجال الأمن، إلا أني لم أستطع أن أحدده بدقة ويقين حتى الآن. لكن هذا الجميل لم أنسه يوما ولن أنساه. حادثة أكدت لي ما أومن به دوما، إنه حتى عدوك يمكن أن يكون صديقك، وفي كل إنسان هناك منفذ للخير يمكن للنور أن ينفذ منه ويطرد الظلام كله ويملأ كل أرجاء النفس بالخير ويمسح الشر كله.
يوما ما سألتقي هذا الرجل، إما على هذه الأرض - ربما بعد أن يقرأ شهادتي هذه - أو بعد أن نعبر حاجز الدنيا إلى عالم الحقيقة والتجرد من الأشياء. وفي كل الأحوال سوف أشكره كثيرا وأكثر بكثير من كل الكلمات التي سطرتها الآن. سوف أشهد له الآن وبعدئذ أنه علمني أن ما أحفظه من قيم عليا كنت أقرؤها في الكتب لم تكن كذبة أبدا؛ علمني أن الإنسان يمكن له أن يكون إنسانا لو أراد ذلك، قد تكون هناك صعوبة في إنجاز الأمر لكن لا استحالة فيه أبدا، علمني هذا الرجل أن أحب عدوي أو ألا أبغضه على الأقل، وتيقنت أن الحب قيمة واقعية وليست مثالية كما يصورها الشعراء، ولا يحتاج أن يكون المرء نبيا أو قديسا ليفعل هذا. كل ما عليه فعله أن يعود لفطرته وسوف يرجع إنسانا ليس أكثر من هذا. أصلي لصديقي المجهول باستمرار، وأرجو أن تكون هذه البقعة المضيئة التي سطعت أمامي يومئذ قد ملأت روحه الآن وطردت كل الظلام. أتمنى هذا له كما أتمناه لنفسي، وآمل أن أطرد كل ظلام في حشاشتي من كره وغل لأخي الإنسان مهما كان موقفه مني.
بعد استراحة الحائط هذه التي لا أذكر كم من الوقت قد أخذت، تشوش ذهني كثيرا ولم أعد حينها بقادر على تخمين الأوقات ولا أي شيء آخر، أخذوني إلى الضابط المحقق. كنت قد استعدت قليلا من قواي، عيناي بدأت تتنفس بعضا من نور شاحب من خلال العصابة المتهدلة قليلا عنها، ثم أزاحوها تماما بأمر منه لأتلقى مفاجأة جديدة أخرى. ما الذي يحدث بحق آلهة الغضب والجحيم؟ أين هو النور الذي ينعكس من الأشياء كما يقول علماء الفيزياء؟ ما له لا يصل إلى عيني، هل أصابه الكساح؟ أم هل مات الضوء وصار الكون رماديا غائما؟ أم أن عيني تحتضران؟
مشهد رمادي معتم بدأ يستحيل تدريجيا إلى أشباح بلا معالم هنا وهناك. وقفت وسط الغرفة كما خمنته، في الحقيقة لم أكن أعرف أين أقف في هذا الكون كله، ضاعت كل الاتجاهات مني وصرت بوصلة بلا مؤشر. بقيت واقفا لمدة ليست بالقصيرة ويقف إلى جنبي رجل أمن واحد على الأقل أستند إليه يمسكني من زندي لئلا أقع. لم أعرف وقتئذ كم كان عدد الموجودين بالغرفة، كنت أسمع أصواتا لا أرى أصحابها، وشوش عقلي الخبر السيئ الذي تلقيته للتو بأني أضحيت لا أجيد النظر؛ ولهذا السبب لم أتمكن من حصر العدد ولا حتى محاولة تخمينه؛ لأني أصبحت في شغل عن هذه الأشياء.
قال الضابط موجها كلامه لي: «اجلس.»
Bog aan la aqoon