فقلت من التعجب: ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام!
فلما قرأ الوليد كتاب نصر كتب في أسفله: بل نيام يا ابن البلهاء! لقد أقطعك أمير المؤمنين خراسان هبة فاعمل بها ما شئت، فإنه مشغول عنك وعن خراسانك!
قتل ودمار
ومرت شهور والوليد يشفي نفسه في كل يوم بانتقام جديد حتى خافته خاصة الناس، وسئمته عامتهم، ولقد فرح الناس لتوليته أول الأمر لما أغدق من العطايا والنعم، ولما بذل من المواهب واصطناع المعروف، بعد أن عانوا أيام هشام عهدا شحيحا يحاسب فيه الخليفة على الدانق، ولا يثيب إلا على عمل، ولكن الوليد لم يستطع أن يمد يده بالعطاء في كل حين، ولم يكن له من الخلال ما يحمل الناس على حبه وإجلاله، فتحولت عنه قلوبهم، ونالت منه ألسنتهم، ولكل دولة في أول عهودها بهجة وإشراق، يستقبلها الناس فرحين مستبشرين، وهي تستقبل الناس بالوعود، وبذل الرغائب، فإذا ذهبت جدتها ولم تواصل إحسانها انصرفوا عنها ساخطين شاكين وهم يتحسرون على العهد القديم، ويتطلعون إلى فجر يوم جديد.
واجتوى الوليد دمشق واجتوته، وكره لقاء الناس وضجروا به، فرحل إلى «الأغدف» بعمان، وسار في ركابه كثير من خدمه وندمائه، وكان الوليد خلقا عجيبا، فقد كانت له نفس واحدة استطاعت أن تتقسم أنفسا، فكانت له نفس باكية حزينة، ونفس مرحة ضحوك، ونفس تقية خيرة، ونفس عارمة صاخبة، وكانت كل نفس من هذه الأنفس تظهر فجأة على غير إرادة من صاحبها، وتطالع الناس متناوبة متعاقبة كما تدور كرة حول محور، فكثيرا ما اتصل منه الضحك بالبكاء، والخير بالشر، والقوة بالضعف، وكان الناس لذلك منه دائما في وجل وخوف، لا يدرون ماذا تكون اللحظة التالية للحظة الحاضرة.
ذهب إلى الأغدف، وأعاد فيه مجالس أنسه، ومجالي صبوته، وكأنه لم يعشق مرة سلمى، ولم ينكب بموت سلمى، ولكن خيالها كان يطوف بنفسه في لحظات متقطعة؛ فيبكي بين رنين المزاهر، ودقات الصنوج، وتنفست دمشق الصعداء لفراقه، ومد فيها الساخطون رءوسهم إلى الفتنة، وعاد إليها كثير من الفارين كابن عنبسة، وبعض بني القعقاع، وزعماء اليمنية. وفي ذات صباح التقى جمع منهم بدار شبيب بن أبي مالك فتذاكروا في شأن الوليد، وأنه إذا امتد عهده لم يبق منهم أحدا، ولم يترك لمجد الخلافة أثرا، واستقر رأيهم على مبايعة يزيد بن الوليد؛ لأنه كان يظهر التقوى والورع، ويتشبه بعمر بن عبد العزيز، فذهبوا إليه وكان بالرصافة فحدثوه بأمرهم، وألقوا إليه بسرهم، فأخذته الدهشة، وتذكر سطوة الوليد وبطشه، فطلب منهم أن يمهلوه حتى يستشير عمرو بن يزيد، ثم تركهم وذهب إلى عمرو في داره، وأطلعه على ما اعتزم عليه القوم، فوقف عمرو وقد كان جالسا وقال: هذا يا ابن العم أمر جسيم لن يفصل فيه إلا أخوك العباس؛ فإنه صاحب رأي ومعرفة، أما أنا فرجل كثير الشكوك كثير التقلب، وليس لمتقلب رأي.
وانطلق يزيد إلى العباس يستشيره ويستهديه، فما كاد يكشف له عن طرف مما جاء بشأنه حتى وكزه العباس في صدره، وصاح في وجهه غاضبا: حقا إنك لأشأم سخلة في بني مروان، ووالله لولا ما أخاف عليك من حدة غضب الوليد لشددت وثاقك وحملتك إليه، إن دولة بني أمية تهتز للسقوط، فبالله عليك لا تضرب فيها بمعول جديد! إن بها من نيران الفتن ما تعد جهنم إزاءه جذوة خامدة، فدعها أيها الغر، ولا تزدها نكالا! دعها بالله وانصرف إلى شأنك، أتدري معنى خلع خليفة من بني مروان؟ إن معناه أيها الأبله ضياع الدولة كلها، اذهب يا عدو عشيرته، ولا تثر جرحا لا يريد أن يندمل، وإذا حدثتك نفسك بشيء مما في نفسك فاعلم أنه هو الشيطان الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، وأن غراب الفتنة هو الذي يدفع الأشقياء إلى أن يخربوا بيوتهم بأيديهم:
إني اعيذكم بالله من فتن
مثل الجبال تسامى ثم تندفع
Bog aan la aqoon