وكان ظهور خرستينا على مسرح الحياة الذي مثلت منه فصول أعمالها المتضاربة المتناقضة مقرونا بمرارة الخيبة والحرمان؛ لأن والديها والأسوجيين كافة كانوا يعللون نفوسهم قبيل ولادتها بولد ذكر يرث عرش أبيه طبقا لما سبق وبشر به العرافون والمنجمون. فلما عرفوا أن الطفل المولود بنت لا صبي شملهم الحزن والغم، وكان يوم ميلادها مناحة عامة في بلاط الملك وقصور الأغنياء وأكواخ الفقراء. ويقال إن الملكة نفسها تجرعت غصة خيبة لم تنس مرارتها في حياتها، ولم تستطع أن تنظر إلى ابنتها إلا بعين المقت والكراهية.
وكان أبوها الملك غستافس أودلفس أشقر الشعر كبير الجسم قوي البنية، وله في ذراعه متانة الحديد وفي قلبه بسالة الأسود، وكان في الحرب شديد الشكيمة صعب المراس ، وفي السلم ألطف من نسيم الصباح. ومع شدة ميله إلى مقارعة الأبطال في ساحة النزال كان شغوفا بالعلم ومجالسة العلماء؛ جنديا باسلا وعالما فاضلا، وهذه الصفات المتباينة ورثتها عنه ابنته.
وورثت عن أمها كثيرا من العيوب والنقائص، ولعلها لم تأخذ عنها فضيلة واحدة؛ لأن الملكة ماري كانت غاية في البله والغباوة ومصابة بهوس التباهي بالملابس ومعاشرة السوقة والغوغاء. فكانت تقضي معظم وقتها محاطة بالأقزام والمجان، وإذا خلت بنفسها استسلمت إلى الهواجس والوساوس، واستخرطت في العويل والبكاء. فكان نسيج حياتها لحمته الغرور وذرف الدموع وسداه الجهل والحماقة.
ولما كانت خرستينا ابنة ست سنوات توفي أبوها سنة 1632 وهو يحارب حرب الأبطال في معركة لوتزن، فاتسع للملكة البكاءة مجال النوح والانتحاب والحزن والاكتئاب، فغشت غرف القصر كلها بالسواد، وانقطعت لمواصلة البكاء ليلا ونهارا، وأكرهت ابنتها على مشاركتها في العويل والنحيب. وحينئذ تصدى لها الوزير أوكزنستيرن، فأرسلها إلى قلعة بعيدة لتبكي هناك ما تشاء، وجعل الفتاة الصغيرة ولية العهد تحت وصايته ورعايته.
فقضت خرستينا عشر السنين التالية وحولها أساتيذ العلوم والفنون الذين توافروا على تثقيفها وتهذيبها، وإعدادها للجلوس على عرش أبيها. وقد رأوا منها رغبة واجتهادا منقطعي النظير. فإنها لشدة كلفها بإحراز العلوم كانت تنصب على الدرس والمطالعة حتى في أوقات أكلها ونومها، ولم تبلغ منتصف العقد الثاني من سنها حتى كانت قد تضلعت من معرفة ثماني لغات؛ فبرعت في اللغة اليونانية (القديمة) براعة فائقة، وأعجب العالم بمطالعة ما دبجه يراعها في اللغتين اللاتينية والفرنسوية. وشرعت تباحث المطارين في المسائل اللاهوتية، والفلاسفة في المواضيع العلمية العويصة، والوزراء في الشئون السياسية. وهي كالجنود في استخدام الأقسام وما خشن وغلط من الكلام، ولها براعة تامة في الرماية والفروسية.
أما الملابس فكانت تحتقر شأنها كل الاحتقار، ولا تعنى بالنظافة، وأما الازدراء الأشد والأعظم فكان لبنات جنسها ولكل ما يتعلق بهن، وودت لو كانت رجلا، وظلت إلى آخر يوم من حياتها رجلا في كل شيء ما عدا الجنس.
ومع أنها كانت قصيرة القامة وغير حسنة الشكل؛ لأن إحدى كتفيها أعلى من الأخرى، لم تخل من بعض الجواذب. وكانت أحسن ما ترى محلولة الشعر يتطاير في الهواء موردة الخدين ساطعة العينين وهي ممتطية صهوة جواد ينهب بها الأرض نهبا.
وقد شانها منذ حداثتها كثير من العيوب التي هي نفسها أقرت بها ولم تنكرها، فاعترفت بأنها سيئة الخلق سريعة الغضب ودعابة كثيرة العبث والمجون وشديدة التهكم والازدراء، وقليلة الاهتمام بما يجب على بنات جنسها مراعاته من الحشمة والنزاهة، ولم يكن للأدب عندها معنى ولا حرمة؛ إذ كانت عطلا من حلاه.
ولما أكملت خرستينا دروسها تسلمت مقاليد الحكم وظهر من صفاتها الحقيقية ما كان محجوبا وراء ستار الاهتمام بتحصيل العلوم. فحذت حذو كاترين إمبراطورة روسيا في اختيار عشاقها ومحبيها من ندمائها وجلسائها، أو من أية طبقة كانت من طبقات الرعية مفضلة أجملهم طلعة وأحسنهم صورة. وكانت تعمد إلى تبديلهم وتغييرهم كما تفعل في تبديل ملابسها. وكان الكونت مغنوس غاردي في طليعة الذين اصطفتهم أولا لعشقها وغرامها، فخصته بالعناية والالتفات وأسبغت عليه الرتب والوسامات والهدايا، وجعلته قهرمان قصرها ثم أمين خزانة الدولة. وأخيرا عينته سفيرا، وكان ذلك حين ملته وسئمت معاشرته، فتنقصته وجبهته ملقبة له بالسكير الكذاب، وتبدلت منه بيمنتلي الإسباني. ثم نحت هذا واستبدلت به غيره، وهكذا كان لكل من أولئك العشاق حظ التمتع بعز كبير القدر قصير العمر. ولكن هذه المسرات الزائفة الشائنة لم تكف شهوات قلبها، بل ظل فيه فراغ كبير وشوق شديد لمجالسة كبراء العلماء والشعراء والفلاسفة في أوروبا. وهذا الشيء الشديد إلى المباحثات العلمية والمطارحات الفلسفية لزب بها يوما فدفعها إلى التفريط في حياة دسكارتس المنكود الحظ؛ إذ جرته من فراشه الساعة الخامسة من صباح يوم شديد الزمهرير ليباحثها في الأمور الفلسفية.
وبعدما صارت ملكة ظلت مهملة العناية بملابسها ومظاهرها؛ فقد قيل عنها أنها لم تمشط شعرها إلا مرة في الأسبوع، وكثيرا ما كانت تمهله أسبوعين. وفي أيام الآحاد كانت تفرغ من زينتها ولبس ثيابها في نصف ساعة فقط وفي بقية الأيام ربع ساعة. وكانت ملابسها الداخلية مرقعة ممزقة. ولما أشار أحد جلسائها إشارة لطيفة رقيقة إلى فضيلة النظافة وطهارة الجسد صاحت به: «هذا حسن للذين ليس عندهم شيء يلهيهم عنه.»
Bog aan la aqoon