Min Caqida Ila Thawra Tawhid
من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد
Noocyada
الباب الثاني: الإنسان الكامل
الفصل الخامس: الوعي الخالص (الذات)1
أولا: البراهين على وجود الوعي الخالص (الذات)1
ثانيا: أوصاف الذات وصفاتها
ثالثا: الوجود
رابعا: القدم
خامسا: البقاء
سادسا: المخالفة للحوادث
سابعا: القيام بالنفس
ثامنا: الوحدانية
Bog aan la aqoon
الفصل السادس: الوعي المتعين (الصفات)
أولا: أحكام الصفات
ثانيا: الصفات السبع
ثالثا: الأسماء
رابعا: إلهيات أم إنسانيات؟
خاتمة
الباب الثاني: الإنسان الكامل
الفصل الخامس: الوعي الخالص (الذات)1
أولا: البراهين على وجود الوعي الخالص (الذات)1
ثانيا: أوصاف الذات وصفاتها
Bog aan la aqoon
ثالثا: الوجود
رابعا: القدم
خامسا: البقاء
سادسا: المخالفة للحوادث
سابعا: القيام بالنفس
ثامنا: الوحدانية
الفصل السادس: الوعي المتعين (الصفات)
أولا: أحكام الصفات
ثانيا: الصفات السبع
ثالثا: الأسماء
Bog aan la aqoon
رابعا: إلهيات أم إنسانيات؟
خاتمة
من العقيدة إلى الثورة (2)
من العقيدة إلى الثورة (2)
التوحيد
تأليف
حسن حنفي
الباب الثاني: الإنسان الكامل
تركنا شرح عنوان الباب الثاني «الإنسان الكامل» لخاتمة الباب كله بفصليه.
الفصل الخامس: الوعي الخالص (الذات)1
Bog aan la aqoon
أولا: البراهين على وجود الوعي الخالص (الذات)1
(1) ماذا يعني الوعي الخالص أو الذات؟
موضوع التوحيد هو لب علم الكلام كله، أعطاه اسمه فأصبح التوحيد هو علم التوحيد، وأصبح العلم كله يدور حول إثبات الذات والصفات والأفعال.
2
وفي كتب الفرق يظهر التوحيد كموضوع أول تفترق فيه الفرق وتجتمع.
3
ولكن لا يبدو بناء الموضوع وتطوره إلا من خلال المؤلفات الموضوعية لا من خلال كتب الفرق. وتبدأ كتب العقائد المتقدمة بالتوحيد، وتكون كل الموضوعات الأخرى مرتبطة به دون تفصيل أو تقسيم لموضوعات جديدة، وكأن التوحيد هو المحور الذي حوله تدور كل الموضوعات الأخرى.
4
ولكن ماذا تعني الذات؟ بعد الانتقال من العالم كما عرضته نظرية الوجود، وتم اكتشاف الطبيعة والإنسان كبعدين رئيسيين فيه، يبدأ السؤال حول الذات، أي الوعي الخالص، سواء كان وعي الطبيعة أم وعي الإنسان أم وعيا مفارقا لما انتهت نظرية الوجود إلى إثبات المفارقات. بداية علم أصول الدين كموضوع هو الذات، أي الوعي الخالص بعد أن كانت المقدمات النظرية كما بدت في نظريتي العلم والوجود أقرب إلى إثبات العالم الحسي. كان السؤال إذن: وماذا بعد العالم الحسي؟ هل هناك وعي خالص أو ذات؟ هل إثبات العالم الحسي يؤدي بالضرورة إلى إثبات الذات؟ وهل الذات افتراض يمكن إثباته أم أنها بديهية وجودية، إذ يشعر كل منا بأن له وعيا قد يكون شائبا وقد يكون خالصا؟ وماذا تعني الذات إن كان وجودها بديهيا؟ لقد حاول القدماء إثبات الذات قبل تعريفها، أي الانتقال من حقيقة العالم الحسي إلى حقيقة الوعي. وتعني الذات مؤقتا الحقيقة، الماهية، الجوهر، الوجود المطلق، التعالي. وقد أتت الحاجة لضرورة إثبات الذات أولا قبل تعريفها؛ لأنه لا يمكن تعريف شيء لم يثبت بعد. لذلك كان السؤال: هل ينتقل الإنسان انتقالا طبيعيا من نظرية الوجود إلى الذات؟ وماذا لو بقي على مستوى العالم الطبيعي دون الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك؟ ولكن العالم الطبيعي وضع الإنسان كأحد أبعاد الطبيعة، وبالتالي وضع الإنسان الطبيعي افتراض الذات أو التعالي. لذلك تنتهي نظرية الوجود عند القدماء لتفسح المجال لدليل القدم والحدوث أو لدليل الجوهر الفرد أو لدليل الممكن والواجب لإثبات الذات أو «الصانع»، أي بداية استخدام الأمور الاعتبارية في «ميتافيزيقا الوجود» لإثبات أمور وجودية في «أنطولوجيا الوجود»، وبذلك يتم الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان.
ولكن يبدأ القدماء، وهم بصدد إثبات الذات بمسلمة وهي التوحيد بين الذات والصانع، ويشيرون إلى أن البراهين على إثبات الذات هي براهين على إثبات الصانع، مع أن الصانع أحد الصفات أو الأسماء وليس من أوصاف الذات. لم يبدأ القدماء إذن ببداية مطلقة يتسلسلون منها على نحو بديهي أولاني مما يدل على أن العلم لم يصل إلى درجة قصوى من العقلانية والتجريد، وأن الفكر الديني أتى ليزحزح الفكر العقلاني عن مكانه ويبطل عليه دوره، وذلك بإدخال إحدى العقائد قبل أن تتأصل؛ وهي عقيدة أن العالم مصنوع، صنعه صانع، وهي عقيدة «الخلق». وإذا كان لفظ الذات قد بلغ درجة قصوى من العقلانية، وبالتالي أصبح معبرا عن التنزيه، فإن لفظ الصانع لم يبلغها فوقع في التشبيه على عكس اللفظ الأول، فماذا يعني الصانع؟ هل هو الخالق؟ وماذا يعني الخالق؟ وهل لفظ الصانع أكثر تجريدا من لفظ الخالق؟ وهل انتهت نظرية الوجود إلى إثبات ضرورة الخلق أم أن العالم كان مكتفيا بذاته عن طريق القسمة وأن المفارقات لم يكن من وظيفتها الخلق بل كانت مؤشرا إلى وجود الوعي الخالص؟ صحيح أن كلا اللفظين الصانع والخالق موجودان في الوحي وكلاهما أسماء «الله». إن لفظ الصانع يشير إلى حقيقة تالية وليس إلى حقيقة أولى؛ إذ إنه يتم إثبات الذات أولا، ثم صفة الصانع ثانيا. وقد يكون لفظ الصانع افتراضا مسبقا أتى من الوحي مباشرة وليس من العقل الذي لم يصل حتى الآن إلا إلى إثبات العالم.
Bog aan la aqoon
5
وتتعدد براهين إثبات الذات بالنسبة إلى تعدد العلوم وتطور مراحلها. فمثلا في المراحل الأولى كانت البراهين غير متميزة وغير منظرة، بل كانت تعتمد على الآيات القرآنية، مثل:
أفي الله شك ...
أو
ولئن سألتهم من خلقهم ... ، وهي أدلة فطرية توحي بدلالة الصنع على الصانع وتعتمد على أوائل المعقول وبداهات الحس وشهادات الوجدان اعتمادا على نظرية العلم الأولى؛ لذلك لم يرد التكليف بمعرفة الصانع لأنها معرفة فطرية، بل إن صفاته أيضا يمكن معرفتها بالفطرة.
6
كانت مقدمات الأدلة أيضا آيات قرآنية، مثل:
أمن يجيب المضطر ... ،
قل من ينجيكم ... ،
أمن يبدأ الخلق ... . وعلى هذا النحو لم يكن هناك فرق بين موقف الأشاعرة وموقف الصوفية. لم تفترق إذن الأدلة، دليلا الحدوث والإمكان عن العواطف الصوفية عندما يتحد التحليل العقلي القائم على القسمة مع المواجيد الصوفية.
Bog aan la aqoon
بعد ذلك خرج دليل الحدوث لإثبات الصانع من نظرية الوجود، بل ويبدو أحيانا وكأنه بديل عنها.
7
وارتبط، خاصة لإثبات مقدمته الأولى «العالم حادث»، بمبحث الجوهر والأعراض في نظرية الوجود ارتباطا وثيقا، حتى إنه ليصعب التفرقة بين المادة الواحدة في موضوعين مستقلين، وحتى انتشرت الطبيعيات في كلا الموضوعين. فالطبيعيات ما هي إلا حديث في دقيق مسائل التوحيد لإثبات فروع الأصول التي يقوم التوحيد عليها. بل إن كل مسائل الطبيعيات لم تكن إلا مقدمة للإلهيات أو أنها إلهيات مقلوبة على الطبيعة كما هو الحال أيضا في الطبيعيات عند الحكماء. وأن كل نظريات المتكلمين في المجاورة والملامسة والاعتماد والتأليف والاجتماع والافتراق إنما أتت من خلال دليل الحدوث وإثبات حدوث الأعراض كمقدمة لإثبات حدوث العالم. ويصل أحيانا إلى درجة أنه يصعب التفرقة بين دليل الحدوث وبين إثبات الذات، الموضوع الأول في الإلهيات. بل إنه يصعب التفرقة فيه بين أوصاف الذات وبين الطبيعيات؛ لأنها كلها تشير إلى الخصائص الطبيعية، مثل الحدوث والفناء والجهة والمكان والزمان والحد ... إلخ.
8
وبعد ذلك حدث تمايز بين المتقدمين والمتأخرين، سواء في براهين المتكلمين أو في براهين الحكماء، إن لم يكن على مستوى المضمون فعلى الأقل على مستوى اللفظ. ففي حقيقة الأمر هي براهين واحدة لها بناء عقلي واحد، تقوم على نفس التصور للعالم وعلى نفس الموقف منه، وتؤدي إلى نفس النتائج. إنما الخلاف في الألفاظ التي تشير إلى درجة التجريد. فالحدوث هو الإمكان، ولكن اللفظ الأول أقرب إلى الطبيعة في حين أن الثاني أقرب إلى ما بعد الطبيعة. والمحدث هو الواجب، ولكن اللفظ الأول أيضا أقرب إلى الطبيعة، والثاني أقرب إلى ما بعد الطبيعة، استعمل المتقدمون ألفاظ الطبيعة وكانوا قريبي العهد من مبحث الجوهر والأعراض، في حين استعمل المتأخرون ألفاظ ما بعد الطبيعة. فالانتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية هو انتقال من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، من الحس إلى العقل، ومن التشبيه إلى التنزيه، من مرحلة أقل تجريدا إلى مرحلة أعلى تجريدا. وقد حدث ذلك بعد سيادة علوم الحكمة على علوم الكلام بعد القرن الخامس عندما بدأ الكلام يحدد نفسه بالنسبة لهذا الخطر الداخلي الجديد وعلى رأسه قدم العالم، فتحول دليل الحدوث القائم على الجوهر والأعراض إلى تفنيد شبه قدم العالم. فلما مثلت علوم الحكمة خطرا على علوم التوحيد، بدأ الكلام في رفض نظرية قدم العالم وما يتبعها من نظريات الفيض والصدور والعقول العشرة ... إلخ،
9
وكأن الهجوم على علوم الحكمة في القرن الخامس لم يفعل أكثر من أنها غيرت وجهتها وتحولت من علوم مستقلة إلى علوم دخيلة على العلوم الأخرى وفي مقدمتها علم التوحيد، أساس العلوم كلها. وقد استغرق دليل الحدوث معظم اهتمامات القدماء باعتباره أول الأدلة. وما يقال بعد ذلك من دليلي الجوهر الفرد أو دليل الإمكان إنما يتم على نفس المنوال، فالبناء واحد وإن اختلفت الألفاظ ودرجة التجريد.
10 (2) دليل الحدوث
تبدأ الإلهيات عند القدماء بدليل الحدوث وإثبات العلم بالصانع، مما يدل على أن دليل الحدوث كله الذي نشأ على مبحث الجواهر والأعراض في مبحث عوارض الأجسام ما هو إلا مقدمة للإلهيات دون أن ينفصل عنها، ونقطة انتقال من العالم إلى ما وراء العالم، من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة.
11
Bog aan la aqoon
فالحديث عن الجواهر مقدمة للحديث عن الأعراض، والحديث عن الأعراض مقدمة لدليل الحدوث. وقد تأتي مقدمات عقلية لإثبات الحدوث دون الاكتفاء بالحس والمشاهدة للتغير، حركة وسكونا.
12
فماذا يعني الحادث؟ وما هو الحادث؟
يعني الحادث «الذي كان بعد أن لم يكن»، أي إنه وجود في الزمان وحركة من الماضي إلى الحاضر، وهو موجود من عدم وكأن الوجود قائم على عدم ومنبثق منه وصادر عنه. ولما كان العدم عند معظم الإسلاميين «نفي محض غير مستمر على صفة من صفات الإثبات، فلا يتحقق ترتيب شيء عليه»، فكيف يمكن إقامة الحدوث عليه، ثم إقامة دليل على وجود الذات ابتداء من الحدوث؟
13
ثم إن هذا التعريف يعتمد على مسلمة مطلوب إثباتها، وهي نظرية الخلق من عدم، فتعريف الحادث بأنه «ما كان معدوما ثم صار موجودا» ينبني على هذه النظرية في مقابل تحول الكائنات. والحادث قد يكون تحولا وتغيرا في الكون وليس بالضرورة خلقا من عدم.
14
وقد يعني الحادث «الوجود الذي له أول»، وهو تعريف متناقض، فإن أول الحادث هو نفسه ويستحيل أن يكون الشيء أول نفسه، وإن كان له حادث هو غيره لزم التسلسل إلى ما لا نهاية.
15
وقد يكون الحادث هو «المتأخر بوجوده عن الأزلي»، وهو خلط بين التقدم بالزمان والتقدم بالمرتبة على ما هو معرف من تمييز بينهما في موضوع النسبة في مبحث الأعراض في نظرية الوجود.
Bog aan la aqoon
16
وقد يكون من معاني الحادث المنفتح وجوده، وهي صورة تشبيهية، فالوجود ليس منفتحا أو منغلقا إلا كصورة شعرية. الانفتاح والانغلاق إما مفاهيم طبيعية حركية أو هندسية، وإما صور فنية تعبر عن أحوال شعورية. فالوجود المنفتح هو القابل للحركة والسكون وسائر الأعراض، وهذا دليل على أن مفاهيم العلم مفاهيم إنسانية خالصة.
17
وقد يكون الحادث هو الشيء، و«الله» مشيئ الأشياء، وفي نفس الوقت لا يتصف بكونه شيئا.
18
وهو تعريف متناقض، يقوم بخطوة إلى الأمام في إثبات الشيء كما يفعل الفكر الطبيعي، ثم بخطوة إلى الخلف في جعله تابعا لشيء آخر كما يفعل الفكر الديني. وقد يكون الحادث عين وجود الحادث أو وصفا زائدا عليه. فإن عين وجوده هو تحصيل حاصل. وإن كان وصفا زائدا عليه فهو أنه وجود بعد عدم، وهو ما يرجع إلى المعنى الأول.
19
هذه التعريفات كلها إذن قاصرة على أن تعرف الحادث أو أن تصوغ له معنى. وهذا يدل على أن الحادث نفسه مفهوم ديني صرف يتضمن حكما مسبقا يدين الشيء لصالح القديم، فهو مفهوم نسبة أو إضافة، لا يعقل معناه إلا بالنسبة للقديم، له معنى متضايف، ولا يفهم إلا بالاقتران. ولما كان الشيء المقرون به هو المطلوب إثباته استحال التعريف وعقل المعنى.
وقد يأخذ الدليل شكلا خطابيا إنشائيا مكتفيا بالاعتماد على الحس والمشاهدة دون صياغة التجربة الحسية في مقدمات عقلية وقياسات منطقية واستدلالات صورية كما سيحدث في علم الكلام المتأخر فيما بعد. والحقيقة أن هذه التجربة الحسية ليست بريئة تماما عن كل إيمان مسبق، بل هي مرتبطة بإيمان ديني قوي يجعل التناهي والحصر والعد والإحصاء والزيادة والنقصان مقدمات خطابية سريعة لإثبات واجب الوجود. لا تقوم إذن كل صياغات دليل الحدوث على مقدمات عقلية من أجل الوصول إلى نتائج منطقية، بل يكون بعضها مجرد عبارات إنشائية تعبر عن عواطف التعظيم والإجلال وعلى مقولات بدائية يقوم معظمها على التشخيص الساذج. ولا ترمي هذه الصياغات إلى إثبات الذات المشخصة، بل إلى إثبات صفاتها من علم وقدرة وخلق وتنزيه، وكأن إثبات الصفات يسبق إثبات الذات، وكأن الأعراض توجد بلا جوهر، وكأن العربة تسبق الحصان!
20
Bog aan la aqoon
فإذا ما فرض العقل نفسه على هذه التجربة الحسية في ظاهرها الإيمانية في باطنها تخرج مقدمات أقرب إلى الأحكام الحسية على العالم، ثم احتمالات تعكس الإيمان المسبق بإحداها على أنه الصحيح والأخرى باطلة في عبارات تستعمل مفاهيم الجمال والقبح كوسط بين مفاهيم الإيمان وتصورات العقل. فإذا ما عجز العقل عن الصياغة والإحكام المنطقي تأتي الأدلة النقلية للمساندة والعون. ومع ذلك تكشف هذه المحاولات الأولى عن بزوغ العقل من خلال الإيمان وعن تجاوز المشاهدة الحسية والتجربة المباشرة إلى التحليل العقلي الصرف،
21
وهذا ما سيسمح بعد ذلك بإحكام المقدمات وتنظير القياس وترتيب النتائج، فتكتمل صياغات منطقية صرفة لدليل الحدوث.
وقد يأخذ الدليل شكلا إراديا قبل أن يتحول إلى دليل محكم، أي إنه يتحول من الإنشاء إلى الإرادة الإنسانية، وهذا يدل على أن الحدوث إما موقف وجداني من الأشياء أو موقف إنساني من الوجود. فالحدوث هنا مقولة للإرادة وليس للأشياء، ويستوي في ذلك بعض الأشاعرة وجمهور المعتزلة. يرتبط دليل الحدوث إذن عند بعض الأشاعرة بالإرادة الإنسانية. وهنا تتأكد الحرية الإنسانية من أجل سلبها من جديد بدعوى الحدوث ونسبتها إلى المحدث، وبالتالي تكون الحرية صفة «لله» وليس للإنسان،
22
وتكون أفعال «الله» دليلا على وجوده، كما كان حدوث الأشياء دليلا على وجوده، فالأفعال جزء من عالم الأشياء.
23
ويأخذ دليل الحدوث عند المعتزلة صيغة عقلية إرادية، ويصبح عند الجمهور أكثر قبولا وأكثر إنسانية مما هو الحال عند الأشاعرة. «فالله» لا يعرف ضرورة كما هو الحال عند الطبائعيين، ولكن يعرف استدلالا كما هو الحال عند الأشاعرة. كل ذات لا تعرف ضرورة فالطريق إليها إما عن طريق حكم صدر عنها أو عن طريق فعل وقع منها، وبالتالي ليس الطريق هي الأجسام والجواهر الطبيعية بل طريق العقل والإرادة الإنسانية. ولما كانت الأحكام إنما تصدر عن علل، و«الله» ليس بعلة لأن العلة تنفك عن المعلول، وذلك يوجب علة ثانية وثالثة، وينتهي الأمر إلى تعدد العلل وحدوثها، وهذا ما يأتي في وحدانية «الله» وقدمه أو إلى أن يكون «الله» عرضا من الأعراض. و«الله» ليس كذلك. يكون الطريق إذن فعلا منه. والأفعال نوعان: نوع يدخل تحت مقدورنا، ونوع لا يدخل تحت مقدورنا. الأول لا يمكن الاستدلال بها على «الله» لأننا أصحابها، والثاني يمكن الاستدلال بها على «الله» كفاعل لها، وذلك مثل ما يقع منا من أفعال القلوب وأفعال الجروح التي لا تدخل تحت سيطرة الإرادة، الأفعال العكسية. بل ويمكن أيضا الاستدلال بما يدخل في مقدورنا على «الله» مثل العقل لأنه من جنس «الله». والاعتقادات لأنها قد تكون من فعلنا ومن فعل غيرنا، واحتمال أن تكون من فعلنا أقل لأنها أفعال الشعور التي لا نستطيع منها شيئا، فهي مرتبطة بالإرادة والكراهة والدوافع والدواعي. الاستدلال هنا مرتبط بالأفعال التي تكشف عن قدرة الإنسان وحرية الأفعال في دليل الحدوث حيث تصبح صلة الذات بالطبيعة صلة أثر وإيجاد لا صلة وجوب ووجود. والحقيقة أن الجواهر سواء كانت من أفعال القلوب تقع منا وكذلك باقي الأفعال مثل: الألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والحياة والقدرة والشهوة والنفرة والفناء، فكلها مرتبطة بحواس الإنسان، والفناء أيضا لأنه تجربة العجز والشيخوخة والموت.
24
ومع ذلك يظل الدليل قائما في إطار دليل الحدوث التقليدي، ولكنه يقوم على بناء إنساني وليس على بناء طبيعي مما يكشف عن ارتباط الدليل بالإنسان وأن إثبات وجود «الله» إنما يتم عن طريق تحليل الوجود الإنساني من خلال الأفعال الإنسانية، القدرة أو العجز، ولما كان الإنسان صاحب أفعاله في حال القدرة، فإن الله لا يثبت إلا في حالة العجز، ويكون تعبيرا عن الضعف الإنساني.
Bog aan la aqoon
ثم ينتقل الدليل بعد ذلك من الأفعال إلى الأجسام، ومن الإرادة إلى الطبيعة لما كانت الأفعال أيضا أجساما وأعراضا، وهنا يتحول دليل الحدوث من الإنسان إلى الطبيعة ومن الأفعال الإرادية إلى الأجسام الطبيعية. وبدل أن يكون مجرد دليل عام من الأفعال إلى «الله» تتفصل خطواته في ثلاث: (1)
إثبات الأعراض، وهي على ضربين: مدرك وغير مدرك. والمدركة سبعة: الألوان، والطعوم، والروائح، والحرارة، والبرودة، والآلام ، والأصوات. ويثبت كل منها على التفصيل، وهي ليست نفس المحل على ما يقول نفاة الأعراض، ولكنها مخالفة لها، فالأجسام متماثلة والاختلاف في الأعراض. (2)
حدوث الأعراض، إذ يجوز عليها العدم والبطلان بعكس القديم. (3)
احتياجها إلى محدث وفاعل مخالف لنا وهو «الله»، وذلك قياسا للغالب على الشاهد.
ولما كان الاستدلال بالأجسام أولى لأنها معلومة باضطرار وليست باستدلال كما هو الحال في الأعراض، فإن العلم بكمال التوحيد يحصل بحدوث الأجسام. ولما كان الاستدلال بالأجسام يتضمن بالضرورة إثبات الأعراض وحدوثها، ظهرت ثلاث طرق للاستدلال بها على حدوث الأجسام، هي: (1)
الاستدلال بالأعراض على «الله» ومعرفته وتوحيده وعدله بعد معرفة صحة السمع ثم الاستدلال بالسمع على حدوث الأجسام. فهو دليل مركب بين السمع والعقل. (2)
الاستدلال بالأعراض ومعرفة قدمه ثم نفي القدم عن الأجسام منعا للمشاركة، مما يدل على أن المفاهيم المستعملة مفاهيم مشتركة بين الإنسان و«الله»، وأنها في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجاز. (3)
الدلالة المعتمدة، وهي صيغة الدليل التقليدية، وهي أن الأجسام لم تنفك عن الحوادث، وما لم يخل عن الحوادث فهو محدث.
25
وهي مبنية على أربع دعاوى: (أ)
Bog aan la aqoon
أن في الأجسام معاني هي: الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون، ووصفها بأنها معان يجعلها أقرب إلى الفلسفة منها إلى الطبيعة. ويمكن الاعتراض عليها بسؤال: ولماذا لا يكون الجسم مجتمعا لذاته أو لوجوده أو لحدوثه طبقا لقانون؟ (ب)
أن هذه المعاني محدثة، ويعترض أصحاب الكمون والظهور الذين ذهبوا إلى قدم الاجتماع والافتراق، فإذا كمن الاجتماع ظهر الافتراق، وإذا كمن الافتراق ظهر الاجتماع. (ج)
أن الجسم لم ينفك عنها ولم يتقدمها، ويعترض أصحاب الهيولى الذين ذهبوا إلى أن الأعيان قديمة والتراكيب محدثة. (د)
أنها إذا لم ينفك عنها ولم يتقدمها وجب حدوثه مثلها، ويعترض جماعة عن طريق إثبات حوادث لا أول لها.
26
ويكشف الدليل بهذه الصورة وما يعتمد في كل مقدمة من مقدمات على تنازع الفكر الإنساني والفكر الطبيعي، وعلى تقدم الفكر الطبيعي على الفكر الإنساني حتى يصل إلى الأشاعرة ويصبح طبيعيا خالصا. وبالرغم من الاعتراضات عليه من أصحاب الفكر الطبيعي الخالص يظل الدليل بصرف النظر عما تبقى فيه من طابع إنساني عقلاني أقرب إلى دليل الأشاعرة من موقف الطبائعيين والحكماء.
ثم انتقل الدليل إلى الأشاعرة. وتفصلت مقدماته وتشعبت. يأتي البعض منها من شهادة الحس، والبعض الآخر من مسلمات دينية، نقلية أو عقلية، ومجموعة ثالثة مجرد تحصيل حاصل، ورابعة تعبر عن نظرة تدميرية للعالم، وخامسة لإثبات عجز الذات.
27
ومما لا شك فيه أن هذا الدليل، دليل الحدوث، له بعض المميزات منها: (1)
أنه دليل تجريبي يقوم على الحس والمشاهدة على الأقل في بعض مقدماته، وليس دليلا عقليا صوريا خالصا يمكن معارضته بدليل عقلي آخر طبقا لقواعد الجدل. وهي مشاهدة يتفق عليها الجميع. وقد كانت شهادة الحس إحدى وسائل المعرفة في نظرية العلم. فهو دليل يبدأ بالواقع الحسي المشاهد، وينتقل من الواقع إلى الفكر، دليل استقرائي تجريبي أو دليل بعدي، في حين أن الأدلة المعروفة والذائعة لإثبات وجود «الله» هي أدلة استنباطية تعتمد على صورية العقل ونظرية الاتساق. يبدأ هذا الدليل من العالم ويتفق مع بناء العالم، والانتقال من مبحث الجوهر والأعراض إلى إثبات الصانع.
Bog aan la aqoon
28 (2)
أنه دليل قرآني، موجود في الوحي، استعمله الخليل في الاستدلال على وجود «الله»، وليس فيه أثر خارجي من حضارات مجاورة يونانية أو غيرها بالرغم مما قد يوحي به لفظا الحدوث والقدم. بل إن لفظ العرض والقديم ألفاظ قرآنية أصلية، والاستدلال على حدوث الأعراض وإثبات التغير والتحول والتطور مستعمل في الوحي في وصف تحول النطفة إلى علقة ثم إلى مضغة إلى آخر ما هو معروف من تصوير للجنين في رحم الأم في أطواره البيولوجية المختلفة.
29 (3)
أنه يطابق شهادة الوجدان، والانتقال من الشيء إلى غيره، ومن الحسي إلى العقلي، ومن الجزئي إلى الكلي، ومن الفردي إلى الشمل، ومن الخاص إلى العام. كما أنه يتفق مع بداهة البسطاء، والموقف الطبيعي للعامة بالذهاب من اللفظ إلى المعنى، ومن الشيء إلى الدلالة. (4)
أنه قد يؤدي إلى البحث عن الأصل والنشأة والتكوين من أجل فهم الشيء عند العلماء. فالشيء أصل وتكوين، والبحث عن هذا الأصل في العلل البعيدة، وتكوين رؤية ميتافيزيقية بعيدة، ومنظور فلسفي شامل، كما يؤدي أيضا إلى البحث عن الغاية والقصد، والنظر إلى العلة الأولى من الأمام، فتثبت القصدية والغائية وتنتفي العشوائية والمصادفة.
30 (5)
قد يؤدي حدوث العالم بعد الوعي به إلى الإحساس أيضا بإمكانية تغيير هذا العالم، وبأن كل شيء فيه يخضع لإرادة الإنسان وطيع لحريته، وبالتالي يكون حدوث العالم دعوة إلى التغيير وممارسة الإرادة الحرة حتى يتم تشكيل الواقع من جديد طبقا لمثل الإنسان ولمشروعه الجماعي القومي، وهو النظام المثالي للعالم الذي يستنبطه منه الوحي. ففناء العالم يعني بقاء الإنسان فيه، وليس عزلته عنه أو تركه له أو نبذه إياه أو إسقاطه من الحساب ووضعه في السلب المطلق، ودفعه إلى العدم باعتباره غير ذي قيمة، لا يستحق أن يكون طرفا للإنسان، وميدانا للفعل، ونشاطا للإرادة، وهذا هو معنى أن «لكل ممكن علة مؤثرة.»
31
إن حدوث العالم قد يوحي بالنشاط والرغبة في تجاوزه. وقد يحدث هذا بالفعل عند بعض القديسين وحدهم رغبة في شهادة فردية، وبطولة استثنائية يؤثر عالما آخر، خيرا وأبقى. أما عند عامة الناس فإنه قد يكون إسقاطا للعالم، وانعزالا عنه أو زهدا فيه، وتخليا عنه، ونبذا له.
ومع ذلك فللدليل عيوب كثيرة، منها ما يتعلق بالفكر العلمي، ومنها ما يتعلق بالفكر المنطقي، ومنها ما يتعلق بالفكر الديني، ومنها ما يتعلق بالفكر السياسي والاجتماعي. فمن ناحية الفكر العلمي: إن إثبات حدوث الأعراض أسهل بكثير من إثبات حدوث الجواهر؛ لأن الأعراض تطرأ على الجواهر وتتوالى عليها، فالجوهر هو الثابت والأعراض هي المتغيرة، وبالتالي يصعب تصور الجواهر على أنها حادثة إلا إذا تم التوحيد بين الجوهر وأعراضه مما ينفي وجود الجوهر. كما أن موضوعات الحركة والسكون وباقي الأعراض مواضيع للعلم الخالص مثل الديناميكا وليست مجالا للتأمل الفلسفي الخالص كدليل على أن الأعراض حوادث. والتغير، كونا وفسادا، موضوع لعلم الحياة وليس وسيلة لإثبات فلسفي لوجود لا يتغير ولا يتطور.
Bog aan la aqoon
32
وقد بزغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني في دليل الحدوث، وذلك بإثبات استحالة حدوث الأعراض إذا كانت في حالة كمون وليست في حالة ظهور، وكذلك إمكان تعري الجواهر عن الأعراض واستحالة انتقالها إذا كانت في حالة كمون. ولماذا يستحيل اجتماع الضدين في مكان واحد؟ وعلى هذا النحو تكون مقدمة «كل جسم لا يخلو من الحوادث فهو حادث» غير واضحة بذاتها؛ لأنه يمكن أن يكون الجوهر قديما والأعراض حادثة، والجسم قديم وصفاته حادثة عن طريق الانبثاق والطفرة بعد الكمون. العالم قديم وصفاته حادثة افتراض ليس مستبعدا، إذ تكشف الجواهر عن تجدد مستمر للأعراض. ولا يعني الظهور أو الكمون الانتقالي وبالتالي الحدوث، بل يعني الوجود الخصب. وكذلك تكون مقدمة «الجواهر لا تنفك عن الأعراض» غير مستبعدة، لأن الأعراض قد تكون في حالة ظهور أو في حالة كمون. فإذا كانت في حالة كمون فإن المقدمة لا تكون صادقة. أما قضية «ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث» فهي مترتبة على القضية السابقة، وبالتالي قد يكون ما لا يخلو من الحوادث قديما نظرا لإمكانية قدم الجوهر وحدوث الأعراض، وهو موقف الحكماء.
33
والعجيب رفض الأشاعرة للكمون مع أنه أقرب إلى تصور العلم لظواهر الطبيعة وتجددها.
34
ولماذا يبطل الظهور والكمون لإثبات وجود الله؟ الظهور والكمون ظاهرتان طبيعيتان ظن المتكلم الأشعري أن في إثباتها إثبات لفعل الطبيعة من ذاتها، وأن في ذلك مناقضة للحدوث وكأن لا شيء يظهر أو يكمن بعيدا عن «الله» الذي خلق كل شيء.
إن تحليل الطبيعة بحيث تؤدي إلى الحدوث واستبعاد كل ما سواه هو في حقيقة الأمر فكر الانتقال يغير علمي موجه بأحكام مسبقة وخاضع للأهواء والانفعالات والعواطف الدينية، وقد سبب هذا عن حق رد فعل الدهريين والطبائعيين دفاعا عن الفكر العلمي. فموقف الدهرية أقرب إلى الموقف العلمي الذي يجمع بين القدم والحدوث، قدم الجواهر وحدوث الأعراض، واكتشاف قوانين الحركة، وتفسيرها بالعلل القريبة الداخلة في الموضوع وليس بالعلل البعيدة الخارجة عنه. الجواهر قديمة، والحوادث لا نهاية لها. قد تكون الجواهر عرية عن الأعراض ثم حدثت الأعراض فيها عن طريق الظهور والكمون، يظهر بعضها عند كمون ضدها في محله. ويتفق الطبائعيون مع الدهرية، ولكنهم يجمعون بين قول الحكماء وقول المتكلمين من أن «الله» خلق الأجسام ثم خلقت الأجسام الأعراض من تلقاء نفسها.
كما يبرز الصراع بين الفكر العلمي والفكر الديني في مفهوم العلية. فاعتبار أن المحدث الموجب لكل حادث لا بد أن يكون خارجا على الحادث تصور يجعل القوة المؤثرة أو العلة خارج العالم ويترك العالم بلا علة داخلة فيه. فينتهي الأمر إلى صورية العلة وبقائها، ومادية المعلول وفنائه. مفهوم العلية مفهوم طبيعية، ولكنه يستخدم في هذا الدليل استخداما ميتافيزيقيا. أن يكون لكل حادث سبب، هذا فكر طبيعي علمي لظاهرة علمية محددة، ولا يمكن الانتقال منها إلى العالم ككل. فالعالم ليس ظاهرة علمية، بل مفهوم ميتافيزيقي أو تجربة إنسانية لا يمكن أن تطبق عليها مفهوم العلية إلا إذا كان بمعنى السبب
Grund
المتيافيزيقي، وهو الوجود ذاته وليس خارجا عنه.
Bog aan la aqoon
35
لا يفرق الدليل إذن بين العلة والسبب، العلة سبب طبيعي، والسبب علة ميتافيزيقية، العلة للأثر، والسبب للوجود. إن علاقة الحركة بالمحرك والمعلول بالعلة على هذا النحو المشخص الطولي الذي لا بد من الوصول فيه إلى علة أولى مشخصة ليست علاقة علمية بل علاقة دينية إيمانية تقوم على التشخيص، فليس لكل حركة محرك، وليس لكل علة معلول. هناك حركة ذاتية، وتغير ذاتي، وفعل ذاتي. وهناك دوران أبدي بين العلة والمعلول على شكل دائري، كل معلول علة، وكل علة معلول، دون الوصول إلى علة أولى ليست معلولة لعلة أخرى، دون الوصول إلى «بيضة» أولى أو «فرخة» أولى. لماذا لا تكون الموجودات فاعلة لنفسها؟ لماذا يحدث كل فعل بفاعل خارجي، وكأن العالم لا فعل له بما في ذلك الإنسان، لا فعل له، ولا خير منه، ولا قوة له؟
وبعض مقدمات الدليل لم تصل إلى صياغة منطقية محكمة، ولا تتجاوز كونها تحصيل حاصل. فاستحالة عدم القدم تحصيل حاصل لأنه قلب لجواز عدم الحادث، ونتيجة طبيعية للقدم، فالقدم والبقاء طرفان لشيء واحد، ما لا أول له ولا نهاية له، ويستحيل وجود أحدهما دون الآخر. ولماذا إثبات استحالة عدم القديم، فالقديم لا يعدم، وإثبات استحالة العدم متضمن في إثبات القديم. هذا بالإضافة إلى أن استحالة العدم يأتي لصفة الوجوب وإثبات استحالة القديم يأتي باستحالة الحدوث وليس باستحالة العدم.
36
كما لا يمكن إثبات حدوث الجواهر بحدوث العالم، فالحدوث هو المطلوب إثباته في كلتا الحالتين. الجواهر هي العالم، والعالم هو الجواهر. كما لا يمكن إثبات الحادث بالممكن أو الممكن بالحادث، فهما مفهوم واحد مرة بلغة الطبيعة ومرة بلغة الميتافيزيقا، مرة عند المتقدمين وأخرى عند المتأخرين. وكذلك مقدمة «ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث» تحصيل حاصل، فكأن الإنسان يقول: ما لا ينفك عن الماء فهو ماء، أو ما يتصل بالهواء فهو هواء. بالإضافة إلى أنها لا تصدق على كل الموضوعات. فما لا ينفك عن الماء قد يكون حيوانا مثل السمك، وما لا ينفك عن الحوادث قد يكون قديما مثل الجواهر. ولماذا يحتاج علم التوحيد إلى إثبات الأعراض والأكوان (الجواهر)؟ فالأعراض مرئية، أما الأكوان فهي مجرد وجود الأجسام، وهي أيضا مرئية مع الأعراض.
ويظهر الفكر الديني صراحة في مفاهيم التناهي والحدوث، وفي سؤال النشأة، بل وفي التقابل بين الجوهر والعرض، والقدم والحدوث، واللاتناهي والتناهي، وفي القفزة التي ينتقل بها المتكلم من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، ومن الأمور الاعتبارية إلى الحقائق الوجودية، ومن العلم «بالله» بالذهن إلى وجوده بالفعل. فلولا إدانة العالم بالحدوث والتناهي بناء على افتراض ديني مسبق بأن «الله» لا متناه وقديم لما أمكن صياغة مقدمة مثل استحالة حوادث لا أول لها، وتصبح ممكنة بقدم الجواهر. حدوث العالم ذاته بالتجرد التام عن الافتراض الديني المسبق في حاجة إلى إثبات. إلا أن إثباته يأتي من عاطفة دينية وموقف إيماني صرف لا يقوم على شهادة حس أو حكم عقل أو بداهة وجدان طبيعي لم يضعفه بعد الإيمان الديني. ولماذا يكون المتناهي في المقدار دليلا على الحدوث؟
37
في حقيقة الأمر هذا فكر ديني مقلوب؛ لأن «الله» هو اللامتناهي القديم، فكان العالم هو المتناهي المحدث. قد يكون التناهي دليلا على العظمة، الإنسان المتناهي، العمر المتناهي، اللذة المتناهية، الحب المتناهي، الألم المتناهي، الغياب المتناهي، بل وحتى الجبل المتناهي، والطعام المتناهي ... إلخ. قد لا يفيد التغير والفناء أي حدوث، بل يشير إلى بناء الطبيعة. التغير جوهر الطبيعة، وبين التغير والحدوث فرق كبير. التغير يحدث في الطبيعة ومن الطبيعة، ولا يدل على شيء آخر غير التغير والتطور والارتقاء، ولا يشير إلى أي ذات مشخصة تحدث هذا التغير كما هو الحال في صور التفكير العلمي البدائي الذي يفسر الظواهر بقوى وملكات غيبية قادرة على إحداث هذه الظواهر. فالمطر يحدث بالقوة الممطرة، والحرارة بالقوة المحرة، والبرودة بالقوة المبردة ... إلخ.
38
ولماذا افتراض التركيب والقسمة في كل شيء كأحد مظاهر التناهي أو الحدوث؟ الأجسام قد تكون بسيطة لا تركيب فيها. الإنسان بسيط، ولو كان مركبا لما كان إنسانا، والشيء بسيط، ولو كان مركبا لما كان شيئا.
Bog aan la aqoon
39
والزمان الطبيعي موضوع لدراسة علم الطبيعة دون افتراض وجود لا زماني وراء الزمان. وينتهي الدليل بالتصور الشائع وهو أن العالم مخلوق، أحدثه «إله» قديم، خالق، وهو التصور الذي يعبر عن أثر التأليه في إدراك الطبيعة، وعن اعتبار الثابت والدائم والخالد والباقي الأصل والأساس خارج الطبيعة. ويكون السؤال: لماذا الانتقال من الحدوث إلى أن المحدثات لها أول؟ إن إثبات ظاهرة وإدراك معناها لا يعني بالضرورة أن هذه الظاهرة لها أول، سواء كان معناها أم غيره. صحيح أن المعنى مستقل عن الظاهرة، ويتحكم في بنائها ووجودها وتطورها، ولكن ذلك لا يعني أنه أول الظاهرة وأصلها ونشأتها، فسؤال الأصل والنشأة قضاء على المعنى المستقل، وتحويل الظاهرة إلى صنعة والمعنى إلى صانع، في حين أن الظاهرة موجودة والمعنى مستقل محمول عليها ونسبته إليها كنسبة الدلالة إلى الدليل. وحتى على فرض تشخيص النشأة لماذا يوصف الصانع بصفات مناقضة للعالم المصنوع؟ إذا كان المصنوع حادثا يكون الصانع قديما؟ إن الصانع من جنس المصنوع أقرب، فالفنان حادث كما أن فنه حادث لأنه أيضا يتشكل.
والأقرب إلى العقل وشهادة الحس ومضمون التجربة البشرية اتفاق الصانع والمصنوع في الصفات أكثر من اختلافهما، باستثناء الفكر أو الوعي أو الشعور. فالصانع واع بفنه وعالم به وقادر عليه، في حين أن المصنوع طبع متشكل يخضع لعمل الفنان. وما الذي يمنع من وجود حوادث لا أول لها؟ لماذا يستحيل وجود حوادث لا أول لها؟ يمنع من ذلك فقط بناء العقلية المتدينة التي تظن أن الحوادث لا بد أن يكون لها أول حتى لا نشارك مع «الله» في صفة الأول؛ لأن «الله» أول الأشياء. يمكن للأشياء أن تتسلسل إلى ما لا نهاية من حيث الأول إن كان ولا بد من التصور الطولي المتراجع. ويمكن أيضا تسلسل الأشياء تسلسلا دائريا حيث يرجع أول الأشياء إلى آخرها وأن يكون الشيء علة ومعلولا في نفس الوقت دون حاجة إلى علة أولى ليست معلولة إلى علة أخرى.
40
وحتى على فرض أن العالم حادث بفعل التغير، فلماذا الاستدلال من الحدوث إلى المحدث بهذا المنطق التشخيصي، والانتقال من الظاهرة إلى صانع الظاهرة؟ إن الطبيعة ليست مصنوعة. الطبيعة موجودة، ويتعامل معها الإنسان، باعتبارها موجودة، سابقة عليه، ولاحقة عليه، ولا يلحقها بصانع. الصنع تصور إنساني مشخص، يسقطه المتكلم على الطبيعة فيجعلها مصنوعة، وكأن الطبيعة عالم مصنوع، وكأن المتكلم قد حول جمال الطبيعة إلى جمال الفن، وحول الطبيعة إلى صنعة.
41
لقد كان المتكلم في حياته الخاصة حرفيا أو تاجرا وابن سوق، وكان المجتمع كله كذلك، مجتمعا صناعيا تجاريا، الأشياء مصنوعة ولها صاحب، ومملوكة ولها مالك.
وما العظمة في إثبات وجود «الله» عن طريق الأعراض والأعراض أقل القسمين قوة وقدرة؟ فالأعراض بداية دليل الحدوث، وكل حادث له محدث، فالدليل هنا قائم على القسم الأضعف من الجسم وهو العرض وليس على القسم الأقوى، وهو الجوهر الذي منه يبدأ الدليل الثاني، دليل الجوهر الفرد. وكأننا أقمنا وجود الله على الشق الضعيف من الشيء، فقام البناء كله على ركن مائل هش.
42
والتحول من الأعراض إلى الأكوان لإثبات وجود الله ابتداء من الحدوث استجابة لهذا الاعتراض، وهو أن الله لا يثبت من القسم الضعيف وهو العرض بل من القسم القوي وهو الجوهر حتى لا يتمخض الأسد فيلد فأرا. فالأكوان أكثر التصاقا بالجوهر منه بالأعراض، وتدل على التكوين والصلابة، في حين أن العرض يفيد الزوال والتغير والفناء.
Bog aan la aqoon
43
إن مفهومي الجوهر والعرض في حقيقة الأمر إنما يكشفان عن طبيعة الفكر الديني الذي يقسم العالم إلى قسمين: قسم إيجابي وآخر منفي، قسم بالزائد وآخر بالناقص، وتكون علاقة الطرفين علاقة أولوية وشرف، علة ومعلول، أول وآخر، قدم وحدوث. وجوب وإمكان، لا تناه وتناه، إلى آخر هذه الثنائيات المعروفة في الفكر الديني. فاستحالة قيام الأعراض بنفسها لحاجتها إلى الأصل وهو الجوهر والأساس. المفهومان إذن يعبران عن فكر ديني مجرد؛ وذلك لأن العلاقة بين الجوهر والعرض هي علاقة الثابت بالمتحول، الأصل بالفرع، المركز بالدائرة، وهي العلاقة الدينية المشهورة بين «الله» والعالم، إعطاء أولوية لطرف على حساب الطرف الآخر، وليست علاقة التساوي بين الأطراف، وهي أيضا علاقة من طرف واحد وليست علاقة متبادلة بين طرفين، أو باختصار علاقة الاستقلال والتبعية التي نعاني منها في شتى مظاهر حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى أصبحت طابعا مميزا لجيلنا وسمة أساسية للعصر. هي قسمة ذهنية في الظاهر، دينية إيمانية في الباطن، من شأنها تثبيت الأساس ثم التفريع عليه. قسمة عقلية في الظاهر، ولكن تفنيها عواطف التأليه فتترك العالم بلا أساس من داخله، وتجعل له أساسا مستمدا من الذات المشخصة التي يعلق عليها كل شيء. كانت هذه القسمة باستمرار من دعامات الفكر المثالي، وهو الفكر الديني في أكثر صوره عقلانية في اعتبار الأصل هي الصورة، والفرع هي المادة أو في تصور العالم على أنه عالمان، أساس ومؤسس عليه، أصل وفرع، وهي القسمة التي تجعل علاقة الأشياء بعضها ببعض على المستوى الاجتماعي والسياسي علاقة تسلط وتبعية، قاهر ومقهور، غالب ومغلوب، غني وفقير، أعلى وأدنى ... إلخ. وتفرض هذه القسمة نفسها على كل المستويات، وفي التأليه فتصير الذات والصفات، الذات جوهر والصفات أعراض، وفي الطبيعيات الجوهر شيء والكيفيات أعراض. وكذلك مفهوما القدم والحدوث، والوجوب والإمكان ... إلخ من مفاهيم الفكر الديني المجرد . وبالتالي تكون مقدمة «الأعراض حادثة» ليست حكما طبيعيا على الأعراض، بل إلهيات مقلوبة على الطبيعيات، فلأن الله قديم عكسنا الحكم وجعلنا العالم حادثا.
والحقيقة أن الانتقال من عالم الحدوث والجواهر والأعراض إلى عالم القدم والصور قفزة شعورية خالصة تقوم على الانتقال من الضد إلى الضد عن طريق القلب كتعويض نفسي، فلا يستطيع أن يأكل الصغير إلا الكبير، ولا يستطيع أن يهزم الضعيف إلا القوي. فهو تعليل عن طريق الرجوع إلى الأعلى، أي إلى السلطة، في حين أنه يمكن تفسير الأشياء والظواهر بالظواهر على نفس المستوى دون الرجوع إلى السلطة القاهرة التي هي «الله» على مستوى السياسة. والبحث في فعل لا يأتي بالضرورة بالبحث عن الفاعل، فذلك أسلوب بوليسي مباحثي جنائي، ولكن عن طبيعة الفعل، وتكوينه، وأثره. ولماذا تكون العلة الفاعلة لها السبق على العلة المادية أو العلة الصورية أو العلة الغائية؟ من الطبيعي أن لكل فعل فاعل، ولكن الأصعب هو البحث عن بناء الفعل وغايته ومادته، فلا شيء يحدث في الطبيعة عشوائيا أو بالمصادفة.
44
كما يحتوي الدليل على قفزة شعورية ثانية، وهي الانتهاء من وجود الذات إلى وجود صانع أو خالق. ومن ثم يكون الدليل في حاجة إلى دليل آخر لإثبات صفة الصنع أو الخلق. فقد يثبت أحد الذات أي الوعي الخالص دون إثبات صفة الصنع.
فتصور الذات منذ البداية في موضوع الذات على أنها صانع هو استباق إلى الموضوع الثاني، وهو الصفات، خاصة وأن صفة الصنع أو الخلق ستكون أحد الموضوعات في بحث الصفات. فإذا كان كل موضوع لاحق إنما يتراءى في الموضوع السابق، فإن ذلك يدل على النسق المحكم لعلم أصول الدين وتنظير العقائد بحيث يؤدي كل منها إلى الآخر ذهابا أم إيابا، صعودا أم نزولا، تقدما أم رجوعا. وعلى فرض إثبات وجود الله يبقى السؤال قائما، وهو: كيف يمكن العلم به وهل يمكن العلم به؟ إن الاستدلال بالصنعة على الصانع لا تعني بالضرورة العلم بالصانع، ومن ثم لزم الحديث بعد ذلك عن الذات والصفات والأفعال كمحاولة لتعريف الصانع وكيفية تصوره.
45
ولكن القفزة الشعورية الثالثة هي الأهم، وهي أن دليل الحدوث يثبت أن هناك القديم، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن القديم موجود؛ لأن تصور الحادث تصور إضافي مثل أبيض لا بد أن يحيل إلى أسود. فالحادث لأنه تصور إضافي لا بد وأن يحيل إلى القديم دون أن يكون القديم موجودا بالفعل، وكأن هناك دليلا أنطولوجيا مفترضا مسبقا يمكن بواسطته الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان. وكيف لهذا الافتراض أن يوجد و«ميتافيزيقا الوجود» في نظرية الوجود قد انتهت إلى أن الوجود والماهية والعدم والواجب والممكن والمستحيل والقدم والحدوث، والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، كلها أمور اعتبارية لا وجود لها إلا في الذهن؟
ولكن أخطر شيء في دليل الحدوث هو تدمير العالم وإثبات عجز الإنسان مما يسمح لكل نظم القهر والتسلط بأن تقوم بدور «الله» الماسك بالعالم والحافظ له. فلماذا تكون «الأعراض حادثة»؟ إن الحدوث إسقاط من عواطف التأليه على الطبيعة، فينشأ من هذا الإسقاط تقليل لها في الشرف والقيمة في مقابل إثبات الأكثر قيمة وشرفا. ليس الحدوث تصورا للأشياء، بل هو نتيجة عكسية لعواطف التأليه، وأزمة نفسية بالنسبة لقضايا التغير الاجتماعي، ويأس من تغيير العالم بالفعل. الحدوث اتجاه «ماسوشي» بالنسبة للأشياء لأنه يقضي عليها ويريد إفناءها وتدميرها، وينكر عليها أن تكون مستقلة باقية موجودة بنفسها. الحدوث تدمير للعالم كله، وقضاء عليه، وإنكار لوجوده، ترفعا عليه، وذهابا إلى ما وراءه بحثا عن أمل ضائع وتعويض ذلك بانتصار ذهني في مجتمع مهزوم أو تأكيدا للسلطة وتثبيتا للقدرة في حالة مجتمع منصور. هذا بالإضافة إلى أنه حكم مسبق يتنافى مع الفكر العلمي، وناتج عن تطهر ديني مسبق. وحتى على افتراض الانتقال من التغير إلى الحدوث، فالحكم على العالم بأنه حادث يتضمن حكما ضمنيا يسلب العالم حقه في الوجود. فهو حادث، أي أنه يحتاج في وجوده إلى غيره، ريشة في مهب الريح، وهو تصور عادم للكون، مناقض للتصور العلمي القائم على الثبات والاطراد. تصور العالم حادثا إذن يجعله محتاجا إلى غيره ، فاقدا وجوده من ذاته، مستمدا وجوده من طرف آخر يمده بالعون ويجعل العالم داعيا له طالبا المدد، وهو ما ترسب في وجداننا المعاصر في تصوراتنا للعلاقات الاجتماعية والسياسية، فتحولت مجتمعاتنا إلى قسمين: يد عليا ويد سفلى، وأصبحنا كلنا في النهاية أيادي ممدودة إما للأخذ وإما للعطاء. إن هذا الفصم بين الحركة والمحرك أو المعلول والعلة لا يفسر الحركة والتغير، بل يدمر العالم؛ لأنه يجعل الأثر كله والفعل كله للعلة دون المعلول وللمحرك دون المتحرك، وبالتالي تسقط الطبيعة نهائيا ولا يبقى إلا ما بعد الطبيعة. إن رؤية التغير والحركة في العالم تدفع إلى كشف قانون للحركة وليس إلى علة الحركة، أي الانتهاء من الشيء إلى الشيء وليس من الشيء إلى اللاشيء، حتى تبقى الملاحظة على مستوى التجربة وينشأ العلم دون الانتقال من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة أو من العلم إلى الميتافيزيقا حتى لا تستعمل الطبيعة كمقدمة لشيء آخر، وهذا الذي سماه القدماء حكمة الصانع، وأنه لا بد من «مؤثر صانع حكيم».
46
Bog aan la aqoon
ولماذا تكون الحركة والسكون عيوبا ونقصا ويكون الثبات كمالا وشرفا؟ ولماذا يكون التضاد نقصا والاتساق والوئام كمالا؟ وهل في الطبيعة قيمة؟ هل الظواهر الطبيعية ناقصة أو كاملة، خسيسة أو شريفة؟ أليس هذا خلطا بين أحكام الواقع وأحكام القيمة؟ ويسوء الأمر أكثر فأكثر باعتبار أحدهما كمالا والآخر نقصا، الأول إيجابا والثاني سلبا، الأول وجودا والآخر عدما، فينتهي الأمر كله إلى تدمير العالم لصالح شيء آخر هو ما وراء العالم، مما يجعل إحساس الناس بالواقع معدوما، وشعورهم بالدنيا غائبا، ومما قد يوقعهم أيضا في الغيبيات والأساطير، ويجعلهم مغتربين عن العالم، يشيحون بوجوههم عنه. ولما كان المؤثر فاعلا والعالم مفعولا فيه تتحول هذه العلاقة من مستوى الطبيعة وما بعد الطبيعة إلى مستوى الاجتماع والسياسة من خلال البناء الشعوري والتصور للعالم، فتنشأ العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الرئيس والمرءوس، بين الأعلى والأدنى على نفس نمط العلاقة بين «الله» والعالم، أو بين القديم والحادث كما يعرضه دليل الحدوث، فتنشأ النظم التسلطية التي تقوم على القهر والسيطرة وإعطاء كل شيء إلى السلطان وحرمان الشعب من كل شيء، كما أعطى من قبل كل شيء إلى «الله» وحرم العالم من كل شيء، حتى توحد الله والسلطان في وجداننا المعاصر، والتحمت السلطة الدينية بالسلطة السياسية، وكل ذلك على حساب العالم والشعب، على حساب العلم والحرية.
ولماذا الإصرار على أن الجسم لم يتقدم المعاني، بل المعاني سابقة عليه، في حين أن العلاقة الطبيعية بين الشيء والمعنى هو أن المعنى مدرك؟ صحيح أن المعنى عقلي وليس في الشيء، ولكنه حصل بعد حصول الشيء إن كان ولا بد من القبلية والبعدية. ولماذا لا تكون المعية افتراضا معقولا مثل القبلية؟ إن المعنى يحدث بمجرد وجود الشيء، فلا شيء إلا وله معنى مصاحب بشرط فعل الإدراك وانتباه الشعور. إن القول بأن المعاني سابقة على الأجسام حتى يمكن بعد ذلك إثبات أولويتها يهدف إلى إثبات وجود «الله»، «فالله» هو المعنى السابق على الجسم، وهي مصادرة على المطلوب، وافتراض النتيجة مسلمة. والنظرة المثالية في علاقة المعنى بالشيء، سواء كان لفظا أم جسما، إنما هو تعبير عن تصور ديني مقنع، وإيمان تقليدي دفين. وتصل النظرة التدميرية للعالم إلى درجة إثبات نهاية العالم وتناهي الأعراض، وكأن «الله» لا يثبت إلا بعد تدمير العالم، وكأن بقاء العالم بالضرورة ينفي وجود «الله». إن هذا التصور للأشياء بين الأعلى والأدنى إنما يعبر عن هذه العلاقة الإيمانية التقليدية بين «الله» والعالم، وهو مناقض للتصور العلمي للأشياء الذي يجعلها على مستوى واحد، فالخلاف بين الظواهر في الدرجة لا في النوع. كما أن سؤال النشأة والمصدر والأصل يقضي على بنية الشيء، ويلغي مستقبله من أجل ماضيه مما يطبع العقلية كلها بطابع البحث عن الأصول والمصادر دون البحث عن الكائنات الحاضرة. ولماذا لا يدرك التكوين من داخل الشيء وليس من خارجه، والتفسير بالعلل القريبة أكثر علمية من التفسير بالعلل البعيدة؟ ولماذا يكون «الله» وحده هو القادر المختار؟ وأيهما أولى: البحث عن النشأة والتكوين أم الإعداد للغاية والمصير؟ صحيح أن البحث الأول عامل مساعد للبحث الثاني ولكنه ليس بديلا عنه أو ضده كما هو الحال في دليل الحدوث.
والأخطر من ذلك كله هو ما يوحي به دليل الحدوث من إثبات عجز الإنسان عن فعل شيء في العالم أو إحداث أي تغيير. وأيهما أفضل: إثبات عجز الإنسان أم قدرة الإنسان؟ صحيح أن الإنسان ليس صانع نفسه ولا صانع العالم ولا صانع ذبابة،
47
ولكن هل المقصود تعذيب النفس وردها إلى ما هو أقل منها، ثم خلاصها بإثبات قدرة الآخر واستجلاب العون منه؟ هذا بالإضافة إلى أن الدليل يثبت صفة القدرة وليس وصف الوجود. ولماذا تعذيب الذات واعتبار الإنسان عاجزا جاهلا ميتا أكثر من اعتباره فاعلا للقدرة وصاحب علم وأهل حياة؟ لماذا هذا الإقلال من شأن الذات؟ ولماذا يكون الإنسان غير قادر على فعل أي شيء أو أن يكون علة أي شيء وأن يكون غيره أقدر منه على الفعل في العالم وأن يكون علة له؟
48
لماذا يكون الفاعل المختار غير الإنسان؟ ليس المهم إثبات قدرة الإنسان على خلق الشيء بل قدرته على تغيير بنائه، فالأشياء موجودة، والإنسان قادر على تغيير بنائها الاجتماعي والسياسي، فالأعراض نوعان: الأولى خارج القدرة ولكن الثانية داخلة في نطاق القدرة. وفي حقيقة الأمر ينتهي دليل الحدوث إلى نزع قدرة الإنسان على الفعل ولا يثبت قدرة الآخر عليه. فإذا لم تثبت قدرة الإنسان فكيف يتمخض الفيل فيلد ذبابة؟ وإذا كان موضوع القدرة على الفعل تصادم قدرة الصانع مع قدرة المصنوع فتضيع قدرة المصنوع من أجل إثبات قدرة الصانع. ولما كان الصانع قد صنع كل شيء، وبالتالي فهو قادر عليه، يكون إثبات القدرة جزءا من الكل، وتحصيل حاصل، ولا يأتي بجديد، لأنه متضمن في إثبات الصنعة، والقدرة جزء منها، فضاع وجود الشيء أولا من أجل إثبات وجود «الله»، ثم ضاعت قدرة الشيء ثانيا من أجل إثبات قدرة «الله». (3) حدوث العالم
وقد يتحول دليل الحدوث من مجرد دليل لإثبات الصانع أو واجب الوجود إلى موضوع ميتافيزيقي مستقل عن حدوث العالم وقدمه ذاتا وصفات في بناء رباعي يضع احتمالات أربعة: قدم الذات والصفات، حدوث الذات والصفات، حدوث الذات وقدم الصفات، قدم الذات وحدوث الصفات. الأول اختيار الحكماء، والثاني اختيار المتكلمين خاصة الأشاعرة منهم كرد فعل على الاختيار الأول واتهام أصحابه بأنهم ملاحدة، والثالث مستحيل عقلا لاستحالة أن تكون الجواهر حادثة والأعراض قديمة بدليل الأولى، والرابع تصور الطبائعيين من المعتزلة، وهو أقرب إلى التصور الطبيعي الذي يجعل الجواهر قديمة ثم تظهر فيها الصفات عن طريق الطفرة أو الكمون فتبدو حادثة بمعنى التحقق من القوة إلى الفعل.
49
وقد ظهر الموضوع من قبل نظرا لأهميته في نظرية الوجود، سواء في «ميتافيزيقا الوجود» أي «الأمور الاعتبارية» في مفهومي القدم والحدوث أو في «أنطولوجيا الوجود» في «الجواهر» في عوارض الأجسام. ولما كان كل فريق يقوم بإبطال قول الخصم ثم بإثبات قوله الخاص، فيقوم أنصار الحدوث بإبطال قدم العالم ثم إثبات حدوثه كما يقوم أنصار القدم بإيراد الشبهات على حدوث العالم كي يثبت قدمه.
Bog aan la aqoon
50
ويعتمد الأشاعرة لإبطال القدم على إثبات استحالة وجود حادث لا أول لها واستحالة وجود أجسام لا تتناهى في المكان؛ وذلك لأن الحادث هو الوجود الذي له أول وله نهاية.
51
وفي حقيقة الأمر أن هذا تحصيل حاصل أو دور منطقي؛ لأنه إثبات الموضوع بالمحمول والمحمول بالموضوع، فالحادث ما لا أول له ولا نهاية ولما أول له ولا نهاية هو الحادث. كما أنه خلط بين الأول والنهاية كجسم في المكان وبين الأول والنهاية كأجسام متصلة أو كمادة مستمرة بصرف النظر عن قسمتها إلى أجسام. أما إثبات الحدوث فإنه عادة ما يكون بإبطال قول الخصم، أي بإبطال حجج القدم ولا يكون دليلا إيجابيا، وهو بالتالي يعود إلى المسلك الأول. وإثبات أن لو كان الجسم أزليا لكان إما ساكنا أو متحركا، وكلاهما باطل هو مجرد افتراض خالص؛ لأن الحركة والسكون لا تكون إلا للأجسام الحادثة وليس للأزلية، وبالتالي فالحجة تقوم على إسقاط تصورات الحدوث على القدم وقياس الغائب على الشاهد، وهو منطق الفكر الديني.
52
وقد يثبت حدوث العالم عن طريق إثبات تناهي النفوس الإنسانية عددا، وتناهي الأشخاص الإنسانية، وحدوث الأمزجة وتناهيها، وتناهي الحركات الدورية للعناصر، وتناهي المتحركات والحركات السماوية، وهي كلها افتراضات صرفة تعبر عن إيمان ديني مسبق وتحتاج إلى إثبات. فما الدليل على تناهي النفوس والأشخاص والحركات؟
53
وقد يثبت الحدوث ابتداء من تحليل الأفعال الإنسانية والسلوك البشري والانتهاء إلى أنها محتاجة إلى بواعث ومقاصد وإرادات، وبالتالي فهي ليست أفعال ذاتها. وفي حقيقة الأمر أن ذلك يثبت البواعث والمقاصد ولا يثبت شيئا آخر خلافها. ولا يثبت حدوثا أو قدما، بل قد يثبت بقاء للأفعال بعد تحققها في العالم، وبقائها فيه.
54
ويستعمل دليل الحدوث لإثبات الخلق ضد الصدور أو الفيض باعتباره أحد أشكال نظرية القدم. لذلك يتصل دليل الحدوث بأفعال واجب الوجود فيما يتصل بالفرق بين الخلق والإيجاد ووضع الخلق بديلا عن الفيض، والحرية بديلا عن الحتمية.
Bog aan la aqoon
55
ولقد عرض المتكلمون لشبه الحكماء حول حدوث العالم موردين حججهم لقدمه بحيث يصعب الرد عليها وتفنيدها، وهي حجج منطقية وميتافيزيقية وحسية واضحة وقوية يسهل اقتناع الإنسان بها، فلو كان العالم محدثا لاحتاج إلى محدث، وهذا إلى محدث، إلى ما لا نهاية، وهو محال. ولو كان محدثا لوجب أن يكون لفاعله غرض وحاجة، جلب نفع أو دفع ضرر، وهو محال أيضا على «الله». ولو كان محدثا لاستحال وجوبه إما إلى المقدور أو القادر، وكلاهما محال، وإلا لما وجد المقدور ولعجز القادر. ولو كان محدثا لوجب كون القديم غير عالم بوجوده، وهذا مما يوجب التغير في العلم، وإن كان علمه قديما وجب قدم العالم. كما أنه لا توجد دجاجة إلا من بيضة ولا بيضة إلا من دجاجة، وهكذا أبدا، وهذا يوجب قدم العالم.
56
وهي حجج تعتمد على استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية، وإلى دور أن العلة والمعلول دون ما حاجة إلى علة أولى أو معلول أول، وإلى العلم والقدرة والاستغناء. وهناك حجج أخرى تعتمد على قدم الزمان وقدم المادة والتجانس بين العلة والمعلول. فإذا كان المحدث يعني التأخر، فإن ذلك قد يكون بلا مدة، وبالتالي لن يكون قديما أو بمدة متناهية وجب تناهي القديم أو بمدة لا متناهية فوجب قدم العالم، كما أن كل حادث يسبق إمكان عدم والإمكان أحد أنماط الوجود، وهو لا يتصور إلا في مادة والمادة لا تتصور إلا في زمان ويستحيل التسلسل، وبالتالي لزم الانتهاء إلى موجود واجب بذاته هو العالم، وهي الشبهة التي من أجلها جعل المعتزلة المعدوم شيئا. كما أن ما يثبت جوازه يثبت وجوبه، ولا يثبت سبب حادث إلا لأمر حادث مثله.
57
وقد تأخذ الحجج طابعا إنسانيا خالصا مثل صفات الجود والإحسان والكرم التي للقديم مما يدل على فيض عواطف الإيمان على منطق العقل وأحكام الاستدلال. فالإيجاد إحسان والامتناع عن الإحسان نقصان. وقد تنكر حجج استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية أو ضرورة التجانس بين العلة والمعلول بصور عديدة. مثلا لو كان القديم في الأزل موجودا ثم صار موجدا، فصفة الموجودية محدثة وبالتالي تفتقر إلى موجد آخر وهو محال، وإن كانت أزلية لزم أن تكون الموجودات أزلية لاستحالة انفصال المعلول عن العلة. كما أن ذات الباري إما أن تكون متقدمة على وجود العالم والتقدم متناه فيلزم حدوث الباري وإن كان التقدم غير متناه يكون الزمان قديما، وإن لم تكن متقدمة لزم حدوث الباري وهو محال أو قدم العالم.
58
وقد يشارك في هذه الحجج بعض القدماء الذين ينتسبون إلى حضارة أخرى ثم أصبحوا رافدا في الحضارة خاصة في علوم الحكمة. وذلك مثل حجة الجود والكرم، أو أن الصانع لا يزال كذلك إما بالفعل، وبالتالي يكون المعلول مثله أو بالقوة فيحتاج إلى إخراج وتغير، وهو مستحيل على القديم. وذلك أيضا أن العلة من جهة الذات لا يجوز عليها الانتقال كما لا يجوز على المعلول، وبالتالي يصبح كلاهما قديما.
59
ولم يجد الفقهاء حرجا في عرض شبهات الحكماء والاستشهاد عليها بالحس والمشاهدة طبقا لنظرتهم الحسية للعالم. فلم يشاهد إلا حدوث شيء من شيء، ولم يشاهد أحد خروج شيء من لا شيء إلا بفعل ساحر. كما أن المحدث إما أحدث لأنه كذلك وبالتالي يكون الحدث مثله أو أحدث لعلة، والمعلول لا يفارق العلة. وإن كان للأجسام محدث فلا يخلو الأمر من أوجه ثلاثة، إما أن يكون مثلها من جميع الوجوه، وهذا يعني قدمها، أو أن يكون مثلها من وجه وخلافها من وجه، وهذا أيضا لا ينفي القدم، أو أن يكون خلافها من جميع الوجوه وهو محال. والإحداث قد يحدث للحاجة أو لجلب نفع ودفع ضرر، وهو مستحيل على القديم أو تحدث لأشياء بالطباع التي لا يفترق فيها العلة والمعلول. كما أن الأجسام لو كانت محدثة لكان محدثها قبل أن يحدثها فاعلا لتركها وهذا يوجب قدمها أجساما وأعراضا.
Bog aan la aqoon