6
مثلا، كان قاصرا على الهندسة، والمثال الذي ذكرناه منذ قليل بكشف عن أهم ما فيه، وكان الاهتداء إلى سر أبولونوس وأرشميدس هو الشغل الشاغل للرياضيين منذ عصر النهضة والقرن السابع عشر. والغريب في الأمر أن هؤلاء الرياضيين قد اهتدوا، أثناء محاولتهم تحقيق هذا الهدف، إلى كشوف لم تخطر ببال أرشميدس أو أبولونيوس. فقد وضعوا منهجا للتحليل (التحليل البرهاني) يمكن من المضي صعودا وهبوطا بين القضايا، ولتحقيق ذلك كشفوا عن وسيلة أساسها أنه مادام الشرط الضروري هو في الوقت ذاته الشرط الكافي، فيكفينا أن نهتدي إلى البرهان لكي يتحقق بالفعل، ويكفينا أن نكشف عن عناصر المسألة لتكون قد حلت. وهذا التحليل البرهاني هو مبدأ الجبر الحديث، حيث يكفي وضع معادلة، ثم حل هذه المعادلة، للبرهان على حل المسألة ذاتها. (4) التحليل الديكارتي
عمم «ديكارت» فكرة التحليل، وكان ذلك التعميم هو أهم عناصر المنهج الديكارتي. ولا ينطبق التحليل عند ديكارت على «الجبر عند المحدثين» (على حد تعبيره) فحسب، بل ينطبق أيضا على العلوم التجريبية والميتافيزيقا.
وهو يعرض رأيه في التحليل بإيجاز شديد في القاعدة الثانية من المقال في المنهج، فيقول إنه «تقسيم كل الصعوبات التي سأبحثها إلى أكبر عدد ممكن من الأقسام، على النحو الذي يمكنني من إجادة حلها، والذي تقتضيه إجادة هذا الحل.» والمقصود هنا هو التحليل البرهاني. وفضلا عن ذلك فقد نبهنا ديكارت، قبل ذلك ببضع صفحات، إلى أنه لما أراد وضع دعائم منهجه، قد ألف بين «تحليل الأقدمين وجبر المحدثين».
فلنبادر إذن إلى القول بأن قوام الميتافيزيقا الديكارتية هو في الارتقاء من الإدراك الحسي - عن طريق الشك المنهجي - إلى تأكيد وجود الذات المفكرة (أنا أشك، إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود)، ثم تأكيد وجود الله، ثم ما أسماه ديكارت ب «الصدق الإلهي»، أي حقيقة هذا الإلهام الباطني الذي هو العقل، والوصول تبعا لذلك إلى إدراك قيمة علم الطبيعة الرياضي، وفي هذا تعميم للتحليل البرهاني. (5) التحليل التجريبي والتحليل البرهاني (و) هناك تحليل تجريبي، يشبه التحليل الرياضي، وهو يبدأ منذ مشاهدة الظاهرة، إذ إن الانتقال من الظاهرة العلمية هو في ذاته تحليل. «فقياس» الظاهرة معناه في الواقع إضفاء صورة رياضية عليها، لكي تدخل فيما بعد ضمن الصيغ التي تعبر عن قوانين؛ ومعنى ذلك وضعها في معادلة. كما أن تفسير الملاحظة وتصحيحها معناه التقدم بالعملية نفسها، بإدماج الظاهرة كما نقرها ضمن مجموعة المعارف العلمية التي اكتسبت من قبل. مثال ذلك أن تفسير تجربة متعلقة بالكهرباء، هو إدماج نتيجة تلك التجربة ضمن النتائج التي اكتسبت في مجال معرفتنا العملية بالتيار الكهربائي، وتصحيح ملاحظة فلكية هو التوفيق بينها وبين ما تعلمناه في علم الضوء عن طبيعة الضوء وسرعته وانكساره، وجميع هذه العمليات تعين على وضع الظاهرة في صورة معادلة.
أما الانتقال من الظاهرة إلى القانون، فذلك هو حل المعادلة. والدالة الرياضية التي تعبر عن القانون هي مجهول المعادلة. وهي تستخلص بعملية لا يمكن أن تبلغ من الدقة مبلغ العمليات الجبرية؛ إذ إننا نستخدم في الجبر أفكارا هي من إنتاج الذهن الخالص، أما في علم الطبيعة، فنحن نخرج - على نحو ما - عن العالم الذي يجب الكشف عنه، والذي لا ننفذ إليه إلا عن طريق التخمين. (ز) والبعض يقول بنوع آخر من التحليل، هو «التحليل الكيميائي»، ولهذا القول ما يبرره. غير أن كلمة التحليل تستخدم في الكيمياء بمعنى أقل دقة منه في الطبيعة، لأننا عندما «نحلل» جسما مركبا، نؤثر في الأفكار وفي المادة معا. فمن جهة نحاول الوصول ذهنيا إلى «عناصر» الجسم، أي إلى أجزائه التي تفسره، والتي تشتمل خواصها على «أساسها» الخواص المتمثلة في الجسم، ولكننا نحاول من جهة أخرى أن نفكك الجسم ماديا، أي أن نفصل أجزاءه المادية، التي تختلف فيما بينها اختلافا كيفيا. وفضلا عن ذلك، فهذه العملية الثانية تتم في معظم الأحيان بطريقة غير مباشرة تماما، فنادرا ما ينجح المرء في إجراء هذه العملية، بحيث تنفصل العناصر المكونة انفصالا ملموسا، وتكون في صورتها الخالصة. فمثلا لم يستطع «لافوازييه» فصل الأكسجين في جانب والأزوت في جانب آخر، بل اضطر إلى تثبيت الأوكسجين على زئبق، ولم يستطيع إطلاقه خالصا، وتحديد خصائصه، إلا بوساطة تجارب مكملة. أما الأزوت، فقد كان عليه أن يعرفه من خلال خواصه، بأن يخضعه هو الآخر لتجارب أخرى؛ وإذن فأهم ما في هذا النوع من العمل التجريبي هو العملية التي تتابع بها العناصر في عدوها ورواحها. وبالاختصار، فالعنصر لا يعطى في التجربة، وإنما هو فرض، ومجهول، يستخلص بمجهود عقلي هو ذاته تحليل. (6) التحليل العملي والفني (ح) يطبق التحليل عمليا في الحالات التي نبحث فيها عن وسائل توصل إلى غاية، وعندئذ تكون الغاية هي النقطة التي نبدأ السير منها لنكشف الوسائل «بالتحليل» وذلك بأن نفترض أن المسألة قد حلت - كما هي الحال في الرياضيات - ونبحث عن الشروط التي أمكن أن تحل بها، حتى تصل خطوة إلى شروط يمكن تحقيقها، وهذه هي الطريقة المتبعة عندما يريد المرء أن يحدد مراحل طريق، أو يحب جدولا للمواعيد، وهي أيضا الطريقة التي يستدل بها المهندس حيث يهدف إلى صنع رسم لشيء مصنوع، والطبيب حين يصف أدوية أو نظاما في الأكل.
التركيب أو الاستنباط غير القياسي هو الحركة المضادة للتحليل
التركيب هو الاستدلال الذي يتمثل - في أنقى صورة - في البرهان الرياضي. فهو إذن نوع من الاستنباط ولكن ينبغي عندئذ القول إنه استنباط غير قياسي؛ أعني ليس له نفس تركيب القياس، أو الاستنباط الصوري أو المنطقي. وإليك الفروق الأساسية بين النوعين: (1)
فهو كما أوضحنا من قبل تعميمي
amplifiante . أي أنه يعمم، أو قادر على التعميم والمناطقة يقولون إن الماصدق والمفهوم (في الألفاظ أو في القضايا) يتناسبان تناسبا عكسيا. أما في الرياضيات فالأمر على العكس من ذلك، إذ إن التعميم يتحقق بازدياد التعقيد. (2)
Bog aan la aqoon