وفي أثناء بحثها في الدين أو الفلسفة كان كلامها في الغالب خاليا من آداب المحادثة ومفرغا في قوالب فظة سمجة. وعندما يجتنب محدثها التفوه أمامها بألفاظ لا يليق النطق بها، ويستبدل بها كلمات مأنوسة مألوفة كانت تعارضه وتستخدم الألفاظ التي يتحاشى حتى الرجال سماعها. هكذا كانت الملكة خرستينا في فجر صباها. قبلما أرخت العنان لهذه النقائص والرذائل التي هبت من ذلك الحين تتمكن فيها، وتستعد للاستئثار بها والتغلب عليها فيما بعد. وكانت بداءة استفحال هذه الشرور يوم وصول بوردلت إلى بلاط أسوج. كان هذا الرجل ابن حلاق فرنسوي، وبعدما ألم إلماما بسيطا بصناعة الصيدلية جال في أوروبا منتحلا حرفة الطب، ومدعيا كشف أسرار عجيبة غريبة تمكنه من شفاء جميع الأدواء والأمراض. وكان بوردلت هذا بشوشا طروبا سريع الخاطر كثير الدعابة والمزاح، بارعا في الغناء والموسيقى وله مهارة فائقة في إبهاج الآخرين وإدخال السرور إلى قلوبهم. فتعشقته النساء ولقيت بضاعة شعوذته وتدجيله رواجا حتى عند البابا نفسه، وكان عازما على ترقيته إلى رتبة كردينال لو لم يعرض له ما قضى بتعجيل سفره من رومية.
وعما قليل دعي بوردلت إلى أسوج لمعالجة الملكة خرستينا التي خيل إليها أنها مشرفة على الموت. والحق يقال إنها كانت حينئذ مريضة مرضا شديدا لما قاسته في السنين الماضية من عناء الانكباب على الدرس والمطالعة وإهمال مراعاة القوانين الصحية. فبعدما فحصها أمر بأن تهجر الكتب والدروس وتعكف على اللهو والطرب. وسرعان ما عملت الملكة بموجب مشورته؛ فإنها على الفور طفرت طفرة واحدة من جانب الإفراط إلى جانب التفريط: أعرضت عن الكتب والعلماء والشعراء والفلاسفة، وانغمست في حمأة الخلاعة والدعارة. وأخذت تقضي ليلها ونهارها في الرقص والتهتك جاعلة أهل بلاطها يقتفون خطواتها، وأكرهت كبار الأساتيذ ذوي الرزانة والوقار على الرقص والغناء، وتمثيل فصول الدعابة والمجون، وإتيان ما تقز منه النفوس وتغضي عنه العيون، وهي تتملى مشاهدة أعمالهم السخرية طيبة النفس قريرة العين وممعنة في الضحك إمعانا يسيل دموعها على خديها.
وكان الأسوجيون ينظرون إلى هذه المخازي بعيون الاستفظاع والاستنكار، فأجمعوا على أن الملكة مصابة بدخل في عقلها. فقد خصت بوردلت الدجال بأعلى المناصب والرتب في الحكومة والجيش، وغمرت ابن الحلاق زعيم لذاتها ومسراتها بفيض النعم والهبات، فازداد تماديا في الغطرسة والطغيان وإتيان فضائح تقشعر من ذكرها الأبدان، وباتت بلاد أسوج بحذافيرها رازحة تحت أعباء المكوس والضرائب التي اقتضاها غلو الملكة في التبذير والإسراف. وبلغ من شدة حنق الناس على بوردلت أن حياته أصبحت في خطر؛ ولذلك لم ير بدا من الإسراع في النجاة بنفسه. فتوارى ذات ليلة عن الأبصار وفر هاربا بثروة لا تقدر.
وبعد فراره ملت خرستينا العرش وسئمت معاشرة الأسوجيين الفقراء المدقعين، وتاقت نفسها إلى السفر والطواف في عواصم أوروبا للتنعم بلذات لا سبيل للحصول عليها في بلادها، فجمعت مجلس الشيوخ ذات يوم سنة 1654 وأعلنت تنزلها عن العرش لابن عمها شارل أغسطس، وعلى رغم إلحاح أعضاء المجلس والوزراء وجميع أعيان الأمة عليها بالبقاء أصرت على عزمها واتخذت أهبتها للسفر. فجمعت أثمن ما عندها من نقود وحلى وجواهر، وقصت شعرها ولبست ثياب رجل، وحملت بندقيتها على كتفها مدعية أنها ذاهبة للكفاح في فلاندرس، وكان هذا آخر عهدهم بها.
وبعد بضعة أسابيع ألقت عصا التسيار في بلاد الدنمرك منتحلة اسم ابن الكونت دولما، وهناك زارتها في الفندق المقيمة فيه ملكة الدنمرك متنكرة في زي جارية، وقد أجادت تنكرها كل الإجادة، حتى إن خرستينا لم يخامرها أقل ارتياب فيها. وقد شاقها ظرفها وأدبها ومالت إلى محادثتها عن أمور مختلفة تناولت فيها ذكر ملك الدنمرك، فأشارت إليه باسمه مجردا عن نعوت التجلة وألقاب الاحترام. وعندما غادرت خرستينا الفندق أرسلت الملكة حاجبا في أثرها يخبرها بأن الخادم التي ذكرت على مسمعها اسم ملك الدنمرك بعدم احترام لم تكن سوى الملكة، فلما سمعت خرستينا كلامه قهقهت ضاحكة وصاحت: «ماذا؟ تلك الخادم التي قضت وقت تناولي الغداء واقفة أمامي كانت ملكة الدنمرك؟ إذن أصابها ما يصيب عادة أصحاب الأخلاق الشاذة والطباع الغريبة؛ فإنهم في الغالب يطلعون في تنكرهم على أكثر مما يودون. فهي الملومة لا أنا؛ لأني إذا لم أمنح موهبة معرفة الغيب لم أستطع معرفتها وهي ظاهرة في لباس كهذا.»
ومن هناك شخصت إلى همبورغ ومعها بعض الخدم والحشم، وكانت كلما مرت في طريقها بمدينة تدخلها بأبهة وعظمة مرتدية حلة رسمية سنية، وممتطية جوادا مطهما، وسائرة في موكب فخم جليل في الشوارع الكبرى، والجماهير يزحمون بعضهم بعضا لمشاهدتها والهتاف لها وإلقاء خطب الاحتفاء بها. ولكنها كانت بعض الأحيان لشدة نزقها ورعونتها تشوه محاسن هذه الاحتفالات بما تبديه من أمارات الاستخفاف والاستهزاء بالمرحبين والهاتفين، أو تتصدى لمقاطعة الخطيب بقسم غليظ جهير أو بنكتة أو بقهقهة شائنة.
وكانت بعد حفلة استقبالها تختفي عن الأنظار وتطوف متخفية من فندق إلى فندق لمنادمة الغوغاء ومسامرتهم، ثم تستأنف المسير إلى مدينة أخرى وتدخلها - كما سبق الوصف - دخول الغالب الظافر. وفي مدينة بروكسل حيث استقبلت كأعظم ملكة أعلنت قبولها للمذهب الكاثوليكي قائلة إنها قد ملت سماع مواعظ الإنجيليين الطويلة الركيكة! ولما أقيمت لها حفلة الارتداد في أنسبروك أزعجت الحضور وأسأمتهم بثرثرتها وكثرة هذيانها. وعندما أقاموا لها في المساء حفلة تمثيل قالت لهم: «يخلق بكم أيها السادة أن تمثلوا لي رواية مضحكة؛ لأني مثلت لكم فصلا سخريا!»
ثم أغذت السير إلى رومية للتبجح والتباهي بإيمانها الجديد، فلقيت من كرم الوفادة والمبالغة في الترحيب ما يفوق الوصف، فهرع لاستقبالها الكرادلة والمطارين والعظماء والسفراء كل منهم في مركبته الفاخرة يجرها ستة من الخيول المطهمة المسرجة بالذهب والفضة، وخرجت معهم أشراف سيدات رومية يحيط بكل منهن أربعون حاجبا. وأنفق البابا على هذا الاستقبال النادر المثال ما ينيف على ستمائة ألف جنيه.
وجرى لها استقبال أفخم من هذا وأعظم عندما زارت الفاتيكان لتنعم بالتيمن بمشاهدة البابا ونيل بركته. فإن ذلك اليوم كان عيدا عاما لسكان رومية، اصطفت فيه الجنود على جانبي الطريق، وسارت الملكة الكاثوليكية بين قصف المدافع وقرع الأجراس وإيقاع الآلات الموسيقية على صهوة جواد أبيض بين كردينالين في طليعة موكب لا يدرك الطرف آخره.
وقد أحدثت في رومية كما في غيرها تأثيرين متناقضين؛ فمن جهة بهتت الناس وأدهشتهم بشدة ذكائها وسرعة خاطرها، ومن جهة أخرى أذكت نار استيائهم واشمئزازهم بطيشها ورعونتها. وأوغلت ما شاءت في مغازلة الكرادلة ورقت بسحرها عقول كبار الأعيان والنبلاء، وجعلت الفاتيكان مسرحا للهو والمرح، وأغرت طلبة الكلية المقدسة أن يقتدوا بها في الذهاب كل ليلة إلى المسارح والملاهي. ويقول دوران: «إن شرفة لوج خرستينا كانت كل ليلة غاصة بالكرادلة الممتعين أنظارهم برؤية الراقصات والمغنيات اللواتي جئن إلى رومية بدعوة منها.» وكانت إذا حضرت الصلاة في الكنيسة تقصر فيما يجب عليها من إبداء الخضوع والاحترام، وتلهو بمضاحكة الذين حولها وممازحتهم، أو بالمجاهرة بانتقاد طرق العبادة على مرأى المصلين ومسمعهم.
Bog aan la aqoon