243

Min Caqida Ila Thawra Tawhid

من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد

Noocyada

وإذا كان العلم بالذات ممكنا فإن العلم بالغير يكون ممكنا كذلك، فالعلم بالذات هو علم بالغير لأن الذات هي الغير، بل إن الوعي بالذات هو في نفس الوقت وعي بشيء أي وعي بالآخر، وهذا لا يعني أن هناك علمين: علم بالذات وعلم بالموضوع، بل علم واحد، وتغاير الموضوع لا يعني تغاير العلم. ليس هناك علم بالذات يكون أشرف من العلم بالموضوع كصفة للذات، فهذه ثنائية تركيبية لا توجد في وحدانية الذات. وليس من شرف الذات أن تكون وعيا فارغا، وعيا بلا شيء، خارج نطاق العالم، فهذا إسقاط للموضوع وتحديد للعقل وتفضيل لحكم الشرف والقيمة على حكم العقل والواقع. ويقوم إنكار علم الذات بالغير على عدة حجج منها: أنه لو عقل شيئا لعقل ذاته، وهذا محال لاستحالة حصول النسبة بين الشيء ونفسه، وهو محال. وهي حجة مبنية على افتراض مسبق هو استحالة العلم بالذات، كما أن علمه لا يكون ذاته وإلا كان ذاته قابلا وفاعلا أي موضوعا وذاتا، وهو محال. لو قامت بذاته صفة لكانت ذاته مقتضية لها، فيكون قابلا وفاعلا معا وهو محال. والحقيقة أن هذه الحجة تقوم أيضا على افتراض استحالة العلم بالذات ولا تقوم إذا ما ثبت خطأ الافتراض. فإن قيل أيضا: لو كان العلم صفة كمال لكان الموصوف به ناقصا لذاته ومستكملا بغيره، وهي نفس حجة نفي الصفات. والحقيقة أن الوعي بشيء ليس نقصا في الوعي بالذات، بل أحد مظاهر كماله، وإلا كان الوعي فارغا بلا مضمون. ولا يدل ذلك على احتياج وعوز وفقر، فتلك لغة تشبيهية إنسانية، ولكن تدل على بناء الوعي على أنه وعي بذاته ووعي بغيره. أما باقي الحجج فإنها مستمدة من الحجج العامة لإثبات الصفات، مثل احتمال تعدد القدماء إذا ثبتت الصفات أو افتراض التركيب ضد الوحدانية، وأن العالمية والقادرية واجبتان ولا تعللان بقدرة أو بعلم، فالموجب للعالمية ذاته إما بواسطة (الصفاتية)، أو بلا واسطة. والعلم لا يختص بمعلوم دون معلوم وإلا وجب الحدوث والترجيح والتخصيص والإضافة والتأثير. وقد تقال حجة جدلية لنفي علم كل شيء مثل أنه لو علم شيئا لعلمه بعلم، وهذا العلم الثاني بعلم ثالث ويتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، وبالتالي يستحيل العلم لأن الوعي بالذات لا يحتاج إلى وعي بالوعي لأن الوعي بالوعي هو وعي بالذات، علم كامل لا يحتاج إلى علم آخر كي يتم العلم به. وبداهة التجربة الإنسانية وإدراكها المباشر أصدق من أية حجة جدلية منطقية صورية فارغة.

72

وقد ينكر العلم بما لا نهاية له، فلا يعقل إلا المتناهي، وذلك لأن المعلومات تتطرق إليها الزيادة والنقصان ولأن كل معلوم متميز عن غيره مفتقر إليه، فهو متناه، ولأن العلم بالمعلوم مخالف للعلم بغيره، فلو كانت المعلومات غير متناهية لكانت العلوم كذلك. والحقيقة أن هذا خلط بين موضوع العلم وقانون العلم. فإذا كانت موضوعات العلم غير متناهية فلأنها جزئية، والأجزاء لا تتناهى، أما إذا كان موضوع العلم هو القانون العلمي فالقانون متناه لأنه مطرد في عدد لا متناه من الأجزاء.

73

لذلك أنكر الحكماء العلم بالجزئيات، أي بالوقائع اللامتناهية عدا وإحصاء وإدراكا، وأثبتوا فقط العلم بالكليات عقلا واستنباطا واطرادا. وحجة الفلاسفة أن ذلك يوجب تغيرا في علم الله وجهلا بتغير الوقائع. وقد رد المتكلمون على الحكماء بعدة حجج، منها أن فاعل أبدان الحيوانات لا بد أن يكون عالما بجزئياتها، وأن العلم صفة كمال تجب لله والجهل صفة نقص تستحيل على الله. ولما كان العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول، وجب علم الله بالجزئيات، فعلم الله الأزلي فيه ماض وحاضر ومستقبل، فحقيقة أنه سيقع غير حقيقة أنه وقع لاختلاف المتعلقين، وأن شرط العلم هو الوقوع، ويمكن العلم بأنه وقع مع الجهل بأنه سيقع وهو محال. والحقيقة أن هذه مسألة إنسانية صرفة يظهر فيها التقابل بين العلم القبلي العقلي الاستنباطي والعلم البعدي الحسي الاستقرائي، وكلاهما مطلبان للمعرفة الإنسانية، والتوحيد بينهما أحد غايات الحكمة. وبالرغم من علم الذات بالغير إلا أنه علم قبلي، سابق على البداهة. ومن الطبيعي أن يركز الحكماء عليه لأنه في الذهن الإنساني سابق على التجربة، وبالتالي أشرف من العلم التجريبي المستقى من العالم الخارجي، الأول صوري عام يقيني والثاني مادي جزئي ظني. لذلك كانت المثالية أكبر تعبير عقلي عن عواطف التأليه، فإذا حاول العلم الطبيعي التعرف على نظام الكون والتعبير عنه في نظرية مستقلة، فهو ليس صفة مجردة لكائن مشخص، بل فهم للطبيعة في مقابل ما بعد الطبيعة التي تحاول فهم هذا العلم كنسق عقلي خالص لا شأن له بالطبيعة. ومن صفات العلم الشامل هو التحقق. لذلك لم ينفصل عن المشيئة والإرادة. فهو عالم بكل الكليات والجزئيات، الموجودات والمعدومات، الغائبات والحاضرات، المتغيرات والمفارقات، الواجبات والممكنات، عالم بما وقع وبما سيقع كيف يقع وبما لم يقع لو وقع كيف كان سيقع! فالعلم أعم تعلقا من القدرة لأنها تختص بالممكنات دون الواجبات والممتنعات.

74

ومع ذلك يثبت الحكماء العلم. فالواجب عالم لأنه مجرد، وكل مجرد عالم لأن التجرد يستلزم المعقولية والبراءة من الشوائب، وعلمه مجرد لا ينال إلا بالتجريد. العلم هو صور المعلومات القائمة بنفسها أو بذاته. أي أن الحكماء يثبتون العلم بدليل مزدوج مؤداه أن الله مجرد، وكل مجرد عاقل لجميع الكليات، وأنه يعقل ذاته وبالتالي فإنه يعقل ما عداه وهو دليل عقلي استنباطي صوري خالص. كما أشار الفلاسفة إلى دليل الإتقان نظرا لأن أفعال محكمة متقنة ، وبالتالي فهو عالم. المقدمة الأولى حسية، والثانية عقلية، ولكن الغالب عليهم كان الحجة الأولى.

75

والعلم عند المتكلمين صفة قائمة بذاته، تنكشف بها له جميع الأشياء من الواجبات والممكنات والمستحيلات. العلم انكشاف، وهو صفة كمال في الوجود، والانكشاف مقولة إنسانية خالصة توحي بجهل الشيء ثم علمه، وهو ما يستحيل على الله. أما تعريف العلم بأنه نسبة العالم إلى غيره فإنه أيضا يعتمد على كون الصفة غير الموصوف، وبالتالي الوقوع في مخاطر التغاير والتعدد على عكس العلم القائم بالذات. وبالإضافة إلى مشاركة المتكلمين للحكماء في الدليل العقلي إلا أنهم فصلوا الدليل الحسي إلى دليلين لإثبات العلم، دليل الإتقان ودليل القدرة. ويقوم دليل الإتقان على أن نظام العالم وحكمة الصنع يقتضيان إثبات العلم، وأن التأمل في المخلوقات لا بد وأن ينتهي إلى العلم بعلم الصانع، وكما هو واضح في عديد من الآيات في أصل الوحي. يبدأ الدليل بالتأمل في أحوال المخلوقات وفي تشريح الأبدان وفي مسار الأفلاك، وأن كل ذلك إنما يتم عن اختيار وتوجه وقصد، ولا يمكن أن يقوم ذلك إلا بالعلم، إذ لا يمكن التوجه وقصد ما ليس بمعلوم. ويقوم الدليل على أصلين: الأول نظام الكون واتفاق الصنع والثاني دلالة ذلك على الفعل المحكم وبالتالي عن كونه عالما، الأصل الأول اضطراري والثاني استدلالي. والاعتراض الأساسي على هذا الدليل هو وجود القبح والشر والفوضى في العالم وكيفية تفسير ذلك أو تبريره. فمثلا قد يكون خلق القبح لطفا في أداء الواجبات ودعوة لشكر النعم، وقد يكون ابتلاء وامتحانا واختبارا وشحذا للهمة وإعمالا للاختيار. والواقع أن هذا الدليل مثل الأدلة على إثبات الصانع تشخيص لنظام الطبيعة. فنظام العالم ناتج عن قوانين الطبيعة الثابتة التي يكتشفها العقل. وأن استعمال ذلك كدليل لإثبات عالم ذي علم مشخص هو استمرار في الخلط بين العقل والوجدان، بين الفكر العلمي والفكر الديني.

76

Bog aan la aqoon