Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Noocyada
في وسيلة جديدة لإرغامي على الاعتراف هددوني بأن يجلبوا عائلتي للمعتقل، لم أبد أي اكتراث، حتى إن «م. ع.» عندما لاحظ رد فعلي وكمية اللامبالاة التي يحتويها، قال: «يا قواد، يبدو أنك لا تصدق أننا سنفعل ذلك.»
وبالفعل لم يكن ذلك مزاحا منهم ولا تهديدا فارغا، بل كانوا قولا وفعلا في هذه الأمور بلا أدنى تردد يخامرهم أو شك يساورهم. في أحد الأيام جلبوا والد أحد المعتقلين السياسيين وهو صديق شخصي لي وأيضا زميل جامعي. والده كان فلاحا بسيطا ثمانينيا في أواخر العمر، أذاقوه من الإهانة والأذى ما أجبر صاحبي على إعطائهم دليلا مزيفا، كان هذا سببا كافيا لأن يقوده هذا الدليل فيما بعد إلى حبل المشنقة ليفتدي والده المنهك من عذابات جديدة تضاف إلى آلام السنين، وعناء فلاحة أرض ضمته إليها سريعا بعد ابنه لتجفف دمعه وتمنحه أمنا وحنانا افتقدهما فوقها.
أصبحت مواجهة قسوتهم عملا روتينيا شبه يومي فيه الكثير من الملل والرتابة، وأصعب ما فيه كان الانتظار الذي طالما كرهته في كل الأحوال، أنتظرهم في حفرتي المعتمة مضمخا بالدم والجراح، محاولا أن أتصلب وأفرغ رأسي من الماضي القريب وأبعد كل صوره عني، لكن كنت أترقب بقلق وخوف تضطرب له كل أعضائي موعد زيارتهم الليلية، وعندما تضعف الأقفال أمام المفاتيح وترخي صلابتها ويتحرك الباب المصفح بصريره المفزع، كان القلق يستبد بي ويبلغ ذروته وتصير الأولوية عندي أن أخرج من دائرة الخوف هذه، ولم يكن أمامي من بد إلا استفزازهم حتى يكسروا حلقة الانتظار ويبدءوا بممارسة القسوة التي لا بد منها، تجنبا لهذا الانتظار المزعج ولما هو قادم بلا محالة، فعلام الهروب منه، ولماذا التأخير؟
سألني «ع. ع.» يوما: «هل صفيت عقلك؟»
دفعت الجواب إليه سريعا بتحد ممزوج بالسخرية: «ذهني صاف أساسا.»
رد، لم يكن يتحسبه ولا ينتظره، إنما أنا الذي كنت أنتظر رده المتوقع وأتلهف إليه للخلاص من دائرة السؤال والجواب التي كانت تستنزف قواي في الصمود أكثر من التعذيب نفسه بكثير جدا. ولو قلت إني كنت أوشك أن أسقط في لحظات الانتظار كثيرا، لكني لم أكن معرضا لهذا الاحتمال خلال حفلات التعذيب أبدا لما أوردت أحدا إلا إلى عين الحقيقة.
رده كان غضبا بهيميا، فجره كالعادة بنصب أرجوحة لجسدي من السقف وتركه يسبح في الفضاء يتكئ على الفراغ. أشياء كثيرة كانت تزور جسدي بعضها يحفر ثقوبا فيه لتعدم كثيرا من خلايا شاء حظها النحس أن تكون في جسدي على خط المواجهة الأولى خط التماس، تماس حتى مع أسلاك الكهرباء.
طالما سمعت جدلا في أيام الدراسة الثانوية بين تقليديين ومتنورين يسألون سؤالا، هل يعقل أن توماس إديسون يذهب إلى الجحيم وهو الذي خدم البشرية كلها ونفعها باكتشاف الكهرباء؟ كنت دوما إلى جانب الفريق المدافع عن إديسون في كل مرة جرى فيها هذا النقاش؛ لأن خلود الإنسان بما يقدم من خدمة للإنسانية وينفعها، لا بما يثرثره من كلام أو يرسمه من بورتريهات مزيفة للإله. بيد أني في تلك الليالي صرت أرى إديسون رجلا شريرا ارتكب خطيئة لا تغتفر بفعلته الشنعاء هذه. أي إثم قد اجترح عندما اكتشف الكهرباء؟ هل يرى الآن من جنته أو من جحيمه ما عاد يهمني أين استقر به المقام، هل يرى ما يفعل بي اكتشافه الرهيب؟ ألا يرى كيف أرتجف مصعوقا؟ وهل هو نفسه الذي علمهم أيضا أن الكهرباء يزداد شرها عندما تعلق الأسلاك في أطراف الأصابع وعند الحلمتين وأماكن حساسة أخرى لا أخدش الحياء بها كما فعل إديسون باكتشافه المقرف؟ ماذا عليك لو كتمت ذلك عنهم يا إديسون؟ وماذا كان سيحصل لو أن لي جلد سلحفاة فلا آبه لغلاظة العصي؟ أو لو أني كنت طويلا مثل عوج بن عنق؟ أو نبت لي عنق زرافة؟ كيف كانوا سيجدون سقفا ليعلقوني منه؟
أمنيات مستحيلة كثيرة أخرى، لم تكن هراء. كانت جدية للغاية آنذاك والأمر لم يكن مضحكا ولا عبثيا، بل كان بحثا عن مخرج خرافي من أزمة لا مخرج منها. كنت تماما مثل غريق تتقاذفه أمواج متلاطمة في بحر هائج ينتظر معجزة تخرجه من البحر اللجي، وأين هي هذه المعجزات؟ لقد ولى زمن المعجزات؛ لأنها صنع الجهل والأوهام، أما في الواقع فلا توجد إلا قوانين الفيزياء. إنها أحلام ولا عيب في الأحلام وإن لم تحدث لأنها ليست أوهاما، وإن بدت كذلك أحيانا. الحلم هو النهاية السعيدة لحاجة واقعية ولو لم تكن حقيقة موجودة لما اندفع إليها تفكيرنا وتاقت إليها نفوسنا.
ألسنا ما زلنا نحلم بالسعادة والحرية منذ فجر ظهور البشرية ولم يتحقق شيء منها حتى الآن؟ الأحلام منفذ الخلاص الوحيد حين توصد كل الأبواب، وإذا لم تؤد إلى الخلاص فإنها على الأقل سوف تمنع اليأس والقنوط من التمدد إذا لم تقتله بالفعل.
Bog aan la aqoon