أجلسنا أمام مكتبه، وراح ينقل بين وجوهنا عينيه الزرقاوين مطيلا الصمت والتأمل، وابتسم وهو يهز رأسه في تعال ساخر، وقال: نحن على وشك الفراق ولا يجوز الفراق بلا كلمة.
وعاد ينقل بصره بيننا مواصلا هز رأسه، ثم قال: طالما خمنت ما دار بنفوسكم يوما، ولكن ليس الأمر كما توهمتم!
ها هو يطرق الموضوع بعد صمت طويل، صمت طويل جدا، ولكن علينا أن نلزم أنفسنا الأدب والحذر، علينا أن نذكر أننا سنمتحن في كل مادة تحريريا وشفويا معا، وعلينا أن نذكر أن من حق مجلس القسم تعديل نتيجة الامتحان - بصرف النظر عن الدرجات الحاصل عليها الطالب - لنتفق مع مستواه العام كما يقرره الأساتذة. كل ذلك يضعنا تحت رحمته بلا مراجع ولا معقب. وواصل حديثه قائلا: المسألة أنني وجدت أناسا يخطبون وأناسا يعملون؛ فاخترت الانضمام إلى العاملين، وكلنا في النهاية مصريون.
ولذنا بالصمت إلا واحدا فقال بجرأة: إن من يخطب مطالبا بالاستقلال والدستور خير ممن يبني الكورنيش ويسفك الدماء.
كان القائل يدعى إسحاق بقطر، وكان الغني الوحيد فينا، وكان سيمضي عقب الامتحان إلى مزرعته عند مشارف القاهرة لزراعة أفخر أنواع الزهور، ولم يغضب الدكتور إبراهيم عقل، ابتسم وقال بشيء من الأسى: ليس كالسياسة مفسدة للعقل.
ثم بنبرة تشي بالرجاء: الحقيقة، اعبدوا الحقيقة عبادة، ليس ثمة ما هو أثمن ولا أجل منها في الوجود، اعبدوها واكفروا بأي شيء يتهددها بالفساد.
ظللنا ملازمين الصمت، متذكرين الامتحان الشفوي، وحق مجلس القسم، أما هو فعاد يقول: لن أناقش بقطر، لن أتفوه بكلمة في السياسة، إنما دعوتكم لنلقي نظرة معا على المستقبل.
فانتشر الارتياح في نفوسنا كالضوء، نجونا من مزالق السياسة، وها هو يفتح باب المستقبل الذي نرقبه بوجوم قاتم، مذ صدرت القرارات الوزارية بوقف التعيينات والترقيات والعلاوات، لأجل غير مسمى. ماذا بقي لنا من أمل؟ وماذا عند أساتذتنا من وعود؟ قال: هذه أيام أزمة، أزمة تطحن العالم كله، وليست خاصة ببلادنا كما يصور البعض، ماذا أنتم فاعلون؟!
وسكت قليلا ثم قال: لن تجدوا وظيفة بالسرعة المطلوبة، ولن تكونوا أسرة في أجل قريب، وربما تفاوتت بينكم الحظوظ.
وتلقى نظراتنا التي أطفأ نورها الفتور بابتسام، وقال: حتى الفرص الضعيفة التي يفوز بها الطبيب، أو المهندس، أو الحقوقي في الميدان الحر، حتى هذه الفرص لا نصيب لكم فيها، ولكن يبقى لكم شيء هام، جوهرة لم يتعود أحد أن يتحلى بها بعد!
Bog aan la aqoon