قال البستاني: أخبرك أن الوقت مختلف يناسب اللصوص الذين دأبهم السطو على البيوت والمزارع، ولكن كن مطمئنا أني ما دمت في عافية وقوة ومعي كلبي وبارودي لم أخف من أحد عدوانا.
قال فؤاد: وهل أنت مواظب على المراقبة في البستان كما أخبرتك؟
قال البستاني: أطوف في البستان مرتين قبل النوم، ثم أعهد المراقبة إلى كلبي، فيقوم بها إلى الصباح، فأنهض من نومي، وأشرع في العمل والزراعة، فتأكد يا سيدي أن سيدتي في مأمن من كل طارق هنا.
قال فؤاد: يكفيك ما تجري من المراقبة ليلا، وأما في النهار فلا تسمح لأحد بالدخول أيا كان، فقد يأتي بعض اللصوص بزي الأفندية وملبوس حسن، فاحترس منهم، ولا تدعهم يدخلون إلى البستان البتة، والآن فعليك أن تأخذ الحصان وتريضه قليلا ثم تربطه في مكان، وتضع له علفا وافيا، وكن منتبها دائما، واجعل وصيتي في قلبك.
ثم إن فؤادا دخل إلى المنزل فاقتربت الخادمة منه فسألها عن سيدتها فقالت: هي في الكشك، أتريد أن أدعوها؟
قال: هل روعت من الزوبعة التي عصفت بالأمس؟
قالت: بلغت بها الروعة الغاية حتى ارتعبت لارتعابها، وذلك فإنها عند اشتداد الريح نهضت من سريرها وفتحت النافذة المشرفة على الخلاء، ووقفت تنظر، فحاولت كثيرا أن أبعدها عن مهاب الرياح، وأن أرجعها إلى سريرها فأبت، وهي تقول: إن استنشاق الهواء ينعشها، فقدمت لها كرسيا جلست عليه ووقفت إلى جانبها، فابتهلت إلى الله بالصلاة الخاشعة، وجعلت تحدثني بقولها: إن هبوب الرياح واشتداد العواصف يذكرها بقدرة الرحمن، فهي جنده القوية تذكر بالفائتين، ثم قالت: فكأنني عند عصوفها أرى المقابر مفتوحة، وأسمع الأموات يستغيثون، فلنصل عليهم خاشعين.
فأجبتها بالإيجاب، وظللت وإياها أصلي حتى استولى علي النعاس فاعتمدت بيدي رأسي، وكان القمر يضيء بأشعته الساطعة، تستره الغيوم ثم تنقشع عنه فيسطع نوره الباهر في الحجرة، فتجهش سيدتي بالبكاء، وتزيد في التضرع والابتهال، وكنت أراها تتقدم أحيانا وقوفا على النافذة، فأخشى عليها السقوط، وأنهض مرعوبة فأقبض على أطراف ثوبها.
قال فؤاد: يالله، كيف أن فكر الموت لا يزال يتردد في بالها، وتساورها الأحزان، وتغالبها الأوهام والتصورات الرائعة، فهي في حالة توجب الغم والكدر؟!
قالت الخادمة متتبعة: وكنت أحاول إجلاسها على الكرسي، فما أبلغ ذلك إلا بغاية المشقة، وكنت أرها تغمض عينيها كأنها تبغي فرارا من رؤية منظر يزعجها ثم تفتحها على الخلاء، وكنت كلما تأملتها في هذه الحالة دخل الرعب قلبي، ولولا فرط حبي لها وشدة إخلاصي لما أمكنني الجلوس معها في حجرة واحدة، وكانت حين أطلب إليها أن تنهض إلى سريرها وتشرد عنها الأفكار فلا تسمع أصوات الرياح العاصفة تقول لي: إنها تتلذذ جدا من سماعها وتطرب للغاية، كأنما قد تهيأ لها أنها أصوات الراقدين وتهاليل نزلاء القبور، فكان يرتعش جسمي من سماع قولها، ويضطرب قلبي أيما اضطراب.
Bog aan la aqoon