============================================================
عاقدا، فهو غزير العلم، بطين المحتوى، متناسق المباني للكن العامة - وهم الكثرة الكاثرة - أحجمت عن ارتياد مغانيه، وتقاصرت آفهامهم عن اجتلاء جل معانيه، وكلت الهمم عن الإحاطة بمعالمه، حتى انحسر زواره، واقتصر على أولي الاختصاص؛ إذ أصبح مرجعا مهما لأولئك المحدثين ، الذين ينقبون عن الرواة، ويمصون الأسانيد، ويثنون بالمتابعات والشواهد، فكادت ضخامته تحجبه عن الجمهرة ، إلا أن الحال كما قيل : و اذا الحيب آتى بذنب واحا جاءت محاستة بألف شفيع (5 ثم قيض الله تعالى لهاذا المرجع الأثري، ذي النفس الصوفي ، الإمام الحنبلي ، الواعظ البارع، والمحدث الناقد، أبا الفرج عبد الرحان بن علي ابن الجوزي (ت 597ه) فاختصره وحبره، وحذف منه أسانيده ومكرره، ثم أوفي عليه من المواعظ الحسان، وعيون الأخبار والبيان، ما طرز به حواشيه، وذقب به نواحيه، فازداد حسنا على حسنه، وملاحة على جماله، لا سيما وأبو الفرج فارس الميدان في مخاطبة القلوب المستوحشة، وامتلاك أزمة الفصاحة ؛ فقد كانت عظاته تنشق منها الأفئدة لقوة تأثيرها، وتهمي العيون من عظيم وقعها، وهو صاحب القلم السيال، والسحر الحلال، فكان كتابه بحق: "صفة الصفوة"، فهو يكتنز علوما جمة، تروي العطشان، وتشبع النهم القرم حتى يؤوب جذلان: (2) ومع التماع هاذه المحاسن من ثنايا هذذا الكتاب .. غير آنه كان بحاجة ملكة إلى من يستخلص زبده، ويصطفي لبابه، ويختار من مواعظه ورقائقه، وينتفي من آزاهير حكم ما كان أعظم وقعا في النفوس ، وألصق بسير المعاصرين ، وأنفذ إلى قلوبهم .
علاوة على آن هناك مواطن محصورة كانت بحاجة إلى تحرير، ومساتل معدودة لابد من إعادة النظر فيها، وإضافات تبدو جوهرية يتطلب المقام إيرادها، وفي طي ذلك نفائس مستجادات، وفوائد مهمات نافعات، بل وإحياء لعيون من الأخبار كان ابن الجوزي آثر حذفها، ووأدها في دهليز الاختصار.
Bogga 16