فاشتعلت أعيننا بالاهتمام مرة أخرى، فواصل حديثه قائلا: أمامكم طريق الحقيقة والقيم!
تذكر كل منا آله وحبيبته، والآمال المعقودة على الوظيفة المنتظرة، أما هو فقال: تخففوا من غلواء الطموح الدنيوي، وارضوا من الدنيا بما تجود به، أما الشوق للحقيقة فلا ترسموا له حدا!
ترى أدعانا الرجل ليعذبنا ويسخر منا؟ - إن الجلوس تحت شجرة في يوم صاف خير من امتلاك عزبة.
أنت تقول ذلك يا من بعت جميع القيم من أجل ... - إن حكمة الحياة هي أثمن ما نفوز به من دنيانا ذات الأيام المعدودات.
وما غادرنا الكلية حتى انفجرنا ضاحكين من عنف المفارقة واليأس، واستبقنا إلى نعته بكل قبيح: الوغد. - المهرج. - الدجال.
ومنذ تخرجنا في الكلية انقضى زمن طويل لم أره فيه مرة واحدة، غاب عن عيني كما غاب عن وعيي؛ إلا في النادر من المناسبات، وكان يتجنب صالون الدكتور ماهر عبد الكريم منذ وثوبه الانتهازي إلى الوظيفة الكبيرة أن يتعرض لهجوم بعض المتطرفين؛ فاقتصرت مقابلاته لصديقه على الزيارات الخاصة، لذلك مرت ثلاثة عشر عاما دون أن أراه حتى عرضت مناسبة غير سارة، بل مناسبة مؤسفة غاية الأسف؛ إذ فقد ابنيه الوحيدين في وباء الكوليرا الذي اجتاح البلاد عام 1947. عانيت صدمة وأنا أتلقى الخبر، ورجعت بي الذاكرة إلى كازينو الأنفوشي وهو يلاعب الغلامين، يا لها من ذكرى ويا لها من نهاية. وذهبت إلى الجيزة للاشتراك في تشييع الجنازة، جنازة مؤثرة مفعمة بالأشجان، وسار الرجل وراء النعشين بقامته الطويلة كأنها صورة ناطقة لليأس الأعمى، ولا أظنه عرفني، وأنا أقدم له العزاء، لم يتلفت إلى أحد، ولم يهتم بشيء مما يدور حوله، ولكن عندما تقدم الدكتور ماهر عبد الكريم لتعزيته خفض جفنيه على دمع تفجر رغم إصراره على الظهور بمظهر الثبات والصبر، وعند منتصف الليل دعاني الدكتور ماهر عبد الكريم إلى مرافقته في سيارته إلى المدينة، وفي أثناء الطريق تمتم بعطف: الله معه، إنها كارثة لا تحتمل.
فوافقته على رأيه، وكنت في الحقيقة متأثرا جدا فعاد يقول: ولكن حديثه أقلقني!
فسألته عما أقلقه فأجاب: جعل يقول بنبرة متهدجة إن الموت جميل، وإنه مظلوم، وإنه لولاه لما كانت للحياة قيمة.
فصمت متفكرا فعاد أستاذي يقول: الله معه.
غاب الدكتور إبراهيم عقل عن عيني مرة أخرى، وإن لم تغب عني مأساته طويلا، وفي صالون قصر المنيرة علمت بما طرأ عليه من أحوال في الأعوام التالية للحادث، قيل إنه أصبح يرى كثيرا في جامع الحسين، وإنه يمضي الساعات متربعا أمام المقام، وفي كلمة أنه يتدروش ويسلم للإيمان تسليما بلا قيد ولا شرط. وأثار مسلكه الكثير من الجدل عن الإيمان بصفة عامة، والإيمان بالنشأة، والإيمان بالاقتناع، والإيمان بسبب الكوارث، وإيمان الفلاسفة، وإيمان العجائز، وكان ماهر عبد الكريم يفند كل حجة يأنس منها هجوما، ولو من بعيد على مسلك صديقه القديم، وفي عام 1950 ترك الدكتور إبراهيم عقل الخدمة لبلوغه السن القانونية؛ فتفرغ تماما للدروشة، وفي يوم من عام 1953 صادفته أمام الباب الأخضر بحي الحسين - ذاهبا أو راجعا من الجامع لا أدري - فجذبتني طلعته المهيبة المجللة بالمشيب. واقتربت منه مادا يدي للمصافحة فصافحني وهو يحدجني بنظرة لا يلوح فيها أنه عرفني، فلما ذكرته بنفسي هتف بصوته الجهوري: أنت! كيف حالك؟ ماذا تفعل؟
Bog aan la aqoon