على أن الأمم لم تكتف بهذه القصور كما تقدم القول؛ فإن إنكلترا عرضت أشياءها المتعددة في 21 مكانا غير قصرها في الأبنية العمومية، مثل قصر الآلات الميكانيكية، وقصر البحرية والحربية والمعادن والخمور. وأميركا أشغلت 20 مكانا بمعروضاتها، والنمسا وألمانيا 19، وبلجيكا 17 وإيطاليا 15، وكل من إسبانيا والسويد والنورويج 13، فكان تمثيل حالة الأمم ظاهرا في كل جزء من أجزاء هذا المعرض العظيم.
معرض الآلات:
لا ريب أن التمدن الحديث قائم بآلات الصناعة على أشكالها، وأن معارض الحضارة تزيد أهميتها بزيادة ما فيها من هذه الآلات؛ فقد أجمع الكتاب على اعتبار ذلك نقطة الأهمية في كل معرض؛ لأنه الدليل الأكبر على درجة تقدم الأمم، وأنا أعد قولهم صوابا. والآلات الميكانيكية التي يقوم بها التمدن الغربي لا تعد ولا تحصى، منها ما هو صغير تكاد لا تراه إلا إذا قربت منه، ومنها ما هو كبير بحجم الآكام الكبرى، ولكل آلة غرض معلوم، فمن الأغراض ما هو نافع مثل إنماء الزراعة وإتقان الصناعة، ومنها ما يضر وقد أوجد للهلاك، مثل آلات القتل والفتك في الحروب البحرية والبرية، وهي كثيرة عندهم متنوعة الأشكال، حتى إنها حوت خلاصة علوم البشر في الهندسة والطبيعيات وسواها، وقد تفننوا بها في هذه الأيام تفننا غريبا، وكان في معرض الآلات الذي نحن بصدده أدوات كثيرة من هذا القبيل، ولكن القسم الأكبر من هذا المعرض المهم كان للآلات النافعة، مثل المحاريث وبقية الآلات الزراعية الحديثة، والآلات الرافعة والدارسة والطاحنة والكاسرة، والعازقة والراوية والقاطعة والناشزة أشكالا تحار في دقتها الأفكار. وقد اشتركت جميع الممالك في هذا القسم من المعرض، وأتت كل أمة بما عندها من الأشكال لكل نوع من أنواع الآلات الميكانيكية، فكنت ترى من آلات الحرث مثلا عشرين نوعا على الأقل، ومن الطلمبات أكثر من ذلك، وقس على هذا في الباقي، فكان بناء الآلات شغلا شاغلا للزائرين يبقون على التنقل في جوانبه والتفرج على ما فيه ساعات متوالية حتى تمل النفوس، ولا تنتهي العين من رؤية جميع الأشكال. وإني وقفت زمانا مثل بقية الواقفين، وجعلت أتأمل أدلة الحضارة الحديثة، مثل معاصر القصب من معامل البلجيك وآلات الحرث بالبخار من إنكلترا وأميركا، وقاطرات سكة الحديد من فرنسا وبعضها من أميركا، وهي العربات المعروفة باسم مخترعها بولمان، لا ريب أنها أحسن عربات سكك الحديد وأقلها رجرجة، وأنسبها للسفر وراحة المسافرين، ومعدل ثمن العربة منها أربعة آلاف جنيه. وبين الآلات الكبرى التي رأيتها في هذا المعرض عيار لرفع الأثقال من صنع المعامل الألمانية وزنه 25 ألف كيلو، وآلة تدير غيرها من الآلات بقوة البخار لها قوة 20 ألف حصان من صنع المعامل الفرنسوية، وغير هذا كثير لو شئت أن أشير إليه موجزا لطال المقام.
قصر الكهرباء:
ومعلوم أن عصرنا عصر البخار والكهربائية، وأن التمدن الحديث يظهر بأبهى مظاهره في أبواب الآلات البخارية والكهربائية، فأما البخارية فقد تقدم بعض الكلام عليها، وأما الكهربائية فإنهم جعلوا لها في المعرض بناء خاصا كان من تحف الدهر وغرائب هذا المعرض العظيم، ولا سيما لأن أجزاء المعرض كلها كانت تنار بالمصابيح الكهربائية، وبعض أثقالها يجر بالقوة الكهربائية أيضا، وكل هذه الأنوار وهذه القوى تتولد من الآلات الموجدة لها في بناء الكهربائية الذي نحن الآن بشأنه وتتوزع منه إلى بقية الأجزاء حتى إلى رأس برج إيفل المشهور، وكان طول هذا البناء 130 مترا، وارتفاع سقفه عن الأرض 70 مترا، وهو كما تقدم القول ينير المعرض ويدير بعض آلاته حتى إذا اضطرب سير هذه الآلات في قصر الكهربائية بطل كثير من الحركة في أجزاء المعرض وساد الظلام بدل النور البهي، وقد كانوا في آخر مدة التفرج من كل ليل يفعلون ذلك، أي إنهم يوقفون الحركات ويطفئون جميع الأنوار بزر صغير يضغطون عليه فينقطع المجرى الكهربائي، وينتهي دور العمل في ذلك اليوم.
قصر الجيوش :
مثلوا في هذا القصر حالة الجيوش البرية والبحرية في جميع الممالك حسب طرقهم الحديثة والنظامات المتبعة الآن عند المتمدنين، وقد اشتركت فيه كل الممالك الكبرى، فلزم لعرض أشكاله أن يكون البناء واسعا؛ ولهذا بلغت مساحة هذا القصر 4610 أمتار مربعة، وكان مثابة الألوف كل يوم من الزائرين؛ لأن آلات الحرب ومعدات القتال ما زالت من قدم ساحرة للأفكار جاذبة للنفوس. ولقد كان في هذا القصر كافة ما في جيوش الأقطار المتمدنة من أدلة التقدم والارتقاء، مثل مستشفى عسكري لنحو 309 من الجنود جاءوا به من ألمانيا، وصنعوه على نسق المستشفيات المعول عليها في الجيش الألماني، ووضعوا فيه أيضا أنواعا من الآلات البخارية التي يستعملونها لتدفئة الثكنات في الشتاء، وأنابيب تمتص الهواء الفاسد من غرف الجنود وتدفعه إلى الخارج، وتأتي بدله بالهواء، وهنالك مثال المستشفيات النقالة لساحات الحرب وطرق التمريض، وبعض الآلات العلمية التي تفيد في الاكتشاف والاستطلاع، غير الأسلحة التي اشتهر أمرها، ولكل دولة منها أنواع.
وقد عرضوا في هذا القصر أيضا أمثلة من البارجات الحربية على أشكالها، فكنت ترى المدرعة الكبرى مثالا أمامك واقفا على قاعدة من الخشب، وقد ظهرت في هذا المثال أجزاء المدرعة إلى أعلاها بكل وضوح، حتى إنهم صنعوا تماثيل الضباط واقفة تدير حركة البارجة وقد أعدوها للحرب والقتال أو للسفر إلى بعيد الثغور، فكان إعجاب الزائرين كثيرا بما في هذا القصر الجميل.
سكة الحديد:
ذكرت فيما مر الوسائل التي عولوا عليها لنقل الزائرين إلى المعرض، وقد بقي علي أن أذكر ما استنبطوا من الطرق لنقل الناس من جهة إلى جهة في جوانب المعرض من داخل أبوابه، ويعلم القارئ أن اتساع هذا المعرض العظيم جعل تسهيل سبل النقل والحركة أمرا محتما؛ لأنه أشغل أرضا مساحتها مليون وثمانون ألف متر كما تقدم، فكان الانتقال من طرف في داخله إلى طرف عسيرا لولا ما دبروا من وسائل التسهيل، وفي جملة ذلك سكة الحديد تكاد تحيط بأطراف المعرض كله، وطولها 3265 مترا، كانت الأرتال تجري عليها بسرعة 17 كيلومترا في الساعة، وجعلوا لهذا الخط البديع داخل أرض المعرض خمس محطات يقف القطار في كل منها، وملؤه الأفراد من الذين يتنقلون بين هذه المحطات البهية برخيص الثمن لا يزيد عن نصف فرنك، يحسبها المرء قليلة في جنب اللذة التي يشعر بها من ركوب قطار كهذا في أجمل مواضع الحضارة وبين أبهى المناظر وأفخم آيات الارتقاء، ولكن هذه السكة مع غرابتها وجمال المشاهد المحيطة بها لم تكن أحسن ما ابتكروا من طرق الانتقال في أرض المعرض، بل إنهم صنعوا طريقة أغرب منها وأعظم ترى بيانها فيما يجيء: «الرصيف المتحرك» هو آية الغرابة الكبرى، ودليل التفنن البديع في وصل أجزاء المعرض بعضها ببعض وتقريب المسافات بينها ونقل الأفراد من جانب إلى جانب، كان نزهة النفوس وجاذب الخواطر وموضوع الحديث والاستحسان في جميع الأوقات. ولقد تسابقت أقلام الأدباء والبارعين إلى وصف هذا الرصيف المتحرك وبعض محاسنه، ولكن الذي نشر منه بالعربية إلى الآن لم يكف لتصوير الحقيقة بتمامها حتى يفهم القارئ معنى هذا الرصيف البديع وكيفية حركته التي كانت شاغلا للأكثرين.
Bog aan la aqoon