342

Min Caqida Ila Thawra Tawhid

من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد

Noocyada

59

والسؤال الآن: هل نشأت صفات الكمال من قلب النقص أو نشأت صفات النقص من وجود الكمال بالعقل الإنساني كبناء له؟ بصرف النظر عن علاقة العلة بالمعلول أو التحليل النفسي لنشأة الأفكار، فإنه سواء في إثبات الصفات أو في نفيها يقوم الشعور بعدة عمليات ابتداء من الواقع الحسي إلى تكوين القضايا. فالمعنى هنا يعني وصف عمليات الشعور، وكيف تتكون القضية. فلا يوجد معنى مستقل عن كيفية التكوين. منطق القضايا منطق تكويني وليس منطقا صوريا.

60 (4-1) القضايا الموجبة

في القضايا الموجبة يقوم الشعور بعدة عمليات متتالية. أولا إثبات المثل العليا الإنسانية كلها ووضعها في عبارة. ثانيا: خلق الذات المشخص كمشجب تعلق عليها هذه المثل كأعز ما لدى الإنسان ومخلوق منه. ثالثا: تعليق الصفات على هذا المشجب أو إسقاطها على الذات فتصبح صفات لها. هذه هي العمليات أو الخطوات الثلاث الرئيسية وراء تكوين القضايا. وهناك عمليات أخرى تفصيلية تحدث في الشعور وعلاقته بالأوضاع النفسية الاجتماعية تظهر أيضا في تكوين القضايا، كل على حدة على النحو الآتي: (1)

الله عالم: تعني أن الإنسان يود أن يكون عالما، فالعلم أحد المثل الإنسانية، ومن منا لا يود أن يكون عالما ويريد أن يكون جاهلا؟ ولما كان الإنسان لا يستطيع تحقيق هذا الهدف وهو العلم في حياته نظرا لأنه جاهل أو نصف متعلم فإنه لا يستطيع أن يكون عالما على الإطلاق. ومع ذلك لا يتخلى الإنسان عن الرغبة في العلم كمثل أعلى مطلق أو كفاية قصوى أو كهدف أسمى فيثبته نظرا كموضوع مثالي أي أنه يتحقق تحققا صوريا فارغا من غير مضمون، فيصبح العلم ذاتا وموضوعا في آن واحد، هدفا مشخصا. وفي هذا النوع نحو الغاية تتشخص ذات الإنسان وتتحجر وتثبت لغياب حركة التحقق منها حتى تتضخم وتصبح ذاتا مطلقا في تحول الوعي بالذات إلى وعي مطلق. وفي حالة وصف هذا الذات المشخص، وهو الذات المثالية المتعالية، فإن الإنسان لا يجد أمامه إلا الأهداف السامية والغاية القصوى التي تشخصت من قبل فيصفها بها، يصف أغلى ما لديه بأعز ما لديه، يصف ذاته بمثله، ونفسه بغاياته. وسرعان ما تجد الصفات مشجبا لها في الذات. ومن ثم يقول الإنسان: الله عالم. فمعنى الله عالم لا يأتي من تحليل اللغة والانتقال من اللفظ إلى المعنى إلى الأمام بل من تحليل الشعور والانتقال من المعنى إلى اللفظ إلى الوراء. فدلالة القضية فيما قبل تكوينها وليس بعد التكوين. فالله هو الوعي بالذات، والعلم مثله الأعلى. ولكن الظروف الاجتماعية التي يعيشها الإنسان تجعل الوعي بالذات مغتربا، والمثل الأعلى لا يتحقق فيتشخص كلاهما ويتأله بعيدا عن الذات وخارج العالم فيؤله الإنسان ذاته المغتربة ويقدس صفاته ومثله التي لم تتحقق، ويصفها بأعز أمانيه حرصا عليها وتمسكا بذكراها حنينا إليها ومناجاة لها. فإذا ما تغيرت الظروف، واسترد الإنسان وعيه بذاته وقضى على اغترابه وحقق مثله الأعلى في العلم فإنه يكون متعلما لا جاهلا ويقضي على الأمية في حياته وحياة أمته وهي ليست فقط الجهل بالقراءة والكتابة بل أيضا الأمية الثقافية والحضارية والمدنية. حينئذ لا يطلق عبارة «الله عالم»، بل يقول «أنا عالم» ومجتمعي مجتمع علم، وحياتي يسودها العلم، وتقوم على أساس العلم. ولما كانت هذه الظروف لا تتغير من تلقاء نفسها بل بفعل الأفراد والجماعات، بحركة الطلائع وثورة الجماهير، فإن العبارات والقضايا والأحكام عن «الله» تكون مشروطة بمدى إحداث هذا التعبير. فالأولوية هنا للتوحيد العملي على التوحيد النظري.

61 (2)

الله قادر: وتعني أن الإنسان يود أن يكون قادرا، فالقدرة مثله الأعلى، وهدفه الأسمى، وغايته القصوى. ولكنه لا يستطيع نظرا للموانع العديدة والظروف الاجتماعية التي يعيشها والمواقف التي يجد نفسه فيها، فالقدرة لها حدود من طبيعتها أو خارجها. ومع ذلك فالإنسان لا يتخلى عن القدرة كهدف أعلى وكامل بعيد، فيتحول الهدف إلى حلم، والغاية إلى ثمن. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا في العالم فإنه يقتطع جزءا من وعيه بالذات ويجعله وعيا مطلقا في حركة فارغة نحو الإمام المسدود، أي نحو الأعلى المفتوح، وعيا فارغا من الوعي، وعيا خارجيا مطلقا يغرق الإنسان والعالم فيه. ولما أراد الإنسان الحديث عن هذا الوعي المطلق ووصفه ومناجاته، فإنه لم يجد في جعبته إلا مثله العليا. فوصف أعز ما لديه بأغلى ما لديه، وقدم للضيف العزيز أفضل ما لديه من باقات الزهور وأطباق الطعام، فوصف نفسه بنفسه، وتحدث عن وعيه بصفاته وقال: «الله قادر». فإذا ما تغيرت الظروف وأصبح الإنسان قادرا بالفعل على تحقيق مثله الأعلى وقضى على ظروف العجز وموانع القدرة فإن القدرة تصبح واقعا ملموسا، عيانيا مشاهدا، وتتوقف عن أن تكون حلما. وفي نفس الوقت يسترد الإنسان ذاته المغترب، ويعود الوعي المطلق من خارج العالم إلى وعي بالذات داخل العالم. وبعد أن كان الوعي منغلقا على نفسه يغوص في عواطف الإجلال والتعظيم والتأليه فإنه يصبح وعيا بالذات ووعيا بالعلم ووعيا بالآخرين. ومن ثم لا يحتاج الإنسان إلى وصفه لأنه مشاهد بالعيان، تجربة حية مباشرة. ولكن الذي يغير ظروف العجز إلى ظروف القدرة هي الذات نفسها في حركتها الواعية وقدرتها على فك هذا الحصار، ابتداء من نقاء الطلائع وتجنيد الجماهير، ومن ثم يصبح المجتمع كله قادرا وبالتالي لا يقولن أحد «الله قادر». (3)

الله حي: وتعني أن الإنسان يريد أن يكون حيا وأن يحافظ على حياته لأنه يتنفس ويشعر. فالحياة الكاملة مثله الأعلى، وهدفه الأسمى، وغايته القصوى. وما أكثر ما قرأ عن الحياة ورأى فنا يعظم الحياة، وما أكثر ما ينفعل لشعار «الفن للحياة» أو «الحياة للحياة». ولكن الإنسان ميت بالفعل، لا غذاء ولا كساء ولا مأوى. لا يتنفس إلا التراب، ولا يتحرك إلا بحساب، ولا يشعر بشيء أو يشعر ويخفي شعوره. ولدى أدبائنا الشبان تظهر تجارب الموت والغم والقرف والعدم والضياع. ويقارن الإنسان شعبه الميت بالشعوب المجاورة الحية فيحزن ويغتم ويزداد موتا على موت. بل كثيرا ما يتمنى الموت وهناء القبر، فالموت سكون وهدوء وطمأنينة، حتى أصبحت الحضارة كلها حضارة الموت لا ترى الحياة إلا بعد الموت. ومع ذلك لا يريد الإنسان أن يتخلى عن الحياة كمثل أعلى لم يتحقق، ويظل محافظا عليه فيتجسد ويتحجر ويتجمد ويتحول إلى حياة وكفن، إلى كنز دفين يحرص عليه، يحزن على ضياعه، ويتغنى بلحظاته. ولما كان الإنسان ذاتا مغتربا في العالم، لا وجود له ولا بقاء، فإنه يقتطع من ذاته ذاتا أخرى يضع فيها وعيه بالذات ويجد فيها بديلا عن العالم الضائع، وطرفا آخر للحوار بعد غياب كل الآخرين، ويقذف بها خارج العالم، فتصبح الذات المطلق بفعل حركتها الخاوية، من الذات إلى الذات، فارغا من غير مضمون، موضوعا للتأليه، وكيانا للإجلال والتعظيم. فإذا ما أراد الإنسان أن يتكلم ويعبر فإنه يصف هذا الذات ويناجيه ويتصل به ويتعبده ويسأله ليجيب، ويدعوه ليستجيب، فلا يجد في جعبته إلا صفاته وكنزه الثمين، الحياة المحفوظة، فيصف الذات بأنه حي، يصف أغلى ما لديه بأعز ما لديه، يصف نفسه بنفسه، ويضع محموله على موضوعه، وخبره على مبتدئه ويقول: «الله حي». فإذا ما تغيرت الظروف، وعاد إلى الحياة، وحافظ عليها، وتمتع بها، وعشقها، وأصبح حيا، ونزع عنه الكفن، وزاح عنه رداء الموت، تتحقق الحياة بالفعل، ولا تعود مثلا أعلى، تمنيا وحلما. وفي نفس الوقت يسترد ذاته المغترب ويعي ذاته الفرد، فالشعور مستقل عن واقعه وإن كان فيه. الوعي الفردي قوامه الحرية وإن كتمت وأخمدت. وفي هذه الحالة لا يحتاج الإنسان إلى وصفها بل يحققها بالفعل. والذي يقضي على الاغتراب ويحول الإنسان من الكلام إلى الفعل، من العبارة إلى الشيء، من المفهوم إلى الماصدق، من إطلاق الوصف إلى تحققه في الموصوف هي قدرة الذات الواعي على تجنيد الجماهير، وتغيير الواقع، والإصرار على الحياة، ورفض الموت والخنوع. (4)

الله سميع: وتعني أن الإنسان يود أن يسمع وأن يدرك ما حوله وأن يعي ما يسمع. يسمع القول، ويدرك الصوت، ويحدث له بعد السمع الإدراك وبعد الحس الفهم. ولكنه أحيانا لا يسمع ولا يدرك أو يسمع ويمنع نفسه من الإدراك أو يدرك ويجعل نفسه غير فاهم إيثارا للسلامة وأملا في النجاة. ومع ذلك يظل الوعي المدرك من خلال السمع مثلا أعلى له. ويظل كل من سمع القول ويدركه بالنسبة له أملا لا يتخلى عنه أو حلما يراوده بالرغم من استحالة ذلك في الواقع. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا في العالم، وعيه بالذات مشخص خارجا عنه ومجسدا فيه، فإن الشوق ينازعه إليه، والحنين يتجه نحوه، وتظهر ضرورة المناجاة، فإذا ما أراد وصفه والحديث إليه ومناجاته والابتهال إليه لحاقا بالوحدة بين الذات المسلوبة والذات المشخصة، بين الذات الفارغة في الداخل والذات الحسية في الخارج، فإنه يصف أغلى ما لديه بأعز ما لديه، يصف ذاته المسلوبة بحلمه المجهض ويقول: «الله سميع» مبالغة في وصف السمع. فإذا ما تغيرت الظروف وأصبح الإنسان يسمع الأشياء ويدرك ما حوله، يثيره القول، وتهزه الكلمة، يتحقق الهدف من السمع ويصبح سامعا ومدركا. وفي نفس الوقت يسترد ذاته المغتربة، يرد إلى جسده قلبه المنزوع منه، ويعيد إلى بدنه رأسه المفصول عنه. يعي ذاته، ويتحول الوعي بالذات إلى وعي بالعالم، ويصبح سامعا. حينئذ لا يقول: «الله سميع». فتحقق الشيء يمنع من المبالغة والنطق به، وكأن الكلام غياب للشيء، والنطق به تعويض عن غيابه. ولما كانت الظروف لا تتغير إلا بفعل الجماهير، وبقيادة طليعتها الواعية، كانت حرية الوعي الفردي نقطة البداية لتحويل الوعي بالذات إلى وعي بالتاريخ. (5)

الله بصير : وتعني نشأة وتكوينا أن الإنسان يود أن يكون بصيرا، ويريد المحافظة على بصره ورؤيته للعالم. والبصر إدراك، والإدراك وعي بما يحيط به وفهم له. البصر شهادة على الواقع، ورؤية لأحداث العصر وإدراك لها. ولكن يحدث أحيانا أن يكون الإنسان غير مبصر، لا يسمح له بالشهادة، ويمنع من الرؤية. فيسير مغمض العينين كما سار من قبل مطرق الأذنين، شاهدا لا يرى شيئا. حماية للنفس، وإيثارا للسلامة، وبغية للنجاة، حفاظا على لقمة العيش وتربية الأولاد. ومع ذلك فإنه لا يستطيع أن يتخلى عن نموذجه ومثله الأعلى في الشعور الرائي والذات المبصر. وتظل الشهادة مكتومة في صدره، وهو أضعف الإيمان، وتظل النظرة مقلوبة إلى الداخل. محفوظة في الذاكرة، تنتظر وقت الإعلان كما تنتظر وقت الحساب. ولما كانت الذات مغتربة عن العالم. مقطوعة نصفين، نصف ميت يتحرك عليه في صورة جسد، ونصف حتى يعشقه يطلقه ويثبته وينظر إليه بعيدا عن العالم وخارجا عن محيطه، غطاء لكل شيء وستارا عليه، ولما أراد أن يناجيه ويحادثه ويجعله طرفا محاورا بعد أن عز المحاورون فلا يجد أمامه إلا أن يصف أغلى ما لديه بأعز ما لديه، أن يصف ذاته بمخزونه النفسي من الشهادة فيقول «الله بصير». فإذا ما تغيرت الظروف، وأصبحت الرؤية ممكنة، والشهادة واجبة، رأى بعد أن سمع، وفتحت العينان كما تطرقت الآذان، وشهد على عصره، وأصبح شاهدا عليه وربما شهيدا له. وبالتالي يسترد صفاته إلى ذاته بعد نسبها إلى وعيه المطلق خارجا عنه. وفي نفس الوقت يسترد ذاته المغترب، ويعود به إلى العالم، ويحقق الوحدة في شخصه، وتصبح ذاته واعية فردية تتصف بصفات العلم والقدرة والحياة كما تتصف بصفات السمع والبصر. والذي يغير الظروف هو هذا الوعي ذاته بأن يصبح بؤرة للوعي التاريخي المتمثل في حركة الجماهير وقدرته على الاتحاد به ومعرفة مساره ومراحله. فهو وعي حر ومستقل يستطيع أن يستل نفسه من إطار الحتمية التاريخية، وباجتماع الحرية والضرورة يتحرك التاريخ. (6)

Bog aan la aqoon